((مَحَبَّةُ الْأَنْبِيَاءِ لِأَوْطَانِهِمْ))
عِبَادَ اللهِ! النَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَكُنْ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ فِي حُبِّهِ لِوَطَنِهِ؛ فَقَدْ قَالَ -تَعَالَى- عَنْ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا} [مريم: 49].
قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((لَمَّا كَانَتْ مُفَارَقَةُ الْإِنْسَانِ وَطَنَهُ وَمَأْلَفَهُ وَأَهْلَهُ وَقَوْمَهُ مِنْ أَشَقِّ شَيْءٍ عَلَى النَّفْسِ لِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ مَعْرُوفَةٍ، وَمِنْهَا انْفِرَادُهُ عَمَّنْ يَتَعَزَّزُ بِهِمْ وَيَتَكَثَّرُ، وَكَانَ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا للهِ عَوَّضَهُ اللهُ خَيْرًا مِنْهُ، وَاعْتَزَلَ إِبْرَاهِيمُ قَوْمَهُ، قَالَ اللهُ -تَعَالَى- فِي حَقِّهِ: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ۖ وَكُلًّا} مِنْ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ {جَعَلْنَا نَبِيًّا}؛ فَحَصَلَ لَهُ هِبَةُ هَؤُلَاءِ الصَّالِحِينَ الْمُرْسَلِينَ إِلَى النَّاسِ، الَّذِينَ خَصَّهُمُ اللهُ بِوَحْيِهِ، وَاخْتَارَهُمْ لِرِسَالَتِهِ، وَاصْطَفَاهُمْ مِنَ الْعَالَمِينَ)).
فَعَوَّضَ اللهُ الْخَلِيلَ إِبْرَاهِيمَ ﷺ هَذَا الْخَيْرَ الْعَمِيمَ عَنْ مُفَارَقَةِ قَوْمِهِ, وَاعْتِزَالِهِ إِيَّاهُمْ بِكُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ.
وَمِنْ حَنِينِ الْإِنْسَانِ إِلَى بَلَدِهِ أَنَّهُ إِذَا غَابَ عَنْهَا وَقَدِمَ عَلَيْهِ شَخْصٌ مِنْهَا سَأَلَهُ عَنْهَا يَتَلَمَّسُ أَخْبَارَهَا, وَهَذَا كَلِيمُ اللهِ مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حَنَّ إِلَى وَطَنِهِ بَعْدَ أَنْ خَرَجَ مِنْهُ مُجْبَرًا, قَالَ تَعَالَى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ} [القصص: 29].
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي ((أَحْكَامِ الْقُرْآنِ)): ((قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ طَلَبَ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ وَحَنَّ إِلَى وَطَنِهِ, وَفِي الرُّجُوعِ إِلَى الْأَوْطَانِ تُقْتَحَمُ الْأَغْرَارُ، وَتُرْكَبُ الْأَخْطَارُ، وَتُعَلَّلُ الْخَوَاطِرُ، وَيَقُولُ: لَمَّا طَالَتِ الْمُدَّةُ لَعَلَّهُ قَدْ نُسِيَتِ التُّهْمَةُ وَبَلِيَتِ الْقِصَّةُ)).
وَهَذِهِ الْمَعَانِي الْكَبِيرَةُ تُوجَدُ دَاخِلَنَا, وَتَظْهَرُ أَقْوَى مَا تَكُونُ فِي صُوَرٍ..
الصُّورَةُ الْأُولَى: إِذَا سَافَرَ الْإِنْسَانُ مِنَّا؛ فَإِنَّنَا مَهْمَا ذَهَبْنَا إِلَى أَرْضٍ هِيَ أَجْمَلُ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ أَغْنَى مِنْ أَرْضِنَا، فَإِنَّ مَشَاعِرَ الْحُبِّ لِلْوَطَنِ يَنْفَدُ صَبْرُهَا عَنِ الْكِتْمَانِ, فَتَبُوحُ بِالْحَنِينِ إِلَى الْوَطَنِ, وَالتَّشَوُّقِ إِلَيْهِ فِي عِبَارَاتٍ يَتْلُوهَا الْإِنْسَانُ أَوْ دُمُوعٍ تَذْرِفُهَا الْعَيْنَانِ, وَهَذَا مِنْ عَلَامَةِ كَمَالِ الْعَقْلِ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((مِنْ أَمَارَةِ الْعَاقِلِ: بِرُّهُ بِإِخْوَانِهِ، وَحَنِينُهُ إِلَى أَوْطَانِهِ، وَمُدَارَاتُهُ لِأَهْلِ زَمَانِهِ)).
قَالَ أَعْرَابِيٌّ يَتَشَوَّقُ إِلَى وَطَنِهِ:
ذَكَرْتُ بِلَادِي فَاسْتَهَلَّتْ مَدَامِعِي=بِشَوْقِي إِلَى عَهْدِ الصِّبَا الْمُتَقَادِمِ
حَنَنْتُ إِلَى أَرْضٍ بِهَا اخْضَرَّ شَارِبِي=وَحُلَّتْ بِهَا عَنِّي عُقُودُ التَّمَائِمِ
وَالتَّمَائِمُ: جَمْعُ تَمِيمَةٍ؛ وَهِيَ خَرَزَاتٌ كَانَتِ الْعَرَبُ تُعَلِّقُهَا عَلَى صِبْيَانِهَا يَتَّقُونَ بِهَا الْعَيْنَ -فِي زَعْمِهِمْ- فَأَبْطَلَهَا الْإِسْلَامُ, فَهَذَا يَذْكُرُ مَا كَانَ.
أَخَذَ ابْنُ الرُّومِيِّ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ فَقَالَ:
بَلَدٌ صَحِبْتُ بِهِ الشَّبِيبَةَ وَالصِّبَا=وَلَبِسْتُ فِيهِ الْعَيْشَ وَهْوَ جَدِيدُ
فَإِذَا تَمَثَّلَ فِي الضَّمِيرِ رَأَيْتُهُ=وَعَلَيْهِ أَفْنَانُ الشَّبَابِ تَمِيدُ
فَتَأَمَّلْ أَحْكَامًا شَرْعِيَّةً عَلَّلَهَا الْعُلَمَاءُ -رَحِمَهُمُ اللهُ- لِكَوْنِهَا شُرِعَتْ لِأَجْلِ مَا فِي مُفَارَقَةِ الْوَطَنِ مِنَ الشِّدَّةِ عَلَى النَّفْسِ.
فَالتَّعْزِيرُ -مَثَلًا- قَدْ يَكُونُ بِالنَّفْيِ عَنِ الْوَطَنِ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَالنَّفْسُ تَحِنُّ إِلَى الْوَطَنِ إِلَّا إِذَا اعْتَقَدَ تَحْرِيمَ الْمُقَامِ بِهِ, أَوْ أَنَّهُ مَضَرَّةٌ دُنْيَوِيَّةٌ)).
وَأَيْضًا ذَكَرُوا فِي بَابِ الْإِكْرَاهِ: ((أَنَّ مَنْ خُوِّفَ بِالنَّفْيِ عَنِ الْبَلَدِ فَذَلِكَ إِكْرَاهٌ؛ لِأَنَّ مُفَارَقَةَ الْوَطَنِ شَدِيدَةٌ)). ذَكَرَ ذَلِكَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-.
وَفِي حَدِّ الْحِرَابَةِ؛ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} [المائدة: 33]؛ أَيْ: يُخْرَجُونَ مِنْ وَطَنِهِمْ وَعَشِيرَتِهِمْ.
قَالَ: يَكْفِيهِ مُفَارَقَةُ الْوَطَنِ وَالْعَشِيرَةِ خِذْلَانًا وَذِلَّةً؛ فَكُلُّ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ التَّعْزِيرُ بِتَرْكِ وَطَنِهِ, أَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْإِكْرَاهُ بِتَرْكِ وَطَنِهِ؛ كُلُّ هَؤُلَاءِ يَتَمَنَّوْنَ الرُّجُوعَ إِلَى الْوَطَنِ.
فَالَّذِي يَخْرُجُ مِنَ الْوَطَنِ سَوَاءٌ كَانَ لِسَفَرٍ بِاخْتِيَارِهِ أَوْ خَرَجَ مُرْغَمًا؛ فَإِنَّهُ يَتَمَنَّى الرُّجُوعَ إِلَيْهِ, وَيَتَأَلَّمُ بِالْبُعْدِ عَنْهُ, فَفِي حَالِ الْخُرُوجِ بِأَيِّ صِفَةٍ مِنَ الصِّفَاتِ يَثُورُ التَّعَلُّقُ الْعَاطِفِيُّ بِالْبَلَدِ؛ وَهَذَا أَمْرٌ مُشَاهَدٌ, أَمْرٌ يَعْرِفُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا مِنْ نَفْسِهِ وَلَا يَحْتَاجُ إِلَى تَأْكِيدٍ.
وَالصُّورَةُ الْأُخْرَى الَّتِي تَظْهَرُ أَقْوَى مَا تَكُونُ لِأَنَّهَا مُسْتَقِرَّةٌ دَاخِلَنَا: أَنَّهُ إِذَا مُسَّتْ بَلَدُكَ بِسُوءٍ صَغِيرًا كَانَ هَذَا السُّوءُ أَوْ كَبِيرًا -مَثَلًا إِذَا سَبَّهَا أَحَدٌ-؛ تَحَرَّكَتْ فِيكَ مَشَاعِرُ الْحُبِّ فَدَافَعْتَ عَنْهَا.
وَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهَا احْتِلَالٌ أَوْ عَبَثَ بِأَمْنِهَا مُفْسِدٌ؛ فَهُنَا تَتَفَجَّرُ جَمِيعُ الْمَشَاعِرِ الْكَامِنَةِ فِيكَ، فَلَا تَرَى نَفْسَكَ الْغَالِيَةَ إِلَّا بِأَرْخَصِ عُهُودِهَا، تَجُودُ بِهَا, تَحْمِلُهَا عَلَى رَاحَتَيْكَ لَعَلَّ وَطَنَكَ الْإِسْلَامِيَّ لَا يُصَابُ بِأَذًى, وَلَا يَغْصِبُهُ مُغْتَصِبٌ؛ وَفِي هَذَا يَقُولُ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة: 190]
وَهَذَا أَمْرٌ مَضَى عَلَيْهِ النَّاسُ قَدِيمًا وَحَدِيثًا.
وَفِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ يَقُولُ ابْنُ قَيْسٍ الرُّقَيَّاتِ فِي مَدْحِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أَوْ مَدْحِ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزُّبَيْرِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-:
إِنَّ الْبِلَادَ سِوَى بِلَا=دِكَ ضَاقَ عَرْضُ فَضَائِهَا
فَاجْمَعْ بَنِيَّ إِلَى بَنِيـ=ـكَ فَأَنْتَ خَيْرُ رِعَائِهَا
نُشْهِدْكَ مِنَّا مَشْهَدًا=ضَنْكًا عَلَى أَعْدَائِهَا
نَحْنُ الْفَوَارِسُ مِنْ قُرَيْـ=ـشٍ يَوْمَ جِدِّ لِقَائِهَا
فَانْظُرْ إِلَى التَّضْحِيَةِ الْعَظِيمَةِ بِبَذْلِ النَّفْسِ وَالْأَوْلَادِ فِي سَبِيلِ الدِّفَاعِ عَنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ.
فَهَذِهِ بَعْضُ الصُّوَرِ الَّتِي تَظْهَرُ مِنْ خِلَالِهَا مَشَاعِرُ الْحُبِّ لِلْوَطَنِ فِي صِدْقٍ وَوُضُوحٍ وَجَلَاءٍ، وَهُنَاكَ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ كُلُّهَا تَشْهَدُ بِأَنَّ حُبَّ الْوَطَنِ مِنَ الْإِيمَانِ.
المصدر:الْبِرُّ بِالْأَوْطَانِ مِنْ شَمَائِلِ الْإِيمَانِ