عِيشُوا بِالْوَحْيِ تَسْعَدُوا!


((عِيشُوا بِالْوَحْيِ تَسْعَدُوا!))

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! إِنَّ الْوَحْيَ هُوَ نُورُ العَالَمِ وَحَيَاتُهُ وَهِدَايَتُهُ، وَعَلَى قَدْرِ تَمَسُّكِ الْإِنْسَانِ بِهَذَا النُّورِ وَالحَيَاةِ وَالهُدَى يَكُونُ تَحْقِيقُهُ لِلْقَصْدِ الَّذِي لِأَجْلِهِ خَلَقَهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَإِنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَنَا لِغَايَةٍ، وَهَذِهِ الغَايَةُ مُبَيَّنَةٌ فِي الوَحْيِ المَعْصُومِ، وَإِذَا مَا عَاشَ النَّاسُ بِهَذَا الوَحْيِ سَعِدُوا فِي الحَيَاةِ، وَتَجَنَّبُوا سُبُلَ الشَّقَاءِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَلَا حَيَاةَ لِهَذَا العَالَمِ إِلَّا بِأَنْ يَتَمَسَّكَ بِالْوَحْيِ.

الشَّيْطَانُ فِي مَعْرَكَتِهِ مَعَ الْإِنْسَانِ حَرِيصٌ تَمَامَ الْحِرْصِ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ النَّاسَ عَائِشِينَ بِنَقِيضِ الوَحْيِ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا وَحْيٌ وَإِمَّا نَقِيضُهُ، فَإِمَّا أَنْ تَحْيَا بِالْوَحْيِ، وَإِمَّا أَنْ تَحْيَا بِنَقِيضِ الْوَحْيِ.

أَمَّا مَنِ اتَّبَعَ الْوَحْيَ؛ فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِلَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَلِرَسُولِهِ، وَأَمَّا مَنْ فَارَقَ الْوَحْيَ فَهُوَ مُتَّبِعٌ لِلشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا وَحْيٌ وَإِمَّا نَقِيضُ الوَحْيِ.

وَالَّذِي يُرِيدُهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنَّا هُوَ: ((أَنْ نَحْيَا بِالْوَحْيِ))، وَهَذِهِ الجُمْلَةُ لَوْ أَنَّكَ أَخَذْتَ مَعْنَاهَا الصَّحِيحَ، وَجَعَلْتَهُ فِي حَيَاتِكِ نِبْرَاسًا وَمِنْهَاجًا، وَحَقَّقْتَهُ فِي ذَاتِكَ وَفِي رُوحِكَ وَفِي نَفْسِكَ وَفِي جَسَدِكَ وَفِي مَنْ حَوْلَكَ.. هَذِهِ الجُمْلَةُ تُورِثُكَ السَّعَادَةَ دُنْيَا وَآخِرَةً، وَتُجَنِّبُكَ الشَّقَاءَ وَالتَّعَاسَةَ دُنْيَا وَآخِرَةً؛ وَهِيَ: ((عِشْ بِالْوَحْيِ)).

يَقُولُ سُفْيَانُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا تَحُكَّ جَلْدَكَ بِظُفُرِكَ إِلَّا بِأَثَرٍ وَسُنَّةٍ فَافْعَلْ)) .

مَعْنَى هَذَا: أَنْ تَكُونَ عَائِشًا بِالوَحْيِ..

مَاذَا قَالَ اللَّهُ فِي هَذَا الْأَمْرِ؟

وَمَاذَا قَالَ الرَّسُولُ فِي هَذَا الشَّأْنِ؟

ثُمَّ تَتَّبِعِ ذَلِكَ، إِنْ جَانَبْتَهُ فَأَنْتَ عَائِشٌ بِنَقِيضِ الوَحْيِ.

النَّبِيُّ أَرْسَلَهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بُكَلِّ مَا يَنْفَعُنَا -يَأْمُرُنَا بِهِ- مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَأُمُورِ الدِّينِ، وَأَرْسَلَهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مُحَذِّرًا وَمُنْذِرًا مِنَ اتِّبَاعِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَمِنَ اتِّخَاذِ سُبُلِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ مَنْهَجًا وَطَرِيقًا وَسَبِيلًا.

وَبَيَّنَ النَّبِيُّ كُلَّ شَيءٍ مِمَّا فِيهِ سَعَادَةُ الْعَبْدِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَمِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ.

قَدْ قِيلَ لِسَلْمَانَ -قَالَ لَهُ حَبْرٌ يَهُودِيٌّ-: قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ ﷺ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ؟!)).

يَعْنِي: حَتَّى كَيْفَ يَقْضِي الْإِنْسَانُ حَاجَتَهُ.

فَقَالَ: «أَجَلْ؛ لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ».

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ كَيْفَ يَقْضِي الْإِنْسَانُ حَاجَتَهُ، أَفَيُبَيِّنُ هَذَا وَيَتْرُكُ مَا هُوَ فَوْقَهُ مِنْ أُمُورِ الِاعْتِقَادِ، وَمِنْ أُمُورِ الْعِبَادَةِ، وَمِنْ أُمُورِ الْمُعَامَلَةِ، وَمِنْ أُمُورِ الْأَخْلَاقِ وَالسُّلُوكِ؟!!

هَذَا مِمَّا لَا يَقْبَلُهُ عَقْلٌ!!

فَبَيَّنَ النَّبِيُّ كُلَّ شَيءٍ مِمَّا يَنْفَعُنَا فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، وَكُلَّمَا اسْتَكْثَرَ المَرْءُ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ زَادَ فَلَاحُهُ وَقَلَّ طَلَاحُهُ، وَازْدَادَ خَيْرُهُ وَانْتَفَى شَرُّهُ.

وَهَذَا كَمَا يَكُونُ كَذَلِكَ، فَعَكْسُهُ عَلَى عَكْسِهِ وَضِدِّهِ؛ كُلَّمَا ابْتَعَدَ الْإِنْسَانُ عَنِ الْوَحْيِ الْمَعْصُومِ إِلَى زُبَالَاتِ الْأَفْكَارِ، وَإِلَى قُمَامَاتِ الْآرَاءِ، وَإِلَى مَا يَأْخُذُ بِهِ النَّاسُ مِنْ مُوَاضَعَاتِهِمْ وَعَادَاتِهِمْ وَمُعْتَقَدَاتِهِمْ مِمَّا تَرَبَّوْا عَلَيْهِ وَلَمْ يُرَاجِعُوهُ، لِأَنَّهُم لَمْ يَتَلَقَّوْهُ تَلَقِّيًا صَحِيحًا، وَلَمْ يَتَعَلَّمُوا الدِّينَ تَعْلِيمًا مُنَظَّمًا، فَمَا عِنْدَهُمْ مَحْضُ تَشْوِيشٍ، يَأْخُذُ مِنْ هَاهُنَا عِبَارَةً وَمِنْ هَاهُنَا حُكْمًا، وَدِينُ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَالجَسَدِ الحَيِّ.

جَعَلَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْجَسَدِ الْإِنْسَانِيِّ الْحَيِّ رَأْسًا وَجِذْعًا وَأَطْرَافًا، وَجَعَلَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْعَيْنَيْنِ مَوْضِعَهُمَا، وَلِلْأُذُنَيْنِ فِي الرَّأْسِ مَوْضِعَهُمَا، وَجَعَلَ الْإِنْسَانَ قَائِمًا عَلَى طَرَفَيْهِ السُّفْلِيَّينِ، وَجَعَلَ كُلَّ شَيءٍ فِي مَوْضِعِهِ.

لَوْ أَنَّ إِنْسَانًا تَصَوَّرَ أَنَّهُ يُعِيدُ هَذَا التَّشْكِيلَ فِي كَائِنٍ إِنْسَانِيٍّ؛ فَيَجْعَلُ عَيْنَيْهِ فِي قَفَاهُ، وَيَجْعَلُ أُذُنَيْهِ فِي أَعْلَى رَأْسِهِ، وَيَجْعَلُ طَرَفَيْهِ العُلْوِيَّيْنِ فِي مَكَانِ طَرَفَيْهِ السُّفْلِيَّيْنِ وَبِالْعَكْسِ، لَوْ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ مَا تَحَصَّلَ عَلَى كَائِنٍ يُمْكِنُ أَنْ يُؤَدِّيَ أَدَاءً صَحِيحًا أَيَّ أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي بِهَا حَيَاتُهُ وَمَعَاشُهُ.

فَكَمَا جَعَلَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هَذَا الْإِنْسَانُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الْبَدِيعِ مِنَ التَّسْوِيَةِ؛ خَلَقَهُ فَسَوَّاهُ فَعَدَلَهُ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَهُ، كَذَلِكَ الشَّأْنُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

فِي الْإِسْلَامِ مَا هُوَ مِثْلُ القَلْبِ فِي الْإِنسَانِ، وَفِي الْإِسْلَامِ مَا هُوَ مِثْلُ الْمُخِّ فِي الْكَائِنِ الْإِنْسَانِيِّ، وَمَا هُوَ مِثْلُ الْعَيْنَيْنِ، وَلِكُلِّ عُضْوٍ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ فِي الْجَسَدِ الْإِنْسَانِيِّ قِيمَتُهُ وَوَظِيفَتُهُ، وَلَا يُقَدَّمُ عَلَى مَا هُوَ فَوْقَهُ بِالْقِيمَةِ وَبِالْوَظِيفَةِ، فَمَثَلًا: لَا يُمْكِنُ أَنْ تُقَارِنَ الْعَيْنَ بِالظُّفُرِ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَارِنَ الْإِنْسَانُ الْقَلْبَ بِالشَّعْرِ، فَكُلُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا مُقَارَنَةَ لَهَا، كَذَلِكَ فِي الدِّينِ.

النَّاسُ -أَحْيَانًا- يَتَمَسَّكُونَ بِمَا يُسَاوِي قُلَامَةَ الظُّفُرِ فِي الْإِنْسَانِ الْحَيِّ، وَيَتْرُكُونَ مَا يُوَازِي الْقَلْبَ وَالرُّوحَ وَالْعَقْلَ وَالنَّفْسَ؛ لِأَنَّهُم يَخْلِطُونَ، وَهَذَا مَعِيبٌ جِدًّا؛ لِأَنَّهُم يَتَحَصَّلُونَ فِي النِّهَايَةِ عَلَى إِسْلَامٍ مُشَوَّشٍ مُشَوَّهٍ، لَيْسَ هُوَ الَّذِي أَرَادَهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ خَلْقِهِ.

فَكَمَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْيَا بِقَلْبِهِ، وَالْقَلْبُ مَلِكُ هَذَا الْجَسَدِ الْإِنْسَانِيِّ، وَالْأَعْضَاءُ كُلُّهَا كَأَنَّمَا هِيَ مِنْ جُنُودِهِ تَأْتَمِرُ بِأَمْرِهِ، كَذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ قَلْبُهُ وَرُوحُهُ وَحَقِيقَتُهُ: تَوْحِيدُ اللَّهِ رَبِّ العَالمِينَ.

فَمَنْ لَمْ يُحَقِّقْ هَذَا وَأَخَذَ بِمَا هُوَ دُونَهُ، فَهُوَ تَمَامًا كَالَّذِي يُقَدِّمُ الظُّفُرَ عَلَى القَلْبِ، الشَّعْرَ عَلَى المُخِّ وَالعَقْلِ!! فَهَذَا يَأْتِي بِشَيْءٍ مُشَوَّهٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَنْتَظِمَ مِنْهُ مَا يَنْفَعُهُ لَا دُنْيَا وَلَا آخِرَةً.

لِذَلِكَ بَدَأَ كُلُّ نَبِيٍّ وَكُلُّ رَسُولٍ قَوْمَهُ بِأَنْ يَأْمُرَهُمْ بِأَنْ يُوَحِّدُوا اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ}؛ فَيَبْدَأُ بِهَذَا قَبْلَ كُلِّ شَيءٍ.

وَالنَّبِيُّ لمَّا أَرْسَلَ مُعَاذًا إِلَى أَهْلِ اليَمَنِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُعَلِّمَهُمْ دِينَ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَأَنْ يَدْعُوَ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُم إِلَى الدِّينِ الحَقِّ، قَالَ:

((إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الكِتَاب، فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ -لَا تَبْدَأْ بِمَا هُوَ قَبْلَ هَذَا الْأَصْلِ الْأَصِيلِ-.

فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ؛ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ لِذَلِكَ وَأَطَاعُوكَ فِيهِ؛ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ.

قَالَ: وَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ)) .

فِي الْحَدِيثِ مَعَانٍ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَلَكِنَّ الَّذِي نُرِيدُهُ هَاهُنَا -وَكُلُّ الْحَدِيثِ مُرَادٌ- هُوَ قَوْلُهُ: ((فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُم إِلَيْهِ؛ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ)).

وَ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)) هِيَ الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ، لِأَجْلِهَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَلِأَجْلِهَا قَامَتِ الْمَعْرَكَةُ بَيْنَ جُنْدِ الرَّحْمَنِ وَجُنْدِ الشَّيْطَانِ.

مِنْ أَجْلِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)) خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ، مِنْ أَجْلِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) أَنْزَلَ اللَّهُ الْكُتُبَ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ الرُّسُلَ، مِنْ أَجْلِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)) يُقِيمُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- السَّاعَةَ، وَتُنْصَبُ الْمَوَازِينُ، وَتَتَطَايَرُ الصُّحُفُ، فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ، وَآخِذٌ بِشِمَالِهِ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ.

مِنْ أَجْلِهَا يُضْرَبُ الصِّرَاطُ عَلَى مَتْنِ -أَيْ: عَلَى ظَهْرِ- النَّارِ؛ فَنَاجٍ مَخْدُوشٌ، وَنَاجٍ يَطِيرُ طَيَرَانًا، وَنَاجٍ كَالْبَرْقِ، وَنَاجٍ كَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ، وَنَاجٍ يَعْدُو عَدْوًا، وَنَاجٍ عَلَى الصِّرَاطِ يَحْبُو حَبْوًا، وَنُورُهُ فِي إِبْهَامِ قَدَمِهِ يُضِيءُ مَرَّةً وَيُطْفَأُ مَرَّةً، فَإِذَا أَضَاءَ تَحَرَّكَ، وَإِذَا مَا أُطْفِئَ وَقَفَ، وَالنَّارُ تَحْتَهُ.

وَعَلَى جَانِبَيِ الصِّرَاطِ كَلَالِيبُ مِنْ حَدِيدٍ مَعْقُوفٍ -الكَلُّوبُ: هُوَ الْحَدِيدَةُ الَّتِي يُنْشَلُ بِهَا اللَّحْمُ-، فَعَلَى جَانِبَيِ الصِّرَاطِ كَلَالِيبُ تَخْطَفُ النَّاسَ خَطْفًا عَلَى حَسَبِ مَا أَتَوْا بِهِ مِنَ الْمَعَاصِي؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُهَذَّبُوا، وَأَنْ يُنَقَّوْا وَأَنْ يُطَهَّرُوا؛ لِأَنَّ الجَنَّةَ هِيَ دَارُ الطَّيِّبِ الْمَحْضِ، هِيَ دَارُ السَّلَامِ، هِيَ بَيْتُ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْآخِرَةِ، يَأْوِي إِلَيْهَا كُلُّ طَيِّبٍ، فَلَا يَدْخُلُهَا إِلَّا الطَّيِّبُ الْمَحْضُ.

فَمَنْ خَلَّطَ؛ فَإِمَّا أَنْ يُعَذِّبَهُ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِتَخْلِيطِهِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُهَذَّبَ، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يُصَفَّى، وَمِنْ أَجْلِ أَنْ يَعُودَ طَيِّبًا مَحْضًا؛ لِيُجَاوِرَ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي جَنَّتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَعْفُوَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهُ حَتَّى يَصِيرَ مُطَهَّرًا.

فَمِنْ أَجْلِ هَذَا كُلِّهِ خَلَقَ اللَّهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الخَلْقَ، وَأَتَى بِهَذَا كُلِّهِ مِنْ أَمْرِهِ وَخَلْقِهِ؛ مِنْ أَجْلِ ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ))، وَهِيَ أَوَّلُ مَا دَعَا إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ، فَكَانَ يَدُورُ عَلَى النَّاسِ فِي الْأَسْوَاقِ وَفِي مُنْتَدَيَاتِهِمْ يَقُولُ لَهُم: ((أَيُّهَا النَّاسُ، قُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.. تُفْلِحُوا)) .

وَكَثِيرٌ مِنَ المُسْلِمِينَ لَا يَعْلَمُ مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ))، وَلَا نَجَاةَ لَهُ إِلَّا بِعِلْمِ مَعْنَاهَا، وَالعَمَلِ بِمُقْتَضَاهَا، وَالْإِتْيَانِ بِشُرُوطِهَا، وَاجْتِنَابِ نَوَاقِضِهَا.

فَإِذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ))؛ فَكَيْفَ يَعْمَلُ بِمُقْتَضَى مَا هُوَ بِهِ جَاهِلٌ؟! وَكَيْفَ يُحَقِّقُ شُرُوطَ مَا لَا يَعْلَمُهُ؟! وَكَيْفَ يَجْتَنِبُ نَوَاقِضَ شَيْءٍ لَا يَدْرِي عَنْهُ شَيْئًا؟!

لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَعْلَمَ الْإِنْسَانُ مَعْنَى ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)).

((لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)): لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللَّهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَصْرِفَ الْإِنْسَانُ كُلَّ أَلْوَانِ الْعِبَادَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ لِلَّهِ، لِأَنَّ لِلْقَلْبِ عِبَادَاتٍ مِنَ الْخَوْفِ، وَالْحُبِّ، وَالْخُشُوعِ، وَالرَّجَاءِ، وَالْإِنَابَةِ.. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِعِبَادَاتِ القُلُوبِ.

وَلِلِّسَانِ عِبادَاتُهُ؛ مِنَ الذِّكْرِ وَالتِّلَاوَةِ وَمَا أَشْبَهَ، كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ.. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.

وَلِلْجَوَارِحِ -أَيْضًا- عِبَادَاتُهَا، فَإِذَا أَتَى الْإِنْسَانُ بِشَيْءٍ مِنْ أَلْوَانِ الْعِبَادَةِ صَارِفَهُ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- فَقَدْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَهُ.. خَلَقَهُ وَحْدَهُ، لَمْ يُشَارِكْهُ أَحَدٌ فِي خَلْقِهِ، وَهُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يَرْزُقُهُ، وَهُوَ وَحْدَهُ الَّذِي يَكْلَؤُهُ وَيَحْفَظُهُ.

وَالْإِنْسَانُ فِي الْحَيَاةِ لَوْ أَنَّهُ كَانَ مُنْصِفًا؛ لَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَبَدًا وَلَا يَجْمُلُ أَنْ يُصْرَفَ شَيءٌ مِنْ أَلْوَانِ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَرْضَى مِنْ خَادِمِهِ فَضْلًا عَنْ عَبْدِهِ الَّذِي يَمْلِكُهُ، لَا يَرْضَى الْإِنْسَانُ مِنْ أَجِيرٍ عِنْدَهُ أَنْ يَأْكُلَ خَيْرَهُ وَأَنْ يَخْدُمَ غَيْرَهُ.

يَعْنِي: لَوْ أَنَّكَ اسْتَأْجَرْتَ إِنْسَانًا عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ إِلَيْكَ عَمَلًا -مَنْفَعَةً- فِي نَظِيرِ أَجْرٍ، فَكَانَ أَجِيرًا عِنْدَكَ فِي عَمَلٍ بِذَاتِهِ لِقَاءَ مَا اتَّفَقْتُمَا عَلَيْهِ، فَأَخَذَ مِنْكَ الْمَالَ، وَأَخَذَ يَعْمَلُ لِغَيْرِكَ، ثُمَّ جَاءَ آخِرَ النَّهَارِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَقُولَ لَكَ قَدْ أَدَّيْتُهُ، إِنْ لَمْ يَكُنْ أَخَذَ أَجْرَهُ فَهُوَ يُطَالِبُكَ بِأَجْرِهِ، أَنْتَ لَنْ تَقْبَلَ مِنْهُ ذَلِكَ!!

فَاللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ خَلَقَكَ، وَأَنْتَ تَرْضَى لِرَبِّكَ مَا لَا تَرْضَاهُ لِنَفْسِكَ مِنْ أَجِيرِكَ وَمِنْ وَلَدِكَ!!

فَأَنْتَ لَا تَقْبَلُ مِنْ وَلَدِكَ أَنْ يَأْكُلَ خُبْزَكَ وَأَنْ يَعْصِيَ أَمْرَكَ، وَتَشْكُوهُ إِلَى جَمِيعِ النَّاسِ، تَقُولُ: يَعْصِينِي، وَهُوَ وَلدٌ عَاقٌّ لَا بِرَّ فِيهِ، وَأَنَا أُنْفِقُ، وَأَفْعَلُ وَأَفْعَلُ، وَأَكْلَأُ وَأَحْفَظُ، وَقَدْ رَبَّيْتُ وَكَبَّرْتُ.. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا تَسْمَعُهُ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَنَا أَجْمَعِين إِلَى الصِّرَاطِ المُسْتَقِيمِ.

فَلَا تَقْبَلُ مِنْ وَلَدِكَ أَنْ يَأْكُلَ خُبْزَكَ وَأَنْ يَعْصِيَ أَمْرَكَ، وَأَنْ يَكُونَ مَعَكَ تَحْتَ سَقْفٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ جَادٌّ فِي مَعْصِيَةِ أَمْرِكَ وَالتَّمَرُّدِ عَلَيْكَ لَا يُطِيعُكَ.

فَأَنْتَ لَا تَقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ وَمَا خَلَقْتَهُ، وَمَا أَنْتَ بِالَّذِي تَرْزُقُهُ؛ بَلِ الَّذِي يَرْزُقُكَ وَيَرْزُقُهُ هُوَ اللَّهُ، وَالَّذِي يَكْلَؤُكَ وَيَحْفَظُكَ وَيَكْلَؤُهُ وَيَحْفَظُهُ هُوَ اللَّهُ، وَمَعَ ذَلِكَ فَأَنْتَ لَا تَقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ!! وَتَرْضَى ذَلِكَ مِنْكَ لِرَبِّكَ، هُوَ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، وَيَرْزُقُكَ!!

 

المصدر:الْإِسْلَامُ مَصْدَرُ السَّعَادَةِ وَالصَّلَاحِ لِلْعَالَمِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  خُطُورَةُ الْكَذِبَةِ تَبْلُغُ الْآفَاقَ وَعَوَاقِبُهَا
  مَظَاهِرُ الِابْتِلَاءِ
  الدرس السابع : «العَدْلُ»
  التَّرْهِيبُ مِنَ الْخِيَانَةِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ
  ذِكْرُ اللهِ حَيَاةٌ..
  تَعَلَّمُوا مِنْ دُرُوسِ التَّارِيخِ!
  نَصَائِحُ غَالِيَةٌ فِي نِهَايَةِ عَامٍ هِجْرِيٍّ وَاسْتِقْبَالِ آخَرَ
  آثَارُ الْمَعِيَّةِ فِي تَحْقِيقِ السَّلَامِ النَّفْسِيِّ
  مِنَ الثَّمَرَاتِ الْعَظِيمَةِ لِلزَّكَاةِ: تَحْقِيقُ التَّكَافُلِ وَالتَّوَازُنِ الْمُجْتَمَعِيِّ
  قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا
  النَّهْيُ عَنِ الْإِسْرَافِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
  شَرَعَ اللهُ الزَّوَاجَ لِتَكْوِينِ أُسَرٍ يَخْرُجُ مِنْهَا نَشْءٌ مُوَحِّدٌ للهِ
  أَمْرُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- بِصِلَةِ الْأَرْحَامِ فِي كِتَابِهِ
  دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ مِنْ حَجَّةِ النَّبِيِّ ﷺ لِعُمُومِ الْأُمَّةِ
  حُسْـــنُ خُلُــقِ النَّــبِيِّ ﷺ وَطِيبُ عِشْرَتِهِ مَعَ أَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان