الدُّرُوسُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ


 الدُّرُوسُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ

*أَعْظَمُ دَرْسٍ مِنْ خُطْبَةِ الْوَدَاعِ: اضْمِحْلَالُ الشِّرْكِ، وَرَفْعُ رَايَةِ التَّوْحِيدِ:

النَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَحُجَّ إِلَّا حَجَّةً وَاحِدَةً، وَقَدْ قَدَّمَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيْنَ هَذِهِ الْحَجَّةِ الْعَظِيمَةِ الْأَذَانَ مِنْهُ -جَلَّ وَعَلَا- بِأَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ، وَالْمُؤْمِنُونَ يَبْرَؤُونَ وَيَتَبَرَّؤُونَ مِمَّنْ تَبَرَّأَ مِنْهُمُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-، وَمِمَّنْ بَرِئَ مِنْهُمْ رَسُولُ اللهِ ﷺ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ فِي تَلْكَ الْحَجَّةِ أَعْلَنَ اضْمِحْلَالَ الشِّرْكِ فِي هَذَا الْوُجُودِ، وَأَعْلَنَ ﷺ رَفْعَ رَايَةِ التَّوْحِيدِ.

وَحَضَّ النَّبِيُّ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْفِعْلِ وَبِالْقَوْلِ عَلَى اجْتِمَاعِ الْأُمَّةِ، وَحَذَّرَ مِنْ تَفْرِقَةِ صُفُوفِهَا وَأَبْنَائِهَا، فَإِنَّ أَعْظَمَ مَظْهَرٍ يَتَجَلَّى فِيهِ وَحْدَةُ الْمُسْلِمِينَ وَاجْتِمَاعُهُمْ مَا يَكُونُ مِنَ اجْتِمَاعِهِمْ فِي صَعِيدِ عَرَفَاتٍ فِي يَوْمِ عَرَفَاتٍ.

فَهَذَا مَظْهَرٌ عَمَلِيٌّ صَارِخٌ وَدَامِغٌ لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يُفَرِّقَ هَذِهِ الْأُمَّةَ، وَأَنْ يُشَتِّتَ جُهُودَ أَبْنَائِهَا.

وَالنَّبِيُّ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ دَلَّ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا مُوَدِّعًا لِلْأُمَّةِ، وَمُرْسِيًا لِلْأُسُسِ وَالْقَوَاعِدِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يَكْفُلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْأُمَّةِ -إِنْ تَمَسَّكَتْ بِهَا- عِزَّهَا وَمَجْدَهَا، وَظُهُورَهَا وَارْتِفَاعَهَا.

فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ لِبِلَالٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((اسْتَنْصِتْ لِيَ النَّاسَ)). حَتَّى إِذَا مَا أَنْصَتُوا، وَقَدْ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَ الْآيَاتِ فِي ذَلِكَ الْجَمْعِ؛ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُسْمَعُ صَوْتُهُ فِي الْمَوْقِفِ كُلِّهِ، فَكَانَ يَتَكَلَّمُ فِي مَوْضِعِهِ ﷺ، وَيَسْمَعُهُ كُلُّ مَنْ بِالْمَوْقِفِ.

*وَمِنَ الدُّرُوسِ الْعَظِيمَةِ: حُرْمَةُ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَعْرَاضِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ:

قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((اسْتَنْصِتْ لِيَ النَّاسَ)).

ثُمَّ قَالَ: ((لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ)).

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ بِالتَّحْرِيشِ بَيْنَكُمْ)).

وَفِي خُطَبِ النَّبِيِّ ﷺ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ، وَفِي يَوْمِ النَّحْرِ، وَفِي ثَانِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ أَعْلَنَ ﷺ أَنَّ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَعْرَاضَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ مُحَرَّمَةٌ تَحْرِيمًا أَبَدِيًّا، فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- قَدْ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ)).

فَهُوَ تَحْرِيمٌ مُؤَبَّدٌ، لَا يَحِلُّ أَبَدًا لِمُسْلِمٍ دَمُ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ؛ أَنْ يَجْرَحَهُ أَوْ يَقْطَعَ مِنْهُ عُضْوًا، أَوْ أَنْ يُرِيقَ دَمَهُ، إِلَّا بِمَا أَحَلَّهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ ذَلِكَ.

وَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْوَالَ حَرَامٌ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْ صَاحِبِهَا - كَمَا فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ ابْنِ مَاجَه))- فَعَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((اسْمَعُوا مِنِّي تَعِيشُوا؛ أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا لَا تَظْلِمُوا، أَلَا إِنَّهُ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ)).

فَحَرَّمَ النَّبِيُّ ﷺ الْغِشَّ، وَحَرَّمَ الِاحْتِكَارَ، وَحَرَّمَ النَّبِيُّ ﷺ السَّرِقَةَ وَالْغَصْبَ، وَحَرَّمَ النَّبِيُّ ﷺ الرِّشْوَةَ وَالْخِيَانَةَ، وَكُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ.

((أَلَا إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا حَتَّى تَلْقَوا رَبَّكُمْ)).

حَرَّمَ النَّبِيُّ ﷺ أَعْرَاضَ الْمُسْلِمِينَ؛ أَنْ يَنْتَهِكَ أَحَدٌ عِرْضَ أَخِيهِ بِكَلِمَةٍ أَوْ بِإِشَارَةٍ أَوْ بِاعْتِدَاءٍ عَلَيْهِ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ أَعْظَمَ عِنْدَ اللهِ مِنْ حُرْمَةِ الْكَعْبَةِ، فَكَانَ يَقُولُ ﷺ وَهُوَ طَائِفٌ بِالْكَعْبَةِ: ((أَلَا مَا أَعْظَمَكِ! وَمَا أَعْظَمَ حُرْمَتَكِ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-!، وَلَحُرْمَةُ الْمُسْلِمِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى مِنْ حُرْمَتِكِ)).

فَحَرَّمَ النَّبِيُّ ﷺ الدِّمَاءَ وَالْأَمْوَالَ وَالْأَعْرَاضَ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ فِي جَمِيعِ الشَّرَائِعِ، فَلَا يَحِلُّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ إِلَّا بِمَا أَذِنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ.

*مِنْ دُرُوسِ خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: أَنَّ التَّقْوَى مِيزَانُ التَّفَاضُلِ بَيْنَ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ:

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ -فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ- بَيَّنَ لِلْمُسْلِمِينَ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونُوا عَلَيْهِ مِنَ التَّرَابُطِ وَالتَّعَاوُنِ وَالتَّنَاصُحِ، وَالتَّشَاوُرِ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا فَضْلَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ إِلَّا بِالتَّقْوَى: ((فَلَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا عَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلَّا بِالتَّقْوَى)).

وَالتَّقْوَى هِيَ الْمِيزَانُ الَّذِي بِهِ التَّفَاضُلُ، وَهِيَ فِعْلُ الْمَأْمُورِ وَتَرْكُ الْمَحْظُورِ.

*وَمِنْ دُرُوسِ خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: أَنَّ صَلَاحَ الدِّينِ وَالدُّنْيَا فِي الْإِخْلَاصِ للهِ، وَمُنَاصَحَةِ وُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَلُزُومِ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ:

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ الْأَسَاسَ الَّذِي يَصْلُحُ عَلَيْهِ النَّاسُ؛ حَيْثُ قَالَ ﷺ ((ثَلَاثَةٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُؤْمِنٍ)).

 ثُمَّ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَوَّلَ ذَلِكَ، فَقَالَ: ((إِخْلَاصُ الْعَمَلِ للهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَدَمُ مُفَارَقَةِ جَمَاعَتِهِمْ، أَلَا إِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ -وَفِي رِوَايَةٍ: وَمِنْ وَرَائِهِمْ-)). قَالَ هَذَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ﷺ.

فَبَيَّنَ أَنَّ الْإِخْلَاصَ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْأَعْمَالِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَإِخْلَاصَ الْعُبُودِيَّةِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ، وَصَرْفَ جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِبَادَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ أَوَّلُ مَا يُعْقَدُ عَلَيْهِ الْخِنْصَرُ؛ لِلنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ وَالْفَوْزِ بِالْجَنَّةِ.

إِخْلَاصُ الْقَلْبِ للهِ، ثُمَّ قَالَ ﷺ: ((وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْمُسْلِمِينَ)): لَيْسَ بِالْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ وَلَا بِانْتِقَادِهِمْ، وَإِنَّمَا بِمُنَاصَحَتِهِمْ بِالطُّرُقِ الشَّرْعِيَّةِ الَّتِي حَدَّدَتْهَا السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ.

 فَإِنَّ هَذَا مَمَّا تَقُومُ بِهِ الدُّنْيَا، وَيَصْلُحُ بِهِ أَمْرُ الدِّينِ؛ حَتَّى لَا تُقْطَعَ السُّبُلُ، وَتُخَرَّبَ الْمَسَاجِدُ، حَتَّى لَا تُنْتَهَكَ الْأَعْرَاضُ، وَتُسْلَبَ الْأَمْوَالُ، حَتَّى لَا يَصِيرَ أَمْرُ النَّاسِ فَوْضَى يُعَزُّ فِيهِ أَهْلُ الْبَاطِلِ، وَيُذَلُّ فِيهِ أَهْلُ الْحَقِّ، وَتَصِيرَ الْأُمُورُ إِلَى مَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ أَيَّامًا يَكْثُرُ فِيهَا الْهَرْجُ)).

قَالُوا: وَمَا الْهَرْجُ يَا رَسُولَ اللهِ؟

قَالَ: ((الْقَتْلُ)).

ثُمَّ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ: ((أَنَّهُ سَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يَدْرِي الْقَاتِلُ فِيهِ لِمَا قَتَلَ، وَلَا الْمَقْتُولُ فِيهِ لِمَا قُتِلَ))؛ لِأَنَّ أَمْرَ النَّاسِ يَصِيرُ إِلَى الْفَوْضَى، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ النَّبِيُّ ﷺ مِنْ أَمْرِ الْهَرْجِ هُوَ لَازِمٌ لِوُقُوعِ الْفَوْضَى وَهُوَ نَتِيجَةٌ عَنْهُ.

قَالَ الرَّسُولُ ﷺ: ((وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّ دَعَوْتَهُمْ تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ)).

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ هَذَا الْمَعْنَى بِضَرْبِ هَذَا السُّورِ: ((تُحِيطُ مَنْ وَرَاءَهُمْ))، حَتَّى إِنَّ مَنْ تَخَطَّى هَذَا السِّيَاجَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ.

*وَمِنَ الدُّرُوسِ الْعَظِيمَةِ مِنْ خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: وَحْدَةُ الْمُسْلِمِينَ:

وَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ -كَمَا ذَكَرَ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ-: ((أَنَّ كُلَّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ؛ دَمُهُ وَمَالُهُ وَعِرْضُهُ))، وَأَنَّ ((الْمُسْلِمَ لِلْمُسْلِمِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا)).

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ ((مَثَلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)).

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ هَذَا الْمَعْنَى الْكَبِيرَ، وَهُوَ مِنْ أَجْلَى مَا يَكُونُ فِي فَرِيضَةِ الْحَجِّ: اجْتَمَاعُ الْمُسْلِمِينَ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَخْرَجُوا مَنْدُوبِيهِمْ إِلَى الْحَجِّ؛ لِيَشْهَدُوا الْمَوْسِمَ، فَمَا مِنْ شَارِعٍ، وَلَا مِنْ حَيٍّ، وَلَا مِنْ مَدِينَةٍ، وَلَا مِنْ قَرْيَةٍ، وَلَا دَوْلَةٍ، إِلَّا وَخَرَجَ مِنْهَا مَنْ شَاءَ اللهُ أَنْ يَخْرُجَ؛ حَتَّى يَشْهَدَ الْمَوْسِمَ.

فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمَنْدُوبُونَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي بِقَاعِ الْأَرْضِ وَمَشَارِقِهَا وَمَغَارِبِهَا؛ لِكَيْ يَشْهَدُوا هَذَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَ بِوَحْدَةِ الْمُسْلِمِينَ، وَبِتَوَاضُعِهِمْ لِرَبِّهِمْ وَمَذَلَّتِهِمْ بَيْنَ يَدْيَهِ، وَفِي خُشُوعِهِمْ وَانْكِسَارِهِمْ لَدَيْهِ، فَجَمِيعُهُمْ عَلَى هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ، لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَهُمْ مَظَاهِرُ الدُّنْيَا عَلَى مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ الصَّحِيحُ.

*وَمِنْ دُرُوسِ خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: حَثُّ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى الْإِحْسَانِ وَالرَّحْمَةِ بِكُلِّ شَيْءٍ:

إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَيَّنَ أَنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، وَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الرَّحْمَةَ يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَ بِهَا الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ، وَأَنْ يَجْعَلَهَا دَيْدَنَهُ، فَقَالَ ﷺ: ((الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ))، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ ((مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ)).

وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمَّا سَأَلَهُ مَنْ سَأَلَهُ أَنَّهُ يَرْحَمُ الشَّاةَ عِنْدَ ذَبْحِهَا، فَقَالَ: ((وَالشَّاةَ إِنْ رَحِمْتَهَا رَحِمَكَ اللهُ))؛ وَلِذَلِكَ يَقُولُ بَعْضُ السَّلَفِ: ((إِنَّ اللهَ لَيَرْحَمُ بِرَحْمَةِ الْعُصْفُورِ))؛ يَعْنِي إِنْ رَحِمْتَهُ رَحِمَكَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَكَانَتْ رَحْمَتُكَ إِيَّاهُ سَبَبًا لِرَحْمَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِيَّاكَ.

وَالنَّبِيُّ ﷺ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ وَقَدْ أَضْجَعَ ذَبِيحَتَهُ، وَجَعَلَ قَدَمَهُ عَلَى صِحَافِهَا، وَهُوَ يَسُنُّ مُدْيَتَهُ، وَيَحُدُّ شَفْرَتَهُ، وَهِيَ تَنْظُرُ إِلَيْهِ!! فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَلَا كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ ذَلِكَ، أَتُرِيدُ أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ؟)).

 فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُظْهَرَ الْمُدْيَةُ لِلْحَيَوَانِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ بِذَبْحِهِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يَجْعَلُ ذَلِكَ لِلْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ، فَكَيْفَ بَالْإِنْسَانِ الَّذِي كَرَّمَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَأَعْلَى ذِكْرَهُ، وَرَفَعَ شَأْنَهُ، وَجَعَلَهُ حَامِلًا لِمَسْئُولِيَّةِ الرِّسَالَةِ فِي الْأَرْضِ، وَجَعَلَهُ عَابِدًا للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِمَلْكِهِ، مُقْبِلًا عَلَى رَبِّهِ؟!!

((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ أَحَدُكُمْ ذَبِيحَتَهُ)).

فَلْيَأْتِ أَحَدُكُمْ بِمُدْيَتِهِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي يَنْبَغِي أَلَّا يُحْدِثَ مَزِيدَ أَلَمٍ وَإِيلَامٍ لِلْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ.

يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ)): فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْإِحْسَانَ مَكْتُوبٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ -وَكُلُّ شَيْءٍ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ الْإِحْسَانُ-، وَيَقُولُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: ((أَنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ)): أَيْ لِكُلِّ شَيْءٍ، فَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ مَكْتُوبًا عَلَى مَنْ يُحْسِنُ إِلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ)): وَالْقِتْلَةُ وَالذِّبْحَةُ اسْمُ هَيْئَةٍ، أَيْ أَنْ تَكُونَ هَيْئَةُ الذَّبْحِ وَقَعَ عَلَيْهَا الْإِحْسَانُ، وَأَنْ تَكُونَ هَيْئَةُ الْقَتْلِ قَدْ وَقَعَ عَلَيْهَا الْإِحْسَانُ.

 ((وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، وَلْيُرِحْ أَحَدُكُمْ ذَبِيحَتَهُ)).

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ كَيْفِيَّةَ الْإِحْسَانِ إِلَى الْحَيَوَانِ عِنْدَ ذَبْحِهِ، وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ كَيْفَ يُذْبَحُ.

 فَإِنَّ التَّذْكِيَةَ حَتَّى تَكُونَ قَائِمَةً، وَحَتَّى يَكُونَ الْمَرْءُ جَائِزًا لَهُ أَنْ يَطْعَمَ مِنَ الذَّبِيحَةِ؛ يَنْبَغِي أَنْ تَتَوَافَرَ فِيهَا أُمُورٌ، مِنْهَا:

يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُذَكِّي -أَيْ: الذَّابِحُ- مُسْلِمًا عَاقِلًا.

 وَأَنْ يُسَمِّيَ اسْمَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى ذَبِيحَتِهِ.

 وَأَنْ يَذْبَحَهَا بِحَيْثُ يُنْهِرُ بِالدَّمِ؛ بِحَيْثُ إِنَّهُ يَذْبَحُ فِي الرَّقَبَةِ، فَجَائِزٌ فِي وَسَطِهَا، وَجَائِزٌ فِي أْعَلَاهَا، وَجَائِزٌ فِي أَسْفَلِهَا، بِشَرْطِ أَنْ يَقْطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ.

 وَأَنْ يُنْهِرَ الدَّمَ مِنَ الْأَوْدَاجِ، فَأَمَّا الْحُلْقُومُ فَهُوَ مَجْرَى النَّفَسِ مِنَ الْحَيَوَانِ إِلَى الرِّئَةِ، وَأَمَّا الْمَرِيءُ فَهُوَ مَجْرَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ مِنَ الْحَيَوَانِ إِلَى الْمَعِدَةِ، وَأَمَّا الْوَدَجَانِ فَعِرْقَانِ غَلِيظَانِ عَلَى جَانِبَيِ الرَّقَبَةِ.

فَالنَّبِيُّ ﷺ بَيَّنَ لَنَا كَيْفِيَّةَ الذَّبْحِ، وَبَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ الْآدَابَ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَلَّى بِهَا الذَّابِحُ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ الَّذِي أَقْدَرَ الذَّابِحَ عَلَى ذَبِيحَتِهِ، وَلَوْلَا أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَذِنَ لَنَا فِي ذَلِكَ؛ مَا كَانَ عَلَيْنَا إِلَّا مُحَرَّمًا، وَمَا جَازَ لَنَا أَنْ نَطْعَمَهُ.

*فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: وَضَعَ النَّبِيُّ ﷺ كُلَّ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ:

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ أَمْرَ الشِّرْكِ قَدِ اضْمَحَلَّ، وَأَنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَوْصَى النَّبِيُّ ﷺ بِالنِّسَاءِ، وَوَضَعَ النَّبِيُّ ﷺ كُلَّ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيْهِ.

فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعًا تَحْتَ قَدَمَيْهِ، فَأَهْدَرَ النَّبِيُّ ﷺ دِمَاءَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَهْدَرَ النّبِيُّ ﷺ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ قَدِ اسْتَقَرَّ عَلَى قَرَارِهِ بِالشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ، تَابِعَةً لِلسُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ فِي الْبَيَانِ وَالتَّوْضِيحِ وَالْإِرْشَادِ.

عِبَادَ اللهِ! هَذَا بَلَاغُ نَبِيِّكُمْ ﷺ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ، وَهَذِهِ ظِلَالٌ مُتَمَاوِجَاتٌ فِي حَرِّ هَجِيرِ الْإِنْسَانِيَّةِ لِخُطْبَةِ الْوَدَاعِ الْعَظِيمَةِ.

 وَيَا لَهَذِهِ الْخُطْبَةِ الْعَظِيمَةِ مِنْ ذَاتِ أَفْيَاءٍ وَذَاتِ ظِلَالٍ!

 إِنَّ لَهَا لِظِلًّا ظَلِيلًا، لَوْ فَجِعَتِ الْإِنْسَانِيَّةُ كُلُّهَا، وَلَوْ ذَهَبَتِ الْبَشَرِيَّةُ كُلُّهَا إِلَى فيْءِ ظِلٍّ وَاحِدٍ مِنْ ظِلَالِ هَذِهِ الْخُطْبَةِ الْعَظِيمَةِ؛ لَوَسِعَهَا هَذَا الظِّلُّ الْبَارِدُ مِنْ ذَلِكَ السَّعِيرِ الْمُتَّقِدِ، وَمِنْ هَذَا الْأَتُّونِ الْمُلْتَهِبِ، وَمِنْ هَذَا الْحَرِّ اللَّاغِبِ فِي صَحَرَاءِ الِانْفِلَاتِ مِنْ قَيْدِ مَنْهَجِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

 

 

المصدر : فضل يوم عرفة، والدروس المستفادة من خطبة حجة الوداع

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  وُجُوبُ مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ
  مَظَاهِرُ النِّظَامِ فِي كَوْنِ الرَّحْمَنِ
  نِظَامٌ مُحْكَمٌ لِلْمُعَامَلَاتِ الِاقْتِصَادِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ
  الْأَمَلُ الْمَذْمُومُ وَسُوءُ عَاقِبَتِهِ
  مِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ فِي الْإِسْلَامِ: الِالْتِزَامُ بِسُنَنِ النَّبِيِّ ﷺ عِنْدَ وِلَادَتِهِ
  الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ ابْتِلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ!!
  أَحْكَامُ زَكَاةِ الفِطْرِ
  التَّرْشِيدُ فِي حَيَاتِنَا وَالْإِنْفَاقُ فِي رَمَضَانَ مِثَالٌ!!
  اسْتِقْبَالُ الْعَشْرِ بِالتَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ
  الصِّيَامُ تَدْرِيبٌ عَلَى مُرَاقَبَةِ اللَّهِ تَعَالَى
  دَوَاءُ الْقَلْبِ فِي مَحَبَّةِ الرَّبِّ -جَلَّ وَعَلَا-
  نَبْذُ النَّبِيِّ ﷺ لِلْعُنْصُرِيَّةِ وَالْعَصَبِيَّةِ
  مِنْ سِمَاتِ الشَّخْصِيَّةِ الْوَطَنِيَّةِ: حُبُّ الْوَطَنِ وَالدِّفَاعُ عَنْهُ
  الْمِيثَاقُ الْغَلِيظُ -الزَّوَاجُ- فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  الْحِرْصُ عَلَى الْإِخْلَاصِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي الْحَجِّ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان