«دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ»
«الدرس الخامس»
«الصِّدْقُ»
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
«لا يَقُومُ دينٌ ولا تَسْتَقِيمُ دُنْيَا إِلَّا بِالصِّدْقِ»
فإنه لا يَقُومُ دينٌ ولا تَسْتَقِيمُ دنيا إلا بالصدقِ، ولِعَظَمَةِ الصِّدْقِ وَجَلَالِهِ وحُسْنِهِ وَكَمَالِهِ؛ وَصَفَ اللهُ تعالى به نَفْسَهُ.
فَقَالَ سبحانه: ﴿قُلْ صَدَقَ اللَّـهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران: 95].
واللهُ تَعَالَى موصوفٌ بالصدقِ في ذَاتِهِ، وفي أقوالِهِ، وفي أفعالِهِ، وفي وَعْدِهِ، وفي وعيدِهِ، وفي أخبارِهِ، وفي شَرْعِهِ.
قالَ تعالى: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّـهِ حَدِيثًا﴾ [النساء: 87].
وقال تعالى: ﴿وَعْدَ اللَّـهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّـهِ قِيلًا﴾ [النساء: 122].
وَقَالَ تَعَالَى -بعد أنْ ذَكَرَ إرسالَ المُرْسَلِينَ-: ﴿ثُمَّ صَدَقناهُمُ الوَعدَ فَأَنجَيناهُم وَمَن نَشاءُ وَأَهلَكنَا المُسرِفينَ﴾ [الأنبياء: 9].
وقد وَصَفَ اللهُ النَّبيينَ بالصِّدْقِ، وَأَيَّدَهُم بالآياتِ البَيِّنَاتِ والمُعْجِزَاتِ البَاهِرَاتِ؛ ليكونَ ذلك بُرْهَانًا على صِدْقِهِم، وإقامةً للحُجَّةِ على مُكَذِّبِيهِم.
وقالَ تَعَالَى في الثناءِ على نَبِّيِهِ الخَاتَمِ ﷺ: ﴿بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ﴾ [الصافات: 37].
ووصف الله المؤمنين المتقين:
فقالَ تعالى -بعد أنْ ذَكَرَ جُمْلَةً مِن إيمانِهِم وأعمالِهِم-: ﴿أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة: 177].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّـهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب: 23].
وقال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّـهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ أُولَـئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحشر: 8].
وَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى المؤمنين بِتَقْوَاهُ، وأنْ يكونوا مع الصادقين، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَكونوا مَعَ الصّادِقينَ﴾ [التوبة: 119].
«مَعْنَى الصِّدْقِ»
قالَ العَلَّامَةُ الصَّالِحُ مُحَمَّد بن صالح -رَحِمَهُ اللهُ تعالى-: «والصِّدْقُ مَعْنَاهُ: مُطَابَقَةُ الخَبَرِ للواقعِ؛ هذا في الأصلِ، ويكونُ في الأخبارِ، فإذا أَخْبَرْتَ بشيءٍ وكان خَبَرُكَ مُطَابِقًا للواقعِ قَيلَ إنَّهُ صِدْقٌ، كأن تقولَ عن هذا اليوم: اليومُ يومُ الجُمُعَةِ، فهذا خَبَرٌ صِدْق؛ لأنَّ اليومَ يومُ الجُمُعَةِ، وإذا قُلْتَ اليومُ يومُ الاثنين، فهذا خَبَرٌ كَذِب، فالخَبَرُ إنْ طَابَقَ الوَاقِعَ فَهُوَ صِدْقٌ، وإنْ خَالَفَ الواقِعَ فهو كَذِبٌ.
وَكَمَا يكونُ الصِّدْقُ في الأقوالِ، يكونُ الصِّدْقُ أيضًا في الأفعالِ، فالصِّدْقُ في الأفعالِ هو أنْ يكونَ الإنسانُ باطِنُهُ مُوَافِقًا لِظَاهِرِهِ، بحيثُ إذا عَمِلَ عَمَلًا يكونُ مُوَافِقًا لِمَا في قَلْبِهِ، فَالمُرَائي مَثَلَا لَيْسَ بِصَادِقٍ؛ لأنه يُظْهِرُ للناسِ أنه مِن العَابِدِينَ وليس كذلك، والمُشْرِكُ مع اللهِ لَيْسَ بِصَادِقٍ؛ لأنه يُظْهِرُ أنه مُوَحِّدٌ وليس كذلك، والمُنافِقُ ليس بِصَادِقٍ، لأنه يُظْهِرُ الإيمانَ وليس بِمُؤمِنٍ، والمُبْتَدِعُ ليس بِصَادِقٍ؛ لأنه يُظْهِرُ الاتِّبَاعَ للرسولِ ﷺ وليس بِمُتَّبِعٍ.
المُهِمُّ أنَّ الصِّدْقَ: مُطَابَقَةُ الخَبَرِ للواقِعِ، وهو مِن سِمَاتِ المُؤمنين، وَمِن صِفَاتِهِم، وَعَكْسُهُ الكَذِبُ وهو مِن سِمَاتِ المُنَافِقِينَ وَمِن خِصَالِهِم».
قالَ ربُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ﴾ [الأحزاب:24].
فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾: فَدَلَّ ذلك على أنَّ الصِّدْقَ أَمْرُهُ عظيمٌ، وأنه مَحَلٌّ للجَزَاءِ مِنَ اللهِ –جَلَّ وَعَلَا-، إذنْ؛ عَلَيْنَا أنْ نَصْدُقَ، وعلينا أنْ نكونَ مِن الصَّادِقِينَ، وَعَلَيْنَا أنْ نَكونَ صُرَحَاءَ، عَلَيْنَا أنْ لا نُخْفِيَ الأمرَ عن غَيْرِنَا مُدَاهَنَةً وَمُرَاءَاةً.
فكثيرٌ مِنَ النَّاسِ إذا حَدَثَ له أمرٌ أو حَدَّثَ عن شيءٍ فَعَلَهُ وكان لا يُرْضِيهُ؛ كَذَبَ، وَقَالَ: مَا فَعَلْتُ!! لماذا؟!!
ينبغي عليك ألَّا تَسْتَحْيِيَ مِن الخَلْقِ، وألَّا تبارِزَ الخَالِقَ -جَلَّ وَعَلَا- بِالكَذِبِ، قُلِ الصِّدْقَ ولا تُبَالِ بِأَحَدٍ، وأنت إذا عَوَّدْتَ نَفْسَكَ الصِّدْقَ، فَإِنَّكَ في المُسْتَقْبَلِ سَوْفَ تُصْلِحُ حَالِكَ، أَمَّا إذا أَخْبَرْتَ بِالكَذِبِ وَصِرْتَ تَكْتُمُ عنِ النَّاسِ وَتَكْذِبُ عَلَيْهِم، فَإِنَّكَ سَوْفَ تَسْتَمِرُّ في غَيِّكَ، وَلَكِنْ إذا صَدَقْتَ؛ فَإِنَّكَ سوف تُعَدِّلُ مَسِيرَكَ وَمِنْهَاجَكَ.
فعليك بالصِّدْقِ فيما لك وفيما عليك؛ حتى تكونَ مع الصادقينَ الذين أَمَرَكَ اللهُ أنْ تَكُونَ مَعَهُم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة:119].
«الصِّدْقُ طَرِيقٌ إلى الجَنَّةِ»
عن عبد الله بن مسعود -رضي الله تعالى عنه- عن النبي ﷺ قال: «إِنَّ الصَّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ ليصْدُقُ حَتَّى يُكتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا، وإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفجُورِ، وَإِنَّ الفجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا». والحديثُ في «الصَّحِيحَيْنِ».
عَلَيْكُم بِالصِّدْقِ؛ أي: الْزَمُوا الصِّدْقَ، والصِّدْقُ: مُطَابَقَةُ الخَبَرِ للوَاقِعِ.
والخَبَرُ يكونُ بِاللسِانِ ويكونُ بالأركانِ:
1- أمَّا بِاللسانِ: فهو القَوْلُ.
2-وَأَمَّا بالأركانِ: فهو الفِعْلُ.
وَلَكِن كيف يَكُونُ الكَذِبُ بِالفِعْلِ؟
إذا فَعَلَ الإنسانُ خِلَافَ مَا يُبْطِنُ؛ فهذا قد كَذَبَ بِفِعْلِهِ، فَالمُنَافِقُ مَثَلاً كَاذِبٌ لأنَّهُ يُظْهِرُ للناسِ أنه مؤمنٌ، يُصَلِّي مع النَّاسِ، ويصومُ مع النَّاسِ، وَيَتَصَدَّقُ ولكنَّهُ بَخِيلٌ، وَرُبَّمَا يَحُجُّ، فَمَن رَأَى أَفْعَالَهُ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالصَّلَاحِ، وَلَكِنَّ هذه الأَفْعَالَ لا تُنْبِئُ عَمَّا في البَاطِنِ؛ فَهِيَ كَذِبٌ.
ولهذا يُقالُ: الصِّدْقُ يَكُونُ بِاللسانِ ويكونُ بالأركانِ، فَمَتَى طَابَقَ الخَبَرُ الوَاقِعَ فهو صِدْقٌ باللسانِ، وَمَتَى طَابَقَت أَعْمَالُ الجَوَارِحِ ما في القَلْبِ فهي صِدْقٌ بِالأَفْعَالِ.
ثُمَّ بَيَّنَ النبيُّ ﷺ عندما أَمَرَ بِالصِّدْقِ؛ بَيَّنَ عَاقِبَتَهُ، فَقَالَ ﷺ: «إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ».
البرُّ: كَثْرَةُ الخَيْرِ، وَمِنْهُ مِن أَسْمَاءِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: البَرُّ: أي كَثِيرُ الخَيْرِ والإحسانِ -عَزَّ وَجَلَّ-.
فالبِرُّ: يعني كَثْرَةَ الخَيْرِ، وهو مِن نَتَائِجِ الصِّدْقِ، وقولُهُ ﷺ: «وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ»، فَصَاحِبُ البِرِّ يَهْدِيهُ بِرُّهُ إلى الجَنَّةِ، والجَنَّةُ غَايَةُ كلِّ مَطْلَبٍ، ولهذا يُؤْمَرُ الإنسانُ أنْ يَسْألَ اللهَ الجَنَّةَ وَيَسْتَعِيذَ به مِن النَّارِ ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185].
وقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «وَإِنَّ الرَّجُلَ ليصْدُقُ حَتَّى يُكتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا»، وفي روايةٍ: «وَلَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا».
والصِدِّيقُ في المَرْتَبَةِ الثَّانِيَةِ مِن مَرَاتِبِ الخَلْقِ مِنَ الذينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم، كَمَا قالَ اللهُ –جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾ [النساء: 69]، فالرَّجُلُ الذي يَتَحَرَّى الصِّدْقَ يُكْتَبُ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا.
ومَعْلُومٌ أن الصِّدِّيقِيَّة دَرَجَةٌ عَظِيمَةٌ لا يَنَالَهَا إلَّا الأفْذَاذُ مِنَ النَّاسِ، وتَكُونُ الصِّدِّيقِيَّة في الرِّجَالِ وتَكُونُ في النِّسَاءِ، قَالَ اللهُ –جَلَّ وَعَلَا-: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾ [المائدة: 75].
وأَفْضَلُ الصَّدِّيقينَ في هذهِ الأُمَّةِ على الإطلاقِ بَعْدَ نَبِيِّهَا أَصْدُقُهم، وهو أُبو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: عبد الله بن عثمان بن أبي قحافة، الذي اسْتَجَابَ للنبيِّ ﷺ حين دَعَاهُ إلى الإسلامِ، ولم يَحْصُل عندَهُ أيُّ تَرَدُّدٍ وأيُّ تَوَقُّفٍ.
فَبَمُجَرَّدِ مَا دَعَاهُ الرسولُ ﷺ إلى الإسلامِ؛ أَسْلَمَ، وَصَدَّقَ النبيَّ ﷺ حينَ كَذَّبَهُ قَوْمُهُ، وَصَدَّقَ النبيَّ ﷺ حين أَخْبَرَ عن الإسراءِ والمِعْرَاجِ، وَكَذَّبَهُ النَّاسُ، وقالوا: كيف تذهبُ يا مُحَمَّدُ مِن مَكَّةَ إلى بَيْتِ المَقْدِسِ وَتَرْجِعُ في لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ تَقُولُ: إنكَ صَعِدْتَ إلى السَّمَاءِ؟
فهذا لا يُمْكِنُ، ثُمَّ ذَهَبُوا إلى أبي بَكْرٍ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- وَقَالُوا له: أَمَا تَسْمَعُ ما يقولُ صَاحِبُكَ؟
قال: وَمَاذَا قَالَ؟
قالوا: إنه قَالَ كذا وكذا.
فَقَالَ الصِّدِيقُ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنه-: إنْ كانَ قَالَ؛ فَقَدْ صَدَقَ.
فَمُنْذُ ذَلِكَ اليوم سُمِّيَ بالصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى وَتَبَارَكَ عَنْهُ-.
«تَحْذِيرُ النَّبِيِّ ﷺ مِن الكَذِبِ»
وأمَّا الكَذِبُ فَإِنَّ النبيَّ ﷺ حَذَّرَ مِنْهُ، فَقَالَ: «وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ».
إيَّاكُم: للتَّحْذِيرِ؛ أي: احْذَرُوا الكَذِبَ، والكَذِبُ هو الإخبارُ بِمَا يُخَالِفُ الوَاقِعَ، سَوَاءٌ كانَ ذَلِكَ بِالقَوْلِ أو بِالفِعْلِ، فَالمُنَافِقُ نِفَاقًا أَكْبَرَ، الذي يُظْهِرُ الإسلامَ ويُبْطِنُ الكُفْرَ- كَاذِبٌ؛ لأنَّ ظَاهِرَهُ يَدُلُّ على أنه مُسْلِمٌ وهو كَافِرٌ، فهو كَاذِبٌ بِفِعْلِهِ.
وقَوْلُهُ ﷺ: «وَإِنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الفُجُورِ».
الفُجُورُ: الخروجُ عن طاعةِ اللهِ؛ لأنَّ الإنسانَ يَفْسُقُ وَيَتَعَدَّى طَوْرَهُ ويَخْرُجُ عن طاعةِ اللهِ تعالى إلى معصيتِهِ، وَأَعْظَمُ الفُجُورِ الكُفْرُ -عِيَاذًا بِاللهِ وَلِيَاذًا بِجَنَابِهِ الرَّفِيعِ-، فَإِنَّ الكَفَرَةَ فَجَرَةٌ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ﴾ [عبس:42].
وقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ [المطففين : 7 ـ 11].
وقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ [الانفطار:14].
فَالكَذِبُ يَهْدِي إلى الفُجُورِ، والفُجُورُ يَهْدِي إلى النَّارِ -نَعُوذُ بِاللهِ تَعَالَى مِنْهَا-، وقَوْلُ النبيِّ ﷺ: «وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ»، وفي لَفْظِ مُسْلِمٍ: «لَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كذَّابًا»، وَالكَذِبُ مِنَ الأُمُورِ المُحَرَّمَةِ، بَل هو مِن كَبَائِرِ الذنوبِ؛ لأنَّ الرسولَ ﷺ تَوَعَّدَ الكَذَّابَ بِأَنَّهُ يُكْتَبُ عِنْدَ اللهِ كذَّابًا.
وَمِن أَعْظَمِ الكَذِبِ:
مَا يَفْعَلهُ بَعْضُ النَّاسِ اليوم، يأتي بِالمَقَالَةِ كَاذِبًا يَعْلَمُ أَنَّهَا كَذِبٌ، لَكِن مِن أَجْلِ أنْ يُضْحِكَ النَّاسَ، وَقَد جَاءَ في الحديثِ الوعيدُ على هذا، فَقَد قَالَ النبيُّ ﷺ: «وَيْلٌ لِلَّذِي يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضْحِكَ بِهِ القَوْمَ، وَيْلٌ لَهُ، وَيْلٌ لَهُ». أَخْرَجَهُ أبو داود بإسنادٍ حَسَنٍ.
وهذا وَعِيدٌ عَلَى أَمْرٍ سَهْلٍ عند كثيرٍ مِن النَّاسِ، يأتي بِالكَذِبَةِ وَيُلْقِي بِالكَلِمَةِ مِن أَجْلِ أنْ يُضْحِكَ بِهَا جُلَسَاءَهُ، يَكْتُبُ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ سَخَطَهُ إلى يومِ يَلْقَاهُ، كَمَا قَالَ رسولُ اللهِ ﷺ، فَالكَذِبُ كُلُّهُ حَرَامٌ، ولو كان مِن أَجْلِ هَذَا الذي مَرَّ؛ أي: مِن أَجْلِ أنْ يُضْحِكَ النَّاسَ، الكَذِبُ كلُّهُ حَرَامٌ، وَكُلُّهُ يَهْدِي إلى الفُجُورِ، ولا يُسْتَثْنَى مِنْهُ شَيْءٌ.
فَالكَذِبُ يَكُونُ في القَلْبِ ويَكُونُ في اللسَانِ ويَكونُ في الجَوَارِحِ، يَكُونُ في الأَقْوَالِ وَيَكُونُ في الأَعْمَالِ وَيَكُونُ في الأَحْوَالِ، تَمَامًا كالصِّدْقِ، يَكُونُ في القَلْبِ، وَيَكُونُ في اللسَانِ، وَيَكُونُ في الجَوَارِحِ، يَكُونُ في الأَقْوَالِ وَيَكُونُ في الأَعْمَالِ وَيَكُونُ في الأَحْوَالِ كَذَلِكَ.
فَنَسْأَلُ اللهَ –تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَنَا مَعَ الصَّادِقِينَ وَأَنْ يُجَنِّبنَا الكَذِبَ وَأَهْلَهُ، إِنَّهُ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٍ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
المصدر:دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ