((بِرُّ الْوَالِدَيْنِ مِنْ أَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ))
*إِنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ وَأَحَبِّهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى؛ فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؟
قَالَ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا».
قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟
قَالَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ».
قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟
قَالَ: «ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ».
قَالَ: حَدَّثَنِي بِهِنَّ، وَلَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
«سَأَلْتُ النَّبِيَّ ﷺ: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ»؟
«أَحَبُّ إِلَى اللهِ»؛ أَيْ: يُحِبُّهُ اللهُ تَعَالَى، وَيَرْضَى بِهِ أَكْثَرَ مِنَ الْأَعْمَالِ الْأُخْرَى، اسْمُ التَّفْضِيلِ هُنَا بِاعْتِبَارِ الْفَضْلِ الْمُطْلَقِ لَا بِاعْتِبَارِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْوَاعِ؛ وَلِذَلِكَ يَكُونُ الْجَوَابُ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ لِلسَّائِلِ أَوْ أَفْضَلُ عَلَى مُقْتَضَى الْوَقْتِ وَالزَّمَانِ.
فَقَدْ يَتَكَرَّرُ السُّؤَالُ بِعَيْنِهِ، وَتَخْتَلِفُ الْإِجَابَةُ، وَلَكِنْ يُجِيبُ النَّبِيُّ ﷺ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ لِلسَّائِلِ، أَوْ بِمَا هُوَ أَفْضَلُ عَلَى مُقْتَضَى الْوَقْتِ وَالزَّمَانِ.
قَالَ ﷺ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا»: الْمُرَادُ بِالْوَقْتِ هُنَا: الْوَقْتُ الْمُسْتَحَبُّ.
قَالَ عَبْدُاللَّهِ: «قُلْتُ ثُمَّ أيٌّ»؟ يَعْنِي: ثُمَّ أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ.
قَالَ: «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ»؛ يَعْنِي: الْأَبَ وَالْأُمَّ، وَالْبِرُّ ضِدُّ الْعُقُوقِ، وَالْعُقُوقُ الْإِسَاءَةُ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، وَإِضَاعَةُ حُقُوقِهِمَا.
قُلْتُ: ثُمَّ أيٌّ؟
قَالَ: «ثُمَّ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ»: الْجِهَادُ مُحَارَبَةُ الْكُفَّارِ؛ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللهِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ بِالْمَالِ، وَالنَّفْسِ، وَبِكُلِّ مَا يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُ.
قَوْلُهُ: «لَوِ اسْتَزَدْتُهُ لَزَادَنِي»؛ أَيْ: لَوِ اسْتَفْسَرْتُهُ عَنْ مَرَاتِبِ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الثَّلَاثَةَ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّها عُنْوَانٌ عَلَى مَا سِوَاهَا مِنَ الطَّاعَاتِ؛ فَمَنْ ضَيَّعَ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ.
وَمَنْ لَمْ يَبَرَّ وَالِدَيْهِ مَعَ عِظَمِ حَقِّهِمَا عَلَيْهِ، فَهُوَ لِغَيْرِهِمَا أَقَلُّ بِرًّا، وَمَنْ قَعَدَ عَنْ جِهَادِ الْكَافِرِينَ مَعَ شِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ لِلدِّينِ، فَهُوَ أَشَدُّ قُعُودًا عَنِ الْجِهَادِ لِغَيْرِهِمْ، فَمَنْ حَافَظَ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثِ، فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَحْفَظُ.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: فَضْلُ تَعْظِيمِ الْوَالِدَيْنِ، وَأَعْظَمُ حُقُوقِ الْعِبَادِ حَقُّ الْوَالِدَيْنِ.
وَعَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ [الإسراء: ٢٤]، قَالَ: لَا تَمْتَنِعْ مِنْ شَيْءٍ أَحَبَّاهُ. الْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ في ((الأدب المفرد))، وَالطَّبَرِيُّ فِي «التَّفْسِيرِ»، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَهَنَّادٌ فِي «الزُّهْدِ»، وَالْأَصْبَهَانِيُّ فِي «التَّرْغِيبِ».
قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ كِنَايَةٌ عَنْ غَايَةِ التَّوَاضُعِ وِلِينِ الْجَانِبِ.
وَاخْفِضْ لَهُمَا الْجَنَاحَ الذَّلِيلَ مِنَ الرَّحْمَةِ؛ أَيْ: تَوَاضَعْ لَهُمَا وَتَذَلَّلْ، فَإِنَّ الطَّائِرَ إِذَا أَرَادَ الطَّيَرَانَ وَالْعُلُوَّ نَشَرَ جَنَاحَيْهِ وَرَفَعَهُمَا لِيَرْتَفِعَ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ خَفَضَهُمَا، وَإِذَا رَأَى الطَّائِرُ جَارِحًا لَصِقَ بِالْأَرْضِ وَأَلْصَقَ جَنَاحَيْهِ، وَهِيَ غَايَةُ خَوْفِهِ وَتَذَلُّلِـهِ.
قَوْلُهُ: «لَا تَمْتَنِعْ عَنْ شَيْءٍ أَحَبَّاهُ»؛ أَيْ: لَا تَمْتَنِعْ عَنْ تَنْفِيذِ أَمْرِهِمَا، لَا تَمْتَنِعْ مِنْ شَيْءٍ مَا لَمْ يَكُنْ فِي مَعْصِيَةٍ.
فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ: الِاهْتِمَامُ بِالْقَوْلِ الْحَسَنِ، وَالْفِعْلِ الْحَسَنِ مَعَ الْوَالِدَيْنِ، وَوُجُوبُ تَحْقِيقِ رَغَبَاتِ الْوَالِدَيْنِ الْمَشْرُوعَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَى الْأَوْلَادِ.
وَأَنَّ مِنْ مَعَانِي «الْبِرِّ»: التَّوْقِيرُ، وَالتَّعْظِيمُ، وَالتَّوَاضُعُ لِلْوَالِدَيْنِ.
اعْلَمْ أَنَّ الْبِرَّ بِالْوَالِدَيْنِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَعْمَالِ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا الْعَبْدُ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَبِالْأَخَصِّ الْأُمُّ؛ لِمَا لَهَا مِنَ الْحُقُوقِ، إِذَا كَانَا عَلَى قَيْدِ الْحَيَاةِ أَحْسِنْ إِلَيْهِمَا بِالْقَوْلِ وَالْفِعْلِ.
وَإِذَا كَانَ بَعْدَ الْوَفَاةِ فَإِنَّ مِنْ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ صِلَةَ الْأَقَارِبِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ، وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِمَا، وَالدُّعَاءَ لَهُمَا بِصِفَةٍ دَائِمَةٍ، وَالصَّدَقَةَ عَنْهُمَا عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَأَدَاءَ الْحَجِّ وَالْعُمُرَةِ عَنْهُمَا بِحَسَبِ قُدْرَةِ الْوَلَدِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، وَإِكْرَامَ صَدِيقِهِمَا.
وَحَقًّا أَقُولُ: إِنَّكَ إِنْ فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدْ قُمْتَ بِحُقُوقِ وَالِدَيْكِ، وَأَرْضَيْتَ رَبَّكَ، وَكَسَبْتَ أَجْرًا جَزِيلًا يَمْنَحُكَ اللهُ إِيَّاهُ فِي دُنْيَاكَ وَبَرْزَخِكَ وَأُخْرَاكَ، وَالْعَكْسُ بِالْعَكْسِ، وَالْجَزَاءُ مِنْ عِنْدِ اللهِ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ، وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا.
المصدر:بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَإِكْرَامُ ذِي الشَّيْبَةِ رُؤْيَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَإِنْسَانِيَّةٌ