تفريغ مقطع : أيسجد القلب؟

وَأَحبُّ القُلوبِ إِلَى اللهِ: قَلبٌ قَد تَمَكَّنَت مِنهُ هَذهِ الكَسرَة، وَمَلكَتهُ هَذهِ الذِّلَّة، فَهُو نَاكِسُ الرَّأسِ بَينَ يَدَي رَبِّه؛ لَا يَرفَعُ رَأسَهُ إِلَيهِ حَيَاءً وَخَجَلًا مِنَ اللهِ.
قِيلَ لِبَعضِ العَارِفِينَ: أَيَسجُدُ القَلبُ؟!
قَالَ: ((نَعَم؛ يَسجُدُ سَجدَةً لَا يَرفَعُ رَأسَهُ مِنهَا إِلَى يَومِ اللِّقَاء، فَهَذَا سُجُودُ القَلب)).
 فَقَلبٌ لَا تُبَاشِرُهُ هَذِهِ الكَسرَةُ؛ فَهُوَ غَيرُ سَاجِدٍ السُّجُودَ المُرادَ مِنهُ، فَإِذَا سَجَدَ القَلبُ للهِ هَذِهِ السَّجدَةَ العُظمَى؛ سَجَدَت مَعَهُ جَمِيعُ الجَوارِح، وَعَنَا الوَجْهُ حِينئذٍ لِلْحَيِّ القَيُّوم، وَخَشَعَ الصَّوتُ وَالجَوارِحُ كُلُّهَا، وَذَلَّ العَبدُ وَخَضَعَ وَاستَكَانَ، وَوَضَعَ خَدَّهُ علَى عَتَبَةِ العُبُودِيَّةِ, نَاظِرًا بقَلبِهِ مُستَكِينًا مُستَعطِفًا لَهُ؛ يَسأَلهُ عَطفَهُ وَرَحمَتَهُ.
 فَهُوَ يَتَرَضَّى رَبَّهُ كمَا يَتَرَضَّى المُحِبُّ الكَامِلُ المَحَبَّةِ مَحبُوبَهُ المَالِكَ لَهُ, الذِي لَا غِنَى لَهُ عَنهُ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنهُ، فَلَيسَ لَهُ هَمٌّ غَيرَ استِرضَائهِ وَاستِعطَافِهِ؛ لِأنَّهُ لَا حَياةَ لَهُ وَلَا فَلاحَ إِلَّا فِي قُربِهِ مِنهُ, وَرِضَاهُ عَنهُ وَمَحبَّتِهِ لَهُ؛ يَقُولُ: كَيفَ أُغضِبُ مَن حَياتِي فِي رِضَاه؟ وَكَيفَ أَعْدِلُ عَمَّن سَعَادَتِي وَفَلَاحِي وَفَوزِي فِي قُربِهِ وَحُبِّهِ وَذِكرِهِ؟
 صَاحِبُ هَذا المَشهَد: يَشهَدُ نَفسَهُ كَرَجُلٍ كَانَ فِي كَنفِ أَبِيهِ, يَغذُوهُ بِأَطيَبِ الطَّعَامِ وَالشَّرابِ وَاللِّبَاسِ، وَيُربِّيهِ أَحسَنَ تَربِيَة، وَيُرَقِّيهِ فِي دَرجَاتِ الكَمَالِ أَتَمَّ تَرقِيَة، وَهُوَ القَيِّمُ بمَصَالِحهِ كُلِّهَا، فَبَعَثَهُ أَبُوهُ فِي حَاجَةٍ لَهُ، فَخَرَجَ عَلَيهِ فِي الطَّرِيقِ عَدُو؛ فَأَسَرَهُ وَكَتَّفَهُ وَشَدَّ وَثَاقَهُ، ثُمَّ ذَهَبَ بِهِ إِلَى بِلَادِ الأَعدَاءِ، فَسَامَهُ سُوءَ العَذاب، وَعَامَلَهُ بضِدِّ مَا كَانَ أَبُوهُ يُعَامِلُهُ بِهِ، فَهُوَ يَتَذَكَّرُ تَربِيَةَ وَالِدِهِ وَإِحسَانَهُ إِلَيهِ الفَيْنَةَ بَعدَ الفَيْنَة، فَتَهِيجُ مِن قَلبِهِ لَواعِجُ الحَسَرات، كُلَّمَا رَأَى حَالَهُ وَتَذَكَّرَ مَا كَانَ فِيهِ.
 فَبَينَمَا هُوَ فِي أَسرِ عَدُوِّهِ؛ يَسُومُهُ سُوءَ العَذاب، وُيُرِيدُ نَحرَهُ آخِرَ الأَمْر، إِذْ حَانَت مِنهُ إِلتِفَاتَةٌ إِلَى نَحوِ دِيَارِ أَبِيهِ؛ فَرَأَى أَبَاهُ مِنهُ قَرِيبًا فَسَعَى إِلَيهِ، وَأَلقَى نَفسَهُ عَلَيهِ، وَانطَرَحَ بَينَ يَدَيهِ يَستَغِيثُ: يَا أَبَتَاهُ يَا أَبَتَاهُ!! انَظُر إِلَى وَلَدِكَ وَمَا هُوَ فِيهِ، وَدُمُوعُهُ تَستَبِقُ علَى خَدَّيهِ، قَد اعْتَنَقَهُ وَالتَزَمَهُ؛ وَعَدُوُّهُ فِي طَلَبِهِ حَتَّى وَقَفَ علَى رَأسِهِ وَهُوَ مُلتَزِمٌ لِوالِدِهِ, مُمْسِكٌ بِهِ، فَهَل تَقُولُ إِنَّ وَالِدَهُ يُسْلِمُهُ مَع هَذِهِ الحَالِ إِلَى عَدُوِّهِ وَيُخَلِّي بَينَهُ وَبَينَه؟!
 فَمَا الظَّنُّ بِمَن هُوَ أَرحَمُ بعَبدِهِ مِنَ الوَالِدِ بِوَلَدِهِ وَمِنَ الوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا؛ إِذَا فَرَّ عَبدٌ إِلَيهِ، وَهَرَبَ مِن عَدُوِّهُ إِلَيهِ، وَأَلقَى نَفسَهُ طَرِيحًا بِبَابِهِ، يُمَرِّغُ خَدَّهُ فِي ثَرَى أَعتَابِهِ، بَاكِيًا بَينَ يَدَيهِ يَقُولُ: يَا رَبّ يَا رَبّ؛ ارْحَم مَن لَا رَاحِمَ لَهُ سِوَاكَ، وَلَا وَلِيَّ لَهُ سِوَاكَ, وَلَا نَاصِرَ لَهُ سِوَاكَ، وَلَا مُئْوِيَ لَهُ سِوَاكَ، وَلَا مُغِيثَ لَهُ سِوَاكَ، مِسكِينَكَ وَفَقِيرَكَ وَسَائلَكَ وَمُؤمِّلَكَ وَمُرَجِّيكَ، لَا مَلجَأَ وَلَا مَنجَا لَهُ مِنكَ إِلَّا إِلَيكَ، أَنتَ مَعَاذُهُ وَبِكَ مَلَاذُهُ؟!
 فَإِذَا استَبصَرَ العَبدُ فِي هَذَا المَشهَد، وَتَمَكَّنَ فِي قَلبِهِ وَبَاشَرَهُ، وَذَاقَ طَعمَهُ وَحَلَاوَتَهُ؛ تَرَقَّى مِنهُ إِلَى الغَايَةِ التِي شَمَّرَ إِلَيهَا السَّالِكُونَ، وَأَمَّهَا القَاصِدُونَ، وَلَحظَ إِلَيهَا العَامِلُونَ.
 وَهِيَ مَشهَدُ العُبودِيَّةِ وَالمَحَبَّةِ وَالشَّوقَِ إِلَى لِقَائِهِ, وَالابتِهَاجِ وَالفَرَحِ وَالسُّرُورِ بِهِ؛ فَتَقَرُّ بِهِ عَينُهُ، وَيَسكُنُ إِلَيهِ قَلبُهُ، وَتَطمَئنُّ إِلَيهِ جَوارِحُهُ، وَيَستَولِي ذِكرُهُ علَى لِسَانِ مُحِبِّهِ وَقَلبِهِ؛ فَتَصِيرُ خَطَراتُ المَحَبَّةِ مَكَانَ خَطَرَاتِ المَعصِيَة، وَإِرَادَةُ التَّقَرُّبِ إِلَيهِ وَإِلَى مَرضَاتِهِ مَكَانَ إِرَادَةِ مَعَاصِيهِ وَمَسَاخِطِهِ، وَحَرَكَاتُ اللِّسَانِ وَالجَوَارِحِ بَالطَّاعَاتِ مَكَانَ حَرَكَاتِهَا بِالمَعَاصِي، قَد امتَلَأَ قَلبُهُ مِن مَحَبَّتِهِ، وَلَهَجَ لِسَانَهُ بِذِكرِهِ، وَانقَادَت الجَوارِحُ لِطَاعَتِهِ، فَإِنَّ هَذِهِ الكَسرَةَ الخَاصَّة لهَا تَأثِيرٌ عَجِيبٌ فِي المَحَبَّةِ لَا يُعَبَّرُ عَنهُ.

التعليقات


مقاطع قد تعجبك


  تَعَرَّفْ كَيْفَ تُحَوِّلْ حَيَاتَكَ كُلَّهَا إِلَى عِبَادَةٍ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-
  حروب الجيل الرابع وثورة 25 يناير
  إيَّاكَ أنْ تقولَ على اللهِ ما لا تَعْلَم
  اصمتوا رحمكم الله... ألا تبصرون؟!
  مُرَائِي حتى بعد موته!!
  لا تُفَوِّتْ الخيرَ على نفسِكَ
  انقسم شباب الأمة اليوم إلى ثلاثة أقسام... على الرغم من أنهم صمام أمانها!!
  حقق عقيدتك أوَّلًا حتى تعرف ربك وتعرف دينك وتعرف عقيدتك
  اسمع هذا لمن ينظر الى النساء نظرات الخبث
  أهمية نعمة الأمن
  رجب شهر حرام مُعَظَّم عند الله وذِكر أحاديث ضعيفة واردة فيه
  أين يسكن الجن ..؟
  يوم عاشوراء بين الرافضةِ والنواصب وأهل السُّنة
  تَعَلُّمُ دِينِ اللهِ فِيهِ خَيْرٌ كَبِيرٌ
  أهـو هـو؟!! رجـل يختار كيف يموت!!
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان