((مِنْ أَعْظَمِ مُوجِبَاتِ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ فِي رَمَضَانَ:
الصِّيَامُ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الصَّوْمَ أَحَدُ أَبْوَابِ الْخَيْرِ وَخِصَالِهِ الَّتِي تَكُونُ سَبَبًا فِي وِقَايَةِ الْعَبْدِ مِنَ النَّارِ؛ فَالصَّوْمُ جُنَّةٌ وَوِقَايَةٌ مِنَ النَّارِ، كَمَا فِي «الْمُسْنَدِ» بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ يَسْتَجِنُّ بِهَا الْعَبْدُ مِنَ النَّارِ».
وَ«الْجُنَّةُ»: الْوِقَايَةُ؛ كَالدِّرْعِ السَّابِغَةِ، يَتَحَصَّنُ بِهَا الْمَرْءُ مِنْ سِلَاحِ عَدُوِّهِ، فَالصَّوْمُ جُنَّةٌ مِنَ النَّارِ؛ وِقَايَةٌ وَسَاتِرٌ وَحِجَابٌ بَيْنَ الْمَرْءِ وَالنَّارِ -أَعَاذَنَا اللهُ جَمِيعًا مِنْهَا-.
وَعَنْ مُعَاذٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَأَصْبَحْتُ يَوْمًا قَرِيبًا مِنْهُ وَنَحْنُ نَسِيرُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ.
قَالَ: «لَقَدْ سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللهُ عَلَيْهِ: تَعْبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ».
ثُمَّ قَالَ: «أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْخَيْرِ؟! الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا يُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ، وَصَلَاةُ الرَّجُلِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ». رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
وَالْإِنْسَانُ إِذَا صَامَ لِلهِ يَوْمًا، وَكَانَ صِيَامُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ؛ بَعَّدَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا، وَفِي رِوَايَةٍ: ((مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ؛ جَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ خَنْدَقًا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)).
وَالصَّوْمُ أَحَدُ الشُّفَعَاءِ الَّذِينَ يَقْبَلُ اللهُ شَفَاعَتَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ الْقُرْآنَ وَالصِّيَامَ يَشْفَعَانِ فِي الْعَبْدِ, يَقُولُ الصِّيَامُ: مَنَعْتُهُ الشَّهْوَةَ وَالطَّعَامَ وَالشَّرَابَ بِالنَّهَارِ, فَيُشَفَّعُ، وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ وَأَوْرَثْتُهُ السُّهْدَ وَالسَّهَرَ)) .
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((فَيُشَفَّعَانِ))، فَيَشْفَعُ الصِّيَامُ, وَيَشْفَعُ الْقُرْآنُ فِي الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
كَمَا أَنَّ الصَّوْمَ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ، وَطَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ؛ فَقَدْ وَعَدَ اللهُ عِبَادَهُ الصَّائِمِينَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالْأَجْرِ الْعَظِيمِ، قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوْجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيْرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب:35].
إِنَّ الْمُتَّصِفِينَ بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْعَشْرِ؛ وَمِنْهَا: الصَّائِمُونَ فِي الْفَرْضِ وَالنَّفْلِ، وَالصَّائِمَاتُ.. الَّذِيْنَ اتَّصَفُوا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ الْعَشْرِ، أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَاسِعَةً تَمْحُو ذُنُوبَهُمْ، وَأَجْرًا عَظِيمًا بِفَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ وَهُوَ الْجَنَّةُ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ صَائِمًا؟».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: أَنَا.
قَالَ: «مَنْ أَطْعَمَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ مِسْكِينًا؟».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا.
قَالَ: «مَنْ تَبِعَ مِنْكُمُ الْيَوْمَ جَنَازَةً؟».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا.
فَقَالَ: «مَنْ عَادَ الْيَوْمَ مَرِيضًا؟».
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْخِصَالُ قَطُّ فِي رَجُلٍ فِي يَوْمٍ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ». رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
إِنَّ الْلَّهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- جَعَلَ فِي رَمَضَانَ مِنْ خِصَالِ الْخَيْرِ وَأَسْبَابِ الْمَغْفِرَةِ مَا هُوَ مُتَاحٌ بَيِّنٌ ظَاهِرٌ؛ فَقَدْ أَخْبَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُوَجِّهًا الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّ الصِّيَامَ مِنَ الْإِيمَانِ تَحْصِيلُهُ بَأَسْبَابِهِ، وَنُقْصَانُ الصِّيَامِ نُقْصَانٌ مِنَ الْإِيمَانِ؛ وَلِأَنَّ مَعْقِدَ الإِيمَانِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَالْأَخْذِ بِالتَّعَالِيمِ، وَالْبُعْدِ عَنِ الْمُنْكَرَاتِ.
فَوَجَّهَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْخِطَابَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَأَعْلَمَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْحِكْمَةِ مِنْ فَرْضِ الصِّيَامِ عَلَيْهِمْ، وَبَيَّنَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمُ الصِّيَامَ، وَفَرَضَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَلَمْ يُخْبِرْنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّهُ فَرَضَ الصَّلَاةَ عَلَى السَّابِقِينَ، كَمَا فَرَضَهَا عَلَيْنَا، وَلَا فَرَضَ عَلَيْنَا الصَّلَاةَ، كَمَا فَرَضَهَا عَلَيْهِمْ.
لِأَنَّ فِي الصِّيَامِ الْمَشَقَّةَ.
وَلِأَنَّ فِي الصِّيَامِ التَّعَبَ.
وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُغَادِرُ فِيهِ الْمَأْلُوفَ، وَيُعَانِي مِنَ الْجُوعِ وَالْعَطَشِ وَالْحِرْمَانِ.
وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَخْبَرَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّهُ كَتَبَ عَلَيْنَا الصِّيَامَ كَمَا كَتَبَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَلِمَ أَنَّ غَيْرَهُ قَدْ شَارَكَهُ فِي الَّذِي هُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِ، خَفَّ عَلَيْهِ وَهَانَ.
فَقَالَ اللهُ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، فَأَخْبَرَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّهُ فَرَضَ عَلَيْنَا الصِّيَامَ -صِيَامَ رَمَضَانَ-، وَأَنَّهُ فَرَضَ الصِّيَامَ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَنَا مِنَ الْأُمَمِ، وَأَنَّ هَذَا الْفَرْضَ الَّذِي فَرَضَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَيْنَا فَرَضَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا؛ حَتَّى يَقَعَ فِي نَفْسِ الْمُؤْمِنِ -عِنْدَ الْمُشَارَكَةِ- مَا يَسْتَطِيعُ بِهِ أَلَّا يَسْتَصْعِبَ شَيْئًا فَرَضَهُ اللهُ عَلَيْهِ.. {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
وَبَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنَّ ذَلِكَ لِأَجْلِ تَحْصِيلِ التَّقْوَى، وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ؛ فَبَيَّنَ أَنَّ الصِّيَامَ لَيْسَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَإِنَّمَا الصِّيَامُ بِشَيْءٍ آخَرَ يُحَصِّلُهُ الْعَبْدُ الصَّائِمُ؛ حَتَّى يَكُونَ صَائِمًا حَقًّا فِي مِيزَانِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
فَلَيْسَ الصِّيَامُ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ -كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ-: ((لَيْسَ الصِّيَامُ بِالْجُوعِ وَالْعَطَشِ)) .
((وَلَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَإِنَّمَا الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَالصَّخَبِ)).
الصِّيَامُ -كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ-: شَيْءٌ يَتَحَصَّلُ مِنْ وَرَائِهِ الْمَرْءُ الصَّائِمُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الْخَيْرِ، يَتَغَيَّرُ بِهِ نِظَامُ حَيَاتِهِ، وَيَتَبَدَّلُ بِهِ سُلُوكُهُ، وَيَكْتَسِبُ بِالصِّيَامِ الصَّحِيحِ أُمُورًا لَمْ تَكُنْ قَبْلُ فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ يُعَانِيهَا، وَلَمْ يَكُنْ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّهُ: ((كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَكَمْ مِنْ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ)) ؛ إِلَّا التَّعَبُ وَالنَّصَبُ.
فَبَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ أَنَّ الصِّيَامَ يُحَصِّلُ لَدَى الْمَرْءِ الصَّائِمِ شَيْئًا عَظِيمًا جِدًّا وَجَلِيلًا جِدًّا، وَهُوَ مَا تَعَلَّقَ بِسُلُوكِيَّاتِهِ وَأَخْلَاقِهِ، وَأَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ أَنَّ الَّذِي لَا يَدَعُ قَوْلَ الزُّورِ -وَهُوَ الِانْحِرَافُ عَنِ الْحَقِّ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الانْحِرَافِ؛ قَوْلًا وَعَمَلًا، وَاعْتِقَادًا، وَمَسْلَكًا- ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)) .
فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ عَنِ الْغَايَةِ الَّتِي هِيَ وَرَاءَ الْوَسِيلَةِ، وَبَيَّنَ الْحِكْمَةَ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَيْهَا الصَّائِمُ الْتِفَاتًا صَحِيحًا، وَأَنْ يَسْعَى سَعْيًا حَثِيثًا؛ مِنْ أَجْلِ الْوُصُولِ إِلَيْهَا وَتَحْصِيلِ ثَمَرَتِهَا.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ -مَنْ لَمْ يَتْرُكْ- قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ))؛ لِأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ غَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ خَلْقِهِ، وَالْلَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِنَّمَا أَرَادَ الْخَيْرَ بِالنَّاسِ، وَأَرَادَ الْخَيْرَ لِلْمُؤْمِنِينَ؛ فَفَرَضَ عَلَيْهِمُ الصِّيَامَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَتَبَدَّلَ سُلُوكِيَّاتُهُمْ، وَأَنْ تَتَحَسَّنَ أَخْلَاقُهُمْ، وَأَنْ يَصِيرُوا خَلْقًا جَدِيدًا فِي تَعَامُلَاتِهِمْ، وَفِي أَحَاسِيسِهِمْ، وَفِي مَشَاعِرِهِمْ، وَفِي حَرَكَةِ حَيَاتِهِمْ.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ مُحَذِّرًا: إِنَّ هَذَا الصِّيَامَ الَّذِي يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ عَامَّةُ الصَّائِمِينَ؛ وَأَنَّهُ مُجَانَبَةُ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ مِنَ الْفَجْرِ الصَّادِقِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، لَا يُعَدُّ شَيْئًا مَا لَمْ يُحَصِّلِ الَّذِي يَأْتِي بِهِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَمَا لَمْ يَصِلْ إِلَى مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْغَايَاتِ، وَمَا لَمْ يَجْنِ مَا وَرَاءَهُ مِنَ الْجَنَى وَالثَّمَرَاتِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الْزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ -وَفِي رِوَايَةٍ: وَالْجَهْلَ-، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ)).
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَمْرًا آخَرَ، وَجَعَلَهُ مُرْتَبِطًا بِالصِّيَامِ، فَقَالَ ﷺ: ((إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، فَإِنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ)) .
فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ ارْتِبَاطَ الصِّيَامِ فِي يَوْمِهِ بِالْبُعْدِ عَنِ الْخَنَا، وَبِالْبُعْدِ عَنِ الصَّخَبِ، وَبِالْبُعْدِ عَنِ الْكَلِمَةِ الْعَوْرَاءِ، يَتَفَوَّهُ بِهَا الْمَرْءُ رَفَثًا، فَكُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يَنْبَغِي أَلَّا يَكُونَ مِنْهُ شَيْءٌ فِي أَثْنَاءِ الصِّيَامِ، ((فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَصْخَبْ، وَإِنْ قَاتَلَهُ أَحَدٌ أَوْ سَابَّهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ، إِنِّي صَائِمٌ))، يُذَكِّرُ نَفْسَهُ، وَيُذَكِّرُ الْآخَرَ أَيْضًا.
فَجْعَلُ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ الصَّوْمِ مُرْتَبِطًا بِعَدَمِ هَذِهِ الْأُمُورِ الَّتِي ذَكَرَهَا الرَّسُولُ ﷺ.
((فَلَا يَرْفُثْ)): وَهُوَ الْكَلَامُ بِرَدِيءِ وَفَاحِشِ الْكَلِمِ؛ فَالإِنْسَانُ إِذَا أَصْبَحَ صَائِمًا، فَعَلَيْهِ أَلَّا يَجْعَلَ لِسَانَهُ مُتَخَلَّلًا، يَتَخَلَّلُ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ، أَوْ يَقَعُ فِي الْكَلَامِ الْفَاحِشِ الْبَذِيءِ، أَوْ يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ الَّتِي تَمُرُّ -حَتَّى- لَغْوًا لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ خَسِرَ الصَّفْقَةَ الرَّابِحَةَ، وَالْأَصْلُ أَلَّا تَمُرَّ لَحْظَةٌ مِنْ لَحْظَاتِ الْعَبْدِ الْمُؤْمِنِ إِلَّا وَقَدْ جَعَلَهَا لِنَفْسِهِ غَنِيمَةً؛ لِأَنَّ الْعُمْرَ هُوَ رَأْسُ الْمَالِ، وَأَيُّ تَاجِرٍ يُغَامِرُ بِرَأْسِ الْمَالِ هُوَ تَاجِرٌ فَاشِلٌ بِلَا خِلَافٍ.
فَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ، إِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ التَّنْمِيَةَ وَالتَّثْمِيرَ وَالِاسْتِثْمَارَ فِي رَأْسِ الْمَالِ، فَعَلَيْهِ أَلَّا يُهْدِرَهُ، وَأَلَّا يُبَدِّدَهُ، وَأَلَّا يَمُرَّ لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الْخُسْرَانُ حَقًّا، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَصْخَبْ)) .
وَلَا يَسُبَّ مَنْ سَبَّهُ، وَالسَّبُّ: هُوَ الْإِتْيَانُ بِقَبِيحِ الْكَلَامِ، وَمَا يُرَادُ بِهِ التَّنَقُّصُ وَالْإِقْلَالُ مِنَ الشَّأْنِ، هَذَا هُوَ مَفْهُومُ السَّبِّ عِنْدَ عَامَّةِ الْبَشَرِ؛ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ دَالًّا عَلَى الِانْتِقَاصِ وَالتَّقْلِيلِ مِنَ الشَّأْنِ وَالْقَدْرِ، فَهَذَا الْأَمْرُ إِذَا وَقَعَ مِنَ الْآخَرِ فَلَا يَنْبَغِي مُطْلَقًا أَنْ يُقَابَلَ بِمِثْلِهِ، بَلْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَابَلَ بِمَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ ﷺ، ((فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ))؛ يُذَكِّرُ نَفْسَهُ أَنَّهُ قَدْ فُطِمَ عَنْ مُقَابَلَةِ السَّيِّئَةِ بِمِثْلِهَا، وَأَنَّهُ قَدْ فُطِمَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمَا يَسُوءُ، وَأَنَّهُ قَدْ فُطِمَ عَنْ أَنْ يُخَالِفَ الرَّسُولَ ﷺ.
قَدْ دَلَّنَا رَبُّنَا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ الْكَرِيمِ ﷺ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ الْجَلِيلِ الَّذِي جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ثَمَرَةً لِلصِّيَامِ الصَّحِيحِ: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
الصِّيَامُ: هُوَ الِامْتِنَاعُ وَالْكَفُّ بِنِيَّةٍ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالشَّهْوَةِ مِنَ الْفَجْرِ الصَّادِقِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَصُومَ -لَا تَعَبُّدًا-، يُمْكِنُ أَنْ يُمْسِكَ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ حِمْيَةً، أَوْ بِأَمْرِ مَنْ يُعَالِجُهُ لِدَاءٍ فِيهِ، فَيَكُفُّ -حِينَئِذٍ- عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، رُبَّمَا تَمْتَدُّ بِهِ السَّاعَاتُ إِلَى أَكْثَرَ مِمَّا تَمْتَدُّ بِهِ سَاعَاتُ يَوْمِ الصِّيَامِ، وَلَا يُعَدُّ صَائِمًا.
فَلَا بُدَّ أَنْ يَأْتِيَ بِالْكَفِّ تَعَبُّدًا، وَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِالْكَفِّ تَعَبُّدًا لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ مِنْ هِلَالِ رَمَضَانَ إِلَى هِلَالِ شَوَّالٍ؛ فَإِنَّهُ لَا يُعَدُّ صَائِمًا فِي مِيزَانِ الشَّرْعِ الْأَغَرِّ، وَإِنَّمَا يُتَعَبَّدُ بِالتَّرْكِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ كَانَ يُبَيِّنُ لَنَا -بِفِعْلِهِ، وَقَوْلِهِ وَسُلُوكِهِ، وَإِقْرَارِهِ ﷺ- مَدَى تَأْثِيرِ الصِّيَامِ فِي النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ؛ لَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ، وَهُوَ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْهِ الصِّيَامَ؛ فَجَعَلَ مَا فَرَضَهُ عَلَيْهِ إِصْلَاحًا لَهُ، وَوِقَايَةً وَجُنَّةً لَهُ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ: ((الصَّوْمُ جُنَّةٌ؛ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ فَلَا يَرْفُثْ، وَلَا يَصْخَبْ)).
فَبَيَّنَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْصَّوْمَ وِقَايَةٌ، وَالْجُنَّةُ: مَا يَسْتَجِنُّ بِهِ الْإِنْسَانُ وَيَخْتَفِي بِهِ مِنْ عُيُونِ أَعْدَائِهِ وَمَنْ سِلَاحِهِمْ، وَالْجُنَّةُ: التُّرْسُ وَالدِّرْعُ يَجْعَلُهُ الْمُحَارِبُ عَلَى صَدْرِهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَقِيَ نَفْسَهُ سِهَامَ الْعَدُّوِ وَحِرَابَهُمْ وَكَذَلِكَ سُيُوفَهُمْ.
فَجَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ الصِّيَامَ جُنَّةً، جَعَلَهُ وِقَايَةً لِلصَّائِمِ أَنْ يَتَوَرَّطَ فِيمَا يُجَانِبُ التَّقْوَى، وَفِيمَا يُخَالِفُ الدِّينَ.
((الصَّوْمُ جُنَّةٌ))، فَجَعَلَهُ النَّبِيُّ ﷺ بِمَثَابَةِ الْحِصْنِ يَحْتَمِي بِهِ الصَّائِمُ مِنْ عَدُوِّهِ أَنْ يُصِيبَهُ، وَيَكْفِي فِيهِ أَنَّهُ يُقَلِّلُ مَجَارِيَ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ، وَفِي رُوحِهِ، وَفِي بَدَنِهِ، وَفِي ضَمِيرِهِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَصْبَحَ صَائِمًا، وَأقْبَلَ عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَادِمًا، وَتَخَشَّعَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَاسْتَغْفَرَ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ تَائِبًا، فَإِنَّهُ يُجَانِبُ الشَّيْطَانَ، وَيُجَانِبُهُ الشَّيْطَانُ.
وَإِذَا مَا قَلَّلَ مِنْ مَادَّةِ الْقُوَّةِ الَّتِي تَسْتَفِزُّ الْمَرْءَ لِفِعْلِ الشَّهَوَاتِ، وَالَّتِي تَمُدُّ قُوَّةَ الْغَضَبِ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ -حِينَئِذٍ- يَكُونُ عَلَى طَرِيقِ السَّلَامَةِ، وَعَلَى الْمَحَجَّةِ الْبَيْضَاءِ خَلْفَ نَبِيِّهِ ﷺ.
الرَّسُولُ ﷺ بَيَّنَ لَنَا بِفِعْلِهِ وَقَوْلِهِ وَإِقْرَارِهِ وَسُلُوكِهِ ﷺ فِي رَدِّ الْفِعْلِ عَلَى جَهْلِ الْآخَرِينَ، فِي رَدِّ الْفِعْلِ عَلَى خَطَأِ الْآخَرِينَ، فِي رَدِّ الْفِعْلِ عَلَى خَطَايَا الْآخَرِينَ فِيهِ؛ إِذْ يَظْلِمُونَهُ، إِذْ يَحْمِلُونَ عَلَيْهِ، إِذْ يَعْتَدُونَ عَلَيْهِ ﷺ.
فَبَيَّنَ لَنَا ﷺ -بِذَلِكَ جَمِيعِهِ- مَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بِإِزَاءِ أَعْيُنِ قُلُوبِنَا، بِبَصَائِرِنَا؛ حَتَّى نَسْلُكَ مَسْلَكَهُ، وَنَنْهَجَ نَهْجَهُ، وَنَسِيرَ خَلْفَهُ؛ لِيَكُونَ مُسْتَقَرُّنَا فِي الْجَنَّةِ -إِنَّ شَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ-.
المصدر:رَمَضَانُ شَهْرُ الْعِتْقِ مِنَ النَّارِ