«دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ»
«الدرس السابع والعشرون»
«الْعَفْوُ وَكَظْمُ الغَيْظِ»
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
«لِينُ الجَانِبِ وَالعَفْوُ سَبَبُ الأُلْفَةِ وَالمَحَبَّةِ»
فَقَد قَالَ اللهُ –جَلَّ وَعَلَا-: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ [آل عمران: 159].
أي: بِرَحْمَةِ اللهِ لك ولأصحابِكَ مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ أَنْ ألَنْتَ لَهُم جَانِبَكَ، وَخَفَضْتَ لَهُم جَنَاحَكَ، وَتَرَقَّقْتَ عَلَيْهِم، وَحَسَّنْتَ لَهُم خُلُقَكَ، فَاجْتَمَعُوا عَلَيْكَ وَأَحَبُّوكَ، وامْتَثَلُوا أَمْرَكَ.
﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا﴾ أي: سَيِّئَ الخُلُقِ ﴿غَلِيظَ الْقَلْبِ﴾ أي: قَاسِيَهُ، ﴿لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾؛ لأنَّ هَذَا يُنَفِّرُهُم وَيُبَغِّضُهم لِمَن قَامَ به هذا الخُلُقُ السَّيِّئُ.
فالأخلاقُ الحَسَنَةُ مِن المُقَدَّمِ في الدِّينِ، تَجْذِبُ النَّاسَ إلى دينِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَتُرَغِّبُهُم فيه، مع ما لصاحبِهِ مِن المَدْحِ والثَّوَابِ الخَاصِّ، والأخلاقُ السَّيِّئَةُ مِن المُقَدَّمِ في الدينِ تُنَفِّرُ النَّاسَ عن الدينِ، وتُبَغِّضُهُم إليه، مع ما لصاحِبِهَا مِن الذَّمِّ والعِقَابِ الخَاصِّ، فهذا الرسولُ المَعصومُ يقولُ اللهُُ له ما يقول؛ فكيف بِغَيْرِهِ؟!
أليس مِن أَوْجَبِ الوَاجِبَاتِ، وأَهَمِّ المُهِمَّاتِ: الاقتداءُ بأخلاقِهِ الكريمةِ، ومعاملةُ النَّاسِ بِمَا يُعَامِلُهُم به ﷺ، مِن اللينِ وحُسْنِ الخُلُقِ والتَّأليفِ، امْتِثَالًا لأمرِ اللهِ، وَجَذْبًا لِعِبَادِ اللهِ لدينِ اللهِ.
ثُمَّ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِأَنْ يَعْفُوَ عنهم ما صَدَرَ منهم مِن التَّقْصِيرِ في حَقِّهِ ﷺ، ويَسْتَغْفِرَ لَهُم في التقصيرِ في حَقِّ اللهِ، فَيَجْمَعُ بين العَفْوِ والإِحْسَانِ.
﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ أي: الأمور التي تَحْتَاجُ إلى استشارةٍ وَنَظَرٍ وَفِكْرٍ؛ فَإِنَّ في الاستشارةِ مِن الفَوَائِدِ والمَصَالِحِ الدينيةِ والدنيويةِ ما لا يُمْكِنُ حَصْرُهُ.
«عَفْوُ النَّبِيِّ ﷺ، وَحِلْمُهُ، وَرَحْمَتُهُ»
وَعَن عَائِشَةَ –رَضِيَ اللهُ عَنهَا- قَالَت: «مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا، إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شِيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ للهِ –عَزَّ وَجَلَّ-». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: «مَا رُزِقَ عَبْدٌ خَيْرًا لَه وَلَا أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ». أَخْرَجَهُ الحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.
وَعَنْ عَائِشَةَ –رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَكْتُوبٌ فِي الإِنْجِيلِ: لَا فَظٌّ، وَلَا غَلِيظٌ، وَلَا صَخَّابٌ بِالْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ مِثْلَهَا، بَلْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ». أَخْرَجَهُ الحَاكِمُ وابنُ عَسَاكِر، وَحَسَّنَهُ الألبانِيُّ في «السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ».
قالَ رسولُ اللهِ ﷺ: «مَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا»، وَقَد عُلِمَ بِالتَّجْربَةِ والوجُودِ.
فِي الصَّفْحِ والعَفْوِ والحِلْمِ مِن الحَلَاوَةِ والطمأنِينَةِ والسَّكِينَةِ، وَشَرَفِ النَّفْسِ، وَعِزِّهَا وَرِفْعَتِهَا عن تَشَفِّيهَا بِالانْتِقَامِ مَا لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ في المُقَابَلَةِ والانْتِقَامِ(1).
«أَخْلَاقُ السَّلَفِ وَنَمَاذِجُ فِي العَفْوِ»
فقَدْ شَتَمَ رجُلٌ عُمَرَ بنَ ذَرّ -رحمةُ اللهِ عليه-، فقالَ له عُمَرُ: « يا هذا؛ إنِّي قد أَمَتُّ مُشاتمةَ الرجالِ صغيرًا فلن أُحييَهَا كبيرًا، وأنا لا أكافئُ مَن عصى اللهَ فيَّ بأكثرَ مِن أنْ أُطيعَ اللهَ فيه».
وجاء رجُلٌ إلى عليِّ بن الحُسين -رضوان اللهِ عليهما-، فقالَ: إنَّ فلانًا شتمَكَ.
فقال: اذهب بنا إليه.
فأخذَ بيدِهِ حتى صارَ بين يديْهِ، فأقبلَ عليه، والرجُلُ الذي نقلَ يظُنُّ أنهُ ما ذهبَ إلَّا مِن أجلِ المعاقبةِ، فلمَّا صارَ عندهُ، أقبلَ عليٌّ عليه فقال: «يا أخي إنْ كُنتَ صادقًا؛ فغفرَ اللهُ لي، وإنْ كنتَ كاذبًا؛ فغفرَ اللهُ لك».
وهذا رجُلٌ مِن أهلِ العلمِ لا تغيبُ عنه أسبابُ انفعالِهِ حالَ انفعالِهِ لحظةً واحدةً في مجلسِ العلمِ وهو فيه رأسٌ، عُبيد اللهِ بن الحسن العنبريِّ يُسألُ في مجلسِ العلمِ سؤالًا، ووردَت المسألةُ، فأخطأَ حين الجوابِ، وغلَطَ في الإجابةِ، فكان ماذا؟!!
لا شيء، ومَن الذي لا يَغْلَطُ خطأَ المسألة بعد المسألةِ لا يُدركُ فيها صوابًا، ولا يفتحُ اللهُ ربُّ العالمين إلى الإجابةِ فيها بابًا، فكان ماذا؟!! لا شيء.
فلمَّا بُيِّنَ له غَلَطُهُ؛ نكَّسَ رأسَهُ ساعةً، ثم رفعَ رأسَهُ فقال: «إذن؛ أعودُ إلى الحقِّ وأنا صاغرٌ، ولأنْ أكونَ ذَنَبًا في الحقِّ أحبُّ إليَّ مِن أنْ أكونَ رأسًا في الباطلِ».
والربيعُ بن سليمان لَمَّا دَخَلَ على الشافعيِّ -رحمهُ اللهُ تعالى- يعودُهُ في مَرَضِهِ، وكانَ الشافعيُّ مِمرَاضًا، وكانت البواسيرُ النازفةُ سببَ موتِهِ -رحمهُ اللهُ تعالى-، حتى إنه كانَ يركبُ البَغْلة فيمتلئ خُفُّهُ مِن الدمِ النازفِ مِن البواسير -رحمهُ اللهُ رحمةً واسعةً-، فَدَخَلَ عليه الربيعُ يعودُهُ في مَرَضِهِ، وكانَ الشافعيُّ له مُحِبًّا؛ حتى إنه قال فيه لَمَّا مَرِضَ:
مَرِضَ الحبيبُ فعُدْتُهُ *** فَمرِضْتُ مِن حُزْنِي عَليهِ
شُفِيَ الحـبيبُ فَعَادنِي *** فبَرِئْتُ مِـن نَظـرِي إليهِ
فَلَمَّا دَخَلَ عليه الرَّبيعُ دَعَا لهُ؛ فَقَالَ له: قَوَّى اللهُ ضَعْفَكَ يَا إِمَام.
فَقَالَ الشافعيُّ -والشافعيُّ مِمَّن تُؤخذُ عنهم اللغة كما قال المُتقدِّمونَ مِن أهلِ اللغةِ؛ حتى إنَّ الجاحظَ -وهو مَن هو في مسائل اللغةِ والأدبِ، وهو مُعتزِليٌّ صاحبُ فِرْقَةٍ، كانت له جماعةٌ كالجماعاتِ الحاضرة، كانت له فِرْقَةٌ مُعتزِليَّةٌ يُقال لها «الجاحظية»، وهذا مذكورٌ في كُتُبِ المِلَلِ والنِّحَلِ-، الجاحظُ يقول: نظرتُ في كُتُبِ المُتكلمينَ في العِلْمِ، فَلَم أَرَ أَبْلَغَ ولا أَفْصَحَ من المُطَّلَبيِّ -يعني الإمامَ الشافعيَّ- كأنَّ لسانَهُ ينثُرُ الدُّرَّ -يقولُ عن الإمامِ الشافعيِّ، الجاحظ هو الذيِّ يقول-، يقول عن الشافعيِّ الإمام -رحمهُ اللهُ-: كأنَّ لسانَهُ ينثُر الدُّرَّ، الآن عندنا أقوامٌ يتمدَّحونَ بالعِيِّ والفَهَاهَةِ ويُعيِّرونَ مَن آتاهُ اللهُ فصاحةً، فيقولونَ: هذا مُتكلِّفٌ؛ هذا مُتقعِّرٌ، هذا كذا، وهم لا يفهمون! حَمْقَى.
يقول الجاحظُ عن الشافعيِّ: كأنَّ لسانَهُ ينثُر الدُّرَّ، فَلَمَّا دَخَلَ عليه الربيعُ فقال: قَوَّى اللهُ ضَعْفَكَ يا إمام؛ ابتسَمَ وقال: لو قَوَّى ضَعْفِي قَتَلَنِي.
قال: فما أقول؟
قال: تقولُ: قَوَّى اللهُ قُوَّتَكَ، وَأَضْعَفَ اللهُ ضَعْفَكَ، أمَّا أنْ تقولَ: قوَّى اللهُ ضَعْفَكَ؛ فمعنى ذلك أنه سيَقتُلُنِي بضَعْفِي.
قال: لو قَوَّى ضَعْفِي قَتَلَنِي.
قال: فما أقول؟
قال: تقول: أَضْعَفَ اللهُ ضَعْفَكَ، وَقَوَّى اللهُ قُوَّتَكَ.
قال: واللهِ ما أردتُ إلا الخير.
فقال: يا ربيع؛ والله لو شَتمتني لَعَلِمْتُ أنك مَا أَرَدَّتَ إلا الخير.
مِن عظيمِ ثِقَتِهِ به، ومِن جليلِ محبّتِهِ له.
هل تستطيعُ أنتَ اليوم أنْ تقولَ هذا لأحدٍ؟! تقول: لو شتمتني؛ لَعَلِمْتُ أنكَ ما أَرَدَّتَ إلَّا الخير؟!!
أصحابُ الحقوقِ تُجْحَدُ حقوقُهُم؛ فإنَّ الأبَ إذا لم يُوفِّر له بعضَ ما طَلَبَ وليس له فيه حق؛ جَحَدَهُ وَجَحَدَ فَضْلَهُ، والمُعَلِّمُ إذا اشتدَّ بِقَسْوةٍ على بعضِ طُلَّابِهِ ليُرَبِّيَهُ وليُؤدِّبهُ؛ انقلبَ له، وانقلبَ عليه، وصارَ له عدوًّا، وانحازَ إلى صَفِّ أعدائِهِ، وصَارَ فيه طَاعِنًا، هذا عصرٌ فيه مِن العجائبِ ما لا يعلمُهُ إلَّا الله! هذا عصرُ الجحودِ! فَقَلَّ مَن اعترفَ بِنِعْمَةٍ أو شَكَرَ على فَضْلٍ، هذا عصرُ الجحودِ في جميعِ المجالاتِ حتى في العِلْمِ، فنسألُ اللهَ -تبارك وتعالى- أنْ يُوزعَنَا شُكْرَ نِعْمَتِهِ، إنهُ على كلِّ شيءٍ قدير.
«مِثَالٌ مَضْرُوبٌ فِي العَفْوِ والإِحْسَانِ»
وَقَد تَذَاكَرَ جَمَاعَةٌ فِيمَا بَيْنَهُم آثَارَ مَعْنِ بنِ زَائِدَة، وَهُوَ مِنْ أَشْهَرِ أَجْوَادِ العَرَبِ، أَدْرَكَ العَصْرَيْن الأُمَوِيَّ وَالعَبَّاسِيَّ، وَوَلَّاهُ المَنْصُورُ إِمَارَة (سِجِسْتَان)، فَأَقَامَ بِهَا، ثُمَّ قُتِلَ بِهَا غِيلَةً سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَمِئَة (151هـ)، وَثَبَتْ عَلَيْهِ خَوارِجُ وَهُوَ يَحْتَجِمُ فَقَتَلُوهُ.
تَذَاكَرَ جَمَاعَةٌ فِيمَا بَيْنَهُم آثَارَ مَعْنٍ وَأَخْبَارَ كَرَمِهِ، مُعْجَبِينَ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ التُّؤَدَةِ وَوَفْرَةِ الحِلْمِ وَلِينِ الجَانِبِ، وَغَالَوْا فِي ذَلِكَ كَثِيرًا، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ وَأَخَذَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُغْضِبَهُ، فَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ، وَوَعَدُوهُ مِئَةَ بَعِيرٍ إِذَا هُوَ فَعَلَ ذَلِكَ.
فَعَمَدَ الأَعْرَابِيُّ إِلَى بَعِيرٍ فَسَلَخَهُ وَارْتَدَى بِإِهَابِهِ –وَالإِهَابُ: الجِلْدُ مَا لَمْ يُدْبَغ-، وَاحْتَذَى بِبَعْضِهِ –وَاحْتَذَى: أَيْ انْتَعَلَ بِبَعْضِهِ-، جَاعِلًا بَاطِنَهُ ظَاهِرًا، وَدَخَلَ عَلَى مَعْنٍ بِصُورَتِهِ تِلْكَ، وَأَنْشَأَ الرَّجُلُ يَقُولُ:
أَتَذْكُرُ إِذْ لِحَافُكَ جِلْدُ شَاةٍ ... وَإِذْ نَعْلَاكَ مِنْ جِلْدِ البَعِيرِ
قَالَ مَعْنٌ: أَذْكُرُهُ وَلَا أَنْسَاهُ.
فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: فَسُبْحَانَ الَّذِي أَعْطَاكَ مُلْكًا ... وَعَلَّمَكَ الجُلُوسَ عَلَى السَّرِيرِ
فَقَالَ مَعْنٌ: إِنَّ اللَّهَ يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاء.
فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: فَلَسْتُ مُسَلِّمًا إِنْ عِشْتُ دَهْرًا ... عَلَى مَعْنٍ بِتَسْلِيمِ الأَمِيرِ
فَقَالَ مَعْنٌ: السَّلَامُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ فِي تَرْكِهِ ضَيْر.
فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: سَأَرْحَلُ عَنْ بِلَادٍ أَنْتَ فِيهَا ... وَلَوْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى الفَقِيرِ
فَقَالَ مَعْنٌ: إِنْ جَاوَرْتَنَا فَمَرْحَبًا بِالإِقَامَةِ، وَإِنْ جَاوَزْتَنَا فَمَصْحُوبًا بِالسَّلَامَةِ.
فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: فَجُدْ لِي يَا ابْنَ نَاقِصِةٍ بِمَالٍ ... فَإِنِّي قَدْ عَزَمْتُ عَلَى المَسِيرِ
-قَالَ: يَا ابْنَ نَاقِصَةٍ، بِدَلًا مِنْ: ابْنِ زَائِدَةٍ؛ احْتِقَارًا لَهُ-
فَجُدْ لِي يَا ابْنَ نَاقِصِةٍ بِمَالٍ ... فَإِنِّي قَدْ عَزَمْتُ عَلَى المَسِيرِ
فَقَالَ مَعْنٌ: أَعْطُوهُ أَلْفَ دِينَارٍ تُخَفِّفُ عَنْهُ مَشَاقَّ الأَسْفَار.
فَأَخَذَهَا وَقَالَ: قَلِيلٌ مَا أَتَيْتَ بِهِ وَإِنِّي ... لَأَطْمَعُ مِنْكَ فِي المَالِ الكَثِيرِ
فَثَنِّ فَقَدْ آتَاكَ الملك عَفْوًا ... بِلَا عَقْلٍ وَلَا رَأْيٍ مُنِيرِ
فَقَالَ مَعْنٌ: أَعْطُوهُ أَلْفًا ثَانِيَةً؛ كَيْ يَكُونَ عَنَّا رَاضِيًا.
فَتَقَدَّمَ الأَعْرَابِيُّ إِلَيْهِ, وَقَبَّلَ الأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ:
سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يُبْقِيكَ دَهْرًا ... فَمَا لَكَ فِي البَرِيَّةِ مِنْ نَظِيرِ
فَمِنْكَ الجُودُ وَالإِفْضَالُ حَقًّا ... وَفَيْضُ يَدَيْكَ كَالبَحْرِ الغَزِيرِ
فَقَالَ مَعْنٌ: أَعْطَيْنَاهُ عَلَى هَجْوِنَا أَلْفَيْنِ، فَلْيُعْطَ أَرْبَعَةً عَلَى مَدْحِنَا.
فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: بِأَبِي أَيُّهَا الأَمِيرُ وَنَفْسِي؛ فَأَنْتَ نَسِيجُ وَحْدَكَ فِي الحِلْمِ، وَنَادِرَةُ دَهْرِكَ فِي الجُودِ، وَلَقَدْ كُنْتُ فِي صِفَاتِكَ بَيْنَ مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّب، فَلَمَّا بَلَوْتُكَ صَغَّرَ الخُبْرُ الخَبَرَ، وَأَذْهَبَ ضَعْفَ الشَّكِ قُوَّةُ اليَقِين، وَمَا بَعَثَنِي عَلَى مَا فَعَلْتُ إِلَّا مِئَةُ بَعِيرٍ جُعِلَتْ لِي عَلَى إِغْضَابِكَ.
فَقَالَ لَهُ مَعْنٌ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكَ، وَوَصَلَهُ بِمِئَتَي بَعِيرٍ، نِصْفُهَا لِلرِّهَانِ، وَالنِّصْفُ الآخَرُ لَهُ.
فَانْصَرَفَ الأَعْرَابِيُّ دَاعِيًا لَهُ، شَاكِرًا لِهِبَاتِهِ، مُعْجَبًا بِأَنَاتِهِ.
وَقَدْ خَرَجَ مَعْنُ بنُ زَائِدَةَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ خَوَاصِّهِ لِلصَّيْدِ، فَاعْتَرَضَهُم قَطِيعٌ مِنْ ظِبَاءٍ؛ فَتَفَرَّقُوا فِي طَلَبِهِ، وَانْفَرَدَ مَعْنٌ خَلْفَ ظَبْيٍ حَتَّى انْقَطَعَ عَنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا ظَفِرَ بِهِ؛ نَزَلَ فَذَبَحَهُ، فَرَأَى شَيْخًا مُقْبِلًا مِنَ البَرِّيَّةِ عَلَى حِمَارٍ، فَرَكِبَ فَرَسَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ وَإِلَى أَيْن؟
قَاَل: أَتَيْتُ مِنْ أَرْضٍ لهَا عِشْرُونَ سَنَةً مُجْدِبَة، وَقَدْ أَخْصَبَت فِي هَذِهِ السَّنَة، فَزَرَعْتُهَا مَقْثَأَةً –وَالمَقْثَأَةُ: مَوْضِعُ القِثَّاء- ،فَأَخْرَجَت القِثَّاءَ فِي غَيْرِ أَوَانٍ، فَجَمَعْتُ مِنْهَا مَا اسْتَحْسَنْتُهُ، وَقَصَدْتُ بِهِ مَعْنَ بنَ زَائِدَة؛ لِكَرَمِهِ المَشْكُور، وَفَضْلِهِ المَشْهُور، وَمَعْرُوفِهِ المَأْثُور، وَإِحْسَانِهِ المَوْفُور.
فَقَالَ لَهُ مَعْنٌ: وَكَمْ أَمَّلْتَ مِنْهُ؟
قَالَ: أَلْفَ دِينَارٍ.
قَالَ: فَإِنْ قَالَ لَكَ: كَثِير؟
قَال: خَمْسَ مِئَة.
قَالَ: فَإِنْ قَالَ لَكَ: كَثِير؟
قَالَ: ثَلَاثَ مِئَة.
قَالَ: فَإِنْ قَالَ لَكَ: كَثِير؟
قَالَ: مِئَة.
فَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى قَالَ: لَا أَقَلَّ مِنَ الثَّلَاثِين.
قَالَ لَهُ مَعْنٌ: فَإِنْ قَالَ لَكَ: كَثِير؟
قَالَ الأَعْرَابِيُّ –وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ-: أُدْخِلُ قَوائِمَ حِمَارِي فِي عَيْنِهِ، وَأَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي خَائِبًا.
فَضَحِكَ مَعْنٌ، وَسَاقَ جَوَادَهُ حَتَّى لَحِقَ بِأَصْحَابِهِ، وَنَزَلَ فِي مَنْزِلِهِ، وَقَالَ لِحَاجِبِهِ: إِذَا أَتَاكَ شَيْخٌ عَلَى حِمَارٍ بِقِثَّاء فَادْخُل بِهِ عَلَيَّ، فَأَتَى الرَّجُلُ بَعْدَ سَاعَةٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ لَمْ يَعْرِفْهُ؛ لِهَيْبَتِهِ وَجَلَالِهِ، وَكَثْرَةِ حَشَمِهِ وَخَدَمِهِ، وَهُوَ مُتَصَدِّرٌ فِي دَسْتِهِ –وَالدَّسْتُ: صَدْرُ البَيْتِ-، وَالخَدَمُ قِيَامٌ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ الأَعْرَابِيُّ، قَالَ لَهُ: مَا الَّذِي أَتَى بِكَ يَا أَخَا العَرَب؟
قَالَ: أَمَّلْتُ فَضْلَ الأَمِيرِ، وَأَتَيْتُهُ بِقِثَّاءٍ فِي غَيْرِ أَوَانٍ.
فَقَالَ: كَمْ أَمَّلْتَ فِينَا؟
قَالَ: أَلْفَ دِينَارٍ.
قَالَ: كَثِير.
فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ فِي نَفْسِهِ: وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ شُؤْمًا عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: خَمْسَ مِئَةِ دِينَارٍ.
قَالَ: كَثِير.
فَمَا زَالَ بِهِ إِلَى أَنْ قَالَ: خَمْسِينَ دِينَارًا.
فَقَالَ لَهُ: كَثِير.
فَقَالَ: لَا أَقَلّ مِنَ الثَّلَاثِين.
فَضَحِكَ مَعْنٌ، فَعَلِمَ الأَعْرَابِيُّ أَنَّهُ صَاحِبُهُ، فَقَالَ: يَا سَيِّدِي؛ إِنْ لَمْ تُجِبْ إِلَى الثَّلَاثِين؛ فَالحِمَارُ مَرْبُوطٌ بِالبَابِ!
وَهَا هُوَ ذَا مَعْنٌ جَالِسٌ، فَضَحِكَ مَعْنٌ حَتَّى اسْتَلْقَى عَلَى فِرَاشِهِ، ثُمَّ دَعَا بَوَكِيلِهِ، فَقَالَ: أَعْطِهِ أَلْفًا، وَخَمْسَ مِئَةٍ، وَثَلَاثَ مِئَةٍ، وَمِئَةً، وَخَمْسِينَ، وَثَلَاثِينَ، وَدَعِ الحِمَارَ مَكَانَهُ.
كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَوْ كَانَ ابْنَ زَائِدَة؛ فَقِيلَ لَهُ: يَا ابْنَ نَاقِصَة، قَالَ:
وَلَنْ يُحْفَظَ العِرْضُ الشَّرِيفُ مِنَ الأَذَى حَتَّى يُرَاقَ عَلَى جَوَانِبُهُ الدَّمُ
وَتَقُومُ المَعْرَكَةُ!!
وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى إِنْفَاذِ العِقَابِ، وَلَكِنْ هَذَا هُوَ الحِلْمُ؛ لِأَنَّ مَعْنًا كَانَ قَادِرًا عَلَى إِنْفَاذِ العِقَابِ لَوْ أَرَاد؛ بَلْ عَلَى إِنْفَاذِ أَشَدِّ عِقَابٍ.
«كَظْمُ الْغَيْظِ»
قَالَ السَّعْدِيُّ –رَحِمَهُ اللهُ- في «تَفْسِيرِهِ»: قَالَ –جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)﴾ [آل عمران: 133-134].
أَمَرَهُم اللهُ تَعَالَى بِالمُسارعةِ إلى مغفرتِهِ، وإدراكِ جَنَّتِهِ التي عَرْضُهَا السماواتُ والأرضُ، فكيف بِطُولِهَا التي أَعَدَّهَا اللهُ تَعَالَى للمُتَّقِينَ؟!! فَهُم أَهْلُهَا، وأعمالُ التَّقوى هي المُوصِلَةُ إليها، ثُمَّ وَصَفَ المُتقينَ وأعمالَهُم، فقال: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ أي: في حالِ عُسْرِهِم ويُسْرِهِم، إنْ أَيْسَرُوا أَكْثَرُوا مِن النَّفَقَةِ، وإنْ أَعْسَرُوا لم يَحْتَقِرُوا مِن المَعروفِ شَيْئًا ولو قَلَّ.
﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ﴾ أي: إذا حَصَلَ لَهُم مِن غيرِهِم أَذِيَّةٌ تُوجِبُ غَيْظَهُم -وهو امتلاء قلوبِهِم مِن الحَنَقِ المُوجِبِ للانتقامِ بالقَوْلِ والفِعْلِ-؛ هؤلاء لا يعملونَ بِمُقْتَضَى الطِّبَاعِ البشريةِ؛ بَلْ يَكْظِمُونَ ما في القلوبِ مِن الغَيْظِ، ويَصْبِرُونَ عن مُقَابَلَةِ المُسِيءِ إليهم.
﴿وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ﴾ يَدْخُلُ في العفوِ عن النَّاسِ: العَفْوُ عن كلِّ مَن أَسَاءَ إليك بِقَوْلٍ أو فِعْلٍ، والعَفْوُ أَبْلَغُ مِن الكَظْمِ؛ لأنَّ العَفْوَ تَرْكُ المُؤاخذةِ مع السَّمَاحَةِ عن المُسِيءِ، وهذا إنما يكونُ مِمَّن تَحَلَّى بالأخلاقِ الجميلةِ، وتَخَلَّى مِن الأخلاقِ الرذِيلَةِ.
وهذا إنما يكونُ مِمَّن تَاجَرَ مع اللهِ، وَعَفَا عن عبادِ اللهِ رحمةً بهم، وإحسانًا إليهم، وكراهةً لِحُصُولِ الشَّرِّ عليهم، ولِيَعْفُوَ اللهُ عنه، ويكون أَجْرُهُ على رَبِّهِ الكريم، لا على العَبْدِ الفَقِيرِ، كَمَا قَالَ –جَلَّ وَعَلَا-: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾.
ثُمَّ ذَكَرَ حَالَةً أَعَمَّ مِن غَيْرِهَا، وأَحْسَنَ وَأَعْلَى وَأَجَلَّ، وهي الإحسانُ، فقالَ تَعَالَى: ﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ والإحسانُ نَوْعَان:
1*الإحسانُ في عبادةِ الخَالِقِ.
2*والإحسانُ إلى المَخْلُوقِ.
*فالإحسانُ في عبادةِ الخَالِقِ فَسَّرَهَا النبيُّ ﷺ كما في «الصحيح» فقال: «أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَم تَكُن تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».
*وأمَّا الإحسانُ إلى المَخلوقِ؛ فهو إيصالُ النَّفْعِ الدِّينيِّ والدُّنْيَوِيِّ إليهم، وَدَفْعُ الشَّرِّ الدينيِّ والدنيويِّ عنهم، فَيَدْخُلُ في ذلك: أَمْرُهُم بالمعروفِ، وَنَهْيُهُم عن المُنْكَرِ، وتَعليمُ جَاهِلِهِم، وَوَعْظُ غَافِلِهِم، والنَّصِيحَةُ لعَامَّتِهِم وخَاصَّتِهِم، والسَّعْيُ في جَمْعِ كلمتِهِم، وإيصالُ الصَّدَقَاتِ والنَّفَقَاتِ الوَاجِبَةِ والمُسْتَحَبَّةِ إليهم، على اختلافِ أحوالِهِم وتَبَايُنِ أوصافِهِم، فَيَدْخُلُ في ذلك: بَذْلُ النّدَى، وَكَفُّ الأَذَى، واحتمالُ الأَذَى، كَمَا وَصَفَ اللهُ به المُتَّقِينَ في هذه الآياتِ، فَمَن قَامَ بهذه الأمورِ؛ فَقَد قَامَ بِحَقِّ اللهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ.
عَنْ جَابِر –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَّهُ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قِبَلَ نَجْدٍ، فَلَمَّا قَفَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَفَلَ مَعَهُ –أي: رَجَعَ مَعَهُ-، فَأَدْرَكَتْهُمُ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ –وَالْعِضَاهُ: نوعٌ مِن أنواعِ الشَّجَرِ-، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ فِي الْعِضَاهِ، يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ، وَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تَحْتَ سَمُرَةٍ، فَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ.
قَالَ جَابِرٌ: فَنِمْنَا نَوْمَةً، ثُمَّ إِذَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدْعُونَا، فَجِئْنَاهُ، فَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ جَالِسٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا، فَقَالَ لِي: مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي؟ قُلْتُ: اللَّهُ، فَهَا هُوَ ذَا جَالِسٌ، ثُمَّ لَمْ يُعَاقِبْهُ رَسُولُ اللَّهِ (ص». متفقٌ عليه.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: «كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ، فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةٍ، نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عُنُقِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَقَدْ أَثَّرَتْ بِهِ حَاشِيَةُ الرِّدَاءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَضَحِكَ، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ». متفقٌ عليه. جَبَذَهُ: جَذَبَهُ.
«لَا تَغْضَب»
قَالَ الحسن البَصْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «مِنْ عَلَامَاتِ الْمُسْلِمِ: قُوَّةٌ فِي دِينٍ، وَحَزْمٌ فِي لِينٍ، وَإِيمَانٌ فِي يَقِينٍ، وَعِلْمٌ فِي حِلْمٍ، وَكَيْسٌ فِي رِفْقٍ، وَإِعْطَاءٌ فِي حَقٍّ، وَقَصْدٌ فِي غِنًى، وَتَجَمُّلٌ فِي فَاقَةٍ، وَإِحْسَانٌ فِي قُدْرَةٍ، وَصَبْرٌ فِي شِدَّةٍ، لَا يَغْلِبُهُ الْغَضَبُ، وَلَا تَجْمَحُ بِهِ الْحَمِيَّةُ، وَلَا تَغْلِبُهُ شَهْوَةٌ، وَلَا تَفْضَحُهُ بِطْنُهُ، وَلَا يَسْتَخِفُّهُ حِرْصُهُ، وَلَا تَقْصُرُ بِهِ نِيَّتُهُ، فَيَنْصُرُ الْمَظْلُومَ، وَيَرْحَمُ الضَّعِيفَ، وَلَا يَبْخَلُ وَلَا يُبَذِّرُ، وَلَا يُسْرِفُ وَلَا يُقَتِّرُ، يَغْفِرُ إِذَا ظُلِمَ، وَيَعْفُو عَنِ الْجَاهِلِ، نَفْسُهُ مِنْهُ فِي عَنَاءٍ، وَالنَّاسُ مِنْهُ فِي رِضَاءٍ رَخَاءٍ».
لَا يَغْلِبُهُ الْغَضَبُ، وَلَا تَجْمَحُ بِهِ الْحَمِيَّةُ.. فهذه صفحةٌ من الحكمةِ.
ينفعلُ الرجلُ انفعالَهُ، ويثورُ ثورتَهُ، ويغضبُ غضبتَهُ، لا يدري لماذا؟!! هذا هو الجحيمُ، لا غضبَ بلا سببٍ؛ ولكنْ نادرًا ما يكونُ السببُ مقبولًا؛ فضلًا عن أنْ يكونَ السببُ وجيهًا؛ لأنه لا يكونُ وجيهًا إلَّا إذا كان مقبولًا، فغضبٌ بسببٍ أيِّ سببٍ؛ غيرَ أنه كَلَا سبب، إذ هو غيرُ مقبولٍ؛ فضلًا عن أنْ يكونَ وجيهًا.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
المصدر:دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ