((الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ وَالْمِنْحَةُ بَعْدَ الْمِحْنَةِ))
عِبَادَ اللهِ! اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- جَعَلَ حَادِثَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ بِعَقِبِ مَا كَانَ مِنْ إِيذَاءِ قُرَيْشٍ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي تَصَاعُدِ خَطِّ الْإِيذَاءِ إِلَى ذُرْوَتِهِ وَأَعْلَاهُ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ أَنْ مَاتَ عَمُّهُ وَمَاتَتْ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.
وَكَانَ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ يُدَافِعُ عَنْهُ، فَيَجِدُ النَّبِيُّ ﷺ هَذَا السَّنَدَ مِنَ الْبَشَرِ فِي الْخَارِجِ -فِي خَارِجِ الْبَيْتِ-، وَلَكِنَّهُ يَجِدُ الْعَنَتَ الْعَانِتَ، فَإِذَا جَاءَ إِلَى الْبَيْتِ وَجَدَ خَدِيجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، فَكَانَ يَجِدُ السَّكَنَ ﷺ.
خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- -وَهَذَا مِنَ الْآيَاتِ وَمِنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ -نُبُوَّةِ الرَّسُولِ ﷺ-، عِنْدَمَا رَجَعَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَرَجَعَ يَقُولُ: ((زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي))، قَالَ: ((إِنِّي أَخْشَى أَنْ يَكُونَ قد أَصَابَنِي شيءٌ)).
قَالَتْ: ((لَا وَاللهِ، لَا يُصِيبُكَ شَرٌّ أَبَدًا؛ إِنَّكَ لَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَاللهِ لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا)) .
عِنْدَنَا دَلَالَتَانِ:
*الدَّلَالَةُ الْأُولَى: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَتْ أَخْلَاقُهُ لَا تَصَنُّعَ فِيهَا؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَمَا أَخْبَرَ عَنْ أَخْلَاقِهِ، جَعَلَهَا فِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا مِنْ سُمُوِّ الْأَخْلَاقِ، وَجَلَالِهَا وَكَمَالِهَا وَبَهَائِهَا: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
وَالتَّعْبِيرُ بِـ (عَلَى) وَهِيَ الِاسْتِعْلَاءُ، فَهُوَ عَلَى الْخُلُقِ الْعَظِيمِ ﷺ، كَأَنَّهُ يَعْلُوهُ وَيَفُوقُهُ، {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقِ عَظِيمٍ} ﷺ، فَكَانَ هَذَا مِمَّا طَبَعَ اللهُ عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ، وَكَمَّلَهُ بِهِ، فَكَانَ في بَيْتِهِ -وَفِي الْبَيْتِ تَبْدُو أَخْلَاقُ الرَّجُلِ- كَانَ عَلَى أَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنَ الْخُلُقِ، فَهَذِهِ دَلَالَةٌ.
*وَالدَّلَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ صَنَائِعَ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا كَانَ مُحْسِنًا قَوْلًا وَفِعْلًا وَاعْتِقَادًا؛ حَفِظَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عِنْدَ نُزُولِ الْمُلِمَّاتِ.
فَصَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، قَالَتْ: ((لَا وَاللهِ، لَا يُخْزِيكَ اللهُ أَبَدًا))، ثُمَّ ذَكَرَتِ الْعِلَّةَ: ((إِنَّكَ لَتَحْمِلُ الْكَلَّ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الدَّهْرِ)).
إِذَنْ؛ مَا دُمْتَ كَذَلِكَ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ أَبَدًا أَنْ يُصِيبَكَ شَيْءٌ، أَوْ أَنْ يُخْزِيَكَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-، أَوْ أَنْ يَتَخَلَّى عَنْكَ ﷺ.
فَالنَّبِيُّ ﷺ لَمَّا فَقَدَ خَدِيجَةَ وَفَقَدَ عَمَّهُ، وَمِنْ آيَاتِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَدَلَائِلِ النُّبُوَّةِ فِي النَّبِيِّ ﷺ وَلَهُ: أَنَّ عَمَّهُ كَانَ يُنَاصِرُهُ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى كُفْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ أَسْلَمَ وَهُوَ مُنَاصِرُهُ؛ لَرُبَّمَا قَالَ قَائِلٌ: إِنَّمَا انْتَصَرَ الْإِسْلَامُ بِالْعَصَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ عَمَّهُ قَدْ أَسْلَمَ، فَهُوَ يَنْصُرُ الْإِسْلَامَ عَصَبِيَّةً، بِمَعْنَى أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- يَنْصُرُ هَذَا الدِّينَ بِعَصَبِيَّةِ الرَّسُولِ ﷺ، وَلَمْ يَكُنِ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا بَقِيَ عَلَى كُفْرِهِ؛ لِيَعْلَمَ النَّاسُ كُلُّ النَّاسِ أَنَّ الَّذِي يَنْصُرُ الدِّينَ هُوَ رَبُّهُ، هُوَ الَّذِي شَرَعَهُ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ، وَأَنَّ الَّذِي يَنْصُرُ الدِّينَ هُوَ اللهُ.
فَيَبْقَى أَبُو طَالِبٍ عَلَى كُفْرِهِ، بَلْ يُخْرِجُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ أَعْمَامِ النَّبِيِّ ﷺ مَنْ يُحَارِبُهُ عِنْدَمَا اسْتَعْلَنَ بِالدَّعْوَةِ، يَعْنِي لَمْ يَكُنْ فِي قُرَيْشٍ سِوَى أَبِي لَهَبٍ لِكَيْ يَقُولَ لِلنَّبِيِّ ﷺ لَمَّا جَمَعَهُمْ عِنْدَ الصَّفَا وَدَعَاهُم: ((فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ)).
لَمْ يَكُنْ فِي قُرَيْشٍ إِلَّا هَذَا الرَّجُلُ، فَيَقُولُ: تَبًّا لَكَ سَائِرَ هَذَا الْيَوْمِ!! أَلِهَذَا جَمَعْتَنَا؟ هَذَا عَمُّهُ!!
بَلْ كَانَ يُؤْذِيهِ أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ وَأَبْلَغَ؛ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَيْضًا أَنَّ هَذَا الدِّينَ لَمْ يُنْصَرْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَدُورُ عَلَى النَّاسِ فِي مَجَامِعِهِمْ وَفِي مَوَاسِمِهِمْ وَفِي أَسْوَاقِهِمْ.
فَيَأْتِي الْعَرَبُ وُفُودًا إِلَى مَكَّةَ فِي الْمَوْسِمِ، وَكَذَلِكَ كَانُوا يَأْتُونَ وُفُودًا إِلَى مَكَّةَ فِي الْأَسْوَاقِ؛ فِي عُكَاظٍ، وَذِي الْمَجَنَّةِ، وَذِي الْمَجَازِ، أَسْوَاقٌ لِلْعَرَبِ كَانَتْ مَعْلُومَةً تُعْقَدُ فِي كُلِّ عَامٍ كَمَعْرِضِ الْكِتَابِ، فَكَانُوا إِذَا جَاءُوا؛ ذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْرِضُ عَلَيْهِمُ الْإِسْلَامَ، قُولُوا: ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ تُفْلِحُوا)) ، وَرَجُلٌ وَضِيءٌ أَحْوَلُ لَهُ غَدِيرَتَان -ضَفِيرَتَان- يَدُورُ وَرَاءَ النَّبِيِّ ﷺ كُلَّمَا دَعَا قَوْمًا؛ أَقْبَلَ هُوَ عَلَى الْقَوْمِ يَقُولُ: لَا تُصَدِّقُوهُ، هُوَ ابْنُ أَخِي وَهُوَ مَجْنُونٌ!! فَيَقُولُ النَّاسُ: عَمُّهُ أَدْرَى بِهِ، بَلَاءٌ عَظِيمٌ!!
فَلَمَّا مَاتَ أَبُو طَالِبٍ وَمَاتَتْ خَدِيجَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((وَاللهِ مَا خَلُصَ إِلَيَّ أَحَدٌ بِأَذًى أَوْ بِشَيْءٍ أَكْرَهُهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ مَاتَ أَبُو طَالِبٍ)) .
وَذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ وَقَدْ أَرَادَ أَنْ يَنْقُلَ الدَّعْوَةَ بِمَرْكَزِهَا -مَرْكَزِ الثِّقَلِ فِي الدَّعْوَةِ- إِلَى الطَّائِفِ؛ لِأَنَّ مَكَّةَ اسْتَعْصَتْ -صَارَتْ حَالَتُهَا مُسْتَعْصِيَةً- يَعْنِي كَمَا يَقُولُونَ أَتَت بِآخِرِ مَا عِنْدَهَا.
الدَّعْوَةُ هَكَذَا وَصَلَتْ إِلَى الطَّرِيقِ الْمَسْدُودِ فِي مَكَّةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَأَرَادَ أَنْ يَنْقُلَ مَرْكَزَ الدَّعْوَةِ ﷺ إِلَى الطَّائِفِ، فَذَهَبَ إِلَى ثَقِيفٍ وَحَدَثَ عِنْدَهُمْ مَا حَدَثَ مِنَ الْإِيذَاءِ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ، أَغْرَوْا بِهِ الْغِلْمَانَ وَالسُّفَهَاءَ وَالضُّعَفَاءَ يَقْذِفُونَهُ بِالْحِجَارَةِ، وَالرَّسُولُ ﷺ يَبْتَعِدُ عَنْ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءِ حَتَّى لَا يَكُونَ فِي مَرْمَى أَحْجَارِهِمْ، وَمَعَ ذَلِكَ أَصَابَهُ مَا أَصَابَهُ فِي عَقِبِهِ، وَبَلَغَ مِنْهُ التَّعَبُ مَبْلَغَهُ، حَتَّى مَا كَانَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَقُومَ عَلَى قَدَمَيْهِ، فَمَا وَصَلَ إِلَى ظِلِّ حَائِطِ عُتْبَةَ وَشَيْبَةَ إِلَّا عَلَى يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَكَانَ مَا كَانَ .
مَعَ هَذَا الْأَسَى كُلِّهِ وَمَعَ هَذَا الْعَنَتِ، وَمَعَ هَذَا الْإِيذَاءِ مِنْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَالْمَوْجِدَةِ فِي الْقَلْبِ، وَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا فِي جِوَارِ رَجُلٍ مُشْرِكٍ، وَهُوَ الْمُطْعَمُ بْنُ عَدِيٍّ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالُوا خَيْرًا فَعَلَ، لَا يَدْخُلُهَا مَرَّةً أُخْرَى، فَلَمْ يَدْخُلِ النَّبِيُّ ﷺ مَكَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَّا فِي جِوَارِ الْمُطْعَمِ بْنِ عَدِيٍّ .
فَالنَّبِيُّ ﷺ مَعَ هَذَا كُلِّهِ عِنْدَمَا أَتَى مَلَكُ الْجِبَالِ، وَقَالَ: ((إِنْ أَرَدْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ -أَيِ: الجَبَلَيْنِ-؛ فَعَلْتُ، جَعَلَنِي اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- طَوْعَ أَمْرِكَ)).
قَالَ: ((لَا، لَعَلَّ اللهَ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ أَصْلَابِهِم مَنْ يُوَحِّدُ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-)) .
فَصَدَقَ مَنْ سَمَّاهُ الرَّؤُوفَ الرَّحِيمَ ﷺ، مَعَ هَذَا كُلِّهِ لَمْ يَأْخُذْهُمْ إِلَّا بِالْحِلْمِ وَالْفَضْلِ؛ لِأَنَّ الْهِدَايَةَ بِيَدِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
جَاءَتْ حَادِثَةُ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ فَتْحًا بَعْدَ أَنْ وَقَعَ هَذَا، لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ وَجَفَاهُ النَّاسُ مِنْ قَرِيبٍ وَبَعِيدٍ.
وَتَعْرِفُ أَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي فِيهِ: «اللهم إِلَيْكَ أَشْكُو ضَعْفَ قُوَّتِي، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النَّاسِ.. ثُمَّ إِلَى مَنْ تَكِلُنِي، إِلَى بَعِيدٍ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إِلَى عَدُوٍّ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي...» هَذَا ضَعِيفٌ .
وَمَعَ ذَلِكَ فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَسْرَى بِنَبِيِّهِ ﷺ بِعَقِبِ ذَلِكَ، فَإِذَا كَانَ أَهْلُ الْأَرْضِ قَدْ جَفَوْكَ يَا مُحَمَّدُ؛ فَأَهْلُ السَّمَاءِ يَحْتَفُونَ بِكَ!!
وَالنَّبِيُّ ﷺ يُعَلِّمُنَا بِهِ رَبُّنَا، فَهَذِهِ الْبُشْرَيَاتُ يَحْتَاجُهَا الْمُسْلِمُ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، الدَّاعِي إِلَى اللهِ أَحْيَانًا يَرَى رُؤْيَا، يَحْدُثُ لَهُ أَمْرٌ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُعَدُّ بِشَارَةً كَمَا كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يُحِبُّ الْفَأْلَ -الْكَلِمَةَ الْحَسَنَةَ-، وَلَكِنْ كَانَ لَا يَتَطَيَّرُ وَلَا يَتَشَاءَمُ، هُوَ يُحِبُّ الْفَأْلَ -هُوَ الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ، الْكَلِمَةُ الْحَسَنَةُ، الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ-، فَكَانَ يَهَشُّ لَهَا ﷺ .
المصدر:دُرُوسٌ مِنَ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ