((نِظَامٌ مُحْكَمٌ لِلْمُعَامَلَاتِ الِاقْتِصَادِيَّةِ فِي الْإِسْلَامِ))
((فَقَدْ بَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَاقَةَ الْعَبْدِ بِرَبِّهِ، وَاتِّصَالَهُ بِهِ، وَآدَابَهُ مَعَهُ، وَكَذَلِكَ بَيَّنَ أَنْوَاعَ التَّصَرُّفَاتِ؛ كَالْبَيْعِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالشَّرِكَةِ، وَالْعُقُودِ الْخَيْرِيَّةِ مِنَ الْأَوْقَافِ، وَالْوَصَايَا، وَالْهَدَايَا.
وَبَيَّنَ أَحْكَامَ النِّكَاحِ وَالْعَلَاقَاتِ الزَّوْجِيَّةَ؛ مِنَ الشُّرُوطِ، وَالْعِشْرَةِ، وَالنَّفَقَاتِ، وَالْفُرْقَةِ الزَّوْجِيَّةِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِآدَابِ الزَّوَاجِ وَأَحْكَامِهِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعِدَدِ وَمُتَعَلَّقَاتِهَا.
ثُمَّ مَا تُحْفَظُ بِهِ النَّفْسُ مِنْ عُقُوبَةِ الْجِنَايَاتِ؛ كَالْقِصَاصِ، وَالدِّيَاتِ، وَالْحُدُودِ، ثُمَّ فِي تَطْبِيقِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَفِي تَنْفِيذِهَا مِنْ أَبْوَابِ الْقَضَاءِ وَأَحْكَامِهِ.
نَظَّمَ الْإِسْلَامُ الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ النَّاسِ فِي أَسْوَاقِهِمْ، وَمَزَارِعِهِمْ، وَأَسْفَارِهِمْ، وَبُيُوتِهِمْ، وَشَوَارِعِهِمْ، وَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي شُئُونِهِمُ الْحَيَاتِيَّةِ إِلَّا أَحْصَاهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، وَبَيَّنَهُ بِأَعْدَلِ نِظَامٍ، وَأَحْسَنِ تَرْتِيبٍ، وَأَتَمِّ تَفْصِيلٍ.
وَالنَّاسُ يَحْتَاجُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا قَالُوا مَدَنِيٌّ بِطَبْعِهِ؛ يَحْتَاجُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَصَاحِبُهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ، وَلَا يَعِيشُ وَحْدَهُ، فَكَانَ لَا بُدَّ مِنْ قَانُونٍ رَبَّانِيٍّ فِيهِ الْعَدْلُ وَفِيهِ الْحِكْمَةُ يَسُنُّ لِلنَّاسِ طُرُقَ الْمُعَامَلَاتِ وَإِلَّا حَلَّتِ الْفَوْضَى، وَانْتَشَرَتِ الرَّذَائِلُ، وَتَفَاقَمَ الشَّرُّ، وَأَصْبَحَتْ وَسَائِلُ الْحَيَاةِ وَسَائِلَ لِلدَّمَارِ وَالْهَلَاكِ.
وَبِسَنِّ هَذِهِ النُّظُمِ وَوَضْعِ تِلْكَ الشَّرَائِعِ مِنْ لَدُنْ رَبِّنَا الْحَكِيمِ الْعَلِيمِ بِهَا يَتَبَيَّنُ مَا فِي الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ مِنَ الْحِكَمِ الظَّاهِرَةِ، وَمِنَ الْأُمُورِ الْبَاهِرَةِ، مِمَّا يَدْعُو إِلَى الرَّغْبَةِ فِي الْعَمَلِ، وَمَحَبَّةِ الْكَسْبِ بِأَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ الْمُبَاحَةِ؛ حِفْظًا لِلنَّفْسِ، وَإِعْمَارًا لِلْكَوْنِ.
فَدِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ هُوَ دِينُ الْحَرَكَةِ النَّافِعَةِ، وَالنَّشَاطِ الْمُتَوَثِّبِ، وَالْعَمَلِ الدَّؤُوبِ، يَحُثُّ الْإِسْلَامُ عَلَى ذَلِكَ وَيَأْمُرُ بِهِ، وَيَجْعَلُهُ نَوْعًا مِنَ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَيَعُدُّهُ قِسْمًا مِنَ الْعِبَادَاتِ.
الْإِسْلَامُ يَكْرَهُ الْكَسَلَ وَالْخُمُولَ، وَيَكْرَهُ الِاتِّكَالَ عَلَى الْغَيْرِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39]، وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10].
وَالْإِسْلَامُ بِمَا شَرَعَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ مِنْ هَذِهِ الْأَحْكَامِ الَّتِي سَنَّ بِهَا الْمُعَامَلَاتِ وَغَيْرَهَا، وَبَيَّنَ آدَابَهَا؛ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ بِالْقِسْطِ وَالْعَدْلِ، وَوَجَّهَ كُلَّ ذِي طَبْعٍ إِلَى مَا يُلَائِمُهُ مِنَ الْأَعْمَالِ؛ لِيَعْمُرَ الْكَوْنُ لِلْقِيَامِ بِشَتَّى طُرُقِ الْحَيَاةِ الْمُبَاحَةِ مِنْ غَيْرِ جَوْرٍ وَلَا ظُلْمٍ، وَلَا اعْتِدَاءٍ وَلَا هَضْمٍ.
ثُمَّ بَعْدَ هَذَا يَأْتِي بَعْضُ النَّاسِ مِمَّنْ لَا يَدْرِي مَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِهِ فَيَرْمِي الْإِسْلَامَ بِأَنَّهُ قَصَّرَ فِي بَيَانِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِنْ نِظَامٍ عَادِلٍ يَكْفِي الْحَيَاةَ الْمَدَنِيَّةَ وَالتَّقَدُّمَ الْحَضَارِيَّ؛ فَيَقُولُونَ: لَا بُدَّ مِنَ اسْتِبْدَالِ الشَّرِيعَةِ، أَوْ لَا بُدَّ مِنْ تَطْعِيمِهَا بِشَيْءٍ مِنَ الْقَوَانِينِ الْبَشَرِيَّةِ الْوَضْعِيَّةِ!!
يُرِيدُونَ بِذَلِكَ حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِي تَحْيَا عَلَيْهِ الْوُحُوشُ الضَّارِيَةُ مِنْ أَعْدَاءِ الْبَشَرِ الَّذِينَ سَفَكُوا الدِّمَاءَ، وَقَتَلُوا الْأَبْرِيَاءَ، وَأَيَّمُوا النِّسَاءَ، وَأَيْتَمُوا الصِّغَارَ، وَآذَوُا الضُّعَفَاءَ، وَأَكَلُوا أَمْوَالَ الْفُقَرَاءِ، وَاسْتَرَقُّوا الشُّعُوبَ بِحُكْمِ الطَّاغُوتِ وَشَرِيعَةِ الْغَابِ.
فَكُلُّ هَؤُلَاءِ مِمَّنْ يُعَادِي دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَيَرْمِيهِ بِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَالِحٍ لِأَنْ يَحْيَا عَلَى نُظُمِهِ وَشَرَائِعِهِ النَّاسُ، هَؤُلَاءِ جَمِيعًا يَجْهَلُونَ هَذَا كُلَّهُ، أَوْ يَعْلَمُونَهُ وَيُحَارِبُونَ الْإِسْلَامَ؛ لِأَنَّهُمْ يَكْرَهُونَ الدِّينَ، وَمَنْ أَنْزَلَهُ، وَمَنْ جَاءَ بِهِ، وَمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ.
هَؤُلَاءِ يَأْتُونَ بِبَعْضِ النُّظُمِ الْجَائِرَةِ وَالْأَحْكَامِ الظَّالِمَةِ، قَدْ تَكُونُ مُلَائِمَةً لِأَحْوَالِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ فِي الْجُمْلَةِ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ مِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّ الْحَيَاةَ مَادَّةٌ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الدِّينِ وَالْحَيَاةِ تَفْرِيقًا حَاسِمًا، وَجَعَلُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ!!
أَمَّا شَرِيعَةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.. وَأَمَّا مَا أَنْزَلَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى نَبِيِّهِ ﷺ؛ فَإِنَّمَا سَنَّ مَا فِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ مَنْ خَلَقَ الْبَشَرَ وَمَنْ هُوَ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِهِمْ فِي حَاضِرِهِمْ وَمُسْتَقْبَلِهِمْ؛ لِيَكُونَ النِّظَامُ عَلَى أَفْضَلِ مَا يَكُونُ، صَالِحًا لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ غَيْرِ مَا ظُلْمٍ وَلَا حَيْفٍ وَلَا جَوْرٍ.
وَاللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَخْبَرَنَا فِي كِتَابِهِ الْمَجِيدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50]؛ فَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّقْرِيرُ: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا}؟
لَا أَحَدَ؛ يَعْنِي لَا أَحَدَ هُوَ أَحْسَنُ حُكْمًا مِنَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيمَا شَرَعَ لِخَلْقِهِ» .
((لَمَّا كَانَ الْعَبْدُ لَا يَسْتَغْنِي عَمَّا فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَصَاحِبُهُ لَا يَسْتَغْنِي عَمَّا فِي يَدِهِ شَرَعَ اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- التَّوَصُّلَ إِلَى مَا فِي يَدِ الْغَيْرِ بِطَرِيقَةِ الْبَيْعِ الَّتِي هِيَ الْمُعَاوَضَةُ؛ فَهَذَا النِّظَامُ تَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ النَّفْسُ؛ لِأَنَّ الَّذِي شَرَعَهُ هُوَ الْعَلِيمُ بِحَنَايَا الصُّدُورِ، وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَيَعْلَمُ مَا يُصْلِحُهُ.
وَلَمَّا كَانَ الْبَيْعُ يَتَضَمَّنُ أَنْوَاعًا مِنَ الْبُيُوعِ؛ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِتِلْكَ الْبُيُوعِ أَحْكَامًا؛ حَتَّى لَا يَصِلَ الضَّرَرُ مِنَ الْفَرْدِ إِلَى الْمُجْتَمَعِ أَوْ مِنَ الْمُجْتَمَعِ إِلَى الْفَرْدِ.
وَقَرَّرَ الشَّارِعُ ﷺ أَحْكَامَ الْخِيَارِ، وَالسَّلَفِ، وَالْهِبَةِ، وَالْوَصِيَّةِ، وَالشَّرِكَةِ، وَالْإِجَارَةِ، وَالْمُضَارَبَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَأَبَاحَ أَشْيَاءَ مِنَ الْبَيْعِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَمَنَعَ أَشْيَاءَ لِمَا يَعْلَمُ فِيهَا مِنَ الْمَضَرَّةِ؛ إِمَّا أَنْ تَكُونَ الْمَضَرَّةُ وَاقِعَةً عَلَى الْفَرْدِ، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ وَاقِعَةً عَلَى الْمُجْتَمَعِ، أَوْ تَكُونَ وَاقِعَةً عَلَى الْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ مَعًا.
وَاللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- ذُو الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ؛ فَمَا شَرَعَ فَفِيهِ ضَمَانُ الْمَصْلَحَةِ، وَمَا نَهَى عَنْهُ وَمَا لَمْ يَشْرَعْهُ فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِدَفْعِ مَضَرَّةٍ حَقِيقِيَّةٍ أَوْ مُتَوَقَّعَةً، وَلِذَلِكَ يَقُولُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [ البقرة: 275 ]» .
فَبَيَّنَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- حِلَّ الْبَيْعِ، وَهَذَا -كَمَا تَرَى- فِي الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ.
((وَدَلَّتِ السُّنَّةُ -أَيْضًا- عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ وَحِلِّهِ إِذَا تَوَفَّرَتْ فِيهِ الشُّرُوطُ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا)) .
وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى جَوَازِ الْبَيْعِ، وَالْبَيْعُ -أَيْضًا- يَقْتَضِيهِ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ دَاعِيَةٌ إِلَيْهِ، فَلَا يَتَحَصَّلُ الْإِنْسَانُ عَلَى مَا يَحْتَاجُهُ إِذَا كَانَ فِي يَدِ غَيْرِهِ إِلَّا عَنْ طَرِيقِ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَغْنِيَ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَقَدْ أَقَامَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ إِنْسَانٍ فِيمَا يُحْسِنُهُ، وَجَعَلَ لِلْإِنْسَانِ مَلَكَاتٍ، فَكُلٌّ يَأْتِي بِمَا يَسَّرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَهُ، وَغَيْرُهُ يَحْتَاجُ إِلَى مَا يُنْتِجُهُ أَوْ مَا يُحْسِنُهُ، وَهُوَ يَحْتَاجُ إِلَى مَا يُنْتِجُهُ غَيْرُهُ وَإِلَى مَا يُحْسِنُهُ.
فَشَرَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- تِلْكَ الْعُقُودَ وَالْمُعَامَلَاتِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَجْعَلَ النَّاسَ مُتَوَصِّلِينَ إِلَى مَا فِي أَيْدِي غَيْرِهِمْ بِطَرِيقَةٍ لَا إِيذَاءَ فِيهَا وَلَا ضَرَرَ، فَتَحْفَظُ الْمُجْتَمَعَ كُلَّهُ، وَتَحْفَظُ الْأَفْرَادَ فِي طَلَبِهِمْ لِلسَّعْيِ، وَكَذَلِكَ فِي كَسْبِهِمْ)) .
المصدر: الْبِنَاءُ الِاقْتِصَادِيُّ السَّدِيدُ وَأَثَرُهُ فِي اسْتِقْرَارِ الْمُجْتَمَعِ