((الْأَمْرُ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ الْخِيَانَةِ))
إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ أَمَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَرْبَابِهَا وَأَصْحَابِهَا، وَبَيَّنَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ عَرَضَ الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا، وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا، وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ.
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ)) .
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي حَدِيثِ الْخَرَائِطِيِّ فِي ((مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ)) بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، كَمَا فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ))-، قَالَ: ((أَوَّلُ مَا يُرْفَعُ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةُ، وَآخِرُهُ الصَّلَاةُ)) .
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا بَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِظَمَ شَأْنِ الْأَمَانَةِ، وَجَعَلَ الْخِيَانَةَ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي صِفَاتِ الْمُنَافِقِ: ((وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ)) .
فَالْخِيَانَةُ لَيْسَتْ مِنْ صِفَاتِ الْمُخْلِصِ، وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِ ((وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ))، وَهِيَ مِنْ أَخَسِّ وَأَحْقَرِ الصِّفَاتِ؛ خَاصَّةً إِذَا كَانَتْ فِي مَقَامِ الِائْتِمَانِ.
فَإِذَا ائْتَمَنَكَ إِنْسَانٌ فَكُنْتَ لَدَيْهِ أَمِينًا، فَائْتَمَنَكَ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ مِنْ عَمَلٍ أَوْ قَوْلٍ؛ ثُمَّ خُنْتَهُ -أَيْ: خَانَهُ الْأَبْعَدُ-؛ فَالْخِيَانَةُ فِي مَقَامِ الِائْتِمَانِ مِنْ أَخَسِّ وَأَحْقَرِ مَا يَكُونُ؛ لِذَلِكَ هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْمُنَافِقِينَ.
«الْأَمَانَةُ فِي الْعَمَلِ وَصُوَرٌ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ فِي وَاقِعِنَا»:
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَمَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَاتِ يَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ فِي الْحَيَاةِ؛ فَالْعِبَادَاتُ أَمَانَةٌ، وَالْخِيَانَةُ فِيهَا أَنْ تُنْتَقَصَ، فَإِذَا انْتَقَصَ الْإِنْسَانُ مِنَ الْعِبَادَةِ فَهُوَ خَائِنٌ.
وَالْمُعَامَلَاتُ أَمَانَةٌ، وَمَا يُسْتَأْمَنُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ أَمَانَةٌ، وَالسِّرُّ أَمَانَةٌ، وَكُلُّ أَمْرٍ تَعَلَّقَ بِهِ أَمْرٌ وَنَهْيٌ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فَهُوَ أَمَانَةٌ، وَالْخِيَانَةُ فِيهِ: أَلَّا يُؤْتَى بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ الْمَطْلُوبِ.
فَإِذَا كَانَ إِنْسَانٌ فِي عَمَلٍ؛ فَالْعَمَلُ الَّذِي اِسْتُؤْمِنَ عَلَيْهِ أَمَانَةٌ، فَإِذَا خَانَ فِيهِ فَهُوَ خَائِنٌ، وَجَزَاءُ الْخَائِنِ مَعْلُومٌ، وَكُلُّ مَنْ أُسْنِدَ إِلَيْهِ عَمَلٌ، فَلَمْ يَأْتِ بِهِ عَلَى وَجْهِهِ؛ فَقَدْ أَكَلَ مِنْ حَرَامٍ إِنْ كَانَ مُتَحَصِّلًا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ عَلَى أَجْرٍ؛ شَاءَ أَمْ أَبَى.
1*الْمُوَظَّفُ الَّذِي يَتَحَصَّلُ عَلَى رَاتِبٍ، وَيُقَصِّرُ فِي عَمَلِهِ:
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِذَا كَانَ مُوَظَّفًا يَتَحَصَّلُ عَلَى رَاتِبٍ فِي مُقَابِلِ عَمَلِهِ؛ كَثِيرٌ مِنْهُمْ -بَلْ جُلُّهُمْ- لَا يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ مُسْتَأْجَرُونَ، هُمْ أُجَرَاءُ، مُسْتَأْجَرُونَ عَلَى حَسَبِ عَقْدٍ مُبْرَمٍ وَلَائِحَةٍ لَهَا بُنُودٌ، وَهُمْ فِي أَعْمَالِهِمْ يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَزِمُوا بِمَا تَعَاقَدُوا عَلَيْهِ بَدْءًا.
وَكُلُّ مَنْ فَرَّطَ فَقَدْ تَحَصَّلَ عَلَى مَالٍ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ، وَهُوَ آكِلٌ مِنْ حَرَامٍ، وَهُوَ مُغَذٍّ أَهْلَهُ وَوَلَدَهُ، وَبَانٍ بَيْتَهُ، وَمُقْتَنٍ مَرْكُوبَهُ مِنْ حَرَامٍ، هَذَا إِذَا كَانَتِ الْوَظِيفَةُ فِي نَفْسِهَا بِعَقْدٍ عَلَى مَا يَحِلُّ فِي دِينِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ لِأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مِمَّا شَرَعَ اللهُ.
فَإِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي يَعْمَلُ فِي مَاخُورٍ يُقَدِّمُ الْخُمُورَ، وَيَقُومُ عَلَى الْعَمَلِ مُتَفَانِيًا فِيهِ بِإِخْلَاصٍ، يَقُولُ: إِنَّهُ يَتَحَصَّلُ عَلَى أَجْرِهِ بِعَرَقِ جَبِينِهِ!!
فَأَيُّ حُرْمَةٍ تَلْحَقُهُ، وَالْعَمَلُ حَرَامٌ فِي أَصْلِهِ؟!!
وَإِذَا كَانَ الْعَمَلُ حَلَالًا -كَالْغَالِبِ عَلَى جُمْلَةِ الْأَعْمَالِ-، فَوَقَعَ تَقْصِيرٌ فِيمَا تَمَّ التَّعَاقُدُ عَلَيْهِ أَصْلًا؛ فَإِنَّ الْكَسْبَ هَاهُنَا يَكُونُ مِنْ حَرَامٍ، وَمَا تَحَصَّلَ عَلَيْهِ لَحِقَتْهُ الْحُرْمَةُ لَا مَحَالَةَ.
فَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، حَتَّى وَإِنْ كَانَ فِي مِهْنَةٍ هِيَ حَلَالٌ فِي أَصْلِ الشَّرْعِ؛ لَا يُؤَدِّيهَا كَمَا يَنْبَغِي، وَيَتَحَصَّلُ عَلَى رَاتِبِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمَنْفَعَةَ الَّتِي تَعَاقَدَ عَلَيْهَا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ، فَهُوَ آكِلٌ مِنْ حَرَامٍ.
*حُرْمَةُ تَقْدِيمِ الْمُوَظَّفِ مُوَاطِنًا قَبْلَ آخَرَ؛ مُحَابَاةً وَمُجَامَلَةً:
وَفِي تَرْجَمَةِ الشَّاطِبِيِّ الْإِمَامِ صَاحِبِ الْقِرَاءَاتِ، لَا صَاحِبِ ((الِاعْتِصَامِ)) - فَهُمَا اثْنَانِ عَلَمَانِ- فِي تَرْجَمَةِ الشَّاطِبِيِّ صَاحِبِ الْقِرَاءَاتِ -رَحِمَهُ اللهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً-، وَكَانَ أَكْمَهَ لَا يُبْصِرُ-، وَكَانَ مِنْ عَادَتِهِ فِي الْإِقْرَاءِ: أَنَّهُ يَجْلِسُ لِلْمُسْتَفِيدِينَ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ يَقُولُ: مَنْ حَضَرَ أَوَّلًا فَلْيَقْرَأْ، فَإِذَا فَرَغَ قَالَ: مَنْ حَضَرَ ثَانِيًا فَلْيَقْرَأْ، وَهُوَ لَا يَرَاهُمْ، فَقَدْ يَأْتِي مُتَأَخِّرٌ؛ لِيَجْلِسَ مُتَقَدِّمًا عَلَى سَابِقٍ، فَيَقُولُ الشَّيْخُ -رَحِمَهُ اللهُ-: مَنْ حَضَرَ أَوَّلًا فَلْيَقْرَأْ، ثُمَّ مَنْ حَضَرَ ثَانِيًا فَلْيَقْرَأْ.
قَالَ بَعْضُ الْمُسْتَفِيدِينَ: فَذَهَبْتُ إِلَى الْمَجْلِسِ مُبَكِّرًا، بَعْدَمَا صَلَّيْتُ الصُّبْحَ جَلَسْتُ أَوَّلًا، وَجَاءَ ثَانٍ، فَلَمَّا أَرَادَ الْإِقْرَاءَ قَالَ: مَنْ حَضَرَ ثَانِيًا فَلْيَقْرَأْ.
قَالَ: فَتَعَجَّبْتُ، خَالَفَ الشَّيْخُ عَادَتَهُ، قَالَ: فَأَخَذْتُ أَنْظُرُ فِي حَالِي وَنَفْسِي؛ لِأَرَى مِنْ أَيْنَ أُتِيتُ، فَإِذَا بِي قَدْ أَجْنَبْتُ وَلَمْ أَدْرِ، فَصَلَّيْتُ الصُّبْحَ مُتَوَضِّئًا، لَا مُغْتَسِلًا، قَالَ: فَقُمْتُ إِلَى الْمِغْطَسِ فِي الْمَسْجِدِ -وَكَانَتْ فِي الْمَسَاجِدِ قَدِيمًا-، قَالَ: فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ جَاءَ فَجَلَسَ فِي مَجْلِسِهِ، وَكَانَ الثَّانِي قَدِ انْتَهَى مِنْ قِرَاءَتِهِ، فَقَالَ الْإِمَامُ: مَنْ حَضَرَ أَوَّلًا فَلْيَقْرَأْ.
فَإِذَا قَدَّمْتَ -وَأَنْتَ مُوَظَّفٌ فِي مَكَانٍ- لَاحِقًا عَلَى سَابِقٍ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا اسْتِسْمَاحٍ؛ فَقَدْ أَسَاءَ الْأَبْعَدُ، وَلَمْ يَقُمْ بِالْأَمَانَةِ الَّتِي نِيطَتْ بِعُنُقِهِ فِي وَظِيفَتِهِ.
*حُرْمَةُ تَحْصِيلِ الْمُوَظَّفِ أَمْوَالًا غَيْرَ رَاتِبِهِ في أَثْنَاءِ الْعَمَلِ:
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَذَّرَ أَنْ يَأْخُذَ الْمَرْءُ شَيْئًا فِي أَثْنَاءِ الْعَمَلِ، يَعْنِي: فِي أَثْنَاءِ الْعَمَلِ كُلِّهِ، لَا فِي أَثْنَاءِ أَدَائِهِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَأْجَرٌ، قَدْ يَأْتِيهِ صَاحِبُ الْحَاجَةِ فِي بَيْتِهِ، لَا فِي عَمَلِهِ، فَيُعْطِيهِ؛ فَوَ اللَّهِ لَتَخْتَلِفَنَّ النَّظْرَةُ إِلَيْهِ؛ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ صَاحِبِ حَقٍّ.
وَهَذَا عِنْدَ سَلَفِنَا الصَّالِحِينَ؛ فَإِنَّ قَاضِيًا مِنَ الْقُضَاةِ الْوَرِعِينَ وَلِيَ الْقَضَاءَ وَكَانَ لَهُ كَارِهًا، وَجَاءَ يَوْمًا إِلَى الْخَلِيفَةِ فَزِعًا، فَيَقُولُ: أَقِلْنِي مِنَ الْقَضَاءِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! أَقِلْنِي مِنَ الْقَضَاءِ.
قَالَ: وَيْحَكَ! مَا دَهَاكَ؟!
قَالَ: إِنَّهُ لَيَتَرَدَّدُ عَلَيَّ خَصْمَانِ مُنْذُ شُهُورٍ فِي قَضِيَّةٍ لَا أَرَى وَجْهَ الصَّوَابِ فِيهَا، فَأَنَا أُؤَجِّلُهُمَا، يَجْلِسَانِ بَيْنَ يَدَيَّ عَلَى اسْتِوَاءٍ وَسَوَاءٍ، ثُمَّ إِنَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ أَرَادَ أَنْ يَصْنَعَ شَيْئًا؛ لِيَكْسِرَ بِهِ جُمُودَ الْقَاضِي فِي الْحُكْمِ، فَسَأَلَ الْحَاجِبَ: أَيُّ التَّمْرِ أَحَبُّ إِلَيْهِ؟
قَالَ: الْبَرْنِيُّ -وَهُوَ تَمْرٌ جَيِّدٌ-، وَلَمْ يَكُنْ بِأَوَانِهِ، وَلَا فِي مَكَانِهِ.
فَاحْتَالَ ذَلِكَ الْخَصْمُ حَتَّى اِسْتَجْلَبَ شَيْئًا كَثِيرًا مِنْ تَمْرٍ بَرْنِيٍّ جَيِّدٍ، ثُمَّ دَفَعَهُ عَنْ طَرِيقِ الْحَاجِبِ، أَوْ وَلَدِ الْقَاضِي إِلَى الْقَاضِي، وَاِسْتَمْلَحَهُ.
ثُمَّ جَاءَ فَزِعًا بَعْدُ مِنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ إِلَى الْخَلِيفَةِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَسْتَقِيلَ مِنَ الْقَضَاءِ، فَقَالَ: وَيْحَكَ؟
قَالَ: وَاللهِ لَمَّا أَهْدَى إِلَيَّ، وَكَانَا قَبْلُ عِنْدِي مُسْتَوِيَيْنِ؛ فَوَ اللهِ لَمَّا أَهْدَى إِلَيَّ مَا اسْتَوَيَا فِي عَيْنَيَّ؛ فَأَقِلْنِي مِنَ الْقَضَاءِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَقَالَهُ.
*حُرْمَةُ هَدَايَا الْمُوَظَّفِينَ:
الْمُوَظَّفُ الَّذِي يَقْبَلُ لَا أَقُولُ: الرِّشْوَةَ -حَاشَا للهِ-، وَهَلْ يَأْخُذُ مُوَظَّفٌ رِشْوَةً؟! هُمْ جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْفَلَاحِ، أَيْدِيهِمْ مُتَوَضِّئَةٌ!! لَا يَأْكُلُونَ إِلَّا مِنَ الْحَلَالِ الصِّرْفِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ!! حَاشَا للهِ أَنْ نَظُنَّ بِمُسْلِمٍ سُوءًا؛ وَلَكِنْ نَحْنُ نُرَكِّزُ الْآنَ عَلَى الْهَدِيَّةِ، وَهِيَ لَا تَحِلُّ، الْهَدِيَّةُ لَا تَحِلُّ؛ ((فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ، وَبَيْتِ أُمِّهِ؛ لِنَنْظُرَ أَيُهْدَى إِلَيْهِ أَمْ لَا؟!)) .
وَاللهِ إِنَّهُ لَيَخْرُجُ مِنْ وَظِيفَتِهِ فَمَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ أَحَدٌ، وَلَا خَادِمُهُ، وَلَا يَحْتَرِمُهُ، وَلَا يُقَدِّرُهُ إِلَّا إِذَا كَانَ صَالِحًا.
فَإِنَّهُ يُقَدَّرُ لِصَلَاحِهِ، وَأَمَّا لِمَنْصِبِهِ فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ يَزُولَ عَنْهُ أَوْ يَزُولَ عَنْهُ، إِمَّا أَنْ يَزُولَ هُوَ عَنِ الْمَنْصِبِ أَوْ يَزُولَ عَنْهُ الْمَنْصِبُ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنْ يَزُولَ عَنْهُ -وَقَدِّرْ أَنْتَ فَاعِلًا أَوْ مَفْعُولًا-، أَوْ يَزُولَ عَنْهُ –وَقَدِّرْ أَنْتَ فَاعِلًا أَوْ مَفْعُولًا-، حَتَّى يُجْعَلَ كَالذُّبَابِ قِيمَةً، وَاحْتِقَارًا، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ.
فَنَحْنُ الْآنَ فِي الْهَدِيَّةِ، فِي أَدَاءِ الْأَمَانَةِ، فِي أَنْ تَكُونَ آتِيًا بِمَا كُلِّفْتَ بِهِ وَتَعَاقَدْتَ عَلَيْهِ.
*الرَّدُّ عَلَى شُبْهَةِ بَعْضِ الْمُوَظَّفِينَ: أَنَّ الرَّاتِبَ لَا يَكْفِيهِ!!
وَشُبْهَةٌ عَظِيمَةٌ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنْ أَصْحَابِ الْوَظَائِفِ، يِقُولُونَ: الْمَالُ لَا يَكْفِي.
دَعْهَا! فَلَسْتَ مَجْبُورًا عَلَيْهَا؛ لِأَنَّكَ إِنْ كُنْتَ مُكْرَهًا فَالْعَقْدُ بَاطِلٌ أَصْلًا، وَإِنَّمَا أَنْتَ سَعَيْتَ إِلَيْهَا.
وَقِيلَ لَكَ فِي بَدْءِ التَّعْيِينِ: الرَّاتِبُ قَلِيلٌ.
تَقُولُ: هُوَ خَيْرٌ مِنْ عَدَمِهِ، وَنَحْنُ نَرْضَى بِالْقَلِيلِ.
ثُمَّ يَأْتِيكَ مَا يَأْتِي ابْنَ آدَمَ، لَوْ كَانَ لَهُ وَادٍ مِنْ ذَهَبٍ لَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِ ثَانٍ، وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَانٍ لَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِ ثَالِثٌ، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ.
فَإِذَا كَانَ لَا يَكْفِيكَ، دَعْهَا، غَيْرُكَ يُرِيدُهَا، إِنْ لَمْ تُؤَدِّ كَمَا تَعَاقَدْتَ فَأَنْتَ آكِلٌ مِنْ حَرَامٍ، آكِلٌ مِنْ سُحْتٍ؛ وَكُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ، هُوَ عَقْدٌ مِنَ الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ، عَقْدُ إِجَارَةٍ، أَنْتَ مُسْتَأْجَرٌ، تَتَحَصَّلُ عَلَى مَالٍ فِي نَظِيرِ مَنْفَعَةٍ تُؤَدِّيهَا لِمَنِ اسْتَأْجَرَكَ، مِنْ مُعَلِّمٍ، وَطَبِيبٍ، وَعَامِلٍ، وَمُهَنْدِسٍ وَمَا أَشْبَهَ، كُلُّهُمْ مُسْتَأْجَرُونَ.
وَعَمِّرْ قَبْرَكَ كَمَا عَمَّرْتَ قَصْرَكَ، وَاتَّقِ اللهَ، عَمِّرْ قَبْرَكَ كَمَا عَمَّرْتَ قَصْرَكَ، وَكُلُّ مَا تَتَحَصَّلُ عَلَيْهِ مِنْ فَائِدَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَكَ.
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَأْكُلُ بِدِينِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي!! الرَّجُلُ إِذَا كَانَ مَوْصُوفًا بِالصَّلَاحِ فَاشْتَرَى أَوْ بَاعَ؛ أُكْرِمَ لِصَلَاحِهِ، فَهُوَ يَأْكُلُ بِدِينِهِ، وَلَيْسَتِ الْعَادَةُ عِنْدَ بَائِعٍ وَمُشْتَرٍ، وَإِنَّمَا يُكْرِمُهُ لِلْبَرَكَةِ الَّتِي يَرْجُوهَا مِنْ وَرَائِهِ، فَهَذَا بَدَلُ بَرَكَةٍ كَبَدَلَاتِ الْمُوَظَّفِينَ!!
فَكُلُّ مَا تَحَصَّلَ عَلَيْهِ الْمُوَظَّفُ مِنْ هَدِيَّةٍ -لَا نَقُولُ الرِّشْوَةَ، حَاشَا للهِ، وَلَا السَّرِقَةَ، أَعُوذُ بِاللهِ، وَلَا الْغَصْبَ، وَلَا تَبْدِيدَ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا بِمَبْعَدَةٍ، هَذَا يَفْعَلُهُ الشَّيَاطِينُ، أَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَحَاشَا للهِ!!- نَتَكَلَّمُ الْآنَ فِي الْمَنْفَعَةِ الْحَاصِلَةِ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ مِنْ هَدِيَّةٍ وَمَا أَشْبَهَ، هِيَ لَا تَحِلُّ.
2*تَحْذِيرٌ شَدِيدٌ لِأَصْحَابِ الْوِلَايَاتِ الدِّينِيَّةِ كَأَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ:
مِنْ أَعْظَمِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ حُرْمَةً: أَصْحَابُ الْوِلَايَاتِ مِنْ دِينِيَّةٍ شَرْعِيَّةٍ وَغَيْرِهَا.
فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُوَلَّى عَلَى أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ الْعِلْمِيَّةِ وَالْعِبَادِيَّةِ، وَيُسِيءُ إِسَاءَةً بَالِغَةً، لَا يُصَلِّي بِالنَّاسِ وَقَدْ كُلِّفَ، يَتَحَصَّلُ عَلَى رَاتِبِهِ مِنْ صَلَاتِهِ بِهِمْ؛ إِذْ فُرِّغَ لِذَلِكَ.
أَوْ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا فِي مَسْجِدٍ لَا يَقُومُ عَلَيْهِ، وَقَدْ يُمَكِّنُ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَيَكُونُ قَدْ أَتَى بِضِدِّ الْمَقْصُودِ الَّذِي اُسْتُؤْجِرَ لِأَجْلِهِ، فَهُوَ تَعَلَّقَتْ بِهِ الْحُرْمَةُ مِنْ جِهَتَيْنِ، بَلْ أَحَاطَتْ بِهِ الْحُرْمَةُ مُطْبِقَةً، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ.
عَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي أَكْلِ الْحَلَالِ الصِّرْفِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الشُّبُهَاتِ.
3*نَصَائِحُ غَاليَةٌ لِلأَطِبَّاءِ، وَمُخَالَفَاتٌ لِبَعْضِهِمْ مَشْهُورَةٌ:
مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الطَّبِيبَ لَهُ الْحَقُّ عَلَى حَسَبِ الْعَقْدِ الْمُبْرَمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وِزَارَةِ الصِّحَّةِ الَّتِي يَعْمَلُ أَجِيرًا لَدَيْهَا، لَهُ الْحَقُّ فِي أَنْ يَفْتَتِحَ، وَأَنْ يَتَّخِذَ لِنَفْسِهِ مَعَ عَمَلِهِ فِي الْمَشْفَى -فِي الْمُسْتَشْفَى- أَنْ يَتَّخِذَ لِنَفْسِهِ عِيَادَةً خَارِجِيَّةً، وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَهُوَ يَتَحَصَّلُ مَعَ رَاتِبِهِ عَلَى مَا يُسَمَّى بِـ (بَدَلِ عِيَادَةٍ).
وَأَمَّا إِذَا اِفْتَتَحَ لِنَفْسِهِ، أَوِ اتَّخَذَ لِنَفْسِهِ عِيَادَةً خَارِجِيَّةً؛ فَإِنَّهُ يُخْصَمُ مِنْهُ بَدَلُ الْعِيَادَةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ.
يَعْمَلُ فِي الْمُسْتَشْفَى فِي الْوَقْتِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ بِمَا يُرْضِي اللهَ –جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- وَعَلَى حَسَبِ مَا هُوَ مَطْلُوبٌ مِنْهَ.
عَلَيْهِ أَنْ يَتَّقِيَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي عَمَلِهِ، وَلَا يَتَّخِذَ الْمُسْتَشْفَى كَالْأَعْرَافِ -مَنْطِقَةً وُسْطَى- إِمَّا أَنْ يَدْخُلَ إِلَيْهَا بِمَرِيضٍ أَتَى بِهِ مِنْ عِيَادَتِهِ؛ لِكَيْ يَسْتَكْمِلَ فِي الْمُسْتَشْفَى فُحُوصًا لِذَلِكَ الْمَرِيضِ، أَوْ يَأْخُذَ بِيَدِ مَرِيضٍ مِنَ الْمُسْتَشْفَى؛ لِيَذْهَبَ بِهِ إِلَى عِيَادَتِهِ!!
فَإِذَا ذَهَبَ الْمَرِيضُ إِلَى الطَّبِيبِ فِي عِيَادَتِهِ فَدَفَعَ أَجْرَ الْفَحْصِ، ثُمَّ دَخَلَ عَلَى الطَّبِيبِ فَلَمْ يَسْتَطِعِ الطَّبِيبُ أَنْ يُشَخِّصَهُ، هَلْ يَجِبُ عَلَى الطَّبِيبِ أَنْ يَرُدَّ لِلْمَرِيضِ الْأَجْرَ الَّذِي دَفَعَهُ، أَوْ لَا يَجِبُ؟
هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْلِمَهُ بِأَنَّهُ جَاهِلٌ بِمَرَضِهِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ لَهُ تَشْخِيصًا، أَمْ يَخْدَعُهُ، ثُمَّ يَصِفُ لَهُ دَوَاءً لَيْسَ بِمُتَعَلِّقٍ بِمَرَضِهِ، فَيُكَلِّفُهُ مَالًا فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ وَيُمَكِّنُ لِلْمَرَضِ مِنْ جَسَدِهِ، وَيُفَوِّتُ عَلَيْهِ فُرْصَةَ شِفَاءٍ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ أَرْخَصَ ثَمَنًا، وَأَقَلَّ وَقْعًا عَلَى بَدَنِهِ مِمَّا يَتَأَتَّى بَعْدُ؟!
هَلْ يَظَلُّ سَادِرًا مَعَ جَهْلِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ تَشْخِيصَ مَرِيضِهِ، فَيَصِفُ لَهُ دَوَاءً، أَيَّ دَوَاءٍ كَمَا يَقُولُونَ: إِذَا لَمْ يَنْفَعْ لَا يَضُرُّ!
لَا، هُوَ يَضُرُّ، يَضُرُّ بِالْمَرِيضِ مَالِيًّا، وَأَيْضًا يَضُرُّ بِهِ فِي بَدَنِهِ؛ لِأَنَّهُ يُمَكِّنُ لِلْمَرَضِ الْمَجْهُولِ الْهُوِيَّةِ الَّذِي لَمْ يَسْتَطِعْ لَهُ مَعْرِفَةً، يُمَكِّنُ لِهَذَا الْمَرَضِ فِي جَسَدِ الْمَرِيضِ، وَتَطُولُ الْمُدَّةُ عَلَى الْوُقُوعِ عَلَى الدَّوَاءِ الْمُنَاسِبِ لِلْمَرَضِ حَتَّى يَأْذَنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالْبُرْءِ وَالشِّفَاءِ.
وَأَيْضًا هُوَ عِنْدَمَا يَفْعَلُ بِهِ ذَلِكَ يُفَوِّتُ عَلَيْهِ فُرْصَةَ شِفَاءٍ فِي زَمَانٍ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ الزَّمَنَ أَصْلُ الْمَالِ، وَأَنَّ الْمَالَ فَرْعُ الزَّمَنِ، وَإِذَنْ فَهُوَ يُفَوِّتُ عَلَيْهِ زَمَانًا كَانَ مَحَلًّا لِكَسْبِ مَالٍ، فَهُوَ يُفَوِّتُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةً كَانَتْ تَعُودُ عَلَى الْفَرْدِ بِمَالٍ، وَتَعُودُ عَلَى الْمُجْتَمَعِ بِمَنْفَعَةٍ أَيْضًا.
وَلَكِنْ هَلْ يَجِبُ عَلَى الطَّبِيبِ إِذَا مَا جَهِلَ؟!
أَوَّلًا: هُوَ لَا يَجِبُ مُطْلَقًا، بَلْ يَنْبَغِي، بَلْ يَحْرُمُ عَلَى الطَّبِيبِ أَنْ يَعْمَلَ فِي غَيْرِ تَخَصُّصِهِ؛ وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «مَنْ طَبَّبَ وَهُوَ جَاهِلٌ بِالطِّبِّ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ» .
وَالْعَامِلُ فِي غَيْرِ تَخَصُّصِهِ جَاهِلٌ بِالتَّخَصُّصِ الَّذِي لَمْ يَتَخَصَّصْ فِيهِ، وَإِذَنْ فَهُوَ إِذَا عَالَجَ فِي غَيْرِ تَخَصُّصِهِ؛ فَهُوَ مُعَالِجٌ فِيمَا هُوَ بِهِ جَاهِلٌ، وَفِيمَا هُوَ لَهُ غَيْرُ عَالِمٍ، وَإِذَنْ فَلَا يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ مُتَعَرِّضًا لِمِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَلَكِنْ هَلْ تَجِدُ طَبِيبًا يَقْوَى عَلَى أَنْ يَقُولَ لِمَرِيضِهِ: يَا صَاحِ، أَنَا لَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقَعَ عَلَى كُنْهِ عِلَّتِكَ، وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُشَخِّصَ دَاءَكَ، أَنَا بِهِ جَاهِلٌ، وَلَمْ يَفْتَحِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَيْنَ بَصِيرَتِي عَلَى حَقِيقَةِ دَائِكَ؟ فَاذْهَبْ إِلَى فُلَانٍ، فَأَنَا أَظُنُّ أَنْ تَجِدَ تَشْخِيصَكَ عِنْدَهُ، ثُمَّ يَرُدُّ لَهُ الْمَالَ، هَلْ يَقْوَى طَبِيبٌ عَلَى فِعْلِ ذَلِكَ؟!!
دَعْكَ مِنْ هَذِهِ، هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الْمَالَ الَّذِي أَخَذَهُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْوُصُولَ إِلَى عَيْنِ التَّشْخِيصِ، أَوْ مُقَارِبًا لِلتَّشْخِيصِ لَا وَاقِعًا عَلَى عَيْنِهِ؟
يَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْمَالَ الَّذِي دُفِعَ لَمْ يُدْفَعْ مِنْ أَجْلِ الْوُصُولِ إِلَى عَيْنِ التَّشْخِيصِ، وَلَا مِنْ أَجْلِ الْوُصُولِ إِلَى حَقِيقَةِ الشِّفَاءِ؛ لِأَنَّ الشِّفَاءَ بِيَدِ اللهِ وَهَذِهِ أَسْبَابٌ، فَقَدْ يَأْتِي مِنْ وَرَائِهَا نَفْعٌ، وَقَدْ لَا يَتَأَتَّى مِنْ وَرَائِهَا نَفْعٌ.
إِذَنْ هُوَ يَدْفَعُ الْمَالَ؛ لِأُجْرَةٍ قَدْ أَجَّرَ بِهَا الطَّبِيبَ لِزَمَانٍ يَتَحَصَّلُ مِنَ الطَّبِيبِ عَلَى مَنْفَعَةٍ فِيهِ، وَهُوَ قَدِ اسْتَنْفَذَ هَذَا الزَّمَانَ عِنْدَمَا قَامَ الطَّبِيبُ بِفَحْصِهِ مُعْمِلًا فِيهِ عِلْمَهُ عَلَى الْوَجْهِ اللَّيِّقِ بِهَذَا الْأَمْرِ، فَوَقَعَ عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعِ الْوُصُولَ إِلَى حَقِيقَةِ التَّشْخِيصِ، إِذَنْ فَهُوَ مُسْتَوْجِبٌ لِلْأَجْرِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ.
وَبَعْضُهُمْ يَقُولُونَ: وَلَكِنَّهُ لَمْ يَصِلْ إِلَى شَيْءٍ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ، هَذَا أَمْرٌ كَمَا تَرَى عَسِيرٌ جِدًّا.
كَذَلِكَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ الْعَامِّ فِي الْمُسْتَشْفَيَاتِ، هَلْ يَجُوزُ لِلطَّبِيبِ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنَ الْآلَاتِ الَّتِي هِيَ لِلْمُسْتَشْفَى خَاصَّةً، فَيَأْخُذُ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ؛ لِأَنَّ عِيَادَتَهُ لَيْسَ بِهَا أَمْثَالُ هَذِهِ الْآلَاتِ، فَيَجْعَلُ ذَلِكَ لَدَيْهِ يَقُومُ بِهِ بِأَعْمَالٍ يَتَحَصَّلُ مِنْ وَرَائِهَا عَلَى أَجْرٍ، يَجُوزُ أَوْ لَا يَجُوزُ؟!!
4*نَصَائِحُ لِلتُّجَّارِ، وَخُطُورَةُ وُقُوعِهِمْ فِي الْغِشِّ وَالِاحْتِكَارِ:
النَّبِيُّ ﷺ رَهَّبَ مِنَ الغِشِّ، وَرَغَّبَ فِي النَّصِيحَةِ فِي البَيْعِ وَغَيْرِهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا, فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟!»
قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَﷺ: «أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ؛ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي». رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَمِنْ كَبائِرِ الإِثْمِ، وَعَظَائِمِ الذُّنُوبِ: تَطْفِيفُ المَكَايِيلِ وَالمَوَازِينِ.
وَالتَّطْفِيفُ: البَخْسُ وَالنَّقْصُ؛ فَهُوَ مُطَفِّفٌ، وَالجَمْعُ: مُطَفِّفُونَ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)﴾ [الرَّحْمَن: 7-9].
وَقَالَ ﷺ فِي رِعَايَةِ المَوَازِينِ: «إِذَا وَزَنْتُمْ؛ فَأَرْجِحُوا» .
وَالنَّبِيُّ ﷺ رَغَّبَ فِي السَّمَاحَةِ فِي البَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَحُسْنِ التَّقَاضِي وَالقَضَاءِ؛ فَعَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «رَحِمَ اللهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، سَمْحًا إِذَا اشْتَرَى، سَمْحًا إِذَا اقْتَضَى». رَوَاهُ البُخَارِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَاللَّفْظُ لَهُ .
وَرَهَّبَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الِاحْتِكَارِ -وَالِاحْتِكَارُ: هُوَ شِرَاءُ الشَّيْءِ، وَحَبْسُهُ؛ لِيَقِلَّ بَيْنَ النَّاسِ؛ فَيَغْلُوَ سِعْرُهُ، وَيُصِيبَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الضَّرَرُ.
وَالِاحْتِكَارُ حَرَّمَهُ الشَّارِعُ وَنَهَى عَنْهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الجَشَعِ، وَالطَّمَعِ، وَسُوءِ الخُلُقِ، وَالتَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ- رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ مَعْمَرٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنِ احْتَكَرَ؛ فَهُوَ خَاطِئٌ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
وَالأُمَّةُ تُعَانِي فِي هَذَا الوَقْتِ مِنْ هَذَا الدَّاءِ الوَبِيلِ -وَهُوَ الِاحْتِكَارُ- الَّذِي حَرَّمَهُ الشَّرْعُ الشَّرِيفُ، وَنَدَّدَ النَّبِيُّ ﷺ بِمَنْ فَعَلَهُ.
فَإِنَّ أَكْثَرَ التُّجَّارِ الَّذِينَ يُتَاجِرُونَ فِي السِّلَعِ الغِذَائِيَّةِ، وَمَا أَشْبَهَ مِمَّا يَحْتَاجُهُ النَّاسُ حَاجَةً مَاسَّةً، يَقُومُونَ بِهَذَا العَمَلِ الشَّنِيعِ، وَيَتَوَفَّرُونَ عَلَى صَنِيعِهِ، مِمَّا يُؤَدِّي بِالأُمَّةِ إِلَى الوُقُوعِ فِي الفَوْضَى، وَالِاضْطِرَابِ فِي النِّظَامِ، وَهَذَا كُلُّهُ إِنَّمَا يُعَجِّلُ بِالوُصُولِ إِلَى غَايَةِ المُؤَامَرَةِ الَّتِي يَأْتَمِرُ بِهَا، وَفِيهَا أَعْدَاءُ الإِسْلَامِ.
عِبَادَ اللهِ! فَلْيَجْتَهِدِ الرَّجُلُ مِنْكُمْ فِي أَدَاءِ عَمَلِهِ عَلَى النَّحْوِ الْمَرْضِيِّ، فَإِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ قَدْ جَعَلَ لِلنَّاسِ مَعَ النَّاسِ الْمَنَافِعَ الَّتِي لَا تُحْصَى وَلَا تُعَدُّ.
أَسْأَلُ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْ يُطْعِمَنِي، وَإِيَّاكُمْ وَالْمُسْلِمِينَ أَجْمَعِينَ مِنَ الْحَلَالِ الصِّرْفِ الَّذِي لَا شُبْهَةَ فِيهِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر: المال الحرام وأثره المدمر على الفرد والمجتمع