((تَفَاعُلُ الْمَخْلُوقَاتِ مَعَ الْقُرْآنِ الكريم))
قَالَ تَعَالَى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [ الحشر: ٢١]
لَوْ أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَنْزَلَ الْقُرْآنَ تَكْلِيفًا وَتِلَاوَةً عَلَى جَبَلٍ فِي وُعُورَتِهِ وَقَسْوَتِهِ وَصَلَادَتِهِ وَصَلَابَتِهِ, فِي حُزُونَتِهِ وَسُمُوقِهِ وَارْتِفَاعِهِ وَثَبَاتِهِ, لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ ﷺ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ, وَلَكِنْ أَنْعَمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَيْكُمْ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ بِأَنْ ثَبَّتَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتَلَقُّونَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ, ثُمَّ زَادَ فِي الْإِنْعَامِ عَلَيْكُمْ فَيَسَّرَهُ لَكُمْ, وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْهُ حَرْفًا.
لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- ذكَّرَنَا بِالْإِنْعَامِ عَلَيْنَا وَاصْطِفَائِنَا, فَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- إِنَّ ظَالِمَنَا الَّذِي يَظْلِمُ نَفْسَهُ هُوَ مِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ, كَمَا أَخْبَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ .
فَمَا تَقُولُ فِي أُمَّةٍ ظَالِمُهَا مِمَّنِ اصْطَفَاهُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-؟!
يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [ فاطر: ٣٢ ]
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ تَتَفَاعَلُ مَعَهُ كَثِيرٌ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ, مَا مَرَّ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)) بِسَنَدِهِ: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، لَمَّا أَوْفَدَتْهُ قُرَيْشٌ لِيُكَلِّمَ رَسُولَ اللهِ ﷺ فِي أُسَارَى بَدْرٍ، فَدَخَلَ الْمَدِينَةَ فَوَافَى النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ بِأَصْحَابِهِ، يَقْرَأُ سُورَةَ الطُّورِ، قَالَ: ((سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، وَقَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: فَسَمِعْتُ قَوْلَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ*أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ} [الطور:35-36]، قَالَ: فَكَادَ قَلْبِي أَنْ يَطِيرَ)).
وَفِي رِوَايَةٍ : ((فَذَلِكَ حِينَ دَخَلَ الْإِسْلَامُ قَلْبِي))، لَمَّا سَمِعَ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَهَذَا أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي مِرْبَدِهِ ذَاتَ لَيْلَةٍ -وَالْمِرْبَدُ: هُوَ الْمَكَانُ الَّذِي يُيَبَّسُ فِيهِ التَّمْرُ وَيُجَفَّفُ-, فَأُسَيْدٌ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي مِرْبَدِهِ، وَفَرَسُهُ مَرْبُوطَةٌ بِشَطَنٍ -أَيْ بِحَبْلٍ هُنَالِكَ-, وَعِنْدَهَا وَلَدُهُ يَحْيَى.
أَخَذَ أُسَيْدٌ يَتْلُو كَلَامَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- وَأَخَذَتِ الْفَرَسُ تَجُولُ -أَيْ تَتَحَرَّكُ فِي مَوْضِعِهَا، تَرْفَعُ حَوَافِرَهَا وَتَخْفِضُهَا-, فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ.
ثُمَّ قَرَأَ أُسَيْدٌ، فَجَالَتِ الْفَرَسُ, فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ.
ثُمَّ قَرَأَ، فَجَالَتِ الْفَرَسُ، وَكَانَ يَحْيَى قَرِيبًا مِنْهَا؛ فَخَشِيَ أَنْ تَطَأَ يَحْيَى بِحَافِرِهَا, فَقَامَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ فَرَأَى كَمِثْلِ الظُّلَّةِ فِيهَا كَأَمْثَالِ السُّرُجِ, غَيْرَ أَنَّهَا تَعْرُجُ فِي السَّمَاءِ حَتَّى ذَهَبَتْ, فَخَشِيَ عَلَى يَحْيَى فَسَكَتَ.
ثُمَّ غَدَا إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَأَخْبَرَهُ, فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ, إِنِّي كُنْتُ أَقْرَأُ الْقُرْآنَ الْبَارِحَةَ.
قَالَ: ((اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ)).
قَالَ: ثُمَّ إِنِّي قَرَأْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ.
قَالَ: ((اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ)).
قَالَ: ثُمَّ إِنِّي قَرَأْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ.
قَالَ: ((اقْرَأْ يَا ابْنَ حُضَيْرٍ)).
قال: يَا رَسُولَ اللهِ, خِفْتُ عَلَى يَحْيَى أَنْ تَطَأَهُ الْفَرَسُ بِحَافِرِهَا, ثُمَّ إِنِّي رَأَيْتُ كَمِثْلِ الظُّلَّةِ فِيهَا كَأَمْثَالِ السُّرُجِ, فَلَمَّا سَكَتُّ تَوَارَتْ وَعُرِجَ بِهَا إِلَى السَّمَاءِ.
فَقَالَ: ((تِلْكَ الْمَلَائِكَةُ, وَلَوْ أَنَّكَ ظَلَلْتَ فِي قِرَاءَتِكَ وَعَلَيْهَا؛ لَأَصْبَحَ النَّاسُ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ فِي مَدِينَةِ النَّبِيِّ ﷺ » .
{قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: ١٧ ]، وَلَكِنَّ الْإِنْسَانَ وَحْدَهُ الَّذِي يَصْلُدُ قَلْبُهُ فَوْقَ صَلَادَةِ الْجِبَالِ, وَيَصْلُبُ فُؤَادُهُ فَوْقَ صَلَابَتِهَا!! فَاللَّهُمَّ لَيِّنْ قُلُوبَنَا بِذِكْرِكَ وَلِذِكْرِكَ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.
المصدر:الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَأَثَرُهُ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَتَرْسِيخِ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ