حَثُّ اللهِ وَرَسُولِهِ عَلَى العَمَلِ، وَالْبِنَاءِ، وَتَعْمِيرِ الْأَرْضِ


حَثُّ اللهِ وَرَسُولِهِ عَلَى العَمَلِ، وَالْبِنَاءِ، وَتَعْمِيرِ الْأَرْضِ

*حَثَّ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ عَلَى العَمَلِ وَطَلَبِ الرِّزْقِ بِأَنَاةٍ وَرِفْقٍ، مَعَ صَبْرٍ وَكَدْحٍ:

قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ} [الجمعة: ١٠]. يَعْنِي: فَإِذَا فُرِغَ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَتَفَرَّقُوا فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي حَوَائِجِكُمْ وَمَطَالِبِ حَيَاتِكُمْ، وَمَصَالِحِ دُنْيَاكُم، وَاطْلُبُوا رِزْقَ اللهِ بِأَنَاةٍ وَرِفْقٍ، مَعَ صَبْرٍ وَكَدْحٍ، وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكُمْ رَغْبَةً فِي الْفَوْزِ بِخَيْرَيْ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15].

اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مُنْقَادَةً سَهْلَةً مُطَوَّعَةً، تَحْرُثُونَهَا وَتَزْرَعُونَهَا، وَتَسْتَخْرِجُونَ كُنُوزَهَا، وَتَنْتَفِعُونَ مِنْ طَاقَاتِهَا وَخَصَائِصِ عَنَاصِرِهَا، فَامْشُوا فِي جَوَانِبِهَا وَأَطْرَافِهَا وَنَوَاحِيهَا مَشْيًا رَفِيقًا لِتَحْصِيلِ مَطَالِبِ الْحَيَاةِ، وَكُلُوا مِمَّا خَلَقَهُ اللهُ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ، وَاكْتَسِبُوا الرِّزْقَ مِمَّا أَحَلَّ اللهُ تَعَالَى لَكُمْ، وَتَذَكَّرُوا يَوْمَ الْحِسَابِ، وَإِلَيْهِ وَحْدَهُ تُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْحِسَابِ وَفَصْلِ الْقَضَاءِ وَتَنْفِيذِ الْجَزَاءِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ} [القصص: ٧٧].

المَعْنَى: اطْلُبْ فِي تَصَرُّفِكَ فِيمَا أَعْطَاكَ اللهُ مِنَ الْأَمْوَالِ الْكَثِيرَةِ، قَاصِدًا ثَوَابَ رَبِّكَ الَّذِي لَا يَنْفَدْ فِي الْجَنَّةِ بِأَنْ تَقُومَ بِشُكْرِ اللهِ فِيمَا أَنْعَمَ عَلَيْكَ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ تُنْفِقَ الْمَالَ الَّذِي أَعْطَاكَ فِي رِضَاهُ.

وَلَا تَفْهَمُ أَنَّنَا نَنَصْحُكَ أَنْ تَجْعَلَ كُلَّ مَا آتَاكَ اللهُ مُوَجَّهًا لِتَحْصِيلِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، بَلْ نَقُولُ لَكَ أَيْضًا: لَا تَتْرُكْ حَظَّكَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ الَّتِي أَحَلَّهَا اللهُ لَكَ {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ}.

وَأَحْسِنْ إِلَى فُقَرَاءِ قَوْمِكَ وَمَسَاكِينِهِمْ وَذَوِي الضَّرُورَاتِ وَالْحَاجَاتِ فِيهِمْ بِمَالٍ أَوْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ بِنِعْمَتِهِ.

وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: ٧-٨].

فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْ عَمَلٍ نَافِعٍ مُفِيدٍ يُقَرِّبُكَ إِلَى اللهِ؛ فَاجْتَهِدْ فِي عَمَلٍ نَافِعٍ جَدِيدٍ، وَأَتْعِب نَفْسَكَ فِيهِ، وَلَا تُخْلِي وَقْتًا مِنْ أَوْقَاتِكَ فَارِغًا، وَلَا تَرْكَنُ إِلَى الرَّاحَةِ وَالدَّعَةِ، وَإِلَى رَبِّكَ وَحْدَهُ فَتَضَرَّعْ، وَاجَعْلْ رَغْبَتَكَ إِلَى اللهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ مَطَالِبِ دُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ، وَتَرَفَّع عَمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ، فَهُوَ وَحْدَهُ الْقَادِرُ عَلَى إِجَابَتِكَ وَإِسْعَافِكَ.

*حَثَّ اللهُ عَلَى الْبِنَاءِ وَالتَّعْمِيرِ فِي الْأَرْضِ؛ لِتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ:

*اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- سَخَّرَ لِلنَّاسِ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ الْكَثِيرَ؛ رَغْبَةً فِي أَنْ يُؤْمِنُوا بِالْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ لَهُمْ فِي كِتَابِهِ، وَفِي أَنْ يُسْلِمُوا مُنْقَادِينَ لَهُ فِي شَرَائِعِهِ وَأَحْكَامِهِ:

قَالَ تَعَالَى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61].

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى قَبِيلَةِ ثَمُودَ أَخَاهُمْ فِي النَّسَبِ صَالِحًا نَبِيًّا وَرَسُولًا، قَالَ: يَا قَوْم وَحِّدُوا اللهَ، وَخُصُّوهُ وَحْدَهُ بِالْعِبَادَةِ، إِنَّهُ هُوَ إِلَهُكُمُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْعِبَادَةِ، لَا هَذِهِ الْأَصْنَامُ، هُوَ ابْتَدَأَ خَلْقَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ، وَجَعَلَكُمْ عُمَّارَهَا وَسُكَّنَاهَا.

فَإِذَا آمَنْتُمْ بِاللهِ رَبِّكُمْ وَأَنَّهُ هُوَ الْمَعْبُودُ الْحَقُّ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَعَلِمْتُمْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُمِدُّكُمْ دَوَامًا بِعَطَاءَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ فِي الْأَرْضِ الَّتِي جَعَلَكُمْ تُقِيمُونَ فِيهَا، وَتَنْتَفِعُونَ مِنْ خَيْرَاتِهَا، فَاسْأَلُوهُ أَنْ يَغْفِرَ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ مِنْ شِرْكٍ وَظُلْمٍ وَآثَامٍ، ثُمَّ بَعْدَ الِاسْتِغْفَارِ ارْجِعُوا إِلَى رَبِّكُمْ بِتَجْدِيدِ إِيمَانِكُمْ، وَتَأْدِيَةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَبِهَذِهِ التَّوْبَةِ الصَّادِقَةِ إِلَيْهِ تَكُونُونَ مِنْ عِبَادِ اللهِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ، إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ بِعِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، مُجِيبٌ لِدُعَائِهِمْ.

وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)} [إبراهيم: 32-33].

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّحَابِ مَاءً، فَأَخْرَجَ بِذَلِكَ الْمَاءِ الْمُخْتَلِطِ بِتُرَابِ الْأَرْضِ، أَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ، وَذَلَّلَ لَكُمُ السُّفُنَ الْجَارِيَةَ عَلَى الْمَاءِ وَفْقِ نِظَامِ الْطَفْوِ الَّذِي قَدَّرَهُ اللهُ فِي كَوْنِهِ؛ لِأَجْلِ الِانْتِفَاعِ بِهَا فِي جَلْبِ الرِّزْقِ مِنْ بَلَدٍ لِآخَرَ، وَذَلَّلَ لَكُمْ الْأَنْهَارَ تَشْرَبُونَ مِنْهَا وَتَسْقُونَ زَرْعَكُمْ، وَأَشْجَارَكُمْ، وَأَنْعَامَكُمْ، وَدَوَابَّكُمْ، وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ أُخْرَى.

وَذَلَّلَ اللهُ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ تَجْرِيَانِ دَائِمًا فِيمَا يَعُودُ إِلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ، لَا يَفْتُرَانِ عَنْ حَرَكَتِهِمَا مِنْ انْقِضَاءِ عُمُرِ الدُّنْيَا وَذَهَابِهَا، وَذَلَّلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ يَتَعَاقَبَانِ فِي الظُّلْمَةِ وَالضِّيَاءِ، وَالنُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ، تَسْكُنُوا فِي اللَّيْلِ وَتَسْتَرِيحُوا، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فِي النَّهَارِ وَتُدَبِّرُوا مَعَايَشَكُمْ.

وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)} [النحل: 80-81].

اللهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمُ الَّتِي هِيَ مِنَ الْحَجَرِ رَاحَةً وَاسْتِقْرَارًا وَمَسْكَنًا تَسْكُنُونَهُ وَأَنْتُمْ مُقِيمُونَ فِي الْحَضَرِ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ -وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ- خِيَامًا يَخِفُّ عَلَيْكُمْ حَمْلُهَا فِي يَوْمِ سَيْرِكُمْ وَرَحِيلِكُمْ فِي أَسْفَارِكُمْ، وَتَخِفُّ عَلَيْكُمْ -أَيْضًا- فِي إِقَامَتِكُمْ وَحَضَرِكُمْ، وَلَا تَثْقُلُ عَلَيْكُمْ فِي الْحَالَيْنِ.

وَتَتَّخِذُونَ مِنْ أَصْوَافِ الضَّأْنِ وَأَوْبَارِ الْإِبِلِ وَأَشْعَارِ الْمَعْزِ أَثَاثًا لِبُيُوتِكُمْ مِنَ الْفُرُشِ وَالْأَكْسِيَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَبَلَاغًا تَتَمَتَّعُونَ بِهِ إِلَى حِينِ الْمَوْتِ.

اسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى طَهَارَةِ جُلُودِ الْأَنْعَامِ الَّتِي حَلَّ أَكْلُهَا، وَطَهَارَةِ أَصْوَافِهَا وَأَوَبْارِهَا وَأَشْعَارِهَا إِذَا جُزَّ فِي الْحَيَاةِ، وَكَذَلِكَ جِلْدُ الْمَيْتَةِ مِنَ الْأَنْعَامِ إِذَا دُبِغَ.

وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ ظِلَالِ الْأَبْنِيَةِ وَالْجُدْرَانِ وَالْأَشْجَارِ مَا تَسْتَظِلُّونَ بِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِدَارِ مَا تَسْتَكِنُّونَ فِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، كَالْأَسْرَادِ وَالْمَغَارَاتِ وَالْكُهُوفِ وَنَحْوِهَا، وَجَعَلَ لَكُمْ قُمُصًا وَثِيَابًا مِنَ الْقُطْنِ وَالصُّوفِ وَالْكَتَّانِ وَنَحْوِ ذَلِكِ، تَمْنَعُكُمْ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَدُرُوعًا تَقِيكُمْ فِي الْحَرْبِ بَأْسَ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ، وَلَا تَصِلُ السُّيُوفُ وَالرِّمَاحُ إِلَى جَسَدِ مِنْ يُضْرَبُ بِشَيْءٍ مِنْهَا.

كَذَلِكَ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ لَكُمْ فِيمَا مَضَى، سَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ؛  فَيُمَكِّنُكُمْ مِنْ صُنْعِ أَشْيَاءَ لَا حَصَرَ لَهَا فِي الْعُصُورِ الْقَادِمَةِ بَعْدَ عَصْرِ التَّنْزِيلِ، مِمَّا تَوَصَّلَ إِلَيْهِ النَّاسُ مِنْ صِنَاعَاتٍ مُذْهِلَةٍ بِإِلْهَامِ اللهِ لَهُمْ؛ رَغْبَةً فِي أَنْ تُؤْمِنُوا بِالْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللهُ لَكُمْ فِي كِتَابِهِ، وَفِي أَنْ تُسْلِمُوا مُنْقَادِينَ لَهُ فِي شَرَائِعِهِ وَأَحْكَامِهِ.

*حُثَّ النَّبِيُّ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَالْعَمَلِ، وَإِعْمَارِ الْأَرْضِ، إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ:

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِِ النَّبِيِّ ﷺ، قَالَ «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا». وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ.

وَ«فَسِيلَةٌ»: هِيَ النَّخْلَةُ الصَّغِيرَةُ.

وَهَذَا فِيهِ مُبَالَغَةٌ فِي الْحَثِّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ؛ لِتَبْقَى هَذِهِ الدَّارُ عَامِرَةً إِلَى آخِرِ أَمَدِهَا الْمَحْدُودِ الْمَعْلُومِ عِنْدَ خَالِقِهَا، فَكَمَا غَرَسَ لَكَ غَيْرُكَ؛ فَانَتَفَعَتْ بِهِ، فَاغْرِسْ أَنْتَ لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَكَ؛ لِيَنْتَفِعَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَّا صُبَابَةٌ، وَذَلِكَ بِهَذَا الْقَصْدِ لَا يُنَافِي الزُّهْدَ وَالتَّقَلُّلَ مِنَ الدُّنْيَا.

وَالنَّبِيُّ ﷺ ذَكَرَ أَحَادِيثَ فِي اسْتِثْمَارِ الْأَرْضِ وَزَرْعِهَا، وَالْحَثِّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا أَدَلَّ عَلَى الْحَضِّ عَلَى الِاسْتِثْمَارِ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ الْكَرِيمَةِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي مَعَنَا؛ فَإِنَّ فِيهِ تَرْغِيبًا عَظِيمًا عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيَجْرَي لَهُ أَجْرُهُ، وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.

قَوْلُهُ: «فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا»: وَهَذَا كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ يَتَطَلَّبُ زَمَانًا مَمْدُودًا؛ لِكَيْ يَتَحَصَّلَ الْمَرْءُ عَلَى نَتِيجَتِهِ وعَائِدِهِ؛ لِأَنَّ النَّخْلَةَ يَسْتَمِرُّ نُمُوُّهَا حَتَّى إِثْمَارِهَا سَنَواتٍ، وَمَعَ ذَلِكَ فَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ، فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَلَّا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا فَلْيَغْرِسْهَا».

مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا يَقِينًا حِينَئِذٍ، وَلَكِنَّهُ ص يَحُثُّ عَلَى غَرْسِ الْأَشْجَارِ وَحَفْرِ الْأَنْهَارِ، وَعَلى الْعَمَلِ الصَّالِحِ النَّافِعِ بِصِفَةٍ عَامَّةٍ، وَإِنْ ظَهَرَتْ نَتَائِجُهُ وَعَوَاقِبُهُ عَلَى الْمَدَى الْبَعِيدِ، وَكَانَتْ نَتَائِجُهُ وَثِمَارُهُ بَطِيئَةً جِدًّا.

فِي هَذَا الْحَدِيثِ:

التَّرْغِيبُ الْعَظِيمُ عَلَى اغْتِنَامِ آخِرِ فُرْصَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ فِي سَبِيلِ زَرْعِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَيُجْرَى لَهُ أَجْرُهُ وَتُكْتَبُ لَهُ صَدَقَتُهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالْحَثُّ عَلَى الطَّاعَةِ إِلَى آخِرِ لَحْظَةٍ مِنَ الْحَيَاةِ.

*التَّحْذِيرُ الشَّدِيدُ وَالْوَعِيدُ الْأَكِيدُ لِلْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ:

قَد قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 33].

المُحَارِبُونَ للهِ وَرَسُولِهِ هُمُ الذينَ بَارَزُوهُ بِالعَدَاوَةِ، وَأَفْسَدُوا في الأَرْضِ؛ بِالكُفرِ، والقَتْلِ، وَأَخْذِ الأَمْوَالِ، وَإِخَافَةِ السُّبُلِ، وَالمَشْهُورُ أَنَّ هذه الآيَةَ الكَرِيمَةَ في أَحْكَامِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ الذينَ يَعْرِضُونَ للنَّاسِ في القُرَى والبَوَادِي، فَيَغْصِبُونَهُم أَمْوَالَهُم، وَيَقْتُلُونَهُم، وَيُخِيفُونَهُم فَيَمْتَنِعُ النَّاسُ مِنْ سُلُوكِ الطريقِ التي هُم بها، فَتَنْقَطِعُ بِذَلِكَ.

فَأَخْبَرَ اللهُ أنَّ جَزَاءَهُم وَنَكَالَهُم عند إِقَامَةِ الحَدِّ عَلَيْهِم أَنْ يُفْعَلَ بهم وَاحِدٌ مِنْ هذه الأُمُورِ.

 

 

المصدر: دَوْرُ الشَّبَابِ فِي بِنَاءِ الْأُمَّةِ الْمِصْرِيَّةِ وَالْإِسْلَامِيَّةِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  قَبُولُ الْهَدِيَّةِ تِلْقَاءَ شَفَاعِتِكَ لِأَخِيكَ رِبَا؛ فَانْتَبِهْ!
  ضَرُورَةُ الْحِفَاظِ عَلَى نَظَافَةِ الْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ
  مَنْزِلَةُ الزَّكَاةِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ
  قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا
  أَثَرُ كَلَامِ الرَّحْمَنِ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ
  المَوْعِظَةُ الخَامِسَةَ عَشْرَةَ : ((جُمْلَةٌ مِنْ أُصُولِ الْعَقِيدَةِ لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ (2) ))
  مُحَارَبَةُ الْخَوَارِجِ وَالْبُغَاةِ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللهِ
  الزَّكَاةُ مِنْ مَحَاسِنِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ
  إِيمَانُ الْأُمَّةِ وَوَحْدَتُهَا سَبِيلُ عِزَّتِهَا وَحِمَايَةِ مُقَدَّسَاتِهَا
  عِظَمُ حَقِّ الْأَبَوَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ
  التَّرْهِيبُ مِنَ الْعُقُوقِ
  بَيَانُ جُمْلَةٍ مِنْ مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ
  اتَّقُوا اللهَ فِي الْجَزائِرِ وَاحْذَرُوا الْفَوْضَى!!
  التَّوْحِيدُ سَبِيلُ بِنَاءِ الْأُمَّةِ وَعِزَّتِهَا
  الْوَعْيُ بِأَخْطَرِ عَدُوٍّ لِلْإِنْسَانِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان