((حَقِيقَةُ الصِّيَامِ))
إِنَّ الصِّيَامَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الصِّيَامُ عَنْ سَائِرِ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ وَالْآثَامِ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ؛ فَلَا يَرْفُثْ -وَالرَّفَثُ: هُوَ ذِكْرُ الْجِمَاعِ وَمُقَدِّمَاتِ الْجِمَاعِ عِنْدَ النِّسَاءِ خَاصَّةً- فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ؛ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ» .
وَقَالَ ﷺ: «رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ» .
النَّبِيُّ ﷺ يَجْعَلُ لَنَا هَذَا الْأَمْرَ قَائِمًا عَلَى نَحْوٍ بَدِيعٍ جِدًّا، يَقُولُ: ((لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ...))، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ إِذَنْ؟!!
يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((...إِنَّمَا الصِّيَامُ -وَهَذَا عَجَبٌ فِي عَجَبٍ- مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ)) ، لِمَ كَانَ عَجَبًا فِي عَجَبٍ؟!!
لِأَنَّ ((إِنَّمَا)) أَدَاةُ حَصْرٍ، وَكَأَنَّ الرَّسُولَ ﷺ لَمْ يَلْتَفِتْ إِلَى الِامْتِنَاعِ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ؛ إِذْ هُمَا لَيْسَا بِمَقْصُودَيْنِ فِي ذَاتِهِمَا، وَإِنَّمَا هُمَا وَسِيلَتَانِ مِنْ أَجْلِ تَحْصِيلِ مَا وَرَاءَهُمَا، فَإِذَا تَوَقَّفَ الْمَرْءُ عِنْدَهُمَا، وَإِذَا لَمْ يَتَعَدَّ الْمَرْءُ حُدُودَهُمَا مُتَأَمِّلًا نَاظِرًا فَاحِصًا فِي الْحِكْمَةِ الَّتِي جَلَّاهَا لَهُ نَبِيُّهُ ﷺ؛ فَمَا اسْتَفَادَ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ شَيْئًا.
يَقُولُ الرَّسُولُ ﷺ: ((لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، إِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوُ وَالرَّفَثِ)).
حَقِيقَةُ الصِّيَامِ وَكَمَالُ الصِّيَامِ فِي الِامْتِنَاعِ وَالْكَفِّ عَنِ اللَّغْوُ وَالرَّفَثِ، عَنِ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يُجْدِي، وَعَنِ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يُفِيدُ، وَعَنِ الْكَلَامِ الَّذِي لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ؛ فَهَذَا أَعْدَلُ الْأَقْوَالِ فِي تَفْسِيرِ اللَّغْوِ؛ لِأَنَّ اللَّغْوَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ هَاهُنَا ثَوَابٌ وَلَا عِقَابٌ، وَإِنَّمَا هُوَ مُضِيُّ الْوَقْتِ عَلَى حَسَبِ الْمُبَاحِ يَتَأَتَّى بِخِزَانَةٍ فَارِغَةٍ يَوْمَ الْعَرْضِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى، وَعِنْدَئِدٍ يَكُونُ تِرَةً كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ.
وَأَمَّا الرَّفَثُ فَهُوَ كُلُّ نُطْقٍ بِقَبِيحٍ، وَكُلُّ قَبِيحٍ مِنْ مَنْطُوقٍ فَهُوَ رَفَثٌ، فَإِذَا مَا اسْتَطَاعَ الْإِنْسَانُ أَنْ يُلَجِّمَ لِسَانَهُ بِزِمَامِهِ بِزِمَامِ الشَّرْعِ فَصَارَ فِي يَدِهِ، يَقُودُهُ حَيْثَ يُرِيدُ وَيُصَرِّفُهُ كَيْفَمَا يَشَاءُ عَلَى مُقْتَضَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ الْأَغَرِّ، فَقَدْ صَامَ حَقًّا، ثُمَّ هُوَ زَادٌ بَعْدُ؛ إِذْ يَتَدَرَّبُ الْمَرْءُ شَهْرًا كَامِلًا لِحِيَاطَةِ اللِّسَانِ مِنْ آفَاتِهِ، وَلِتَجْمِيدِ هَذَا اللِّسَانِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي زَلَّاتِهِ بِجَمِيعِ آفَاتِهَا؛ آفَاتِهَا الَّتِي رُبَّمَا أَدَّتْ -أَحْيَانًا- إِلَى الْخُرُوجِ مِنَ الْمِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَدْخُلُ الدِّينَ بِكَلِمَةٍ، وَيَخْرُجُ مِنَ الدِّينِ بِكَلِمَةٍ.
يَدْخُلُ الدِّينَ بِكَلِمَةِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، وَيَخْرُجُ مِنَ الدِّينِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ؛ ﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾ [التوبة: 66]؛ لِأَنَّهُمْ تَكَلَّمُوا بِالْكَلِمَةِ الَّتِي تُخْرِجُ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ ذَهَبُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لِكَيْ يَعْتَذِرُوا إِلَى الرَّسُولِ ﷺ، ﴿لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ﴾؛ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِسْلَامِكُمْ، قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِحْسَانِكُمْ؛ لِأَنَّكُمْ لَمْ تُبَالُوا مَا يَخْرُجُ مِنْ أَلْسِنَتِكُمْ، وَلَا مَا يَنْبَثِقُ حَمْأَةً مَسْنُونَةً مِنْ أَفْوَاهِكُمْ، وَلَكِنَّ الصَّوْمَ يُقِيمُ الْمَرْءَ عَلَى الْجَادَّةِ، وَيَجْعَلُهُ سَائِرًا عَلَى مِثْلِ الْحَبْلِ الْمَنْصُوبِ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ وَاعِيًا فِي أَقَلَّ مِنْ طَرْفَةِ الْعَيْنِ يَكُونُ مُنْسَكِبًا مُنْدَلِقًا عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ فِي الْهَاوِيَةِ، وَحِينَئِذٍ لَا بَوَاكِيَ عَلَيْهِ!!
إِذَنِ؛ النَّبِيُّ ﷺ يُؤَسِّسُ لَبِنَةً مِنْ بَعْدِ لَبِنَةٍ عِنْدَمَا يُشِيرُ لَنَا رَبُّنَا فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ الصَّحِيحِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ أَنَّ هَذَا الصِّيَامَ مَخْصُوصٌ بِهِ -جَلَّ وَعَلَا-، حَتَّى فِي عَطَائِهِ، وَحَتَّى فِي تَكْفِيرِ مَا يُلِمُّ بِهِ الْمَرْءُ مِنْ ذُنُوبٍ وَآثَامٍ تَصِيرُ عَلَيْهِ حُقُوقًا، وَلَا بُدَّ مِنْ خَلَاصِ ذَلِكَ فِي الْمَوْقِفِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ جَمِيعِ حَسَنَاتِهِ إِلَّا مِنَ الصِّيَامِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ كَفَّارَةً لِشَيْءٍ، ثُمَّ يَجْزِي بِهِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الصَّائِمِينَ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ.
النَّبِيُّ ﷺ يُؤَسِّسُ لَنَا عَلَى هَذَا التَّفَرُّدِ وَالِاخْتِصَاصِ لِلْعِبَادَةِ الْعَظِيمَةِ -عِبَادَةِ الصَّوْمِ- فَيُوَضِّحُ لَنَا ﷺ أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ إِلَّا إِخْرَاجَ نَفْسٍ مِنْ دَاعِيَةِ هَوَاهَا؛ إِخْرَاجُ النَّفْسِ مِنْ دَاعِيَةِ الْهَوَى، وَمُجَانَبَةُ الطَّبْعِ الَّذِي يَسْتَرْسِلُ مَعَهُ الْمَرْءُ كَيْفَمَا سَارَ يَسِيرُ خَلْفَهُ يَقُودُهُ، وَلَنْ يَقُودَهُ طَبْعُهُ إِلَّا إِلَى النَّارِ وَبِئْسَ الْقَرَارُ!
إِذَنْ؛ يَأْتِي الصَّوْمُ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُخْرِجَ الْإِنْسَانَ مِنْ دَاعِيَةِ طَبْعِهِ، وَلِيُقَوِّمَ مَا اعْوَجَّ هُنَالِكَ مِنْ سُلُوكِهِ، وَلِكَيْ يُقِيمَ قَدَمَهُ مُرَاقِبًا لِذَاتِهِ وَنَفْسِهِ، مُطَّلِعًا عَلَى ضَمِيرِهِ وَفَحْوَى قَلْبِهِ.
يَأْتِي الصِّيَامُ بِهَذَا الْوَصْفِ كُلِّهِ، وَيَأْتِي النَّبِيُّ ﷺ بِاللَّبِنَاتِ لَبِنَةً مِنْ بَعْدِ لَبِنَةٍ، يُؤَسِّسُ لَنَا ﷺ بُنْيَانًا فِي فِقْهِ الْأَرْوَاحِ وَفِي تَقْوَى الْقُلُوبِ، سَامِقًا عَالِيَ الْجَنَبَاتِ، إِذَا مَا أَرَادَ الْمَرْءُ أَنْ يَنْظُرَ أَعْلَى سَنَامِهِ مَا اسْتَطَاعَ يَوْمًا؛ لِأَنَّهُ هُنَالِكَ عِنْدَ سَاقَةِ الْعَرْشِ، سَاجِدٌ فِي الْقَلْبِ، وَالْمَرْءُ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- يَسْجُدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَقَدْ لَا يَسْجُدُ قَلْبُهُ، قِيلَ: أَوَلِلْقَلْبِ سَجْدَةٌ؟!!
قَالَ: نَعَمْ، سَجْدَةُ الْقَلْبِ عِنْدَ سَاقِ الْعَرْشِ لَا يَرْفَعُ مِنْهَا إِلَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
فَإِذَا سَجَدَ الْقَلْبُ لِلهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَانْسَجَمَ مَعَ الْكَوْنِ الْعَابِدِ فِي عِبَادَتِهِ فَلَمْ يَكُنْ نَشَازًا، وَلَمْ يَكُنْ خُرُوجًا عَنْ كَوْنٍ عَابِدٍ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، هَذَا الْإِنْسَانُ يَظْلِمُ وَيَجْهَلُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا، يَوْمَ تَحَمَّلَ الْأَمَانَةَ إِنَّمَا تَحَمَّلَهَا بِظُلْمِهِ وَجَهْلِهِ، ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: 72]، لَمْ يَقُلْ: إِنَّهُ كَانَ ظَالِمًا جَاهِلًا، وَإِنَّمَا أَتَى بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الظُّلْمِ وَالْجَهْلِ مِنِ اسْمِ الْفَاعِلِ، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾.
فَبِهَذَا الظُّلْمِ وَهَذَا الْجَهْلِ لَا يَرْحَمُ نَفْسَهُ، وَلَا يَسْتَنْقِذُ مِنَ النَّارِ رُوحَهُ، وَإِنَّمَا يُوَرِّطُ نَفْسَهُ فِي الْمَزَالِقِ وَلَا يَلْتَفِتُ، يَسِيرُ وَلَا يَتَوَقَّفُ، وَالْمَرْءُ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَقَّفَ وَلَوْ حِينًا؛ لِأَنَّ فِي الصِّيَامِ -فِي الصِّيَامِ خَاصَّةً- مَعْنًى مِنَ الْمَعَانِي الْعَظِيمَةِ، حَتَّى إِنَّ الرَّسُولَ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ -أَيْ يَتْرُكَ- طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)) .
وَانْظُرْ إِلَى أَقْوَامٍ تَمُرُّ عَلَيْهِمْ سَحَابَةُ النَّهَارِ، بَلْ يَمُرُّ عَلَيْهِمُ النَّهَارُ بِطُولِهِ، بَلْ يَمُرُّ عَلَيْهِمْ مُنْذُ إِمْسَاكِهِمْ إِلَى حِينِ إِفْطَارِهِمْ، وَمَا هُمْ بِمُمْسِكِينَ، وَلَا هُمْ بِمُفْطِرِينَ فِطْرًا شَرْعِيًّا صَحِيحًا، تَمُرُّ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْفَتْرَةُ مِنْ فَتَرَاتِ الصِّيَامِ وَهُمْ وَالِغُونَ فِي أَعْرَاضِ الْخَلْقِ مِمَّا يَسْتَوْجِبُ الْحَدَّ ثَمَانِينَ جَلْدَةً فِي الظَّهْرِ، مَعَ تَسْمِيَتِهِ بِفَاسِقٍ، وَرَدِّ شَهَادَتِهِ فَلَا تُقْبَلُ أَبَدًا.
يَلَغُونَ فِي الْأَعْرَاضِ، وَلَا يُرَاقِبُونَ فِي مُؤْمِنٍ وَلَا يَرْقُبُونَ فِيهِ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً!!
وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِيهِ مَا فِيهِ مِنَ الْخَطَرِ عَلَى قَلْبِ الْعَبْدِ وَعَلَى دِينِهِ، وَهُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ الَّتِي لَا تُغْفَرُ، وَهُوَ حَقٌّ لِلهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، مُعَلَّقٌ بِهِ حَدٌّ عَلَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِالْجَلْدِ فِي الظَّهْرِ مَعَ التَّجْرِيسِ؛ لِكَيْ يَشْهَدَ هَذَا الْأَمْرَ بِالْعَذَابِ الْوَاقِعِ عَلَيْهِ مَنْ هُنَالِكَ لِيَتَّعِظَ.
وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ مِنَ الْمَذْهَبِ قَبْلَ أَنْ يُهَاجِرَ إِلَى مِصْرَ -حَفِظَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ- كَانَ الشَّافِعِيُّ قَبْلَ الْهِجْرَةِ إِلَى مِصْرَ يَمْضِي فِي فِقْهِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ وَقَعَ فِي عِرْضِ نِسَاءِ بَلْدَةٍ أَوْ رِجَالِهَا، فَإِنَّهُ يُجْلَدُ بِعَدَدِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ؛ يَعْنِي لَوْ أَنَّهُ رَمَى أَهْلَ بَلَدٍ بِفِسْقٍ فَاسْتَوْجَبَ حَدًّا بِشُرُوطِهِ، فَإِنَّهُ يُجْلَدُ بِعَدَدِ مَنْ هُنَالِكَ وَكَانَ قَاطِنًا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ سَاكِنًا.
وَانْظُرْ إِلَى هَذَا الَّذِي سَيَظَلُّ الدَّهْرَ كُلَّهُ إِلَى أَنْ يُفْضِيَ بِرُوحِهِ إِلَى رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- فَيُعِيدُهَا الْمَلَائِكَةُ إِلَى أَسْفَلَ سَافِلِينَ، ثُمَّ تَكُونُ فِي سِجِّينَ.. انْظُرْ إِلَى هَذَا الْوَالِغِ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ فِي أَعْرَاضِ بَلَدٍ جَمِيعِهَا، ثُمَّ إِنَّهُ يَسْتَوْجِبُ حُدُودًا بِعَدَدِهَا، لَوْ طُبِّقَتْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ سَيُمْضِي عُمُرَهُ كُلَّهُ -وَلَنْ يَكْفِيَ- فِي تَعَرُّضٍ لِلْجَلْدِ كُلَّ حِينٍ عِنْدَمَا يَبْرَأُ أَدِيمُ جِلْدِهِ مِنْ ضَرْبٍ سَابِقٍ، ثُمَّ يُؤْتَى بِهِ لِكَيْ يُنَفَّذَ فِيهِ حَدٌّ لَاحِقٌ، وَهَكَذَا حَتَّى يَمْضِيَ إِلَى رَبِّهِ -وَلَنْ يُوَفِّيَ-.
وَالْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي هَذَا اللِّسَانِ الَّذِي إِذَا مَا انْطَلَقَ كَانَ وَحْشًا كَاسِرًا لَا يُرَدُّ، ثُمَّ إِنَّهُ يَعُودُ أَوَّلَ مَا يَعُودُ عَلَى صَاحِبِهِ حَتَّى يُوَرِّطَهُ بِالْمَهَالِكِ، وَحَتَّى يَقْتَحِمَ بِهِ نَارَ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ!!
هَذَا اللِّسَانُ إِنَّمَا يُضْبَطُ ضَبْطًا صَحِيحًا فِي هَذَا الْمِحْضَنِ، فِي هَذَا الشَّهْرِ؛ رِقَابَةً لَهُ، وَرِقَابَةً عَلَيْهِ؛ مِنْ أَجْلِ اسْتِقَامَتِهِ عَلَى أَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
مَا الصَّوْمُ إِلَّا تَغْيِيرٌ لِلنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَإِخْرَاجٌ لَهَا عَمَّا اعْتَادَتْهُ وَعَمَّا أَلِفَتْهُ، هُوَ إِخْرَاجٌ لَهَا بِتَغْيِيرٍ لِحَنَايَاهَا وَثَنَايَاهَا وَتَصَوُّرَاتِهَا وَعَادَاتِهَا وَفِكْرِهَا، فَإِنْ لَمْ يَقَعْ هَذَا التَّغْيِيرُ فَكَبِّرْ عَلَى الصَّائِمِينَ أَرْبَعًا، فَلَمْ يَفْعَلُوا شَيْئًا، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ!!
المصدر:رَمَضَانُ شَهْرُ عِبَادَةٍ وَعَمَلٍ