المَوْعِظَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ
((رَمَضَانُ شَهْرُ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ))
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
((فَضْلُ الدُّعَاءِ وَمَنْزِلَتُهُ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى))
إذا الْتَفْتَّ إِلَى فَاتِحَةِ الكِتَابِ العَزِيزِ، وَخَاتِمَتِهِ بَدَا لَكَ مِنْ أَسْرَارِ التَّنْزِيلِ العَجَبُ؛ فَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ افْتَتَحَ كِتَابَهُ الْكَرِيمَ بِالدُّعَاءِ فِي سُورَةِ الفَاتِحَةِ دُعَاءَ ثَنَاءٍ، وَدُعاءَ مَسأَلةٍ.
أمَّا دعاءُ الثناءِ حيثُ قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)} [الفاتحة: 2-4].
وَأمَّا دُعَاءُ المَسْأَلَة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)} [الفاتحة: 5-6].
وَاخْتَتَمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كِتَابَهُ الكَرِيمَ بِالدُّعَاءِ فِي سُورَتَيِ المُعَوِّذَتَيْنِ دُعَاءَ مَسْأَلَةٍ مُتَضَمِّنًا دُعَاءَ الثَّنَاءِ، فَهَذَا مِمَّا يَبْدُو لِلنَّاظِرِ فِي كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلِلمُلْتَفِتِ إِلَى فَاتِحَةِ كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَخَاتِمَتِهِ.
فَضْلُ الدُّعَاءِ، وَعُلُوُّ مَنْزِلَتِهِ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ
الْتَفِتْ إِلَى عُلُوِّ مَنْزِلَةِ الدُّعَاءِ، وَسُمُوِّ مَرْتَبَتِهِ فِي سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ؛ فَقَدْ ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ مِنَ الدُّعَاءِ)).
((لَيْسَ شَيْءٌ))؛ أَيْ: مِنَ العِبَادَاتِ القَوْلِيَّةِ.
((أَكْرَمَ عَلَى اللهِ)): أَيْ أَفْضَلَ عِنْدَ اللهِ.
فَالدُّعَاءُ عِنْدَ اللهِ أَفْضَلُ وَأَرْفَعُ دَرَجَةً وَأَعْلَى قَدْرًا؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى قَدْرِهِ تَعَالَى، وَعَلَى الِاعْتِرَافِ بِذَلِكَ، مَعَ اعْتِرَافِ الدَّاعِي بِعَجْزِهِ، وَتَبَرِّيهِ مِنْ حَوْلِهِ وَطَوْلِهِ.
((لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ مِنَ الدُّعَاءِ)) أَيْ: لَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْأَذْكَارِ وَالْعِبَادَاتِ، -وَكُلُّ شَيْءٍ يَتَشَرَّفُ فِي بَابِهِ- أَكْثَرَ كَرَامَةً، وَأَعْلَى قَدْرًا، وَأَرْفَعَ دَرَجَةً -فَهُوَ أَحْرَى بِالِاسْتِجَابَةِ وَالقَبُولِ- مِنَ الدُّعَاءِ.
((مِنَ الدُّعَاءِ)) أَيْ: مِنْ سُؤَالِ الْعَبْدِ رَبَّهُ؛ لِأَنَّ فِيهِ إِظْهَارَ الْعَجْزِ وَالِافْتِقَارِ، وَالتَّذَلُّلِ وَالِانْكِسَارِ، مَعَ الْاعْتِرَافِ بِقُوَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ، وَبِغِنَاهُ وَإِغْنَائِهِ وَكِبْرِيَائِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، مَعَ تَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَيْهِ.
وَالدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ الْخَلْقَ لِأَجْلِ الْعِبَادَةِ؛ لِذَا قَالَ ﷺ: ((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)) ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
((الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ)) أَيْ: العِبَادَةُ الْحَقِيقِيَّةُ الَّتِي تَسْتَأْهِلُ أَنْ تُسَمَّى عِبَادَةً؛ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الْإِقْبَالِ عَلَى اللهِ، وَالْإِعْرَاضِ عَمَّا سِوَاهُ؛ بِحَيْثُ لَا يَرْجُو العبدُ، وَلَا يَخَافُ إِلَّا إِيَّاهُ، قَائِمًا بِوُجُوبِ العُبُودِيَّةِ وَوَاجِبِهَا، مُعْتَرِفًا بِحَقِّ الرُّبُوبِيَّةِ.
جُمْلَةٌ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ، وَشُرُوطِ قَبُولِهِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُم مَا لَمْ يَعْجَلْ، يَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ.
فِي هذا الحَدِيثِ أَدَبٌ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ، وَهُوَ: أَنَّهُ يَنْبَغِي إِدَامَةُ الدُّعَاءِ، وَأَلَّا يَسْتَبْطِئَ الْمَرْءُ الْإِجَابَةَ.
* وَمِنْ جُمَلَةِ آدَابِ الدُّعَاءِ:
- تَحَرِّي الْأَوْقَاتِ الْفَاضِلَةِ؛ كَالسُّجُودِ، وَعِنْدَ الْأَذَانِ، وغَيرِ ذلك مِنَ الأوْقاتِ.
- وَمِنْهَا: تَقْدِيمُ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ، مَعَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ.
- وَتَقْدِيمُ التَّوْبَةِ، مَعَ الْاعْتِرَافِ بِالذَّنْبِ، مَعَ الْإِخْلَاصِ.
- وَالِافْتِتَاحُ بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
- وَالْإِتْيَانُ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ.
- وَالسُّؤَالُ بِالْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى.
* مِنْ شُرُوطِ قَبُولِ الدُّعَاءِ:
وَالدُّعَاءُ الَّذِي يَدْعُو بِهِ الْإِنْسَانُ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَهُ شُرُوطٌ يَجِبُ أَنْ تَتَوَفَّرَ، منها:
- أَلَّا يَسْتَعْجِلَ الدَّاعِي، فَيَقُولُ: دَعَوْتُ اللهَ كَذَا وَكَذَا، وَمَضَتْ عَلَيَّ مُدَّةُ كَذَا وَكَذَا، وَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي، فَيَكُونُ سَبَبًا فِي انْصِرَافِهِ عَنِ الدُّعَاءِ.
ودُعَاءُ العِبَادَةِ وَدُعَاءُ المَسْأَلَةِ في ذلك سواءٌ، وَكُلُّهُ دُعَاءُ عِبَادَةٍ؛ فَلَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَسْتَعْجِلَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا دَعَا اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- -كَمَا ثَبَتَ فِي النُّصُوصِ- كانَ لهُ أحدُ أمورٍ:
إِمَّا أَنْ يُعَجِّلَ اللهُ لَهُ حَاجَتَهُ، فَتُقْضَى وَيَرَاهَا قَدْ قُضِيَتْ، فهَذَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الإِجَابَةِ.
وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ اللهُ عَنْهُ سُوءًا وَشَرًّا لَا يَعْلَمُهُ، فَيَصْرِفُهُ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- بِسَبَبِ دُعُائِهِ، وَهَذَا نَوْعٌ قَدْ لَا يَعْلَمُهُ كَيْفَ وَمَتَى.
وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَ اللهُ لَهُ الْإِجَابَةَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ عِنْدَمَا يَكُونُ النَّاسُ أَحْوَجَ مَا يَكُونُونَ إِلَى النَّجَاةِ مِنَ النَّارِ وَالفَوْزِ بِالْجَنَّةِ، فَتَكُونُ دَعْوتُهُ مُسْتَجَابَةً فِي الْآخِرَةِ.
وَعَلَى هَذَا؛ فَالدُّعَاءُ لَا يَضِيعُ مِنَ الْمُؤْمِنِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسِيءَ الظَّنَّ بِاللهِ بِأَنَّهُ دَعَا وَلَمْ يُسْتَجَبْ لَهُ.
وَمِنْ شُرُوطِ الدُّعاءِ أَيْضًا:
- أَلَّا يَدْعُوَ بِإِثْمٍ، وَلَا قَطِيعَةِ رَحِمٍ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يُسْتَجَابُ لِأَحَدِكُمْ مَا لَمْ يَدْعُ بِإِثْمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ، أَوْ يَسْتَعْجِلْ، فَيَقُولُ: دَعَوْتُ فَلَا أَرَى يَسْتَجِيبُ لِي، فَيَدَعَ الدُّعَاءَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).
- وَأَلَّا يَسْأَمَ وَيَمَلَّ مِنَ الدُّعَاءِ، يَقُولُ: ((دَعَوْتُ، وَدَعَوْتُ، فَلَمْ أَرَهُ يُسْتَجَابُ لِي))، فَهَذَا لَا يُسْتَجَابُ لَهُ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى يُعْطِي الْعَبْدَ إِذَا دَعَاهُ بِالْخَيْرِ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
- وَأَنْ يَكُونَ آكلًا مِنْ حَلَالٍ؛ فَأَعْظَمُ قَوَاطِعِ الدُّعَاءِ وَمَوَانِعِهِ: هُوَ أَكْلُ الْحَرَامِ؛ ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الرَّجُلَ يُطِيْلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، يَقُولُ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِيَ بِالحَرَامِ؛ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!».
فَأَكْلُ الْحَرامِ يُثْمِرُ هَذَا الثَّمَرَ الخَبِيثَ، وَهُوَ قَطْعُ الدُّعَاءِ، فَلَا اسْتِجَابَةَ، وَلَوْ ظَلَّ يَدْعُو حَتَّى تَفْنَى نَفْسُهُ في الدُّعَاءِ؛ لَا يُسْتَجَابُ لَهُ، نَسْألُ اللهَ السَّلامَةَ وَالعَافِيَةَ.
الْحَثُّ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الدُّعَاءِ فِي شَهْرِ رَمضَانَ
وَشَهْرُ رَمَضَانَ خَصَّهُ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ بِخَصَائِصَ بَاهِرَةٍ، وَأَنْزَلَ فِيهِ الآيَاتِ المُبْهِرَةَ؛ فَمِنْهَا:
- أَنَّ شَهْرَ رَمَضَانَ يَغْفِرُ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ لِلصَّائِمِينَ فِي آخِرِ لَيْلَةٍ مِنْهُ: «وَلِلهِ -جَلَّ وَعَلَا- عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلِكَ كُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ».
- وَلِلصَّائِمِ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ؛ فَعَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ لاَ تُرَدُّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الصَّائِمِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِر».
فَعَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ بِآدَابِ الدُّعَاءِ، وَعَلَيْنَا أَلَّا نَعْجِزَ فِي الدُّعَاءِ، وَعَلَيْنَا أَنْ نَكُونَ مِنَ الْمُكْثِرِينَ فِي الدُّعَاءِ في أثناءِ الصيامِ، وَأَنْ نَدْعُوَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَأَنْ نَعْلَمَ أَنَّ هَذَا هُوَ أَشْرَفُ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْعِبَادَةِ، يَتَعَبَّدُ بِهِ الْعَبْدُ الصَّالِحُ لِرَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ)).
فَعَلَيْنَا أَنْ نَتَوَجَّهَ دَائِمًا وَأَبَدًا إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ نُخْلِصَ الْقُلُوبَ لَهُ، وَأَنْ نَكُونَ مُوَحِّدِينَ؛ حَتَّى يَسْتَجِيبَ لَنَا رَبُّنَا رَبُّ الْعَالَمِينَ.
عِبَادَ اللهِ! اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ يَسْأَلُوهُ مِنْ خَيْرَيِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، فَاجْتَهِدُوا فِي ذَلكَ أَشَدَّ الاجْتِهَادِ فِي أَثناءِ صَومِكُمْ، وَخُصُوصًا فِي رَمَضَانَ. وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِين