((مَبْنَى الشَّرِيعَةِ عَلَى مَصَالِحِ الْأَفْرَادِ وَالْمُجْتَمَعَاتِ))
إِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا عَلَى الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ.
وَالشَّرِيعَةُ عَدْلٌ كُلُّهَا، وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا، وَمَصَالِحُ كُلُّهَا، وَحِكْمَةٌ كُلُّهَا، فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ خَرَجَتْ عَنِ الْعَدْلِ إِلَى الْجَوْرِ، وَعَنِ الرَّحْمَةِ إِلَى ضِدِّهَا، وَعَنِ الْمَصْلَحَةِ إِلَى الْمَفْسَدَةِ، وَعَنِ الْحِكْمَةِ إِلَى الْعَبَثِ؛ فَلَيْسَتْ مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ أُدْخِلَتْ فِيهَا بِالتَّأْوِيلِ.
فَالشَّرِيعَةُ عَدْلُ اللهِ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَرَحْمَتُهُ بَيْنَ خَلْقِهِ، وَحِكْمَتُهُ الدَّالَّةُ عَلَيْهِ، وَعَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ ﷺ أَتَمَّ دَلَالَةٍ وَأَصْدَقَهَا.
وَهِيَ نُورُهُ الَّذِي بِهِ أَبْصَرَ الْمُبْصِرُونَ، وَهُدَاهُ الَّذِي بِهِ اهْتَدَى الْمُهْتَدُونَ، وَشِفَاؤُهُ التَّامُّ الَّذِي بِهِ دَوَاءُ كُلِّ عَلِيلٍ، وَطَرِيقُهُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي مَنِ اسْتَقَامَ عَلَيْهِ فَقَدِ اسْتَقَامَ عَلَى سَوَاءِ السَّبِيلِ.
وَكُلُّ خَيْرٍ فِي الْوُجُودِ فَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ وَحَاصِلٌ بِهَا، وَكُلُّ نَقْصٍ فِي الْوُجُودِ فَسَبَبُهُ مِنْ إِضَاعَتِهَا وَتَضْيِيعِهَا.
*مَعْنَى الْمَصْلَحَةِ لُغَةً وَشَرْعًا:
«وَالْمَصْلَحَةُ فِي اللُّغَةِ: كَالْمَنْفَعَةِ وَزْنًا وَمَعْنًى، مَصْلَحَةٌ: مَنْفَعَةٌ.
وَالْمَصْلَحَةُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الصَّلَاحِ، كَالْمَنْفَعَةِ بِمَعْنَى النَّفْعِ، أَوِ الْمَصْلَحَةُ هِيَ لِلْوَاحِدَةِ مِنَ الْمَصَالِحِ.
قَالَ فِي ((اللِّسَانِ)): ((وَالْمَصْلَحَةُ: الصَّلَاحُ، وَالْمَصْلَحَةُ: وَاحِدَةُ الْمَصَالِحِ)).
فَكُلُّ مَا كَانَ فِيهِ نَفْعٌ سَوَاءٌ كَانَ بِالْجَلْبِ وَالتَّحْصِيلِ كَتَحْصِيلِ الْفَوَائِدِ وَاللَّذَائِذِ، أَوْ بِالدَّفْعِ وَالِاتِّقَاءِ كَاسْتِبْعَادِ الْمَضَارِّ وَالْآلَامِ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يُسَمَّى مَصْلَحَةً.
وَالْمُصْطَلَحُ فِيمَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ يُمْكِنُ أَنْ تُعَرَّفَ بِمَا يَلِي: «الْمَنْفَعَةُ الَّتِي قَصَدَهَا الشَّارِعُ الْحَكِيمُ لِعِبَادِهِ؛ مِنْ حِفْظِ دِينِهِمْ، وَنُفُوسِهِمْ، وَعُقُولِهِمْ، وَنَسْلِهِمْ، وَأَمْوَالِهِمْ -وَهِيَ الضَّرُورَاتُ الْخَمْسُ-، طِبْقَ تَرْتِيبٍ مُعَيَّنٍ فِيمَا بَيْنَهَا))
.
وَالْمَصَالِحُ الْمُعْتَبَرَةُ: هِيَ الْمَصَالِحُ الْحَقِيقِيَّةُ، وَهِيَ تَرْجِعُ إِلَى الْأُمُورِ الْخَمْسَةِ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ:
*حِفْظُ الدِّينِ.
*وَحِفْظُ النَّفْسِ.
*وَحِفْظُ الْعَقْلِ.
*وَحِفْظُ النَّسْلِ.
*وَحِفْظُ الْمَالِ.
لِأَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ الْخَمْسَةَ بِهَا قِوَامُ الدُّنْيَا الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا الْإِنْسَانُ، وَلَا يَحْيَا حَيَاةً تَلِيقُ بِهِ إِلَّا بِهَا.
فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الدِّينِ تَكُونُ بِمَنْعِ الْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ، وَبِمَنْعِ الضَّلَالِ، وَبِمَنْعِ إِثَارَةِ الْأَهْوَاءِ وَالْمَفَاسِدِ.
وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى النَّفْسِ: هِيَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى حَقِّ الْحَيَاةِ الْعَزِيزَةِ الْكَرِيمَةِ، وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهَا الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْحَيَاةِ، وَعَلَى الْكَرَامَةِ الْإِنْسَانِيَّةِ.
وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الْعَقْلِ: هِيَ حِفْظُهُ مِنْ أَنْ تَنَالَهُ آفَةٌ تَجْعَلُ صَاحِبَهُ مَصْدَرَ شَرٍّ وَأَذًى لِنَفْسِهِ وَلِلنَّاسِ أَوْ عِبْئًا عَلَى مُجْتَمَعِهِ.
وَعَمَلُ الشَّارِعُ مُتَوَجِّهٌ إِلَى كُلِّ مَا يُنَمِّي الْعَقْلَ وَيَحْفَظُهُ مِنَ الْآفَاتِ.
وَتَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَكُلِّ الْمُخَدِّرَاتِ كَانَ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى الْعَقْلِ وَلِصِيَانَتِهِ.
وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى النَّسْلِ: هِيَ الْمُحَافَظَةُ عَلَى النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ؛ بِحَيْثُ يَنْشَأُ قَوِيًّا فِي خَلْقِهِ وَخُلُقِهِ، وَمَشَاعِرِهِ، وَمَوَاهِبِهِ، وَدِينِهِ، وَذَلِكَ بِتَنْظِيمِ الْعَلَاقَاتِ الْأُسَرِيَّةِ؛ لِيَتَرَبَّى الْأَوْلَادُ فِيهَا، وَيَنْعَمُوا بِالْحَيَاةِ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ، وَبِالْأُمُومَةِ الَّتِي تَتَغَذَّى مِنْهَا الْعَوَاطِفُ، وَتَكْتَمِلُ بِهَا الْمَدَارِجُ؛ فَيَنْشَأُ الْمُسْلِمُ سَوِيًّا لَا عِوَجَ فِيهِ.
وَتَحْرِيمُ الزِّنَا وَالْفَوَاحِشِ كَانَ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى النَّسْلِ وَحِيَاطَتِهِ.
وَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الْمَالِ تَكُونُ بِالسَّعْيِ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ، وَتَنْمِيَةِ الْمَالِ مِنَ الطَّرِيقِ الْحَلَالِ الَّتِي تُتَبَادَلُ فِيهِ الْمَنَافِعُ مِنْ غَيْرِ ظُلْمٍ وَلَا جَوْرٍ.
وَمَا حَدُّ السَّرَقَةِ، وَتَحْرِيمُ الرِّبَا وَالرِّشْوَةِ وَالْغَصْبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ إِلَّا مِنْ أَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الْمَالِ، وَدَرْءِ الضَّرَرِ عَنْهُ.
فَالْمَصَالِحُ الَّتِي شَرَعَ الشَّارِعُ أَحْكَامًا لِتَحْقِيقِهَا، وَدَلَّ عَلَى اعْتِبَارِهَا عِلَلًا لِمَا شَرَعَهُ تُسَمَّى فِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ ((الْمَصَالِحَ الْمُعْتَبَرَةَ)) مِنَ الشَّارِعِ؛ مِثْلُ: حِفْظِ حَيَاةِ النَّاسِ، شَرَعَ الشَّارِعُ لَهُ إِيجَابَ الْقِصَاصِ مِنَ الْقَاتِلِ الْعَامِدِ.
وَحِفْظُ مَالِهِمُ الَّذِي شُرِعَ لَهُ حَدُّ السَّرِقَةِ.
وَحِفْظُ عِرْضِهِمُ الَّذِي شُرِعَ لَهُ حَدُّ الْقَذْفِ وَحَدُّ الزِّنَا.
وَكُلٌّ مِنَ الْقَتْلِ الْعَمْدِ، وَالسَّرِقَةِ، وَالْقَذْفِ، وَالزِّنَا وَصْفٌ مُنَاسِبٌ، أَيْ: إِنَّ تَشْرِيعَ الْحُكْمِ بِنَاءً عَلَيْهِ يُحَقِّقُ مَصْلَحَةً، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ مِنَ الشَّارِعِ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ بِنَى الْحُكْمَ عَلَيْهِ، وَهَذَا الْمُنَاسِبُ الْمُعْتَبَرُ مِنَ الشَّارِعِ: إِمَّا مُنَاسِبٌ مُؤَثِّرٌ، وَإِمَّا مُنَاسِبٌ مُلَائِمٌ عَلَى حَسَبِ اعْتِبَارِ الشَّارِعِ لَهُ.
وَمِنَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ بَيْنَ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ مَا شَرَعَ حُكْمًا إِلَّا لِمَصْلَحَةِ عِبَادِهِ، وَأَنَّ هَذِهِ الْمَصْلَحَةَ إِمَّا جَلْبُ نَفْعٍ لَهُمْ، وَإِمَّا دَفْعُ ضَرَرٍ عَنْهُمْ.
فَالْبَاعِثُ عَلَى تَشْرِيعِ أَيِّ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ هِيَ: جَلْبُ مَنْفَعَةٍ لِلنَّاسِ أَوْ دَفْعُ ضَرَرٍ عَنْهُمْ.
وَهَذَا الْبَاعِثُ عَلَى تَشْرِيعِ الْحُكْمِ هُوَ الْغَايَةُ مِنْ تَشْرِيعِهِ، وَهُوَ حِكْمَةُ الْحُكْمِ.
المصدر:تَقْدِيمُ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ عَلَى الْخَاصَّةِ وَأَثَرُهَا فِي اسْتِقْرَارِ الْمُجْتَمَعَاتِ وَبِنَاءِ الدُّوَلِ