أَمْرُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ فِي كِتَابِهِ
الرَّسُولُ ﷺ يُحَرِّمُ هَذَا الْخِصَامَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيُحَرِّمُ الْهِجْرَةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَأْمُرُ بِالتَّوَاصُلِ وَبِالتَّوَادِّ، وَبِالتَّحَابِّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ.
ثُمَّ يُضِيِّقُ الدَّائِرَةَ فِي أَمْرِ الْهِجْرَةِ تَضْيِيقًا مِنْ بَعْدِ تَضْيِيقٍ، فَيُبَيِّنُ لَنَا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ ﷺ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْهَجْرِ هَذَا الْهَجْرُ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ.
فَيُبَيِّنُ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- قَدْ بَيَّنَ فِيمَا أَوْحَى إِلَى نَبِيِّهِ ﷺ أَنَّ الَّذِينَ يَقْطَعُونَ أَرْحَامَهُمْ وَيَهْجُرُونَ إِخْوَانَهُمْ، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَسْتَبِيحُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ، هَؤُلَاءِ لَعَنَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَأَصَمَّهُمْ، وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ.
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 22-23].
فَلَعَلَّكُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ وَأَدْبَرْتُمْ أَيُّهَا الْمُنَافِقُونَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، أَوْ إِنْ كُنْتُمْ أَوْلِيَاءَ الْأَمْرِ وَأَصْحَابَ الْقُوَّةِ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِخَرَابِ الْعُمْرَانِ الْحَضَارِيِّ فِي الْمُدُنِ وَالْقُرَى، وَإِهْلَاكِ الْحَرْثِ وَالنَّسْلِ، وَالْبَغْيِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَإِفْسَادِ أَخْلَاقِ النَّاسِ وَسُلُوكِهِمْ، وَإِفْسَادِ أَفْكَارِهِمْ وَمَفْهُومَاتِهِمْ، وَتَقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ لِتَحْقِيقِ أَغْرَاضَكُمُ الشَّخْصِيَّةَ وَمَصَالِحَكَمُ الدُّنْيَوِيَّةَ.
*نِدَاءُ اللهِ لِجَمِيعِ النَّاسِ: اتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا:
قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء: 1].
يَا أَيُّهَا النَّاسُ! احْذَرُوا أَمْرَ رَبِّكُمْ أَنْ تُخَالِفُوهُ فِيمَا أَمَرَكُمْ بِهِ وَنَهَاكُمْ عَنْهُ، الَّذِي خَلَقَ السُّلُالَةَ الْإِنْسَانِيَّةَ كُلَّهَا مُشْتَقَّةً مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَهُوَ آدَمُ أَبُو الْبَشَرِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَخَلَقَ مِنْ آدَمَ زَوْجَهُ حَوَّاءَ، وَنَشَرَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ وَحَوَّاءَ بِالتَّلَازُمِ رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً كَثِيرَاتٍ.
وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي يَسْأَلُهُ بِهِ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَاتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا فَلَا تَصِلُوهَا.
*صِلَةُ الرَّحِمِ مِنْ صِفَاتِ أَصْحَابِ الْعُقُولِ الْكَامِلَةِ:
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد: 21].
فَمِنْ صِفَاتِ أَصْحَابِ الْعُقُولِ الْكَامِلَةِ: أَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ مُنْقَطِعًا أَمَرَ اللهُ بِأَنْ يُوصَلَ إِلَّا وَصَلُوهُ؛ كَصِلَةِ الرَّحِمِ، وَالْأُخُوَّةِ فِي اللهِ، وَصِلَةِ كُلِّ مُسْلِمٍ وَكُلِّ ذِي رُوحٍ.
*أَخْبَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ ذَوِي الْأَرْحَامِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمُ الْأَوْلَوِيَّةُ فِي الْمُوَالَاةِ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحَقِّ الرَّحِمِ:
قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75].
وذَوُوا الْأَرْحَامِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمُ الْأَوْلَوِيَّةُ فِي الْمُوَالَاةِ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحَقِّ الرَّحِمِ، فَأَحْكَامُ الْمُوَالَاةِ الْعَامَّةُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَتَعَارَضُ مَعَ أَوْلَوِيَّةِ الْمُوَالَاةِ بَيْنَ أُولِي الْأَرْحَامِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَأَصْحَابُ الْقَرَابَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ، وَمِنْهَا أَحْكَامُ التَّوَارُثِ.
*وَمِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ الْجَامِعِ: إِيتَاءُ الْمَالِ لِلْفُقَرَاءِ مِنَ الْأَقَارِبِ:
قَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} [البقرة: 177].
الْبِرُّ الْجَامِعُ لِأَعْمَالِ الْخَيْرِ الْمُقَرَبَّةِ إِلَى اللهِ وَالْمُؤَدِّيَةِ إِلَى جَنَّتِهِ بِرُّ مَنْ تَحَقَّقَ بِمَرْتَبَةِ التَّقْوَى أَوَّلًا، وَأَعْطَى الْمَالَ عَلَى شِدَّةِ حُبِّهِ لَهُ الْفُقَرَاءَ مِنْ أَهْلِ قَرَابَتِهِ وَالْيَتَامَى الَّذِينَ تُوِفِّيَ آبَاؤُهُمْ وَلَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ.
*صِلَةُ الرَّحِمِ مِنْ أَنْوَاعِ السُّلُوكِ الْحَسَنِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا:
قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90].
إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ يَأْمُرُ عِبَادَهُ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنْ أَنْوَاعِ السُّلُوكِ الْفَاضِلِ الْحَسَنِ:
*الْأَوَّلُ: الْعَدْلُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ سُبْحَانَهُ؛ بِتَوْحِيدِهِ، وَعَدَمِ الْإِشْرَاكِ بِهِ، وَامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ مَنْهِيَّاتِهِ، وَالْعَدْلُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَنَفْسِهِ؛ بِمَنْعِهَا مِمَّا فِيهَا هَلَاكُهَا وَفَسَادُهَا، وَالْعَدْلُ مَعَ الْخَلْقِ بِإِعْطَاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.
*الثَّانِي: الْإِحْسَانُ مَعَ اللهِ سُبْحَانَهُ فِي أَدَاءِ فَرَائِضِهِ، وَعِبَادَتِهِ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، وَمَعَ الْخَلْقِ؛ بِأَنْ تُحْسِنَ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، وَبِإِتْقَانِ الْعَمَلِ وَإِكْمَالِهِ.
*الثَّالِثُ: صِلَةُ الرَّحِمِ، وَهُمُ الْقَرَابَةُ الْأَدْنَوْنَ وَالْأَبْعَدُونَ مِنْكَ، فَتُسْتَحَبُّ صِلَتُهُمْ بِمَا فَضُلَ مِنَ الرِّزْقِ الَّذِي آتَاكَ اللهُ إِيَّاهُ.
المصدر : صِلَةُ الرَّحِمِ وَأَثَرُهَا عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ