((رَمَضَانُ شَهْرُ الْعِبَادَاتِ الْعَظِيمَةِ))
إِنَّ الْعَبْدَ الصَّالِحَ يَسْتَقْبِلُ رَمَضَانَ وَيَدُومُ عَلَى ذَلِكَ.. يَسْتَقْبِلُهُ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَيَدُومُ عَلَيْهَا، وَبِعَزِيمَةٍ صَادِقَةٍ يَدُومُ عَلَيْهَا؛ عَلَى أَنْ يَغْتِنَمَهُ، وَأَلَّا يُضَيِّعَ مِنْهُ شَيْئًا.
وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي شَغْلِ الْأَوْقَاتِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَاتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيَدُورُ الْعَامُ دَوْرَتَهُ حَتَّى يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّيَامِ مِنْ قَابِلٍ، أَمْ يَكُونُ مُغيَّبًا تَحْتَ طَبَقَاتِ التُّرَابِ؟!! فَذَلِكَ غَيْبٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ.
وَعَلَى الْمَرْءِ السَّعْيُ وَبَذْلُ الْمَجْهُودِ فِيمَا آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْأَسْبَابِ؛ رَاجِيًا مِنَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- الْقَبُولَ.
إِنَّ الْأَعْمَالَ الَّتِي تُعْمَلُ فِي رَمَضَانَ مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ الرَّحِيمِ الرَّحْمَنِ كَثِيرَةٌ:
أَوَّلُهَا: الصِّيَامُ؛ فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((قَالَ اللهُ تَعَالَى: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إِلَّا الصَّوْمَ؛ فَإِنَّهُ لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ)).
لِمَاذَا كَانَ الصَّوْمُ بِهَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ، وَهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ مِنَ الرِّفْعَةِ؟
فِي شَرْحِ هَذَا مِنْ قَوْلِ رَبِّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا ﷺ لِلْعُلَمَاءِ مَسَالِكُ.
يَقُولُونَ: إِنَّ الصِّيَامَ مِنْ دُونِ الْعِبَادَاتِ لَا يَلْحَقُهُ الرِّيَاءُ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ تَرْكٍ بِنِيَّةٍ، فَمِثْلُ هَذَا لَا يَدْخُلُهُ الرِّيَاءُ وَلَا يَلْحَقُهُ بِحَالٍ.
وَيَقُولُ بَعْضُهُمْ: إِنَّ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- لَمْ يُتَعَبَّدْ.. لَمْ يُتَعَبَّدْ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِمِثْلِ الصِّيَامِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَا هُوَ صِفَةٌ لِلهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ إِذْ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ، فَكَمَا أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ صِفَاتِهِ أَنَّهُ يُطْعِمُ خَلْقَهُ وَلَا يُطْعَمُ؛ إِذْ هُوَ الصَّمَدُ -وَالصَّمَدُ فِي قَوْلٍ: هُوَ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ؛ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ إِذْ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، وَمِنْ مَعَانِي الْقَيُّومِ أَنَّهُ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، لَا يَحْتَاجُ غَيْرَهُ وَلَا أَحَدًا مِنْ خَلْقِهِ، قَائِمٌ بِمَصَالِحِ خَلْقِهِ أَجْمَعِينَ-؛ فَلَمَّا كَانَ هَذَا مِنْ صِفَاتِ رَبِّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-، وَكَانَ الصَّائِمُ مُتَعَبِّدًا لِلهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِتَرْكِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ كَانَ فِي ذَلِكَ مَا فِيهِ مِنَ التَّقَرُّبِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
وَأَيْضًا، فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ أَحَدًا تَعَبَّدَ لِمَعْبُودٍ مِنَ الْمَعْبُودَاتِ بِالصِّيَامِ..
وَفِي هَذَا مُرَاجَعَةٌ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ يَقُولُونَ: إِنَّ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ النُّجُومَ وَالْكَوَاكِبَ وَالْهَيَاكِلَ.. يَعْبُدُونَهَا بِالصِّيَامِ -أَحْيَانًا-، فَيَتَقَرَّبُونَ إِلَى مَعْبُودَاتِهِمْ تِلْكَ بِكَفِّهِمْ عَنْ بَعْضِ الْأُمُورِ صِيَامًا، وَعَلَيْهِ.. فَلَا يُسَلَّمُ هَذَا الَّذِي مَرَّ.
وَهَذَا الصِّيَامُ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- اخْتُصَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ ((إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي))، فَجَاءَتِ الْإِضَافَةُ هَاهُنَا إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَمَا أَشْرَفَهُ! كَمَا يَقُولُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ﴾ [الحج: 26]؛ فَيَجْعَلُ الْبَيْتَ مُضَافًا إِلَيْهِ -هَكَذَا- عَلَى سَبِيلِ التَّشْرِيفِ وَالتَّعْظِيمِ، وَرَفْعِ الْقَدْرِ وَالْمَكَانَةِ وَالْمَنْزِلَةِ.
وَفِي ((صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: أَنْشَأَ الرَّسُولُ ﷺ جَيْشًا، فَذَهَبْتُ إِلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! ادْعُ اللهَ لِي بِالشَّهَادَةِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((اللَّهُمَّ سَلِّمْهُمْ وَغَنِّمْهُمْ)).
قَالَ: فَسَلِمْنَا وَغَنِمْنَا.
وَتَرَدَّدْتُ عَلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ أَسْأَلُهُ أَنْ يَدْعُوَ اللهَ لِي بِالشَّهَادَةِ، فَيَقُولُ: ((اللَّهُمَّ سَلِّمْهُمْ وَغَنِّمْهُمْ))، فَنَسْلَمُ وَنَغْنَمُ.
فَذَهَبْتُ إِلَيْهِ بَعْدَ الثَّالِثَةِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! جِئْتُكَ ثَلَاثًا تَتْرًا -أَيْ: مُتَتَابِعَاتٍ- أَسْأَلُكَ أَنْ تَسْأَلَ اللهَ لِيَ الشَّهَادَةَ، فَكُنْتَ تَقُولُ: ((اللَّهُمَّ سَلِّمْهُمْ وَغَنِّمْهُمْ))، فَكُنَّا نَسْلَمُ وَنَغْنَمُ، وَإِذَنْ؛ فَدُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ.
قَالَ: ((عَلَيْكَ بِالصِّيَامِ، فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ)).
لَمْ يَكُنْ أَبُو أُمَامَةَ بَعْدَ ذَلِكَ يُرَى فِي بَيْتِهِ بِالنَّهَارِ دُخَانٌ؛ مِنْ أَخْذِهِمْ -هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ- بِالصِّيَامِ، فَإِذَا رُئِيَ الدُّخَانُ بِبَيْتِ أَبِي أُمَامَةَ بِالنَّهَارِ عُلِمَ أَنَّ ضَيْفًا اعْتَرَاهُمْ وَنَزَلَ بِهِمْ، فَهُمْ عَلَى إِكْرَامِهِ قَائِمُونَ، وَهُمْ مِنْ أَجْلِ إِكْرَامِهِ مُتْعَبُونَ، فَهُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ يُكْرِمُونَ الضَّيْفَ، وَهُوَ حَقٌّ وَاجِبٌ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ-.
لَمَّا ذَهَبَ أَبُو أُمَامَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَطْلُبُ الْبَدِيلَ -بَدِيلَ الشَّهَادَةِ الَّتِي تُدْخِلُ الْجَنَّةَ، وَالدَّمُ الَّذِي قَدْ أُرِيقَ قَبْلُ رَائِحَتُهُ رَائِحَةُ الْمِسْكِ وَلَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ الزَّكِيِّ- فَذَهَبَ يَبْحَثُ عَنِ الْبَدِيلِ؛ إِذْ لَمْ يُمَكِّنْهُ النَّبِيُّ الْكَرِيمُ ﷺ بِقَدَرِ اللهِ مِنْ دَعْوَةٍ بِالشَّهَادَةِ مَقْبُولَةٍ، فَلَمَّا أَعْيَاهُ وَضَاقَتْ بِهِ الْحِيَلُ، وَسُدَّتْ عَلَيْهِ السُّبُلُ؛ ذَهَبَ إِلَيْهِ يَطْلُبُ بَدِيلًا، وَإِذَنْ؛ فَدُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ.
قَالَ: ((عَلَيْكَ بِالصِّيَامِ؛ فَإِنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ)).
وَفِي رِوَايَةٍ صَحِيحَةٍ عِنْدَ النَّسَائِيِّ، قَالَ: ((عَلَيْكَ بِالصِّيَامِ؛ فَإِنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ)).
يَقُولُ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ! مُرْنِي بِعَمَلٍ.
فَيَقُولُ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: ((عَلَيْكَ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَا عِدْلَ لَهُ)).
لِمَاذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ؟
لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَمَّا تَعَبَّدَنَا لِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ بِالصِّيَامِ جَعَلَهُ مَبْنِيًّا عَلَى إِمْسَاكٍ بِنِيَّةٍ، وَأَمْرُ النِّيَّةِ وَشَأْنُهَا فِي دِينِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَكُونُ -وَفِي الصِّيَامِ خَاصَّةً-؛ إِذْ يَمْتَنِعُ الْمَرْءُ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ فِي الزَّمَنِ الْمَخْصُوصِ بِنِيَّةٍ مَخْصُوصَةٍ، مَا أَيْسَرَ أَنْ يَخْلُوَ الْمَرْءُ بِنَفْسِهِ بَعِيدًا عَنْ أَعْيُنِ الْخَلْقِ ثُمَّ يَقْضِيَ حَاجَتَهُ طَعَامًا وَشَرَابًا، وَأَحْيَانًا شَهْوَةً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ مُطَّلِعٌ إِلَّا اللهُ.
بَلْ إِنَّ الْعُلَمَاءَ جَعَلُوا الْأَمْرَ أَعْمَقَ مِنْ ذَلِكَ وَأَدَقَّ؛ فَإِنَّهُمْ يَبْحَثُونَ فِي أَمْرٍ آخَرَ، وَهُوَ: لَوْ أَنَّ الْإِنْسَانَ تَوَجَّهَتْ نِيَّتُهُ إِلَى الْفَسْخِ؛ عَزَمَ بِنِيَّةٍ صَادِقَةٍ عَلَى الصِّيَامِ مُمْسِكًا فَأَتَى بِالرُّكْنَيْنِ -وَصِيَامُهُ صَحِيحٌ مَا يَزَالُ-، ثُمَّ نَوَى الْفِطْرَ وَلَمْ يَفْعَلْ، نَوَى الْفِطْرَ وَلَمْ يَأْكُلْ، نَوَى الْفِطْرَ وَلَمْ يَشْرَبْ، وَإِنَّمَا عَزَمَ عَلَى أَنْ يُفْطِرَ وَلَمْ يُفْطِرْ، لَمْ يَتَنَاوَلْ مُفْطِّرًا، وَلَمْ يَأْخُذْ بِمُفَطِّرٍ، وَإِنَّمَا فَسَخَ النِّيَّةَ؛ فَلَيْسَ بِصَائِمٍ، وَقَدِ انْتُقِضَ صِيَامُهُ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ الْيَوْمَ وَلَا يُفْطِرُ بَعْدَمَا أَفْطَرَ، وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ بَعْدَ الشَّهْرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَفْطَرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ بِغَيْرٍ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ إِلَى الْغُرُوبِ.
وَإِذَنْ؛ فَهَذَا الَّذِي تَوَجَّهَتْ نِيَّتُهُ بِالْعَزْمِ لِلْفَسْخِ مِنْ غَيْرِ إِتْيَانٍ بِمُفَطِّرٍ قَدْ أَفْطَرَ.
مِثْلُ هَذَا مَنْ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ خَلَا اللهِ؟!!
وَمَنِ الَّذِي يَعْلَمُ ذَلِكَ سِوَى اللهِ؟!!
فَالرِّعَايَةُ هَاهُنَا تَكُونُ عَلَى أَتَمِّ مَا يَكُونُ، وَأَمَّا إِذَا مَا تَرَدَّدَ فِي النِّيَّةِ فَنَوَى الْفِطْرَ مُتَرَدِّدًا غَيْرَ جَازِمٍ؛ فَلِلْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ قَدْ أَفْطَرَ؛ لِأَنَّهُ جَانَبَ الْعَزْمَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ تَنْطَوِيَ عَلَيْهِ النِّيَّةُ وَأَنْ تَشْتَمِلَ عَلَيْهِ.
وَآخَرُونَ -وَهُوَ الْأَرْجَحُ- فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: إِنَّهُ مَا زَالَ عَلَى أَصْلِ الْعَزْمِ -وَإِنْ تَرَدَّدَ-، فَصِيَامُهُ صَحِيحٌ.
الْمُهِمُّ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ مِنْ أُمُورِ الْعِبَادَاتِ يَتَعَلَّقُ بِهِ مِثْلُ هَذَا الْأَمْرِ فِي أَمْرِ مُرَاقَبَةِ النِّيَّاتِ بِمَا لَا يَكُونُ مِثْلُهُ فِي مِثْلِهِ، وَهَذَا يُفْضِي بِنَا مِنْ أَوْسَعِ الْأَبْوَابِ إِلَى مَقَامِ الْإِحْسَانِ الَّذِي وَصَفَهُ الرَّسُولُ ﷺ لِجِبْرِيلَ، فَقَالَ: ((أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ))؛ مُشَاهَدَةً، ((فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ))؛ مُرَاقَبَةً.
فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَكُونَ فِي الْمَقَامِ الْأَسْنَى، وَفِي الذُّرْوَةِ الْعُلْيَا؛ إِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تَكُونَ فِي مَقَامِ الْمُرَاقَبَةِ مِنْ مَقَامَيِ الْإِحْسَانِ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي مَقَامِ الْمُرَاقَبَةِ مِنْهُ؛ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ وَاعِيًا، وَأَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ حَصِيفًا وَعَاقِلًا، وَأَنْ يَكُونَ أَمْرُ النِّيَّةِ مِنْهُ عَلَى ذُكْرٍ وَعَلَى بَالٍ، وَلَا غَرْوَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَنَا -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي صَحَّ عَنْهُ ﷺ-: ((مَنْ لَمْ يُجْمِعِ النِّيَّةَ قَبْلَ الْفَجْرِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ)).
وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى -وَهِيَ صَحِيحَةٌ بِالَّتِي مَرَّتْ-: ((مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ النِّيَّةَ بِاللَّيْلِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ)) .
وَالنِّيَّةُ أَمْرٌ قَلْبِيٌّ، وَسِرٌّ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَيُجْمِعُ النِّيَّةَ، وَلَفْظُ ((يُجْمِعُ)) هَاهُنَا دَالٌّ بِذَاتِهِ، مُنِيرٌ بِأَضْوَائِهِ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ كَانَ مِنْ بَعْدِ تَفَرُّقٍ، وَكَانَ مِنْ بَعْدِ شَتَاتٍ، ((مَنْ لَمْ يُجْمِعِ النِّيَّةَ -نِيَّةَ الصِّيَامِ- قَبْلَ الْفَجْرِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ))، ((مَنْ لَمْ يُبَيِّتِ النِّيَّةَ بِاللَّيْلِ، فَلَا صِيَامَ لَهُ)).
وَتَلْحَظُ أَنَّ هَذَا فِيهِ مِنَ الْفَوَارِقِ مَا فِيهِ، فَلَيْسَ هَذَا بِمُشْتَرَطٍ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ فِي الصِّيَامِ النَّفْلِ الَّذِي يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعَبْدُ إِلَى رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مَا فَرْضٍ وَاجِبٍ عَلَيْهِ.
فَهَذَا الْإِجْمَاعُ وَهَذَا الْجَمْعُ وَهَذَا اللَّمُّ لِهَذِهِ النِّيَّةِ الْمُشَعَّثَةِ الْمُتَفَرِّقَةِ فِي ضَبَابِيَّتِهَا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَخْلُصَ مُنِيرَةً قَائِمَةً مُتَلَأْلِئَةً فِي قَلْبِ الْعَبْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ؛ هَذَا الْجَمْعُ وَهَذَا التَّبْيِيتُ لِلنِّيَّةِ قَبْلَ الْفَجْرِ، قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ مِنَ اللَّيْلِ، كُلُّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي صِيَامِ الْفَرْضِ.
وَأَمَّا صِيَامُ النَّفْلِ: فَفِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَدْخُلُ عَلَيَّ فَيَقُولُ: ((هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ طَعَامٍ وَإِلَّا فَإِنِّي صَائِمٌ))، فَكَانَ يُنْشِئُ النِّيَّةَ بِالنَّهَارِ ﷺ.
بَلْ شَيْءٌ أَعْمَقُ وَأَدَقُّ، يَقُولُ الْعُلَمَاءُ: ((إِنَّ الصَّائِمَ الْمُتَطَوِّعَ أَمِيرُ نَفْسِهِ)) .
الصَّائِمُ صَوْمَ الْفَرْضِ فِي رَمَضَانَ إِنْ تَوَجَّهَتْ نِيَّتُهُ إِلَى الْفَسْخِ انْفَسَخَ، وَإِنْ كَانَ مُتَرَدِّدًا فَعَلَى قَوْلَيْنِ؛ فَسْخٍ وَعَدَمِهِ، وَأَمَّا الَّذِي يَنْوِي صِيَامَ التَّطَوُّعِ صِيَامَ النَّفْلِ؛ فَإِنْ نَوَى نِيَّةَ الْفَسْخِ وَلَمْ يَأْتِ بِمُفْطِّرٍ ثُمَّ أَنْشَأَ النِّيَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ لِلصَّوْمِ فَصِيَامُهُ صَحِيحٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَنْشَأَ النِّيَّةَ قَبْلَ الزَّوَالِ عِنْدَمَا مَتَعَ النَّهَارُ وَلَمْ يُبَيِّتْ نِيَّةً بِلَيْلٍ، وَإِنَّمَا أَنْشَأَ النِّيَّةَ مَعَ النَّهَارِ ثُمَّ فَسَخَ وَلَمْ يَأْتِ بِمُفَطِّرٍ ثُمَّ أَنْشَأَ النِّيَّةَ مَرَّةً أُخْرَى، فَصِيَامُهُ صَحِيحٌ.
غَايَةَ مَا هُنَالِكُ أَنَّهُ لَا يُثَابُ إِلَّا عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي صَامَهُ، وَأَمَّا عِنْدَ فَسْخِ النِّيَّةِ فَيُنْسَخُ مَا مَرَّ مِنْ صِيَامِهِ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا، فَلَيْسَ لَهُ مِنْ أَجْرٍ عَلَيْهِ، ثُمَّ إِذَا مَا أَنْشَأَ النِّيَّةَ بَعْدُ، فَإِنَّهُ يَتَحَصَّلُ مِنَ الْأَجْرِ عَلَى قَدْرِ مَا كَانَ عَنْهُ مُمْسِكًا بَعْدَ النِّيَّةِ الصَّحِيحَةِ الَّتِي تَلَتْ.
فِي هَذَا الصِّيَامِ مَا فِيهِ، وَهَذَا مِنْ أَجْلَى مَجَالِيهِ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- غَيْبٌ لَا تَرَاهُ الْأَعْيُنُ، اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَنْ نَرَاهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- إِلَّا فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22-23]، فَاللَّهُمَّ مَتِّعْنَا بِلَذَّةِ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ فِي الْجَنَّةِ، إِنَّكَ أَنْتَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ.
اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ غَيْبٌ لَا تَرَاهُ الْأَعْيُنُ، وَيَأْتِي الْأَمْرُ مِنْ أَمْرِهِ، وَيَأْتِي النَّهْيُ مِنْ نَهْيِهِ، وَاللهُ مُطَّلِعٌ عَلَى حَنَايَا الْقُلُوبِ وَثَنايَا الصُّدُورِ وَتَضَاعِيفِ الْأَرْوَاحِ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19].
يَقُولُ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي ((خَائِنَةِ الْأَعْيُنِ)): ((إِنَّهُ الرَّجُلُ يَدْخُلُ الْبَيْتَ فَيَمْتَدُّ نَظَرُهُ فَاجِرًا إِلَى مَا هُنَالِكَ مِنَ الْحَرِيمِ، فَإِذَا نُظِرَ إِلَيْهِ أَغْضَى)) .
فَتِلْكَ خَائِنَةُ الْأَعْيُنِ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إِلَّا اللهُ، كَأَنَّهَا النَّظْرَةُ الْبَرِيئَةُ الَّتِي لَا يُحِيطُ بِهَا غَبَشٌ وَلَا يَلُفُّهَا مِنَ اللَّذَّةِ ضَبَابٌ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ رَاتِعَةٌ فِي هَذَا السَّوَادِ، بَلْ قُلْ: رَاتِعَةٌ فِي هَذَا الْهِبَابِ -وَهُوَ فَصِيحٌ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ-.
وَإِذَنْ؛ فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِنَّمَا يُرِيدُ مِنَّا نِيَّاتِنَا، وَيُرِيدُ مِنَّا قُلُوبَنَا، وَيُرِيدُ مِنَّا أَرْوَاحَنَا، اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ يُرِيدُ أَرْوَاحًا لَا أَشْبَاحًا، يُرِيدُ قُلُوبًا لَا قَوَالِبَ، وَلَوْ أَرَادَ قَوَالِبَ مَصْبُوبَةً لَنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ، وَلَكِنْ.. إِنَّمَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْعِبَادَةُ مِحْضَنًا يُطَرَّقُ فِيهِ مَا يُطَرَّقُ مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ عَلَى مُقْتَضَى النِّيَّةِ الصَّحِيحَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ الطَّاهِرَةِ.
فَإِذَا مَا اسْتَقَامَتِ النِّيَّةُ شَهْرًا كَامِلًا بِهَذِهِ الرِّقَابَةِ الْوَاعِيَةِ، فَهَذَا زَادُ مَا يَأْتِي مِنْ مُسْتَقْبَلِ الشُّهُورِ فِي الْعَامِ، وَأَكْرِمْ بِهِ مِنْ زَادٍ!!
وَأَمَّا إِذَا كَانَ الْمَرْءُ غَيْرَ وَاعٍ لِهَذَا الْأَمْرِ فِي دِينِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَكَبِّرْ عَلَيْهِ أَرْبَعًا!!
يَنْبَغِي أَنْ يَحْرِصَ الْمُسْلِمُ عَلَى كَثْرَةِ الْعِبَادَاتِ؛ كَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِ مَعَانِيهِ، وَصَلَاةِ الْقِيَامِ؛ فَعِنْدَ الْبُخَارِيِّ فِي ((الصَّحِيحِ)) : ((أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ صَلَّى فِي الْمَسْجِدِ لَيْلَةً مِنْ لَيَالِي رَمَضَانَ؛ فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ، وَفِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ كَثُرَ الْجَمْعُ، وَفِي الثَّالِثَةِ كَثُرُوا جِدًّا، فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ فِي الرَّابِعَةِ وَقَدِ امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ حَتَّى فَاضَ.
ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْهِمْ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ، فَقَالَ: ((أَمَا إِنِّي لَمْ يَخْفَ عَلَيَّ مَكَانُكُمْ، وَلَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا)).
وَلَمَّا اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ فِي عَهْدِ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَوَجَدَ النَّاسَ أَوْزَاعًا مُتَفَرِّقِينَ.. يُصَلِّي الرَّجُلُ بِالرَّجُلِ، وَيُصَلِّي الرَّجُلُ بِالرَّجُلَيْنِ، فِي قِيَامِ رَمَضَانَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ ﷺ؛ فَقَالَ: ((أَمَا إِنِّي أَرَى لَوْ جَمَعْتُ هَؤُلَاءِ عَلَى إِمَامٍ وَاحِدٍ لَكَانَ حَسَنًا)) .
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّهُ مَنْ صَلَّى مَعَ الْإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ، كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ)) .
وَمِنْ أَعْمَالِ هَذَا الشَّهْرِ: الِاجْتِهَادُ فِي قِرَاءَةِ القُرْآنِ، كَانَ جِبْرِيلُ يُدَارِسُ النَّبِيَّ ﷺ القُرْآنَ فِي رَمَضَانَ، وَكَانَ السَّلَفُ يَتَوَفَّرُونَ عَلَى كِتَابِ اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ فِي رَمَضَانَ.
وَمِنَ السُّنَنِ الْعَظِيمَةِ فِي رَمَضَانَ: سُنَّةُ الِاعْتِكَافِ: مِمَّا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ: الِاعْتِكَافُ؛ فَـ «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْتَكِفُ فِي كُلِّ رَمَضَانَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، فَلَمَّا كَانَ الْعَامُ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ؛ اعْتَكَفَ عِشْرِينَ يَوْمًا». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
* وَكَذَلِكَ: العُمْرَةُ فِي رَمَضَانَ؛ قَالَ فِيهَا الرَّسُولُ ﷺ: «عُمْرَةٌ فِي رَمَضَانَ كَحَجَّةٍ مَعِي».
العُمْرَةُ فِي رَمَضَانَ كَحَجَّةٍ فِي الْأَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ العَدْنَانِ ﷺ.
يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ الْإِكْثَارُ مِنَ الطَّاعَاتِ وَمِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَالِالْتِزَامَ بِمَا أَوْصَى بِهِ النَّبِيُّ ﷺ وَكَانَ يَفْعَلُهُ؛ كَتَعْجِيلِ الْفِطْرِ وَتَأْخِيرِ السُّحُورِ؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((تَسَحَّرُوا؛ فَإِنَّ فِي السَّحُورِ بَرَكَةً)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَقَالَ ﷺ: ((لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ وَأَخَّرُوا السُّحُورَ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ .
وَقَالَ ﷺ: ((لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ .
وَمِنْ سُنَنِ الصِّيَامِ: كَوْنُ الْفِطْرِ عَلَى رُطَبٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ مَاءٍ، وَهِيَ مُرَتَّبَةٌ بِحَسَبِ الْأَفْضَلِيَّةِ؛ لِقَوْلِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ رُطَبَاتٌ فَتَمْرَاتٌ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَمْرَاتٌ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَهُوَ حَدِيثٌ حَسَنٌ .
وَمِنْ سُنَنِ الصَّوْمِ: الدُّعَاءُ أَثْنَاءَ الصِّيَامِ لَا سِيَّمَا عِنْدَ الْإِفْطَارِ؛ لِقَوْلِهِ ﷺ: ((ثَلَاثُ دَعْوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ: دَعْوَةُ الصَّائِمِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ)). أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي ((الشُّعَبِ)) بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ .
وَلِقَوْلِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ لَدَعْوَةً مَا تُرَدُّ)).
فَهَذِهِ بَعْضُ سُنَنِ الصِّيَامِ.
كَمَا يَنْبَغِي عَدَمُ الْإِسْرَافِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31].
يَا بَنِي آدَمَ! كُلُوا وَاشْرَبُوا مَا أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ، لَا تُسْرِفُوا بِتَجَاوُزِ الْحَدِّ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إِلَى مَا يُؤْذِي أَوْ يَضُرُّ؛ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ مَنْ أَسْرَفَ فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ وَالْمَلْبُوسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِسْرَافَ يُوصِلُ إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَضَارِّ وَالْمَهَالِكِ، أَوِ الظُّلْمِ وَالتَّحْرِيفِ ِفي الدِّينِ.
وَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَجَنَّبَ الشِّبَعَ الْمُفْرَطَ؛ لِقَوْلِ الرَّسُولِ: ((مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ, بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ, فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؛ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ, وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ, وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ)) .
الْمُسْلِمُ يَنْظُرُ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بِاعْتِبَارِهِمَا وَسِيلَةً إِلَى غَيْرِهِمَا, لَا غَايَةً مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا, فَهُوَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مِنْ أَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى سَلَامَةِ بَدَنِهِ الَّذِي بِهِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ الْعِبَادَةَ الَّتِي تُؤَهِّلُهُ لِكَرَامَةِ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَسَعَادَتِهَا.
فَلَيْسَ الْمُسْلِمُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ لِذَاتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَشَهْوَتِهِمَا؛ فَلِذَا هُوَ لَوْ لَمْ يَجُعْ لَمْ يَأْكُلْ, وَلَوْ لَمْ يَعْطَشْ لَمْ يَشْرَبْ.
المصدر:رَمَضَانُ شَهْرُ عِبَادَةٍ وَعَمَلٍ