((لِينُ الْكَلَامِ وَحُسْنُهُ مَعَ الْوَالِدَيْنِ))
لَقَدْ أَمَرَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِأَنْ نَقُولَ لِلنَّاسِ حُسْنًا، وَأَوْلَى النَّاسِ بِذَلِكَ الْوَالِدَانِ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: «قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}؛ أَيْ: كَلِّمُوهُمْ طَيِّبًا، وَلِينُوا لَهُمْ جَانِبًا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}.
فَالْحَسَنُ مِنَ الْقَوْلِ: يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَحْلُمُ وَيَعْفُو وَيَصْفَحُ، وَيَقُولُ لِلنَّاسِ حُسْنًا كَمَا قَالَ اللهُ؛ وَهُوَ كُلُّ خُلُقٍ حَسَنٍ رَضِيَهُ اللهُ».
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْقَوْلَ الطَّيِّبَ الْحَسَنَ لَا يَذْهَبُ سُدًى، وَلَا يَضِيعُ بَدَدًا، بَلْ صَاحِبُهُ مَأْجُورٌ عَلَيْهِ مُثَابٌ عَلَى قَوْلِهِ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ».
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ وَاجِبٌ عَلَى الِابْنِ، وَخُصُوصًا الْأُمَّ؛ لِمَا لَهَا مِنْ عَظِيمِ الْحُقُوقِ، وَلَا يُهْضَمُ حَقُّ الْوَالِدِ بِحَالٍ، وَأَنْ يَقُولَ لَهُمَا قَوْلًا لَيِّنًا، وَذَلِكَ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ دُخُولِ الْجَنَّةِ؛ فَعَنْ طَيْسَلَةَ بْنِ مَيَّاسٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّجَدَاتِ، فَأَصَبْتُ ذُنُوبًا لَا أَرَاهَا إِلَّا مِنَ الْكَبَائِرِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «مَا هِيَ»؟
قُلْتُ: كَذَا وَكَذَا.
قَالَ: «لَيْسَتْ هَذِهِ مِنَ الْكَبَائِرِ؛ هُنَّ تِسْعٌ: الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ نَسَمَةٍ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ، وَإِلْحَادٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَالَّذِي يَسْتَسْخِرُ، وَبُكَاءُ الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْعُقُوقِ».
قَالَ لِي ابْنُ عُمَرَ: «أَتَفْرَقُ مِنَ النَّارِ، وَتُحِبُّ أَنْ تَدْخُلَ الْجَنَّةَ؟».
قُلْتُ: إِي وَاللَّهِ.
قَالَ: «أَحَيٌّ وَالِدَاكَ»؟
قُلْتُ: عِنْدِي أُمِّي.
قَالَ: «فَوَاللَّهِ لَوْ أَلَنْتَ لَهَا الْكَلَامَ، وَأَطْعَمْتَهَا الطَّعَامَ، لَتَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مَا اجْتَنَبْتَ الْكَبَائِرَ». وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ أَخْرَجَهُ الطَّبَرِيُّ فِي «التَّفْسِيرِ»، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، والْبَيْهَقِيُّ فِي «الشُّعَبِ»، وَقَدِ اسْتَوْفَى الْكَلَامَ عَنْهُ الشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- كَمَا فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».
«كُنْتُ مَعَ النَّجَدَاتِ»؛ النَّجَدَاتُ: أَصْحَابُ نَجْدَةَ بْنِ عَامِرٍ الْحَنَفِيِّ الْخَارِجِيِّ، هُمْ قَوْمٌ مِنَ الْحَرُورِيَّةِ، يُكَفِّرُونَ بِالْكَبِيرَةِ، وَيُخَلِّدُونَ بِهَا فِي النَّارِ، كَانَ مَعَهُمْ.
قَالَ: «فَأَصَبْتُ ذُنُوبًا لَا أَرَاهَا إِلَّا مِنَ الْكَبَائِرِ»: لَعَلَّ هَذِهِ الرُّؤْيَةَ دَعَا إِلَيْهَا أَنَّهُ صَحِبَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يَتَشَدَّدُونَ فِي دِينِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَأَتَى بِأُمُورٍ لَمَّا ذَكَرَهَا لِابْنِ عُمَرَ قَالَ: مَا هِيَ مِنَ الْكَبَائِرِ! وَلَكِنَّهُ كَانَ يَرَاهَا مِنَ الْكَبَائِرِ.
وَ«الْكَبَائِرُ»: هِيَ الذُّنُوبُ الَّتِي وَرَدَ فِيهَا حَدٌّ أَوْ وَعِيدٌ شَدِيدٌ.
قَالَ: «الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ»؛ أَنْ يَعْبُدَ مَعَ اللهِ -تَعَالَى- غَيْرَهُ، أَوْ يَتَّخِذَ مَعْبُودًا سِوَاهُ، وَهُوَ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ.
«وَقَتْلُ نَسَمَةٍ»؛ النَّسَمَةُ: النَّفْسُ وَالرُّوحُ.
«وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ»: الْفِرَارُ مِنَ الْجَيْشِ يَزْحَفُونَ إِلَى الْعَدُوِّ، يَزْحَفُونَ: يَعْنِي يَمْشُونَ، وَالْفِرَارُ مِنَ الزَّحْفِ: يَعْنِي القِتَالَ في سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى.
«وَقَذْفُ الْمُحْصَنَةِ»: اتِّهَامُ الْعَفِيفَةِ بِالزِّنَا.
«وَإِلْحَادٌ فِي الْمَسْجِدِ»: التَّجَاوُزُ عَنْ حُدُودِ اللهِ، وَاخْتِيَارُ سَبِيلِ الشِّرْكِ وَالْبِدْعَةِ فِيهِ.
«وَالَّذِي يَسْتَسْخِرُ»؛ الِاسْتِسْخَارُ: مِنَ السُّخْرِيَةِ؛ وَهُوَ الِاسْتِهْزَاءُ مِنْ إِنْسَانٍ، وَالضَّحِكُ عَلَيْهِ، وَإِضْحَاكُ النَّاسِ مِنْهُ، وَالَّذِي يَسْتَسْخِرُ أَيْ يَسْتَدْعِي السُّخْرِيَةَ تُنَزَّلُ عَلَى عِبَادِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
قَوْلُهُ: «أَتَفْرَقُ»؛ الْفَرَقُ: الْخَوْفُ وَالْفَزَعُ؛ أَتَخَافُ مِنَ النَّارِ وَتَفْزَعُ مِنْهَا وَتُحِبُّ أَنْ تَدْخُلَ الْجَنَّةَ؟
قُلْتُ: إِي وَاللَّهِ.
قَالَ: «أَحَيٌّ وَالِدَاكَ»؟
قُلْتُ: عِنْدِي أُمِّي.
«فَوَاللَّهِ لَوْ أَلَنْتَ لَهَا الْكَلَامَ»؛ أَلَنْتَ: أَيْ خَفَضْتَ صَوْتَكَ، وَكَلَّمْتَهَا بِاللُّطْفِ وَعُذُوبَةِ اللِّسَانِ، «وَأَطْعَمْتَهَا الطَّعَامَ»؛ أَيْ: هَيَّأْتَ لَهَا الطَّعَامَ، وَأَدْخَلْتَ إِلَيْهَا الطَّعَامَ، وَمَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَلْبَسِ وَالدَّرَاهِمِ وَغَيْرِهَا مَمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي مَعِيشَتِهَا عَلَى قَدْرِ وُسْعِكَ.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: بَيَانُ عِظَمِ عُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ، وَأَنَّهُ مِنَ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ، وَإِذَا بَكَيَا مِنْ شِدَّةِ الْعُقُوقِ فَهُوَ أَشَدُّ وَأَنْكَى!
المصدر:بِرُّ الْأُمِّ سَبِيلُ الْبَرَكَةِ فِي الدُّنْيَا وَالرَّحْمَةِ فِي الْآخِرَةِ