مَفْهُومُ الْحَيَاةِ وَالِابْتِلَاءِ


 ((مَفْهُومُ الْحَيَاةِ وَالِابْتِلَاءِ))

الْإِنْسَانُ يَعِيشُ حَيَاتَهُ كُلَّهَا بِجَمِيعِ لَحَظَاتِهَا فِي حَالَةِ ابْتِلَاءٍ.. الْإِنْسَانُ يَعِيشُ جَمِيعَ لَحَظَاتِ حَيَاتِهِ فِي حَالَةِ ابْتِلَاءٍ؛ إِمَّا بِالْخَيْرِ وَإِمَّا بِالشَّرِّ، إِمَّا بِالطَّاعَةِ وَإِمَّا بِالْمَعْصِيَةِ.

فَلِذَلِكَ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِي هَذَا الْأَمْرِ وَأَنْ يَبْحَثَهُ بَحْثًا مُسْتَفِيضًا؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَتِ الْآخِرَةُ دَارَ حِسَابٍ فَإِنَّ الدُّنْيَا دَارُ عَمَلٍ وَابْتِلَاءٍ، يَقُولُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].

فَمَا هُوَ الِابْتِلَاءُ؟

وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا؟

الْحَيَاةُ الِابْتِلَاءُ، وَالِابْتِلَاءُ الْحَيَاةُ.. بِلَا فَارِقٍ كَبِيرٍ وَلَا صَغِيرٍ، وَالْحَيَاةُ ابْتِلَاءٌ فِي جُمْلَتِهَا وَفِي تَفْصِيلَاتِهَا.

وَالْحَيَاةُ فِي جَمِيعِ لَحَظَاتِهَا وَفِي جَمِيعِ جُزْئِيَّاتِهَا ابْتِلَاءٌ؛ إِمَّا بِالْخَيْرِ وَإِمَّا بِالشَّرِّ، إِمَّا بِالذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي وَإِمَّا بِالطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ.

الْحَيَاةُ كُلُّهَا ابْتِلَاءٌ، وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ مِنْ أَجْلِ هَذَا الِابْتِلَاءِ، مِنْ أَجْلِ أَنْ يَبْتَلِيَ الْإِنْسَانَ وَيَمْتَحِنَهُ وَيَخْتَبِرَهُ؛ لِيَعْرِفَ عَزْمَهُ وَصَبْرَهُ، وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي ضَمِيرِهِ، وَيَسْتَخْرِجَ مَكْنُونَ فُؤَادِهِ وَمَا فِي نَفْسِهِ، لِيَعْلَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الصَّادِقَ مِنَ الْكَاذِبِ، وَيَعْلَمَ الْمُؤْمِنَ الطَّائِعَ مِنَ الْمُنْحَرِفِ الْفَاجِرِ؛ لِيُثِيبَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- النَّاسَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا قَدَّمُوا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ مِنْ غَيْرِ مَا حَيْفٍ وَلَا ظُلْمٍ، تَعَالَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.

مَفْهُومُ الْحَيَاةِ الِابْتِلَاءُ، وَالِابْتِلَاءُ الْحَيَاةُ.

وَلَمَّا كَانَ الِابْتِلَاءُ مُرْتَبِطًا بِعَلَاقَةٍ وَثِيقَةٍ بِالنَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْحَيَاةِ عَلَاقَةٌ وَثِيقَةٌ لَا تَنْفَصِمُ؛ كَانَ لَا بُدَّ أَنْ يَبْحَثَ الْإِنْسَانُ فِي مَعْنَى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي وَصْفِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَفِيمَا جَعَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُلَازِمًا لِهَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

الْحَيَاةُ لُغَةً: نَقِيضُ الْمَوْتِ، وَالْحَيُّ: نَقِيضُ الْمَيِّتِ، وَالْحَيَوَانُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَيٍّ.

فَهَذَا مَعْنَى الْحَيَاةِ.

وَأَمَّا الدُّنْيَا فَهِيَ نَقِيضُ الْآخِرَةِ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِدُنُوِّهَا -أَيْ لِقُرْبِهَا- لِأَنَّهَا دَنَتْ وَتَأَخَّرَتِ الْآخِرَةُ، لِأَنَّهَا اقْتَرَبَتْ وَتَأَخَّرَتِ الْآخِرَةُ.

وَكَذَلِكَ السَّمَاءُ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْقُرْبَى إِلَيْنَا، وَقِيلَ: الدُّنْيَا اسْمٌ لِهَذِهِ الْحَيَاةِ -سُمِّيَتْ بِذَلِكَ- لِبُعْدِ الْآخِرَةِ عَنْهَا -عَنِ الدُّنْيَا-.

((فَالْحَيَاةُ بِاعْتِبَارِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ضَرْبَانِ: الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، وَالْحَيَاةُ الْآخِرَةُ)) .

فَهَذَا تَعْرِيفُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ حَيْثُ اللُّغَةِ.

وَأَمَّا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الِاصْطِلَاحِ: فَالدُّنْيَا -أَوِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا- هِيَ ذَلِكَ الْحَيِّزُ الْمَكَانِيُّ وَالزَّمَانِيُّ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْكَوْنَ حَتَّى يَرِثَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْأَرْضَ وَمَا وَمَنْ عَلَيْهَا.

وَهَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ لِلْآدَمِيِّ أَوْ جِنْسِ الْإِنْسَانِ تَمْتَدُّ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ.

فَهَذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا.

الْمَقْصُودُ هُنَا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا: الزَّمَنُ الَّذِي يَحْدُثُ فِيهِ الِابْتِلَاءُ، أَمَّا الْمَكَانُ فَهُوَ الْأَرْضُ الَّتِي نَحْيَا عَلَيْهَا، وَقَدْ وَصَفَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هَذِهِ الدُّنْيَا بِصِفَاتٍ عَدِيدَةٍ، وَهِيَ ذَاتُ أَحْوَالٍ مُتَعَدِّدَةٍ.

أَهَمُّ هَذِهِ الْأَحْوَالِ:

1- أَنَّ الدُّنْيَا ذَاتُ عُمُرٍ قَصِيرٍ وَمَتَاعٍ قَلِيلٍ، هَذَا وَصْفٌ لَازِمٌ مِنْ أَوْصَافِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، لَا يُمْكِنُ أَنْ تَخْرُجَ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا عَنْ هَذَا الْوَصْفِ: ذَاتُ عُمُرٍ قَصِيرٍ وَمَتَاعٍ قَلِيلٍ؛ يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ} [الروم: 55].

وَيَقُولُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77].

فَمَتَاعُهَا قَلِيلٌ، وَعُمُرُهَا قَصِيرٌ.

2- وَمِنْ صِفَاتِ هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَا وَصَفَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِذَلِكَ أَنَّهَا دَارُ لَهْوٍ وَلَعِبٍ وَزِينَةٍ وَتَفَاخُرٍ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ سِوَى ذَلِكَ عَلَى الْجُمْلَةِ؛ تَأَمَّلْ قَوْلَ اللهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20].

3- وَهِيَ دَارُ غُرُورٍ؛ كَمَا قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5].

وَلَا يَغُرَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ عَنِ الْمُهِمَّةِ الرَّئِيسَةِ الَّتِي أَوْجَدَكُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ غُرُورٌ فِي غُرُورٍ، {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}، فَهِيَ دَارُ غُرُورٍ، فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِي هَذَا.

4- وَهِيَ دَارُ تَرَفٍ وَاسْتِمْتَاعٍ: الدَّارُ الَّتِي نَحْنُ فِيهَا -الْحَيَاةُ الدُّنْيَا- إِنَّمَا هِيَ دَارُ تَرَفٍ وَاسْتِمْتَاعٍ، يُؤْتِيهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مَنْ يُحِبُّ وَلِمَنْ لَا يُحِبُّ، لَمْ يَخُصَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الدُّنْيَا بِأَحِبَّائِهِ وَلَا بِأَعْدَائِهِ، وَلَمْ يُنَحِّهَا عَنْ أَوْلِيَائِهِ قَاطِبَةً وَيُعْطِيهَا لِأَعْدَائِهِ، وَلَا الْأَمْرُ عَلَى الْعَكْسِ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُعْطِي الدُّنْيَا لِمَنْ يُحِبُّ وَلِمَنْ لَا يُحِبُّ؛ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ، كَمَا قَالَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَقالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} [المؤمنون: 33].

{وَأَتْرَفْنَاهُمْ}؛ تَرَفٌ وَزِينَةٌ وَمَتَاعٌ، فَهِيَ دَارُ تَرَفٍ وَاسْتِمْتَاعٍ.

5- وَدَارُ إِغْوَاءٍ: لِأَنَّهَا هِيَ الْمَيْدَانُ الَّذِي يُحَاوِلُ فِيهِ الشَّيْطَانُ -حَسَدًا مِنْهُ وَكَيْدًا لِلْإِنْسَانِ- أَنْ يُغْوِيَ الْإِنْسَانَ بِالشَّهَوَاتِ الْحِسِّيَّةِ وَالْأَهْوَاءِ النَّفْسِيَّةِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عِبَادِ اللهِ الْمُخْلَصِينَ؛ كَمَا قَالَ رَبُّ الْعَالَمِينَ:{قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا* قالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا* وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء: 62-64].

{لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا}؛ يَعْنِي: لَأَصْرِفَنَّهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْيَقِينِ، وَلَيَتَوَرَّطُّنَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَفِي الْبُعْدِ عَنْ دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

فَهِيَ دَارُ إِغْوَاءٍ -كَمَا تَرَى- وَدَارُ نَصَبٍ وَتَعَبٍ.

6- وَدَارُ ضَلَالٍ وَطُغْيَانٍ لِمَنْ يُفْتَنُ بِهَا: كَمَا قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي شَأْنِ أُولَئِكَ الْمَفْتُونِينَ بِالدُّنْيَا: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104].

فَهِيَ دَارُ ضَلَالٍ.

وَيَقُولُ -سُبْحَانَهُ- فِي شَأْنِ الطُّغَاةِ: {فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37-39].

فَهَذَا طُغْيَانٌ وَضَلَالٌ كَمَا أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.

7- حَقِيقَةُ الدَّارِ الَّتِي نَحْيَا فِيهَا أَنَّهَا خِزْيٌ وَلَعْنَةٌ لِلْمُعَانِدِينَ؛ قَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-:{فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 26].

وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص: 42].

فَجَاءَتِ اللَّعْنَةُ لِلْمُعَانِدِينَ، وَجَاءَ الْخِزْيُ لَهُمْ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.

8- وَبَيَّنَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا دَارٌ لِاكْتِسَابِ الْحَسَنَاتِ وَالْمَعِيشَةِ الطَّيِّبَةِ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا؛ فَهِيَ فِي الْمُقَابِلِ عَلَى الضِّدِّ مِمَّا هِيَ لِلْمُعَانِدِينَ الْمُكَذِّبِينَ الْمُتَكَبِّرِينَ، يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10].

وَقَالَ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: {مَنْ عَمِلَ صالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97].

فَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهَا دَارٌ لِاكْتِسَابِ الْحَسَنَاتِ وَالْمَعِيشَةِ الطَّيِّبَةِ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا.
وَهِيَ فِي الْجُمْلَةِ كَمَا أَجْمَلَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ تِلْكَ السِّمَاتِ وَجَمَعَ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي مَرَّتْ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ الْكَرِيمَاتِ الشَّرِيفَاتِ، جَمَعَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي وَصْفٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ ابْتِلَاءٍ.

وَهَذَا الْوَصْفُ يَجْمَعُ جَمِيعَ الصِّفَاتِ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا، وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ بَيَّنَهُ وَفَصَّلَهُ، وَأَجْمَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هَذِهِ السِّمَاتِ الْمُتَنَوِّعَةَ لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا عِنْدَمَا أَشَارَ إِلَى أَنَّهَا دَارُ ابْتِلَاءٍ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 1-2].

فَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّهُ خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِلِابْتِلَاءِ؛ فَهِيَ دَارُ ابْتِلَاءٍ.

وَقَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7].

فَبَيَّنَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- أَنَّهُ جَعَلَ هَذَا الْأَمْرَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ مِنْ أَجْلِ هَذَا الِابْتِلَاءِ؛ فَالدُّنْيَا دَارُ ابْتِلَاءٍ.

نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْفَالِحِينَ فِي هَذَا الِابْتِلَاءِ، وَمِنَ النَّاجِحِينَ فِي هَذَا الِاخْتِبَارِ بِرَحْمَتِهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.

إِذَا كَانَتِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا دَارَ ابْتِلَاءٍ وَعَمَلٍ، فَإِنَّ الْآخِرَةَ دَارُ جَزَاءٍ، وَفِيهَا تَظْهَرُ نَتِيجَةُ الِابْتِلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ، وَيُلَقَّى الْإِنْسَانُ جَزَاءَ ذَلِكَ الْعَمَلِ الَّذِي عَمِلَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ؛ يَقُولُ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7-8].

فَالدَّارُ الْآخِرَةُ هِيَ دَارُ جَزَاءٍ لِمَا كَانَ فِي دَارِ الِابْتِلَاءِ.

وَإِذَا كَانَتِ الدُّنْيَا دَارَ فَنَاءٍ فَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْبَقَاءِ، وَقَدْ وَصَفَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].

((وَالْحَيَاةُ اسْمٌ يَقَعُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَيٍّ، وَسَمَّى اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْآخِرَةَ حَيَوَانًا؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْحَيَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ)) .

{وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ}: لَهِيَ الْحَيَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ.

إِنَّ جَوْهَرَ الْعَلَاقَةِ بَيْنَ النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ وَالْحَيَاةِ الدُّنْيَا هِيَ عَلَاقَةُ ابْتِلَاءٍ وَتَمْحِيصٍ وَفِتْنَةٍ.

وَلَفْظُ «الِابْتِلَاءِ» مَأْخُوذٌ مِنْ مَادَّةِ (ب ل و) الَّتِي تَدُلُّ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الِاخْتِبَارِ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: بُلِيَ الْإِنْسَانُ وَابْتَلَاهُ اللهُ؛ أَيِ: اخْتَبَرَهُ.

قَالَ الشَّاعِرُ:

بُلِيتُ وَفِقْدَانُ الْحَبِيبِ بَلِيَّةٌ=وَكَمْ مِنْ كَرِيمٍ يُبْتَلَى ثُمَّ يَصْبِرُ

وَيَكُونُ الْبَلَاءُ بِالْخَيْرِ، وَيَكُونُ بِالشَّرِّ كَذَلِكَ، وَاللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- يُبْلِي الْعَبْدَ بَلَاءً حَسَنًا وَبَلَاءً سَيِّئًا، وَذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى مَعْنَى الِاخْتِبَارِ؛ لِأَنَّهُ بِذَلِكَ يَخْتَبِرُ صَبْرَهُ وَشُكْرَهُ، وَبَلَوْتُهُ: تَأْتِي -أَيْضًا- بِمَعْنَى: جَرَّبْتُهُ، وَتَأْتِي كَذَلِكَ بِمَعْنَى: اسْتَخْبَرْتُهُ، يُقَالُ: بَلَوْتُهُ فَأَبْلَانِي؛ أَيْ اسْتَخْبَرْتُهُ فَأَخْبَرَنِي.

وَالِاسْمُ مِنَ الِابْتِلَاءِ: الْبَلْوَى، وَالْبَلِيَّةُ، وَالْبَلَاءُ، وَالْجَمْعُ مِنْ ذَلِكَ: بَلَايَا.

يُقَالُ: أَبْلَاهُ اللهُ بَلَاءً حَسَنًا؛ إِذَا صَنَعَ بِهِ صُنْعًا جَمِيلًا.

قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: ((يُقَالُ مِنَ الْخَيْرِ: أَبْلَيْتُهُ، وَمِنَ الشَّرِّ: بَلَوْتُهُ)).

وَعَقَّبَ عَلَى ذَلِكَ الرَّأْيِ ابْنُ مَنْظُورٍ فَقَالَ: ((وَالْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الِابْتِلَاءَ يَكُونُ بِالْخَيْرِ وَبِالشَّرِّ مَعًا مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ فِعْلَيْهِمَا، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35])).

وَقَالَ ابْنُ بَرِّي: ((يَأْتِي الِابْتِلَاءُ -أَيْضًا- بِمَعْنَى الْإِنْعَامِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ -عَزَّ مِنْ قَائِلٍ-: {وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُّبِينٌ}؛ أَيْ: إِنْعَامٌ بَيِّنٌ.

وَهَذَا مَعْنَى الِابْتِلَاءِ فِي اللُّغَةِ.

وَأَمَّا مَعْنَى الِابْتِلَاءِ فِي الِاصْطِلَاحِ؛ فَالِابْتِلَاءُ هُوَ: التَّكْلِيفُ فِي الْأَمْرِ الشَّاقِّ، وَيَكُونُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مَعًا، وَلَكِنَّهُمْ عَادَةً مَا يَقُولُونَ فِي الْخَيْرِ: أَبْلَيْتُهُ إِبْلَاءً، وَفِي الشَّرِّ: بَلَوْتُهُ بَلَاءً.

وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْبَلَاءُ كَالْبَلِيَّةِ: الِامْتِحَانُ، وَسُمِّيَ الْغَمُّ بَلَاءً لِأَنَّهُ يُبْلِي الْجَسَدَ)).

وَيَرْتَبِطُ مَفْهُومُ الِابْتِلَاءِ بِمَفْهُومٍ آخَرَ يَتَعَلَّقُ بِهِ تَعَلُّقًا شَدِيدًا وَقَدْ يُرَادِفُهُ أَحْيَانًا، أَلَا وَهُوَ مَفْهُومُ الْفِتْنَةِ» .

 

المصدر:الِابْتِلَاءُ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  دِينُ الرَّحْمَةِ وَالْأَخْلَاقِ
  حَرْبُ الشَّائِعَاتِ ضِدَّ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ
  الْوَعْيُ بِتَحَدِّيِ الْإِرْهَابِ وَكَيْفِيَّةِ مُوَاجَهَتِهِ
  الدرس الخامس : «الصِّدْقُ»
  حِفْظُ النَّفْسِ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ الْخَمْسِ فِى دِينِ الْإِسْلَامِ
  الرَّدُّ عَلَى افْتِرَاءَاتِ الْمَادِّيِّينَ الْجَاهِلِينَ أَنَّ الْعُلُومَ الْعَصْرِيَّةَ وَالْمُخْتَرَعَاتِ الْحَدِيثَةَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ
  تَدَبُّرُ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ وَثَمَرَاتُهُ
  ثَمَرَاتُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ الْمَشْرُوعِ وَفَوَائِدُهُ
  الدرس الثاني : «الْإِخْلَاصُ»
  مِنْ أَهَمِّ دُرُوسِ الْهِجْرَةِ: الْأَخْذُ بِالْأَسْبَابِ وَالصُّحْبَةُ الصَّالِحَةُ
  مِنْ مَعَانِي التَّضْحِيَةِ: التَّضْحِيَةُ بِالْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-
  سُبُلُ التَّغْيِيرِ لِصَلَاحِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ وَالْأُمَّةِ
  قِبْلَةُ المُسْلِمِينَ خَيْرُ القِبَلِ وَعِظَمُ شَرَفِ مَكَّةَ
  مُحَارَبَةُ الْخَوَارِجِ وَالْبُغَاةِ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ
  نِعْمَةُ الزَّوَاجِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان