التَّرْهِيبُ مِنْ عُقُوبَاتِ الْعُقُوقِ


 ((التَّرْهِيبُ مِنْ عُقُوبَاتِ الْعُقُوقِ))

إِنَّ الْعَاقَّ لِوَالِدَيْهِ تُعَجَّلُ لَهُ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا، وَمِنْ أَكْبَرِ أَبْوَابِ قَطِيعَةِ الْأَرْحَامِ قَطِيعَةُ الْوَالِدَيْنِ وَعُقُوقُهُمَا؛ فَعَنْ أَبِي بَكْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجَّلَ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةُ مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ، مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ». هَذَا الْحَدِيثُ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ.

قَالَ: «مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ»؛ أَيْ: أَحْرَى وَأَوْلَى، «أَنْ يُعَجَّلَ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةُ»؛ أَيْ: فِي الدُّنْيَا، «مَعَ مَا يُدَّخَرُ لَهُ»؛ أَيْ: يُؤَجَّلُ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، «مِنَ الْبَغْيِ»: الظُّلْمِ، أَوْ هُوَ: الْخُرُوجُ عَلَى السُّلْطَانِ، أَوِ: الْكِبْرُ؛ وَيَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَالْبَغْيُ: التَّعَدِّي، وَكُلُّ مُجَاوَزَةٍ أَوْ إِفْرَاطٍ عَلَى الْمِقْدَارِ الذَّي هُوَ حَدُّ الشَّيْءِ، كُلُّ ذَلِكَ بَغْيٌ فَاحْذَرْهُ، فَإِنَّهُ تُعَجَّلُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةُ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يُدَّخَرُ لِصَاحِبِهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: إِثْبَاتُ تَعْجِيلِ الْعُقُوبَةِ لِلْبَاغِينَ وَالْقَاطِعِينَ أَرْحَامَهُمْ فِي الدُّنْيَا، مَعَ مَا يُؤَجَّلُ لَهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ فِي الْآخِرَةِ.

ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ «الصَّحِيحِ» -الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ»-: «لَيْسَ شَيْءٌ أُطِيعَ اللهُ فِيهِ أَعْجَلَ ثَوَابًا مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ أَعْجَلَ عِقَابًا مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ، وَالْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ» جَمْعُ بَلْقَعٍ أَوْ بَلْقَعَةٍ؛ وَهِيَ: الْأَرْضُ الْقَفْرُ الَّتِي لَا شَيْءَ فِيهَا.

وَعَلَى الْعَاقِّ لِوَالِدَيْهِ أَنْ يَخَافَ مِنْ دَعْوَةٍ مُسْتَجَابَةٍ مِنْ وَالِدَيْهِ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قال: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَهُنَّ، لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ». وَالْحَدِيثُ حَدِيثٌ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ عِنْدَ أَحْمَدَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ فِي «الصَّحِيحَةِ».

«لَا شَكَّ فِيهِنَّ»؛ أَيْ: فِي اسْتِجَابَتِهِنَّ؛ لِالْتِجَاءِ أَصْحَابِهِنَّ إِلَى اللهِ -تَعَالَى- بِصِدْقِ الطَّلَبِ وَرِقَّةِ الْقَلْبِ وَانْكِسَارِ الْخَاطِرِ.

فِي أَكْثَرِ الطُّرُقِ: «دَعْوَةُ الْوَالِدِ»؛ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ، وَلَمْ تُذْكَرِ الْوَالِدَةُ وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي مَعْنَى اللَّفْظِ الْوَاحِدِ.

«دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ» الَّذِي يُظْلَمُ فِي مَالِهِ أَوْ فِي دَمِهِ أَوْ فِي عِرْضِهِ، فَدَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فَدُعَاؤُهُ مُسْتَجَابٌ؛ وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ»؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ، دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ؛ فَمَنِ انْتَهَكَ وَاحِدَةً مِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ فَقَدْ بَغَى وَاعْتَدَى، وَاسْتَحَقَّ أَنْ يَدْعُوَ عَلَيْهِ الْمَظْلُومُ، وَإِذَا دَعَا الْمَظْلُومُ نَصَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ، فَاسْتَجَابَ دُعَاءَهُ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ.

وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ فِي سَفَرِ الطَّاعَةِ أَوِ الْمُبَاحِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ فِيهِ عَنَاءٌ وَتَعَبٌ وَمَشَقَّةٌ، فَإِذَا كَانَ فِي طَاعَةٍ كَالْجِهَادِ وَطَلَبِ الْعِلْمِ وَالْكَدِّ عَلَى الْعَائِلَةِ وَعَلَى الْأَرْمَلَةِ وَالْمِسْكِينِ وَالْقَاصِرِ، كُلُّ هَذَا يُعْتَبَرُ جِهَادًا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَصِيَانَةً لِلنَّفْسِ -أَيْضًا- عَنِ السُّؤَالِ، مَنْ دَعَا وَهُوَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ اسْتَجَابَ اللهُ دُعَاءَهُ.

وَيُشْتَرَطُ فِي الدُّعَاءِ أَلَّا يَسْتَعْجِلَ الْإِجَابَةَ، وَلَا يَقْنَطَ، وَلَا يَنْقَطِعَ؛ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَعْجَلْ؛ يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي!»، وَمَا لَمْ يَدْعُ بِقَطِيعَةِ رَحِمٍ أَيْضًا.

وَأَمَّا سَفَرُ الْمَعَاصِي فَإِنَّهُ لَا تُسْتَبَاحُ بِهِ الرُّخَصُ، وَلَا يُعْطَى صَاحِبُهُ مَا يُعْطَى الْمُسَافِرُ سَفَرَ طَاعَةٍ أَوْ سَفَرًا مُبَاحًا.

وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ أَوِ الْوَالِدَةِ عَلَى الْوَلَدِ، ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، وَهِيَ الثَّالِثَةُ، يُسْتَجَابُ لِوَالِدِهِ إِذَا دَعَا عَلَيْهِ وَلِوَالِدَتِهِ إِذَا دَعَتْ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ إِنْ حَصَلَ الدُّعَاءُ مِنْهُمَا بِحَقٍّ بِسَبَبِ الْإِسَاءَةِ إِليْهِمَا؛ كَالْعُقُوقِ، وَعَدَمِ الْبِرِّ، فَالدَّعْوَةُ -دَعْوَةُ الْوَالِدِ وَالْوَالِدَةِ عَلَى الْوَلَدِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى- مُسْتَجَابَةٌ.

فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَّقُوا هَذِهِ الثَّلَاثَ الْخِصَالَ؛ الظُّلْمَ لِلْغَيْرِ فِي مَالٍ أَوْ دَمٍ أَوْ عِرْضٍ، وَكَذَلِكَ الْعُقُوقُ الَّذِي بِالْعُقُوبَاتِ الْعَاجِلَةِ وَالْآجِلَةِ.

إِنَّ أَهَمَّ حُقُوقِ الْعِبَادِ حَقُّ الْوَالِدَيْنِ، فَهُمَا يَسْتَحِقَّانِ التَّوَاضُعَ مِنَ الْوَلَدِ، وَيَسْتَحِقَّانِ تَوْقِيرَهُمَا وَالتَّلَطُّفَ بِهِمَا، بِالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ؛ حَتَّى يَدْعُوَا لِأَوْلَادِهِمَا دُعَاءً حَسَنًا مُسْتَجَابًا عِنْدَ اللهِ.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ)) .

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَةُ، وَالدَّيُّوثُ. وَثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالْمُدْمِنُ عَلَى الْخَمْرِ، وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى)).

وَيَقُولُ: ((لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَمَنْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ الْعَاقَّ لِوَالِدَيْهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مُنْتَقِصَ مَنَارَ الْأَرْضِ)) .

((لَا تُشْرِكْ بِاللهِ وَإِنْ قُطِّعْتَ أَوْ حُرِّقْتَ، وَلَا تَعُقَّ وَالِدَيْكَ وَإِنْ هُمَا أَمَرَاكَ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ)) .

إِذَنْ؛ يَجْعَلُهُ النَّبِيُّ ﷺ قِيمَةً بِذَاتِهَا لَا تَتَجَزَّأُ أَبَدًا، إِنَّمَا نُؤْتَى مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الذُّنُوبِ الْكَبِيرَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ: الْإِشْرَاكُ بِاللهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ)) .

 

المصدر:التَّرْهِيبُ مِنَ الْعُقُوقِ وَعَوَاقِبِهِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  أَكْلُ الْحَرَامِ مِنْ أَعْظَمِ قَوَاطِعِ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ
  ضَرُورَةُ الِاجْتِمَاعِ عَلَى الْحَقِّ وَالِاعْتِصَامِ بِحَبْلِ اللهِ
  فَضَائِلُ وَثَمَرَاتُ الزَّكَاةِ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ
  التَّرْبِيَةُ الرُّوحِيَّةُ الْقَلْبِيَّةُ لِلْأَطْفَالِ
  حِيَاطَةُ الشَّرْعِ لِلْعَقْلِ
  ثَمَرَاتُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ الْمَشْرُوعِ وَفَوَائِدُهُ
  عَاقِبَةُ نَقْضِ الْعُقُودِ وَالْعُهُودِ
  مُوجَزُ تَارِيخِ الْقُدْسِ الْعَرَبِيَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ
  تُوبُوا وَأَنِيبُوا وَأَسْلِمُوا إِلَى رَبِّكُمْ!
  قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ
  سُنَنُ العِيدِ وَآدَابُهُ
  الدُّرُوسُ العَظِيمَةُ مِنْ تَحْوِيلِ القِبْلَةِ
  سَبِيلُ نَجَاتِكَ إِمْسَاكُ لِسَانِكَ إِلَّا عَنْ خَيْرٍ!
  الْإِيمَانُ تَصْلُحُ بِهِ الْحَيَاةُ عَلَى مُسْتَوَى الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ
  عِظَمُ أَمَلِ الصَّادِقِ الْمُخْلِصِ فِي تَفْرِيجِ الْكُرُبَاتِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان