((تَرْغِيبُ اللهِ تَعَالَى فِي الْإِحْسَانِ إِلَى الْخَلْقِ))
*لَقَدْ أَمَرَ اللهُ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْإِحْسَانِ, وَيَدْخُلُ فِيهِ: الْإِحْسَانُ بِالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ, وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ, وَتَعْلِيمُ الْعِلْمِ النَّافِعِ.
وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ: قَضَاءُ حَوَائِجِ النَّاسِ؛ مِنْ تَفْرِيجِ كُرُبَاتِهِمْ، وَإِزَالَةِ شِدَّاتِهِمْ, وَعِيَادَةِ مَرْضَاهُمْ, وَتَشْيِيعِ جَنَائِزِهِمْ, وَإِرْشَادِ ضَالِّهِمْ, وَإِعَانَةِ مَنْ يَعْمَلُ عَمَلًا، وَالْعَمَلِ لِمَنْ لَا يُحْسِنُ الْعَمَلَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنَ الْإِحْسَانِ الَّذِي أَمَرَ اللهُ بِهِ.
وَيَدْخُلُ فِي الْإِحْسَانِ -أَيْضًا-: الْإِحْسَانُ فِي عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى.
قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].
وَأَحْسِنُوا الْعَمَلَ مَعَ اللهِ تَعَالَى؛ بِالْقِيَامِ بِمَا أَمَرَكُمْ بِهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ، وَصِدْقِ النِّيَّةِ.
وَأَحْسِنُوا الْعَمَلَ مَعَ خَلْقِ اللهِ؛ بِالْبِرِّ، وَالْعَفْوِ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ تَلْزَمُكُمْ نَفَقَتُهُ.
إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ، وَيُثِيبُهُمْ عَلَى إِحْسَانِهِمْ، وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَحَبَّهُ اللهُ أَكْرَمَهُ، وَأَدْخَلَهُ فِي رَحْمَتِهِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134].
وَالْإِحْسَانُ نَوْعَانِ:
1*الْإِحْسَانُ فِي عِبَادَةِ الْخَالِقِ.
2*وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِ.
*فَالْإِحْسَانُ فِي عِبَادَةِ الْخَالِقِ فَسَّرَهَا النَّبِيُّ ﷺ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحِ))- فَقَالَ: ((أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)).
*وَأَمَّا الْإِحْسَانُ إِلَى الْمَخْلُوقِ؛ فَهُوَ إِيصَالُ النَّفْعِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ إِلَيْهِمْ، وَدَفْعُ الشَّرِّ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ عَنْهُمْ.
فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ: أَمْرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيُهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعْلِيمُ جَاهِلِهِمْ، وَوَعْظُ غَافِلِهِمْ، وَالنَّصِيحَةُ لِعَامَّتِهِمْ وَخَاصَّتِهِمْ، وَالسَّعْيُ فِي جَمْعِ كَلِمَتِهِمْ، وَإِيصَالُ الصَّدَقَاتِ وَالنَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ إِلَيْهِمْ، عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ وَتَبَايُنِ أَوْصَافِهِمْ.
فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ بَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الْأَذَى، وَاحْتِمَالُ الْأَذَى، كَمَا وَصَفَ اللهُ بِهِ الْمُتَّقِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ.
فَمَنْ قَامَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ؛ فَقَد قَامَ بِحَقِّ اللهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ.
*وَحَضَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى الْإِيثَارِ، وَهُوَ أَكْمَلُ أَنْوَاعِ الْجُودِ، وَهُوَ الْإِيثَارُ بِمَحَابِّ النَّفْسِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا، وَبَذْلُهَا لِلْغَيْرِ مَعَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، بَلْ مَعَ الضَّرُورَةِ وَالْخَصَاصَةِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ خُلُقٍ زَكِيٍّ:
فَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
الْأَنْصَارُ الَّذِينَ تَوَطَّنُوا الْمَدِينَةَ وَاتَّخَذُوهَا سَكَنًا، وَأَسْلَمُوا فِي دِيَارِهِمْ، وَأَخْلَصُوا فِي الْإِيمَانِ، وَتَمَكَّنُوا فِيهِ مِنْ قَبْلِ هِجْرَةِ الْمُهَاجِرِينَ إِلَيْهِمْ؛ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُنْزِلُونَهُمْ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَيُشَارِكُونَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَزَازَةً وَغَيْظًا وَحَسَدًا مِمَّا أُعْطِيَ الْمُهَاجِرُونَ مِنَ الْفَيْءِ دُونَهُمْ؛ عِفَّةً مِنْهُمْ، وَشُعُورًا بِحَقِّ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أَصَابَهُمُ الْفَقْرُ بِسَبَبِ الْهِجْرَةِ.
ويُؤثِرُ الْأَنْصَارُ الْمُهَاجِرِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ؛ وَلَوْ كَانُوا بِهِمْ فَاقَةٌ وَحَاجَةٌ إِلَى مَا يُؤْثِرُونَ بِهِ.
وَمَن يَكْفِهِ اللهُ الْحَالَةَ النَّفْسَانِيَّةَ الَّتِي تَقْتَضِي مَنْعَ الْمَالِ حَتَّى يُخَالِفَهَا فِيمَا يَغْلِبُ عَلَيْهَا مِنَ الْبُخْلِ وَالْحِرْصِ الشَّدِيدِ الَّذِي يَدْفَعُ إِلَى ارْتِكَابِ كَبَائِرِ الْإِثْمِ، فَيُنْفِقُ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى فِي الْمَصَارِفِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِالْإِنْفَاقِ فِيهَا طَيِّبَ النَّفْسِ بِذَلِكَ؛ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ بِهَذَا الْمَعْنَى؛ فَأُولَئِكَ الْفُضَلَاءُ رَفِيعُوا الدَّرَجَةِ هُمْ وَحْدَهُمُ الظَّافِرُونَ بِكُلِّ خَيْرٍ، الْفَائِزُونَ بِكُلِّ مَطْلَبٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
يُصْرَفُ جُزْءٌ مِنْ هَذَا الْمَالِ لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، الَّذِينَ أُجْبِرُوا عَلَى تَرْكِ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ، يَرْجُونَ أَنْ يَتَفَضَّلَ اللهُ عَلَيْهِمْ بِالرِّزْقِ فِي الدُّنْيَا وَبِالرِّضْوَانِ فِي الْآخِرَةِ، وَيَنْصُرُونَ اللهَ، وَيَنْصُرُونَ رَسُولَهُ بِالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ.
أُولَئِكَ الْمُتَّصِفُونَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ هُمُ الرَّاسِخُونَ فِي الْإِيمَانِ حَقًّا، وَالْأَنْصَارُ الَّذِينَ نَزَلُوا الْمَدِينَةَ مِن قَبْلِ الْمُهَاجِرِينَ، وَاخْتَارُوا الْإِيمَانَ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ، يُحِبُّونَ مِنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ مِنْ مَكَّةَ، وَلَا يَجِدُونَ فِي صدُورِهِمْ غَيْظًا وَلَا حَسَدًا عَلَى الْمُهَاجِرِينَ في سَبِيلِ اللهِ إِذَا مَا أُعْطُوا شَيْئًا مِنَ الْفَيْءِ وَلَم يُعْطَوْا هُمْ.
وَيُقَدِّمُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمُ الْمُهَاجِرِينَ فِي الْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَلَوْ كَانُوا مُتَّصِفِينَ بِالْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ.
وَمَن يَقِهِ اللهُ حِرْصَ نَفْسِهِ عَلَى الْمَالِ، فَيَبْذُلُهُ في سَبِيلِهِ، فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ بِنَيْلِ مَا يَرْتَجُونَهُ، وَالنَّجَاةِ مِمَّا يَرْهَبُونَهُ.
*ذَكَرَ اللهُ أَنَّ إِطْعَامَ أَحْوَجِ النَّاسِ مِنْ صِفَاتِ الْأَبْرَارِ مِنْ عِبَادِ اللهِ؛ فَقَالَ تَعَالَى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 8-9].
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} أَيْ: وَهُمْ فِي حَالٍ يُحِبُّونَ فِيهَا الْمَالَ وَالطَّعَامَ، لَكِنَّهُمْ قَدَّمُوا مَحَبَّةَ اللَّهِ عَلَى مَحَبَّةِ نُفُوسِهِمْ، وَيَتَحَرَّوْنَ فِي إِطْعَامِهِمْ أَوْلَى النَّاسِ وَأَحْوَجَهَمْ {مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}.
وَيَقْصِدُونَ بِإِنْفَاقِهِمْ وَإِطْعَامِهِمْ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَقُولُونَ بِلِسَانِ الْحَالِ: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} أَيْ: لَا جَزَاءً مَالِيًّا وَلَا ثَنَاءً قَوْلِيًّا.
المصدر:قَضَاءُ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ أَفْضَلُ مِنْ نَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ