أَكْلُ الْحَرَامِ مِنْ أَعْظَمِ قَوَاطِعِ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ


((أَكْلُ الْحَرَامِ مِنْ أَعْظَمِ قَوَاطِعِ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ))

ثُمَّ ضَرَبَ النَّبِيُّ ﷺ مَثَلًا عَمَلِيًّا؛ لِيُقَرِّبَ الْمَسْأَلَةَ إِلَى الْأَذْهَانِ، وَلَيْجَعْلَهَا حَاضِرَةً فِي الْجَنَانِ، عَصِيَّةً عَلَى النِّسْيَانِ، قَالَ: ((ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ)): وَالسَّفَرُ مَظِنَّةُ إِجَابَةِ دُعَاءِ الدَّاعِينَ، وَالْإِطَالَةُ فِيهِ أَوْلَى بِأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ كَذَلِكَ.

((ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ)): شُعِّثَ شَعْرُهُ؛ لِقِلَّةِ الْعِنَايَةِ بِهِ، انْشِغَالًا بِمَا هُوَ بِصَدَدِهِ، مَعَ الْغَبَرَةِ الَّتِي تَلْحَقُهُ مِنْ أَثَرِ السَّفَرِ وَوَعْثَائِهِ، وَهُوَ مَشْغُولٌ عَمَّا لَحِقَهُ مِنَ الشَّعَثِ وَالْغَبَرَةِ بِدُعَاءِ رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُقْبِلًا عَلَيْهِ، وَهَذَا أَيْضًا بِالْمَذَلَّةِ للهِ -جَلَّ وَعَلَا- مِنْ مَظِنَّةِ إِجَابَةِ دُعَاءِ الدَّاعِينَ.

((ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَر، يَمُدُّ يَدَيْهِ)): يَمُدُّ يَدَيْهِ:وَهَذَا مِنْ مَظِنَّةِ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ أَيْضًا.

 وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ حَيِّيٌّ كَرِيمٌ يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ أَنْ يَمُدَّ إِلَيْهِ يَدَيْهِ فَيَرُدَّهُمَا صِفْرًا)) . فَإِذَا مَدَّ يَدَيْهِ إِلَى رَبِّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَذَلِكَ حَرِيٌّ بِأَنْ يُجِيبَ اللهُ الْكَرِيمُ دُعَاءَهُ.

فَهُوَ ((يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ)): وَالرُّبُوبِيَّةُ بِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ أَحْرَى، فَيَذْكُرُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- دَاعِيًا إِيَّاهُ بِهَذَا الْوَصْفِ الْكَرِيمِ، وَبِهَذَا الِاسْمِ الْجَلِيلِ بِاسْمِ الرَّبِّ الثَّابِتِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

وَأَمَّا الْوَصْفُ الَّذِي انْطَوَى عَلَيْهِ الِاسْمُ، فَإِنَّ مَنْ نَادَى بِهِ حَرِيٌّ أَنْ يُجَابَ نِدَاؤُهُ، وَأَنْ يُغَاثَ إِذَا اسْتَغَاثَ، ((يَا رَبِّ يَا رَبِّ))، وَيُكَرِّرُ ذَلِكَ، وَهُوَ أَيْضًا مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ.

وَلَكِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَذْكُرُ أَمْرًا يَقْطَعُ الطَّرِيقَ عَلَى الْإِجَابَةِ: ((يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَقَدْ غُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟!)).

فَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ اسْتِبْعَادَ اسْتِجَابَةِ الدُّعَاءِ ((فَأَنَّى يُسْتَجَابَ لِذَلِكَ؟)): فَكَيْفَ يُسْتَجَابُ لِمَنْ هَذَا شَأْنُهُ وَهَذِهِ حَالُهُ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَدْعُو رَبَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذَاكِرًا إِيَّاهُ بِاسْمِهِ الْجَلِيلِ ((الرَّبُّ))، وَبِوَصْفِهِ الْعَظِيمِ الرُّبُوبِيَّةِ، وَهُوَ يُطِيلُ مَعَ ذَلِكَ السَّفَرَ، وَلَكِنَّهُ لَا يُسْتَجَابُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَى نَفْسِهِ فِي إِجَابَةِ رَبِّهِ دُعَاءَهُ؛ إِذْ أَتَى بِمَطْعَمٍ حَرَامٍ وَمَشْرَبٍ حَرَامٍ، وَمَلْبَسٍ حَرَامٍ، وَقَدْ غُذِيَ بِالْحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ.

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ قَوَاطِعِ إِجَابَةِ الدُّعَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمَرْءُ آكِلًا مِنْ حَرَامٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَخْبَرَ أَنَّ ((كُلَّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ)) ، وَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ اللَّحْمَ الَّذِي نَبَتَ مِنَ السُّحْتِ مُحَرَّمٌ عَلَى الْجَنَّةِ.

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَأْكُلُ مِنَ الْحَرَامِ، وَيَشْرَبُ مِنَ الْحَرَامِ، وَيَلْبَسُ مِنَ الْحَرَامِ، وَهَذَا يَكُونُ مِنْ كَسْبِهِ.

 وَغُذِيَ مِنَ الْحَرَامِ، فَيُغَذَّى وَيُطْعَمُ مِنْ كَسْبِ الْحَرَامِ مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا يَفْعَلُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُطْعِمُ أَهْلَهُ الْحَرَامَ، وَيَغْذُوهُمْ بِهِ، بَلْ وَيَتَخَلَّقُ جَنِينُ امْرَأَتِهِ فِي رَحِمِهَا مِنْ حَرَامٍ يَغْذُوهَا بِهِ، فَيَظَلُّ هَكَذَا مُغْتَذِيًا عَلَيْهِ، حَتَّى يَشُبَّ بَعْدُ، وَلَحْمُهُ كُلُّهُ مِنَ الْحَرَامِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((كُلَّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ)).

ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ -وَهُمَا الْغِذَاءُ-، قَالَ: ((وَغُذِيَ مِنْ حَرَامٍ)): فَأَفْرَدَ هَذَا نَاحِيَةً؛ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ أَوَّلًا يَكُونُ مِنْ كَسْبِ الْإِنْسَانِ، مَطْعَمُهُ مِنْ حَرَامٍ، وَمَشْرَبُهُ مِنْ حَرَامٍ بِكَسْبِهِ فِي تَحْصِيلِ الْحُرْمَةِ وَارْتِكَابِ الْجَرِيمَةِ، وَالْوُقُوعِ عَلَى مَا حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ تَحْصِيلًا وَكَسْبًا.

ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْبُطُونِ دَفْعًا، ثُمَّ يَقْطَعُ عَلَى نَفْسِهِ طَرِيقَ إِجَابَةِ دُعَائِهِ إِذَا دَعَا رَبَّهُ، وَلَوْ أَتَى بِكُلِّ آدَابِ الدُّعَاءِ كَمَا بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْعَظِيمِ.

فَإِنَّهُ مَعَ مَا أَتَى بِهِ مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ، وَمَا هُوَ مَظِنَّةُ الْإِجَابَةِ عِنْدَ التَّلَبُّسِ بِهِ، أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ أَنَّهُ لَا يُسْتَجَابُ لَهُ، بَلِ اسْتَبْعَدَ جِدًّا أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ، فَقَالَ: ((وَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟)) ﷺ.

فَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ الْكَسْبَ تَحْصِيلًا، وَالدَّفْعَ فِي الْبُطُونِ أَكْلًا وَشُرْبًا، ثُمَّ ذَكَرَ اِغْتِذَاءَ الْغَيْرِ عَلَى مَا حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ الْكَسْبِ الَّذِي لَمْ يُشْرَعْ، يُحَصِّلُهُ غَيْرُ مَنِ اغْتَذَى عَلَيْهِ، قَالَ: ((وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ)).

 وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى عِظَمِ الْجُرْمِ، وَعَظِيمِ الْإِثْمِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ مَنْ يَقَعُ عِنْدَمَا يَأْكُلُ مِنَ الْحَرَامِ، وَيَشْرَبُ مِنَ الْحَرَامِ، وَيَلْبَسُ مِنَ الْحَرَامِ، وَيُطْعِمُ الْمَرْأَةَ مِنَ الْحَرَامِ، وَيُخَلَّقُ الْجَنِينُ فِي الرَّحِمِ مِنَ الْحَرَامِ.

ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ عَلَى الثَّدْيِ رَاضِعًا لَبَانَ الْحَرَامِ، ثُمَّ يَشُبُّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَطْعَمٍ حَرَامٍ وَمَشْرَبٍ حَرَامٍ، ثُمَّ يَشْكُو النَّاسُ بَعْدُ مِنْ خَيْبَةِ الْأَوْلَادِ، وَمِنْ عَدَمِ اسْتِقَامَةِ الْمِنْهَاجِ، وَهُمْ أَوْلَادُ حَرَامٍ عَلَى هَذَا النَّحْوِ وَتِلْكَ الصِّفَةِ!! وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا.

 المصدر: المال الحرام وأثره المدمر على الفرد والمجتمع 

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  تَوَاضُعُ الصَّالِحِينَ وَعَدَمُ الِاغْتِرَارِ بِالنَّفْسِ
  الْمُؤَامَرَةُ عَلَى مِيَاهِ الْمِصْرِيِّينَ!!
  مِثَالٌ مَضْرُوبٌ فِي الْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ
  عِزُّ المُؤْمِنِ فِي اِسْتِغْنَائِهِ عَنِ النَّاسِ
  ثَمَرَاتُ رِعَايَةِ كِبَارِ السِّنِّ عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ
  النَّهْيُ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
  حَالُ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَتِلَاوَتِهِ
  الْمُسْلِمُونَ جَسَدٌ وَاحِدٌ
  عُذْرًا فِلَسْطِينَ!!
  لَا تَقْنَطُوا مَهْمَا اشْتَدَّتْ بِكُمُ الْمِحَنُ!
  الْوَطَنِيَّةُ فِي الْإِسْلَامِ
  دِينُ الْعَمَلِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ
  وَظِيفَةُ دِينِ اللهِ فِي الْحَيَاةِ
  قَبُولُ الْهَدِيَّةِ تِلْقَاءَ شَفَاعِتِكَ لِأَخِيكَ رِبَا؛ فَانْتَبِهْ!
  الْأَمْرُ بِالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان