((الْإِسْلَامُ دِينُ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ))
عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ حَصَرَ النَّبِيُّ ﷺ الْغَايَةَ مِنَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فِي تَمَامِ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ، فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)).
أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ))، وَالْحَاكِمُ، وَأَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَحْمَد شَاكِر، وَالشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ، وَغَيْرُهُمَا.
فَلَا عَجَبَ -إِذَنْ- أَنْ يَكُونَ حُسْنُ الْخُلُقِ غَايَةَ الْغَايَاتِ فِي سَعْيِ الْعَبْدِ لِاسْتِكْمَالِ الصِّفَاتِ عَلَى أَسَاسٍ مِنَ التَّوْحِيدِ الْمَكِينِ، وَثَابِتِ الْإِخْلَاصِ وَالْيَقِينِ.
وَقَدْ كَانَ إِمَامُ الْأَنْبِيَاءِ ﷺ فِي ((حُسْنِ الْخُلُقِ)) عَلَى الْقِمَّةِ الشَّامِخَةِ، وَفَوْقَ الْغَايَةِ وَالْمُنْتَهَى، فَكَانَ كَمَا قَالَ عَنْهُ رَبُّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].
وَهُوَ ﷺ مَعَ ذَلِكَ لَا يَنْفَكُّ يَدْعُو رَبَّهُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ بِقَوْلِهِ: ((اللهم اهْدِنِي لأَحْسَنِ الأَخْلاقِ؛ فَإِنَّهُ لا يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئِهَا لَا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
يَطْلُبُ مِنْ رَبِّهِ أَنْ يُرْشِدَهُ لِصَوَابِ الْأَخْلَاقِ، وَيُوَفِّقَهُ لِلتَّخَلُّقِ بِهِ، وَأَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ قَبِيحَ الْأَخْلَاقِ وَمَذْمُومَ الصِّفَاتِ، وَيُبْعِدَ ذَلِكَ عَنْهُ، مَعَ أَنَّهُ ﷺ عَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ، وَمَعَ أَنَّ خُلَقَهُ الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ.
أَخْبَرَ سَعْدُ بْنُ هِشَامٍ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فَقَالَ: ((قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
قَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟
قُلْتُ: بَلَى.
قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ ﷺ الْقُرْآنُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمَعْنَى أَنَّ خُلُقَهُ الْقُرْآنُ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِهِ، وَيَقِفُ عِنْدَ حُدُودِهِ، وَيَتَأَدَّبُ بِآدَابِهِ، وَيَعْتَبِرُ بِأَمْثَالِهِ وَقَصَصِهِ، وَيَتَدَّبَرُهُ، وَيُحْسِنُ تِلَاوَتَهُ.
وَإِذَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، وَهُوَ -مَعَ ذَلِكَ- يَسْأَلُ الْهِدَايَةَ لِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ، وَيَسْتَعِيذُ مِنْ سَيِّئِهَا، فَكَيْفَ يَصْنَعُ مَنْ خُلُقُهُ إِلَى خُلُقِ النَّبِيِّ ﷺ كَقَطْرَةٍ فِي بَحْرٍ أَوْ دُونَ ذَلِكَ؟!!
وَكُلُّ إِنْسَانٍ -لَا مَحَالَةَ- يَجْهَلُ الْكَثِيرَ مِنْ عُيُوبِ نَفْسِهِ، فَإِذَا جَاهَدَ نَفْسَهُ أَدْنَى مُجَاهَدَةٍ حَتَّى تَرَكَ فَوَاحِشَ الْمَعَاصِي، فَرُبَّمَا ظَنَّ بِنَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَذَّبَ نَفْسَهُ، وَصَفَّى أَخْلَاقَهُ، وَحَسَّنَ خُلُقَهُ، وَاسْتَغْنَى عَنِ الْمُجَاهَدَةِ، وَاسْتَنَامَ إِلَى حُسْنِ ظَنِّهِ بِنَفْسِهِ، وَاتَّبَعَ هَوَاهُ!!
وَلَا رَيْبَ أَنَّ حَاجَةَ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ إِلَى حُسْنِ الْخُلُقِ كَحَاجَتِهِ إِلَى الْهَوَاءِ، بَلْ أَشَدُّ؛ لِأَنَّ فَقْدَ الْهَوَاءِ يَعْنِي مَوْتَ الْبَدَنِ، وَفَقْدَ الْخُلُقِ الْحَسَنِ يَعْنِي مَوْتَ الْقَلْبِ، وَفِي مَوْتِ الْقَلْبِ فَقْدُ الدِّينِ، وَهَلَاكُ الْأَبَدِ.
وَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَكْمَلَ النَّاسِ خُلُقًا، وَأَحْسَنَهُم أَخْلَاقًا، كَانَ أَوْلَى النَّاسِ بِالْحُبِّ وَالْقُربِ مِنْهُ مَنْ بَلَغَ فِي حُسْنِ الْخُلُقِ مَبْلَغًا مَرْضِيًّا، وَتَسَنَّمَ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ مَكَانًا عَلِيًّا.
عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مِن أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ، وَأَقرَبِكُم مِنِّي مَجلِسًا يَوْمَ الْقِيامَةِ: أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا، وَإِنَّ أَبْغَضَكُمْ إِلَيَّ، وَأَبعَدَكُمْ مِنِّي مَجلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الثَّرثَارُونَ، وَالْمُتَشَدِّقُونَ، وَالْمُتَفَيهِقُونَ)).
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللّٰهِ، قَدْ عَلِمنَا: الثَّرثَارُونَ وَالْمُتَشَدِّقُونَ، فَمَا الْمُتَفَيهِقُونَ؟
قَالَ: ((الْمُتَكَبِّرُونَ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ)).
وَذَمَّ الْإِسْلَامُ أَصْحَابَ الْأَخْلَاقِ السَّيِّئَةِ؛ فَلَمَّا كَانَ خَيْرُ الْمُؤْمِنِينَ أَعْظَمَهُمْ سَهْمًا فِي حُسْنِ الْخُلُقِ، كَانَ شَرُّ النَّاسِ أَعْظَمَهُمْ سَهْمًا فِي سُوءِ الْخُلُقِ، فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يَا عَائِشَةُ إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ -أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ- اتِّقَاءَ فُحْشِهِ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَالْفَاحِشُ الْبَذِيءُ مَبْغُوضٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كلَّ فاحشٍ مُتَفَحِّشٍ)). رَوَاهُ أَحْمَد، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)).
وَالْفَاحِشُ: ذُو الْفُحْشِ فِي كَلَامِهِ وَفَعَالِهِ.
وَالْمُتَفَحِّشُ: الَّذِي يَتَكَلَّفُ ذَلِكَ وَيَتَعَمَّدُهُ.
*دِينُ الْإِسْلَامِ هُوَ دِينُ الطَّهَارَةِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الْفَوَاحِشِ:
إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ هُوَ دِينُ الطَّهَارَةِ، دِينُ طَهَارَةِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ عَلَى السَّوَاءِ، أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِطَهَارَةِ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ وَالْأَنْفُسِ، وَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِطَهَارَةِ الْأَبْدَانِ وَالثِّيَابِ وَالْأَمْكِنَةِ، وَهُوَ دِينُ الْعِفَّةِ وَدِينُ الْعَفَافِ، يَنْفِي الْفَاحِشَةَ وَيُحَارِبُهَا وَيَسُدُّ الْمَسَالِكَ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَيْهَا.
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33].
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَخْبَرَنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا الْأَمِينِ ﷺ عَنْ عِظَمِ فَضِيلَةِ الْحَيَاءِ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ هَذَا الْخُلُقَ خُلُقَ الْإِسْلَامِ، وَخَلَّقَ النَّبِيَّ ﷺ مِنْهُ بِالنَّصِيبِ الْأَوْفَى.
وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْحَيَاءَ حَاجِزًا عَنِ الْوُقُوعِ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ الْحَيَاءَ مِنْ خُلُقِ الْمَلَائِكَةِ الْمُطَهَّرِينَ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ فِي وَصْفِهِ فِي خُلُقِ الْحَيَاءِ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ: ((أَنَّهُ كَانَ أَحْيَا مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا ﷺ )).
*نَهَى الْإِسْلَامُ عَنِ الزِّنَا وَمُقَدِّمَاتِهِ صِيَانَةً لِلْأَعْرَاضِ وَالْمُجْتَمَعِ:
قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا ۖ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 31].
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ قَبِيحَةً، وَبِئْسَ الزِّنَا طَرِيقًا إِلَى تَحْقِيقِ شَهَوَاتِ الْفُرُوجِ.
وَالنَّهْيُ عَنِ اقْتِرَابِ الزِّنَا أَبْلَغُ مِنَ النَّهْيِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ الِاقْتِرَابِ مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ الَّتِي قَدْ تُفْضِي إِلَيْهِ كَالنَّظَرِ وَالْمُلَامَسَةِ وَالتَّقبِيلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
*أَمَرَ الْإِسْلَامُ بِالصِّدْقِ، وَنَهَى عَنِ الْكَذِبِ؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يُكتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفجُورِ، وَإِنَّ الفجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا)). وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .
عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ أَيْ: الْزَمُوا الصِّدْقَ.
وَأَمَّا الْكَذِبُ: فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَذَّرَ مِنْهُ، فَقَالَ: ((وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبُ)).
((إِيَّاكُمْ)): لِلتَّحْذِيرِ؛ أَيْ: احْذَرُوا الْكَذِبَ.
فَالْكَذِبُ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَالْفُجُورُ يَهْدِي إِلَى النَّارِ -نَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنْهَا-.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((وَإِنَّ الرَّجُلُ لَيَكْذِبُ)).
وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ: ((لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا)).
وَالْكَذِبُ مِنَ الْأُمُورِ الْمُحَرَّمَةِ، بَلْ هُوَ مِنْ كَبَائِرِ الذُّنُوبِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ تَوَعَّدَ الْكَذَّابَ بِأَنَّهُ يُكْتَبُ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا.
وَعَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ: ((دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ، وَإِنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: ((حَدِيثٌ صَحِيحٌ))، وَكَذَلِكَ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَهُوَ صَحِيحٌ كَمَا قَالَ التِّرْمِذِيُّ.
((دَعْ مَا يَرِيبُكَ)) دَعْ: أَيْ اتْرُكْ.
((مَا يَرِيبُكَ)): بِفَتْحِ الْيَاءِ؛ أَيْ مَا تَشُكُّ فِيهِ، وَلَا تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ.
((إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ)): إِلَى الشَّيْءِ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَا شَكَّ.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَإِنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينَةٌ)): الصِّدْقُ طُمْأَنِينَةٌ، لَا يَنْدَمُ صَاحِبُهُ أَبَدًا، وَلَا يَقُولُ: لَيْتَنِي وَلَيْتَنِي؛ لِأَنَّ الصِّدْقَ مَنْجَاةٌ، وَالصَّادِقُونَ يُنَجِّيهِمُ اللهُ تَعَالَى بِصِدْقِهِمْ.
وَتَجِدُ الصَّادِقَ دَائِمًا مُطْمَئِنًّا؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَسَّفُ عَلَى شَيْءٍ حَصَلَ أَوْ شَيْءٍ يَحْصُلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَدَقَ، وَمَنْ صَدَقَ نَجَا.
أَمَّا الْكَذِبُ، فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ رِيبَةٌ، وَلِهَذَا تَجِدُ أَوَّلَ مَنْ يَرْتَابُ فِي الْكَاذِبِ نَفْسَهُ، فَيَرْتَابُ الْكَاذِبُ هَلْ يُصَدِّقُهُ النَّاسُ أَوْ لَا يُصَدِّقُونَهُ؟!!
فَيَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَدَعَ الْكَذِبَ إِلَى الصِّدْقِ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ رِيبَةٌ، وَأَمَّا الصِّدْقُ فَطُمَأْنِينَةٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ)).
*لَقَدْ حَثَّ دِينُ الْإِسْلَامِ عَلَى إِمْسَاكِ اللِّسَانِ إِلَّا عَنْ خَيْرٍ، وَحَذَّرَ مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ جَمِيعِهَا:
قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((اعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَحْفَظَ لِسَانَهُ عَنْ جَمِيعِ الْكَلَامِ؛ إِلَّا كَلَامًا ظَهَرَتْ فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، وَمَتَى اسْتَوَى الْكَلَامُ وَتَرْكُهُ فِي الْمَصْلَحَةِ؛ فَالسُّنَّةُ الْإِمْسَاكُ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْجَرُّ الْكَلَامُ الْمُبَاحُ إِلَى حَرَامٍ أَوْ مَكْرُوهٍ، وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْعَادَةِ، وَالسَّلَامَةُ لَا يَعْدِلُهَا شَيْءٌ)).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أَوْ لِيَصْمُتْ)) . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ يَنْبَغِي أَلَّا يُتَكَلَّمَ إِلَّا إِذَا كَانَ الْكَلَامُ خَيْرًا، وَهُوَ الَّذِي ظَهَرَتْ مَصْلَحَتُهُ، وَمَتَى شَكَّ فِي ظُهُورِ الْمَصْلَحَةِ، فَلَا يَتَكَلَّمُ.
مِنْ آفَاتِ اللِّسَانِ الَّتِي نَهَى عَنْهَا الْإِسْلَامُ، وَنَفَّرَ عَنْهَا، وَحَذَّرَ مِنْهَا: السَّبُّ وَاللَّعْنُ, وَالْبَذَاءُ, وَالْهُجَرُ مِنَ الْقَوْلِ.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((الْمُسْتَبَّانِ مَا قَالَا، فَعَلَى الْبَادِئِ مِنْهُمَا حَتَّى يَتَعَدَّى الْمَظْلُومُ)) . رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ)) . رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَا يَنْبَغِي لِصِدِّيقٍ أَنْ يَكُونَ لَعَّانًا)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ.
إِنَّ مِنْ أَخْطَرِ آفَاتِ اللِّسَانِ الَّتِي حَذَّرَ مِنْهَا وَنَهَى عَنْهَا دِينُ الْإِسْلَامِ: الْغِيبَةُ وَهِيَ: ذِكْرُ الْعَيْبِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ, ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ, سَوَاءٌ أَكَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ أَمْ لَمْ يَكُنْ.
فَهَكَذَا بَيَّنَهَا الرَّسُولُ ﷺ, قالَ عَنِ الْغِيبَةِ: ((ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ)).
قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟
قَالَ: ((إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْحُجُرَاتِ: ((وَالْغِيبَةُ مُحَرَّمَةٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا رَجَحَتْ مَصْلَحَتُهُ، كَمَا فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَالنَّصِيحَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ)).
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ((الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ, وَأَنَّهُ يَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى)).
وَهَذَا بَيِّنٌ وَاضِحٌ فِي قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12].
وَمِنْ أَسْمَى الْأَخْلَاقِ، وَأَجْمَلِ الصِّفَاتِ الَّتِي أَمَرَ بِهَا دِينُنَا الْعَظِيمُ، وَرَغَّبَ فِيهَا، وَحَثَّ عَلَيْهَا: الْبِرُّ وَالْوَفَاءُ.
عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبيِّ ﷺ، قَالَ: ((الْبِرُّ: حُسْنُ الْخُلُقِ، وَالْإِثْمُ: مَا حَاكَ في نَفْسِكَ، وكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عليهِ النَّاسُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).
الْبِرُّ: اسْمٌ جَامِعٌ لِلْخَيْرِ، وَكُلِّ فِعْلٍ مَرْضِيٍّ.
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: «الْبِرُّ شَيْءٌ هَيِّنٌ: وَجْهٌ طَلِيقٌ، وَكَلَامٌ لَيِّنٌ».
وَإِذَا قُرِنَ الْبِرُّ بِالتَّقْوَى، كَمَا فِي قَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2]؛ فَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِالْبِرِّ: مُعَامَلَةَ الْخَلْقِ بِالْإِحْسَانِ، وَبِالتَّقْوَى: مُعَامَلَةَ الْحَقِّ بِفِعْلِ طَاعَتِهِ، وَاجْتِنَابِ مَحَارِمِهِ.
وَقَدْ يَكُونُ أُرِيدَ بِالْبِرِّ: فِعْلُ الْوَاجِبَاتِ، وَبِالتَّقْوَى: اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
قَدْ يُرَادُ بِالْإِثْمِ: الْمَعَاصِي، وَبِالْعُدْوَانِ: ظُلْمُ الْخَلْقِ.
وَقَدْ يُرَادُ بِالْإِثْمِ: مَا هُوَ مُحَرَّمٌ فِي نَفْسِهِ؛ كَالزِّنَا، وَالسَّرِقَةِ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَبِالْعُدْوَانِ: تَجَاوُزُ مَا أُذِنَ فِيهِ إِلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ مِمَّا جِنْسُهُ مَأْذُونٌ فِيهِ؛ كَقَتْلِ مَنْ أُبِيحَ قَتْلُهُ لِقِصَاصٍ، وَمَنْ لَا يُبَاحُ، وَأَخْذِ زِيَادَةٍ عَلَى الْوَاجِبِ مِنَ النَّاسِ فِي الزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا، وَمُجَاوَزَةِ الْجَلْدِ فِي الَّذِي أُمِرَ بِهِ فِي الْحُدُودِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ.
*وَأَمَّا الْوَفَاءُ؛ فَإِنَّهُ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَعَارَفَ أَصْحَابُ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ عَلَى احْتِرَامِهَا وَتَقْدِيرِهَا وَتَعْظِيمِ مَنْ أَتَى بِهَا.
وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَضْرِبُ الْأَمْثَالَ، فَمِنْ أَمْثَالِهِمْ: ((هُوَ أَعَزُّ مِنَ الْوَفَاءِ))، فَلَمَّا رَأَوْا نُدْرَةَ هَذَا الْخُلُقِ وَعِزَّةَ وُجُودِهِ فِي النَّاسِ، وَيَظَلُّونَ الْأَمَدَ مُفْتَقِدِينَ إِلَيْهِ، بَاحِثِينَ عَنْهُ، فَنَادِرًا مَا يَلْقَوْنَهُ، وَقَلَّ مَا يَجِدُونَهُ، وَعَلِمُوا أَنَّهُ صَعْبُ الْمَنَالِ جِدًّا، وَلَا يُدْرِكُهُ إِلَّا الْأَفْذَاذُ مِنَ الْبَشَرِ؛ ضَرَبُوا بِنُدْرَتِهِ الْمَثَلَ، فَقَالُوا: ((هُوَ أَعَزُّ مِنَ الْوَفَاءِ))!!
فَجَعَلُوا لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَحَصَّلَ عَلَيْهِ إِلَّا بِشِقِّ النَّفْسِ أَوْ مَا فَوْقَ ذَلِكَ؛ جَعَلُوا لَهُ الْمَثَلَ الْمَضْرُوبَ بِالْوَفَاءِ الْمَفْقُودِ.
كَانَتِ الْعَرَبُ تُقَدِّرُ هَذَا الْخُلُقَ جِدًّا، فَلَمَّا جَاءَ سَيِّدُ الْأَوْفِيَاءِ ﷺ؛ ارْتَكَزَ -بَعْدَ ارْتِكَازِهِ عَلَى مَوْرُوثِ الْفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ- عَلَى الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَرْعِيَّةِ.
الْوَفَاءُ: إِتْمَامُ الْعَهْدِ، وَإِكْمَالُ الشَّرْطِ.
وَضِدُّهُ: الْغَدْرُ، وَهُوَ خُلُقٌ خَبِيثٌ، حَذَّرَ مِنْهُ النَّبِيُّ ﷺ كَثِيرًا، وَدَعَا فِي الْمُقَابِلِ ﷺ -كَمَا دَعَا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ- إِلَى الْأَخْذِ بِنَقِيضِهِ، وَهُوَ الْوَفَاءُ.
وَقَدْ أَمَرَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِصِدْقِ اللِّسَانِ، وَصِدْقِ الْفِعْلِ جَمِيعًا، وَهَذَا هُوَ الْوَفَاءُ.
يَقُولُ رَبُّنَا: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40].
فَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، بِالْعَهْدِ الَّذِي قَطَعَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى بَنِي آدَمَ فِي عَالَمِ الذَّرِّ؛ {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172].
*وَمِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي حَثَّ عَلَيْهَا دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ: قَضَاءُ حَوَائِجِ النَّاسِ؛ فَالرَّسُولُ ﷺ يُرَغِّبُ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ، وَيُبيِّنُ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَحْسَنَ إِلَى أَخِيهِ؛ أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْهِ، وَإِذَا مَا سَعَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَقْضِي حَوَائِجَهُ.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً؛ فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
وَشَتَّان مَا بَيْنَ كُرْبَةِ الدُّنْيَا وَكُرْبَةِ الْآخِرَةِ، فَهَذَا عَطَاءٌ مِنْ صَاحِبِ الْعَطَاءِ وَالْفَضْلِ: «فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ .
*وَحَثَّ الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ عَلَى خُلُقِ الْمُرُوءَةِ؛ وَالْمُرُوءَةُ: هِيَ الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَالتَّفَضُّلُ للهِ تَعَالَى، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].
وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ هُوَ إِيصَالُ النَّفْعِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ إِلَيْهِمْ، وَدَفْعُ الشَّرِّ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ عَنْهُمْ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَمْرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيُهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعْلِيمُ جَاهِلِهِمْ، وَوَعْظُ غَافِلِهِمْ، وَالنَّصِيحَةُ لِعَامَّتِهِمْ وَخَاصَّتِهِمْ.
وَالسَّعْيُ فِي جَمْعِ كَلِمَتِهِمْ، وَإِيصَالُ الصَّدَقَاتِ وَالنَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ إِلَيْهِمْ، عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ وَتَبَايُنِ أَوْصَافِهِمْ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ بَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الْأَذَى، وَاحْتِمَالُ الْأَذَى، كَمَا وَصَفَ اللهُ بِهِ الْمُتَّقِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، فَمَنْ قَامَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، فَقَدْ قَامَ بِحَقِّ اللهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ.
*وَمِنَ الْمُرُوءَةِ الْعَفْوُ وَالْحِلْمُ؛ فَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَكْتُوبٌ فِي الإِنْجِيلِ: لَا فَظٌّ، وَلَا غَلِيظٌ، وَلَا صَخَّابٌ بِالْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ مِثْلَهَا، بَلْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ)). أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا».
فِي الصَّفْحِ وَالْعَفُوِ وَالْحِلْمِ مِنَ الْحَلَاوَةِ وَالطُّمْأَنِينَةِ وَالسَّكِينَةِ، وَشَرَفِ النَّفْسِ، وَعِزِّهَا وَرِفْعَتِهَا عَنْ تَشَفِّيهَا بِالِانْتِقَامِ مَا لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الْمُقَابَلَةِ وَالِانْتِقَامِ.
*وَالْمُرُوءَةُ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
فَإِحْسَانُ التَّعَامُلِ مَعَ الْخَلْقِ هُوَ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ الرَّبِّ، وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِ النَّبِيِّ الْأَكْرَمِ ﷺ: «وَخَالِق النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».
((خَالِقْ النَّاسَ)): مِنَ الْمُفَاعَلَةِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ النَّاسِ، يَعْنِي: فَلْتَكُنْ أَخْلَاقُكَ الْمَبْذُولَةُ إِلَيْهُمْ حَسَنَةً.
((خَالِقْ النَّاسَ)): فَهُوَ فِعْلُ أَمْرٍ، «وخالِق الناسَ بخُلقٍ حَسَنٍ».
فَهُوَ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ.
وَيَجْعَلُهُ النَّبِيُّ ﷺ مُؤَدِّيًا إِلَى مَبْلَغٍ لَا يُرْتَقَى مُرْتَقَاهُ إِلَّا بِشِقِّ النَّفْسِ وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ؛ «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ».
*وَأَمَرَ دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ، وَحَثَّ عَلَيْهَا، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90].
إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَأْمُرُ عِبَادَهُ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنْ أَنْوَاعِ السُّلُوكِ الْفَاضِلِ الْحَسَنِ؛ مِنْهَا: صِلَةُ الرَّحِمِ، وَهُمُ الْقَرَابَةُ الْأَدْنَوْنَ وَالْأَبْعَدُونَ مِنْكَ، فَتُسْتَحَبُّ صِلَتُهُمْ بِمَا فَضُلَ مِنَ الرِّزْقِ الَّذِي آتَاكَ اللهُ إِيَّاهُ.
(1وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا عَرَضَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي مَسِيرِهِ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي مَا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ؟
قَالَ: «تَعْبُدُ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ». وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».
«تَصِلُ الرَّحِمَ»؛ أَيْ: تُحْسِنُ إِلَى أَقَارِبِكَ، وَتُوَاسِي ذَوِي الْقَرَابَةِ فِي الْخَيْرَاتِ.
فَبِصِلَةِ الرَّحِمِ تَصْلُحُ الْمُجْتَمَعَاتُ، وَيَحْصُلُ التَّآلُفُ بَيْنَ الْأَقَارِبِ فِي النَّسَبِ، وَكَذَلِكَ الْأَقَارِبُ بِالْجِوَارِ وَالْأَصْحَابُ، فَالْمُجْتَمَعُ لَا يَكُونُ سَعِيدًا إِلَّا إِذَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِهِ التَّوَاصُلُ وَالتَّوَادُّ وَالتَّرَاحُمُ وَالْمَحَبَّةُ الشَّرْعِيَّةُ.
وَأَمَّا الْقَطِيعَةُ فَكُلُّهَا شَرٌّ، وَالِانْتِقَامُ لِلنَّفْسِ كَذَلِكَ يَجُرُّ إِلَى شَرٍّ كَبِيرٍ، وَالصَّبْرُ وَالتَّرَاضِي ثَمَرَاتُهُ طَيِّبَةٌ، وَعَوَاقِبُهُ حَمِيدَةٌ.