((الْوَعْيُ بِأَخْطَرِ عَدُوٍّ لِلْإِنْسَانِ))
لَقَدْ أَمَرَ اللهُ -سُبْحَانَهُ- النَّاسَ أَمْرًا جَازِمًا أَنْ يَتَّخِذُوا الشَّيْطَانَ عَدُوًّا؛ فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ۖ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۖ وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 5-6].
قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي «تَفْسِيرِهِ» (3/1428): «يَقُولُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ}.. بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ.
{حَقٌّ}؛ أَيْ: لَا شَكَّ فِيهِ، وَلَا مِرْيَةَ، وَلَا تَرَدُّدَ، قَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ الْأَدِلَّةُ السَّمْعِيَّةُ وَالْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ، فَإِذَا كَانَ وَعْدُهُ حَقًّا، فَتَهَيَّئُوا لَهُ، وَبَادِرُوا أَوْقَاتَكُمُ الشَّرِيفَةَ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَلَا يَقْطَعَنَّكُمْ عَنْ ذَلِكَ قَاطِعٌ.
{فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} بِلَذَّاتِهَا وَشَهَوَاتِهَا وَمَطَالِبِهَا النَّفْسِيَّةِ، فَتُلْهِيَكُمْ عَمَّا خُلِقْتُمْ لَهُ.
{وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ} الَّذِي هُوَ (الشَّيْطَانُ)، الَّذِي هُوَ عَدُوُّكُمْ فِي الْحَقِيقَةِ.
{فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}؛ أَيْ: لِتَكُنْ مِنْكُمْ عَدَاوَتُهُ عَلَى بَالٍ، وَلَا تُهْمِلُوا مُحَارَبَتَهُ كُلَّ وَقْتٍ، فَإِنَّهُ يَرَاكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَرَوْنَهُ، وَهُوَ دَائِمًا لَكُمْ بِالْمِرْصَادِ.
{إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}؛ هَذَا غَايَتُهُ وَمَقْصُودُهُ مِمَّنْ تَبِعَهُ: أَنْ يُهَانَ غَايَةَ الْإِهَانَةِ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ».
وَمَعَ أَنَّ أَمْرَ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالشَّيْطَانِ وَاضِحٌ وُضُوحًا لَا لَبْسَ فِيهِ، إِلَّا أَنَّهُ يَنْدُرُ أَنْ يَتَوَهَّجَ الْإِحْسَاسُ بِالْعَدَاوَةِ لِلشَّيْطَانِ فِي نَفْسِ الْإِنْسَانِ!!
وَإِنَّهُ لَعَجِيبٌ أَنْ تَلْتَحِقَ الْأُمُورُ الْوَاضِحَةُ حَقًّا بِالْأُمُورِ الْغَامِضَةِ جِدًّا؛ حَتَّى يَعْسُرَ الْفَصْلُ، وَيَتَعَذَّرَ التَّحْدِيدُ، وَتَخْتَلِطَ الْمَعَالِمُ، وَتَشْتَبِهَ الدُّرُوبُ.
وَلَا أَعْجَبَ مِنَ الِاخْتِلَاطِ بَيْنَ الْعَدَاوَةِ الْحَقِيقِيَّةِ وَالْمُوَالَاةِ، ذَلِكَ الِاخْتِلَاطُ الَّذِي يَجْعَلُ الْإِنْسَانَ يَتَوَلَّى أَعْدَاءَهُ، وَيُحِبُّ مُبْغِضِيهِ، وَيَسْعَى فِي طَاعَةِ مَنْ يَسْعَى فِي إِهْلَاكِهِ وَتَدْمِيرِ جَسَدِهِ وَرُوحِهِ سَوَاءً!!
قَالَ تَعَالَى: {إِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا} [الكهف: 50].
قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: «يُخْبِرُ -تَعَالَى- عَنْ عَدَاوَةِ إِبْلِيسَ لِآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ، وَأَنَّ اللهَ أَمَرَ الْمَلَائِكَةَ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ، إِكْرَامًا وَتَعْظِيمًا، وَامْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ، فَامْتَثَلُوا ذَلِكَ؛ {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}، وَقَالَ: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا}، وَقَالَ: {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ}.
فَتَبَيَّنَ بِهَذَا عَدَاوَتُهُ لِلَّهِ وَلِأَبِيكُمْ وَلَكُمْ، فَكَيْفَ تَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ -أَيِ: الشَّيَاطِينَ- {أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ}؟!!
{بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا}؛ أَيْ: بِئْسَ مَا اخْتَارُوا لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ وَلَايَةِ الشَّيْطَانِ الَّذِي لَا يَأْمُرُهُمْ إِلَّا بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، عَنْ وَلَايَةِ الرَّحْمَنِ الَّذِي كُلُّ السَّعَادَةِ وَالْفَلَاحِ وَالسُّرُورِ فِي وَلَايَتِهِ.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْحَثُّ عَلَى اتِّخَاذِ الشَّيْطَانِ عَدُوًّا، وَالْإِغْرَاءُ بِذَلِكَ، وَذِكْرُ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِذَلِكَ، وَأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إِلَّا ظَالِمٌ، وَأَيُّ ظُلْمٍ أَعْظَمُ مِنْ ظُلْمِ مَنِ اتَّخَذَ عَدُوَّهُ الْحَقِيقِيَّ وَلِيًّا، وَتَرَكَ الْوَلِيَّ الْحَمِيدَ؟!
قَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة: 257].
وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ} [الأعراف: 30]».
وَلَوْ أَنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ عَدُوًّا تَقْلِيدِيًّا لِلْإِنْسَانِ لَهَانَ الْأَمْرُ جِدًّا، وَلَكِنَّهُ عَدُوٌّ مُتَفَرِّدٌ فِي عَدَاوَتِهِ، وَمِنْ أَخَصِّ مَا تَمَيَّزَ بِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَرَى الْإِنْسَانَ وَيَرْصُدُ حَرَكَاتِهِ وَسَكَنَاتِهِ مِنْ حَيْثُ لَا يَرَاهُ الْإِنْسَانُ وَلَا يُبْصِرُ مِنْهُ شَيْئًا.
قَالَ تَعَالَى: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 27].
قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي «تَفْسِيرِهِ» (2/539): «يَقُولُ -تَعَالَى- مُحَذِّرًا لِبَنِي آدَمَ أَنْ يَفْعَلَ بِهِمُ الشَّيْطَانُ كَمَا فَعَلَ بِأَبِيهِمْ: {يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ} بِأَنْ يُزَيِّنَ لَكُمُ الْعِصْيَانَ، وَيَدْعُوَكُمْ إِلَيْهِ وَيُرَغِّبَكُمْ فِيهِ فَتَنْقَادُوا لَهُ، {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ} وَأَنْزَلَهُمَا مِنَ الْمَحَلِّ الْعَالِي إِلَى أَنْزَلَ مِنْهُ؛ فَأَنْتُمْ يُرِيدُ أَنْ يَفْعَلَ بِكُمْ كَذَلِكَ، وَلَا يَأْلُو جَهْدَهُ عَنْكُمْ حَتَّى يَفْتِنَكُمْ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَعَلَيْكُمْ أَنْ تَجْعَلُوا الْحَذَرَ مِنْهُ فِي بَالِكُمْ، وَأَنْ تَلْبَسُوا لَأْمَةَ الْحَرْبِ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ، وَأَلَّا تَغْفُلُوا عَنِ الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَدْخُلُ مِنْهَا إِلَيْكُمْ.
فَـ{إِنَّهُ} يُرَاقِبُكُمْ عَلَى الدَّوَامِ، وَ{يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} مِنْ شَيَاطِينِ الْجِنِّ {مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ}، فَعَدَمُ الْإِيمَانِ هُوَ الْمُوجِبُ لِعَقْدِ الْوَلَايَةِ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالشَّيْطَانِ.
{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 99-100]».
فَهَذَا تَحْذِيرٌ مِنَ اللهِ -تَعَالَى- لِبَنِي آدَمَ مِنْ إِبْلِيسَ وَجُنُودِ إِبْلِيسَ أَجْمَعِينَ، بَيَّنَ فِيهِ -تَعَالَى- أَنَّ عَدَاوَةَ الشَّيْطَانِ لِلْإِنْسَانِ قَدِيمَةٌ، مُنْذُ كَادَ لِأَبِيهِ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَسَعَى فِي إِخْرَاجِهِ مِنْ دَارِ النَّعِيمِ إِلَى دَارِ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ وَالْبَلَاءِ، وَمُنْذُ تَسَبَّبَ فِي هَتْكِ عَوْرَتِهِ وَظُهُورِ سَوْأَتِهِ، وَكَانَتْ مَسْتُورَةً عَنْهُ، وَمَا يَفْعَلُ هَذَا إِلَّا عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ.
وَلَا هُدْنَةَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالشَّيْطَانِ أَلْبَتَّةَ، وَلَا مُسَالَمَةَ بَيْنَهُمَا أَبَدًا، وَكَيْفَ وَعَدَاوَةُ الشَّيْطَانِ لِلْإِنْسَانِ لَمْ تَنْقَطِعْ طَرْفَةَ عَيْنٍ وَلَا أَقَلَّ مِنْهَا؟!!
وَلِشِدَّةِ عَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لِلْإِنْسَانِ، وَعَظِيمِ مَكْرِهِ بِهِ، تَنَوَّعَتْ صُوَرُ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ، وَتَنَوُّعُهَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الشَّيْطَانَ دَائِمُ التَّرَبُّصِ بِالْإِنْسَانِ، دَائِبٌ فِي سَعْيِهِ لِإِضْلَالِهِ وَغِوَايَتِهِ.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَالَ: وَعِزَّتِكَ يَا رَبِّ! لَا أَبْرَحُ أُغْوِي عِبَادَكَ مَا دَامَتْ أَرْوَاحُهُمْ فِي أَجْسَادِهِمْ.
فَقَالَ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَا أَزَالُ أَغْفِرُ لَهُمْ مَا اسْتَغْفَرُونِي».
المصدر: بِنَاءُ الْوَعْيِ وَأَثَرُهُ فِي مُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَّاتِ