((مِنْ دُرُوسِ الْهِجْرَةِ: بِنَاءُ الْأُمَّةِ عَلَى الْمَسْجِدِ وَالْمُؤَاخَاةِ))
إِنَّ الرَّسُولَ الْكَرِيمَ ﷺ لَمَّا نَزَلَ الْمَدِينَةَ بَنَى مَسْجِدَهُ ﷺ ، ثُمَّ إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ آخَى بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ.
وَظَلَّ فِيهِمْ إِلَى يَوْمِ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ رَكَبِ نَاقَتَهُ القَصْوَاءَ وَسَارَ إِلَى بَنِي عَوْفِ بْنِ سَالِمٍ، فَوَجَبَتْ عَلَيْهِ فِيهِمُ الْجُمُعَةُ، فَنَزَلَ فَصَلَّى هُنَالِكَ الْجُمُعَةَ وَلَم يَكُنْ مَسْجِدُهُ قَدْ أُسِّسَ بَعْدُ ﷺ، ثُمَّ بُعِثَتِ النَّاقَةُ مِنْ مَبْرَكِهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَالْقَوْمُ جَمِيعًا يَتَدَافَعُونَ: إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَأَكْرِمْ بِكَ مِنْ جَارٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
كُلُّهُم يُرِيدُ أَنْ يَحْظَى بِشَرَفِ نُزُولِ النَّبِيِّ ﷺ.
وَانْطَلَقَتِ النَّاقَةُ وَعَلَيْهَا خَيْرُ رَاكِبٍ، خَيْرُ مَنْ مَسَّ الْحَصَى قَطُّ وَانْطَلَقَتْ، كُلَّمَا مَرَّ عَلَى قَوْمٍ بِحَيِّهِمْ قَالُوا: إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِلَى الْمَنَعَةِ وَالْغَلَبَةِ وَحُسْنِ الْجِوَارِ، يَقُولُ: «خَلُّوا سَبِيلَ نَاقَتِي فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ»، فَتَنْطَلِقُ، حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ أَخْوَالِ أَبِيهِ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَارِ خَرَجُوا إِلَيْهِ بِخُؤُولَتِهِمْ لِأَبِيهِ، يَقُولُونَ: هَلُمَّ إِلَى أَخْوَالِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لَنَا عِنْدَكَ لَرَحِمًا مَصُونَةً، فَهَلُمَّ إِلَيْنَا وَانْزِلْ عَلَيْنَا يَا أَكْرَمَ جَارٍ، فَسَرَّحَ النَّبِيُّ فِي الْحَيِّ بَصَرَهُ وَعَادَ سَبْعَةً وَأَرْبَعِينَ عَامًا عِنْدَمَا أَتَتْ بِهِ أُمُّهُ وَهُوَ فِي السَّادِسَةِ مِنْ عُمُرِهِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ لِتُزِيرَهُ قَبْرَ أَبِيهِ بِالْمَدِينَةِ عِنْدَ أَخْوَالِهِ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَارِ، وَلَعِبَ النَّبِيُّ ﷺ فِي سَاحَةِ خُؤُولَتِهِ فِي مَرَاتِعِ الشَّبَابِ وَفِي مَوَاطِنِ الصِّبَا مَعَ لِدَاتِهِ مِنْ خُؤُولَةِ أَبِيهِ مِنْ بَنِي عَدِيِّ بْنِ النَّجَارِ مُنْذُ سَبْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ عَامًا.
النَّبِيُّ الْآنَ عَلَى نَاقَتِهِ الْقَصْوَاءِ يَقُولُ: «خَلُّوا سَبِيلَ نَاقَتِي فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ»، وَالدُّمُوعُ تَقْطُرُ مِنْ عَيْنَيْهِ إِذْ يَذْكُرُ أُمَّهُ عِنْدَمَا جَاءَتْ بِهِ مُنْذُ نِصْفِ قَرْنٍ مِنَ الزَّمَانِ لِتُزِيرَهُ قَبْرَ أَبِيهِ، فَبَكَتْ عِنْدَ الْقَبْرِ مَا بَكَتْ، ثُمَّ أَخَذَتْ بِيَدِ وَلِيدِهَا صَبِيِّهَا مُحَمَّدٍ ﷺ، يَتِيمِ الْأَبِ، فِي السَّادِسَةِ مِنْ عُمُرِهِ، وَأَرَادَتْ أَنْ تَعُودَ بِهِ إِلَى مَكَّةَ إِلَى آلِ أَبِيهِ، فَلَمَّا أَنْ كَانَتْ بِالصَّحْرَاءِ بِالْبَادِيَةِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ جَاءَهَا أَجَلُهَا، وَإِنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَيَتَخَطَّى بَصَرُهُ يَوْمَ الْهِجْرَةِ نِصْفَ قَرْنٍ مِنَ الزَّمَانِ لِيَرَى مَنْظَرَ الْمُحْتَضَرَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَا مَعَهُ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا أَمَتُهُ أُمُّ أَيْمَنَ بَرَكَةُ وَقَدْ أَسْنَدَتْ مَوْلَاتَهَا إِلَى صَدْرِهَا.
وَسَمْعُ الزَّمَانِ يَأْتِي إِلَى سَمْعِ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ الْهِجْرَةِ عِنْدَمَا نَظَرَ إِلَى السَّاحَةِ عِنْدَ خُؤُولَةِ أَبِيهِ، يَأْتِي سَمْعُ الزَّمَانِ إِلَى سَمْعِ النَّبِيِّ بِحَشْرَجَةِ أُمِّهِ الْمُحْتَضَرَةِ وَكَيْفَ أَنَّهَا فَاضَتْ رُوحُهَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ حَمَلَتْهَا أَمَتُهَا وَمَوْلَاتُهَا إِلَى الْأَبْوَاءِ بِقَرْيَةٍ بَيْنَ يَثْرِبَ عِنْدَمَا كَانَ ذَلِكَ اسْمُهَا، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مَكَّةَ مَا بَيْنَهَا، فَدُفِنَتْ بِالْأَبْوَاءِ، وَعَادَتْ بِيَدِ النَّبِيِّ مُضَاعَفَ الْيُتْمِ ﷺ.
وَالْيَوْمَ يَعُودُ ﷺ عَلَى نَاقَتِهِ: «خَلُّوا سَبِيلَهَا يَا خُؤُولَةَ أَبِي فَإِنَّهَا مَأْمُورَةٌ»، وَخَلَّوْا سَبِيلَهَا، وَخَرَجَتْ فَذَهَبَتْ إِلَى الْمِرْبَدِ -وَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ بِالْمَدِينَةِ- فَبَرَكَتْ، ثُمَّ قَامَتْ فَانْبَعَثَتْ، ثُمَّ أَعَادَتْ نَظَرَهَا مُوَلِّيَةً فَعَادَتْ شَيْئًا، فَبَرَكَتْ فِي مَبْرَكِهَا الْأَوَّلِ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ ﷺ، وَوُضِعَ رَحْلُ نَاقَتِهِ فَحَمَلَهُ أَبُو أَيُّوبَ إِلَى دَارِهِ مُسْرِعًا، وَالْقَوْمُ يَقُولُونَ: إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَتَّى نَبْنِيَ لَكَ بَيْتًا! فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «الْمَرْءُ مَعَ رَحْلِهِ».
فَنَزَلَ عَلَى أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي بَرَكَتْ فِيهِ النَّاقَةُ بِأَمْرِ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَهْفُو إِلَيْهِ قَلْبُ كُلِّ مُسْلِمٍ الْيَوْمَ؛ هُوَ مَوْضِعُ مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ، فَبُنِيَ لَهُ فِيهِ الْمَسْجِدُ، وَشَارَكَ فِي حَمْلِ التُّرَابِ عَلَى عَاتِقِهِ!
لَئِنْ قَعَدْنَا وَالنَّبِيُّ يَعْمَلُ
|
|
لَذَاكَ مِنَّا الْعَمَلُ الْمُضَلَّلُ
|
«اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةَ، اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْأَنْصَارَ وَالْمُهَاجِرَةَ»؛ يَقُولُهَا النَّبِيُّ ﷺ مُشَارِكًا لِلْأَنْصَارِ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي الْعَمَلِ فِي الْحَفْرِ لِأَسَاسِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ الْكَرِيمِ ﷺ.
ثُمَّ بُنِيَتْ حُجُرَاتُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، مَا وَصْفُهَا؟
يَقُولُ الْحَسَنُ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيُّ: «كُنْتُ أَدْخُلُ أَبْيَاتَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَأَنَا غُلَامٌ مُرَاهِقٌ، فَتَطُولُ يَدِي سَقْفَ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ».
فَأَمَّا بَعْضُ حُجُرَاتِ الرَّسُولِ فَحِجَارَةٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ وَسَقْفُهَا مِنْ جَرِيدٍ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَأَمَّا حُجْرةٌ -حُجْرَةُ عَائِشَةَ- فَجُدُرُهَا مِنْ جَرِيدٍ مُطَيَّنٍ وَسَقْفُهَا مِنْ جَرِيدٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَعَلَى بَابِهَا سِتْرٌ مَرْخِيٌّ هُوَ بَابُ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الَّذِي بَنَى فِيهِ عَلَى عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، وَأَمَّا أَثَاثُ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَشُدَّتْ أَعْوَادٌ وَجُعِلَ عَلَيْهَا حِبَالٌ مِنْ لِيفٍ وَطُرِحَ عَلَيْهَا فِرَاشٌ مِنْ أَدَمٍ -أَيْ: مِنْ جِلْدٍ- حَشْوُهُ لِيفٌ، لَيْسَ بَيْنَ الْفِرَاشِ وَبَيْنَ الْأَرْضِ إِلَّا الْحَصِيرُ، فَهَذَا بَيْتُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ.
وَأَمَّا الْقُصُورُ فِي الشَّمَالِ؛ قُصُورُ كِسْرَى وَقَيْصَرَ وَأُمَرَاءِ غَسَّانَ يَرْتَعُونَ فِي قُصُورِهِمْ وَكَذَلِكَ فِي الْحِيرَةِ وَفِي مِصْرَ، وَفِي الْجَنُوبِ فِي صَنْعَاءَ فِي الْيَمَنِ- فَأَمَّا الْقُصُورُ فَآيَاتٌ مِنْ آيَاتِ الْمِعْمَارِ -حَدِّثْ عَنْهُ وَلَا حَرَجَ-، وَأَمَّا الْأَثَاثُ فَبَاذِخٌ بَاذِخٌ بَاذِخٌ لَا يَصِفُ الْعَقْلُ تَوَهُّمًا بَعْضَ مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا قَبْرُ النَّبِيِّ ﷺ الَّذِي هُوَ الْيَوْمَ فِي حُجْرةِ النَّبِيِّ ﷺ فَحُجْرَتُهُ قَبْرُهُ وَقَبْرُهُ حُجْرَتُهُ وَأَثَاثُ بَيْتِهِ مَا قَدْ وَصَفْتُ وَأَمْرُ نَبِيِّكَ إِلَى اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي يَحْفَظُهُ وَيَرْعَاهُ، فَأَمَّا الْأَضْوَاءُ فَلَمْ تَخْطِفْ شَيْئًا مِنْ أَضْوَاءِ النُّبُوَّةِ مِنْ هَذَا الْبَيْتِ الْمُتَوَاضِعِ -بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ-، فَلَمَّا طَلَعَتْ شَمْسُهُ كُسِفَتْ كُلُّ الْأَنْوَارِ وَأُطْفئِتْ كُلُّ الشُّمُوعِ، وَأَضَاءَتْ شَمْسُ الرَّسُولُ ﷺ.
المصدر: المصدر : دروس من الهجرة النبوية