الدَّرْسُ الثَّالِثُ
((دُرُوسُ التَّوْحِيدِ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((أَعْظَمُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ))
فَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» مِنْ رِوَايَةِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: سَأَلَنِي النَّبِيُّ ﷺ فَقَالَ: «يَا أَبَا المُنْذِرِ! أتَدْرِي أيُّ آيَةٍ مِن كِتابِ اللهِ مَعَكَ أعْظَمُ؟».
قَالَ: قُلتُ: «{اللَّهُ لا إلَهَ إلَّا هو الحَيُّ القَيُّومُ} [البقرة:255]».
قَالَ: فَضَرَبَ في صَدْرِي، وَقَالَ: «واللهِ لِيَهْنِكَ العِلْمُ أبا المُنْذِرِ».
فَآيَةُ الْكُرْسِيِّ هِيَ أَعْظَمُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَهِيَ فِي بَيَانِ تَوْحِيدِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَذِكْرِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَمَا تَفَرَّدَ بِهِ مِنَ الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ، وَذَلِكَ يَسْتَتْبِعُ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-.
فَأَثْبَتَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَوْحِيدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَهِيَ أَعْظَمُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
«رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي قِصَّةِ اسْتِحْفَاظِ النَّبِيِّ ﷺ إِيَّاهُ عَلَى الصَّدَقَةِ، وَأَخْذِ الشَّيْطَانِ مِنْهَا، وَقَوْلِهِ لِأَبِي هُرَيْرَةَ: «إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ؛ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حَتَّى تَخْتِمَ الْآيَةَ؛ فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللهِ حَافِظٌ، وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَأَخْبَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ النَّبِيَّ ﷺ بِذَلِكَ، فَقَالَ: «إِنَّهُ صَدَقَكَ، وَهُوَ كَذُوبٌ»».
((مَعْنَى وَتَفْسِيرُ آيَةِ الْكُرْسِيِّ))
قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255].
«اللهُ الَّذِي لَا يَسْتَحِقُّ الْإِلَهِيَّةَ إِلَّا هُوَ، ذُو الْحَيَاةِ الْكَامِلَةِ، الْبَاقِي عَلَى الْأَبَدِ، الدَّائِمُ بِلَا زَوَالٍ، الْقَائِمُ بِنَفْسِهِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى شَيْءٍ، وَالْمُقِيمُ لِغَيْرِهِ؛ إِذْ هُوَ الْقَائِمُ بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ فِي إِيجَادِهِمْ وَأَرْزَاقِهِمْ، وَجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ.
لَا يَأْخُذُهُ -سُبْحَانَهُ- نُعَاسٌ يَتَقَدَّمُ النَّوْمَ؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَأْخُذَهُ نَوْمٌ مُزِيلٌ لِلْقُوَّةِ وَالْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقَائِصِ وَالْآفَاتِ وَالتَّغَيُّرِ.
فَهَذِهِ الصِّفَاتُ الْمَنْفِيَّةُ هِيَ مَنْفِيَّةٌ عَنِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِأَنَّ اللهَ نَفَاهَا عَنْ نَفْسِهِ؛ لِثُبُوتِ كَمَالِ ضِدِّهَا لَهُ -جَلَّ وَعَلَا-، فَلَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ؛ لِكَمَالِ حَيَاتِهِ، وَكَمَالِ قَيُّومِيَّتِهِ، وَهُوَ مَالِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بِغَيْرِ شَرِيكٍ وَلَا مُنَازِعٍ.
وَمِنْ كَمَالِ سُلْطَانِهِ وَشُمُولِ إِرَادَتِهِ: أَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِأَمْرِهِ وَإِرَادَتِهِ؛ كَشَفَاعَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْمَلَائِكَةِ، وَالْمُؤْمِنِينَ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ.
وَهُوَ -سُبْحَانَهُ- يَعْلَمُ كُلَّ مَا قَدَّمَ عِبَادُهُ فِي الدُّنْيَا مِنَ اعْتِقَادَاتٍ وَنِيَّاتٍ، وَأَعْمَالٍ ظَاهِرَةٍ وَبَاطِنَةٍ، وَيَعْلَمُ -سُبْحَانَهُ- كُلَّ مَا سَيَأْتِي فِي مُسْتَقْبَلِ أَمْرِهِمْ يَوْمَ الدِّينِ، فَهُوَ الَّذِي يَكُونُ خَلْفَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ يَجْهَلُونَهُ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَحْوَالِ جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَلَا أَحَدَ يُحِيطُ بِمَعْلُومَاتِ اللهِ -تَعَالَى- عِلْمَ إِحَاطَةٍ وَاسْتِغْرَاقٍ؛ إِلَّا مَا أَطْلَعَ اللهُ عَلَيْهِ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ؛ لِيَكُونَ دَلِيلًا عَلَى نُبُوَّتِهِمْ.
{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}؛ وَالْكُرْسِيُّ مَخْلُوقٌ عَظِيمٌ بَيْنَ يَدَيِ الْعَرْشِ، وَهُوَ أَعْظَمُ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، نُفَوِّضُ عِلْمَ حَقِيقَتِهِ إِلَيْهِ -تَعَالَى-.
وَلَا يُثْقِلُهُ -سُبْحَانَهُ- وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ حِفْظُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَلَاءَتُهُمَا؛ لِأَنَّ ذَاتَهُ مُنَزَّهَةٌ عَنِ التَّعَبِ، فَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْكَوْنِ فِي حِفْظِ اللهِ وَحِيَاطَتِهِ، فَالسَّمَاءُ بِأَفْلَاكِهَا وَطَبَقَاتِهَا وَكَوَاكِبِهَا، وَالْأَرْضُ وَمَا عَلَيْهَا وَمَنْ عَلَيْهَا وَمَا فِيهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ كُلُّ ذَلِكَ يَسِيرٌ حِفْظُهُ، وَهُوَ فِي الْوَقْتِ عَيْنِهِ يَسِيرُ عَلَى نِظَامٍ مُحْكَمٍ مَحْفُوظٍ خَاضِعٍ لِقَوَانِينِهِ الَّتِي سَنَّهَا -تَعَالَى- فِي خَلْقِهِ.
وَهُوَ الْمُتَعَالِي عَنِ الْأَشْبَاهِ وَالْأَنْدَادِ وَالْأَمْثَالِ، الَّذِي لَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، ذُو الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ، الَّذِي لَا شَيْءَ أَعْظَمُ مِنْهُ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ –يَعْنِي: آيَةَ الْكُرْسِيِّ- أَعْظَمُ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ».
إِنَّ آيَةَ الْكُرْسِيِّ هِيَ أَعْظَمُ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَتَعْلَمُ أَيَّ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟)).
قَالَ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}.
{اللهُ}: هُوَ الْعَلَمُ الْمُفْرَدُ الَّذِي لَمْ يَتَسَمَّ بِهِ أَحَدٌ، هُوَ للهِ خَالِصًا -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَهُوَ عَلَمٌ عَلَى الذَّاتِ الْمُقَدَّسَةِ، لَمْ يَتَسَمَّ بِهِ أَحَدٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَلَا مِنَ الْآخِرِينَ، وَهُوَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ خَالِصًا.
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}: وَهَذَا خَبَرٌ لِهَذَا الْمُبْتَدَأِ {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}: إِثْبَاتٌ لِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الْإِلَهَ بِمَعْنَى الْمَأْلُوهِ، وَالْمَأْلُوهُ: الْمَعْبُودُ، فَلَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللهُ، وَأَمَّا مَا يُعْبَدُ بِغَيْرِ حَقٍّ؛ فَحَدِّثْ عَنْ كَثْرَتِهِ وَلَا حَرَجَ؛ فَالنَّاسُ يَتَّخِذُونَ مَعْبُودَاتٍ كَثِيرَاتٍ مِنْ دُونِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَمَّا الْإِلَهُ الْحَقُّ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ؛ فَهُوَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللهُ.
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} {الْحَيُّ}: وَهَذَا خَبَرٌ ثَانٍ {الْقَيُّومُ}: خَبَرٌ ثَالِثٌ، وَأَثْبَتَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِنَفْسِهِ صِفَةَ الْحَيَاةِ، وَصِفَةُ الْحَيَاةِ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِنَّمَا هِيَ عَلَى قَدْرِ ذَاتِهِ، وَذَاتُهُ لَيْسَ كَمِثْلِهَا ذَاتٌ، فَحَيَاتُهُ لَيْسَ كَمِثْلِهَا حَيَاةٌ، حَيَاتُهُ -جَلَّ وَعَلَا- لَيْسَتْ مَسْبُوقَةً بِعَدَمٍ وَلَا مَلْحُوقَةً بِزَوَالٍ كَحَيَاةِ الْأَحْيَاءِ الْمَخْلُوقِينَ الَّذِينَ خَلَقَهُمُ اللهُ وَأَعْطَاهُمُ الْحَيَاةَ، فَحَيَاتُهُمْ مَسْبُوقَةٌ بِالْعَدَمِ مَلْحُوقَةٌ بِالزَّوَالِ، وَأَمَّا حَيَاةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَكَامِلَةٌ.
وَحَيَاةُ الْأَحْيَاءِ فِيهَا مِنَ الْآفَاتِ مَا فِيهَا، وَحَيَاةُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَامِلَةٌ؛ فَهِيَ مُبَرَّأَةٌ مِنْ تِلْكَ الْآفَاتِ وَالنَّقَائِصِ كُلِّهَا، الْحَيُّ مِنَ الْأَحْيَاءِ تُدْرِكُهُ مَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الَّتِي يَحْيَاهَا مِنْ صُنُوفِ الْآفَاتِ الَّتِي تَعْتَرِيهِ؛ مِنَ الْمَرَضِ، وَمِنَ الْعَجْزِ، وَمَا أَشْبَهَ مِنْ تِلْكَ الْآفَاتِ، وَأَمَّا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَهُوَ الْحَيُّ.
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}: فَيْعُولٌ قَائِمٌ بِذَاتِهِ، وَقَائِمٌ بِغَيْرِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، قَيُّومٌ عَلَى وَزْنِ فَيْعُولٍ، وَهِيَ مِنَ الْقِيَامِ، وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ، قَائِمٌ بِغَيْرِهِ، فَهُوَ -عَزَّ وَجَلَّ- غَنِيٌّ عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَهُمْ جَمِيعًا فِي حَاجَةٍ إِلَيْهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ إِذْ وُجُودُهُمْ مِنْهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، الْحَيُّ الْقَيُّومُ الْعَزِيزُ الَّذِي يَحْتَاجُهُ كُلُّ مَوْجُودٍ، وَلَا يَحْتَاجُ أَحَدًا.
الْحَيُّ الْقَيُّومُ، لَا تَأْخُذُهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ، {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}: وَعَبَّرَ بِالْأَخْذِ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ النَّوْمَ قَدْ يَكُونُ أَخْذًا بِاخْتْيَارٍ، وَقَدْ يَكُونُ أَخْذًا بِاضْطِرَارٍ، فَإِذَا كَانَ بِاخْتِيَارٍ؛ فَلَا يَكُونُ أَخْذًا فِي حَقِيقَةِ الْأَمْرِ، فَعَبَّرَ بِهَذَا لِنَفْيِ هَذَا وَهَذَا.
{لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ}: وَالسِّنَةُ مُقَدِّمَاتُ النَّوْمِ، مِنَ الْوَسَنِ وَمَا أَشْبَهَ، فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُبَرَّءٌ عَنْ هَذَا النَّقْصِ كُلِّهِ، مَعَ أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِنْسَانِ -مَثَلًا- يَكُونُ كَمَالًا كَمَا يَكُونُ نَقْصًا، فَهُوَ نَقْصٌ فِي الْإِنْسَانِ -أَيِ: النَّوْمُ-؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ، فَالْإِنْسَانُ لَا يَسْتَطِيعُ أَلَّا يَنَامَ، لَا بُدَّ أَنْ يَنَامَ، فَهَذَا إِذَا كَانَ الْوَصْفُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ؛ كَانَ نَقْصًا، وَلَكِنَّ النَّوْمَ يَكُونُ كَمَالًا -أَيْضًا- إِذَا كَانَ مِنْ صِحَّةٍ، لَا مِنِ اعْتِلَالٍ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ رُبَّمَا لَا يَنَامُ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مَرِيضًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنَامَ، فَيَكُونُ النَّوْمُ كَمَالًا فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ كَمَا يَكُونُ نَقْصًا فِيهِ عَلَى مَا هُوَ مَعْهُودٌ، وَأَمَّا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-؛ فَلَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ.
{لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}: كُلُّ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ هُوَ مِلْكٌ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، فَمَهْمَا اتَّخَذَ النَّاسُ مِنْ مَعْبُودٍ سَمَاوِيٍّ؛ كَالْمَلَائِكَةِ فِي السَّمَاوَاتِ، أَوْ مَعْبُودٍ أَرْضِيٍّ؛ مِنْ وَلِيٍّ، أَوْ نَبِيٍّ، مِنْ حَجَرٍ، أَوْ شَجَرٍ، أَوْ بَقَرٍ.. مَهْمَا اتَّخَذَ النَّاسُ مِنْ مَعْبُودٍ؛ فَكُلُّ هَذَا مَمْلُوكٌ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؛ فَكَيْفَ يَكُونُ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ للهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ كَيْفَ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ مَعَ اللهِ، أَوْ مِنْ دُونِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-؟!!
{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ}: وَالشَّفَاعَةُ: طَلَبُ الْخَيْرِ لِلْغَيْرِ، وَلَا يَشْفَعُ أَحَدٌ -وَلَا رَسُولُ اللهِ ﷺ- عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، كَمَا فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ: ((أَنَّ النَّبِيَّ يَسْجُدُ عِنْدَ الْعَرْشِ، يَحْمَدُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَيُثْنِي عَلَيْهِ بِمَحَامِدَ، قَالَ: لَا أَعْلَمُهَا الْآنَ، يَفْتَحُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَيَّ بِهَا، ثُمَّ يُنَادَى رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَيُؤْذَنُ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ: يَا مُحَمَّدُ! ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَقُلْ يُسْمَعْ لَكَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَيَأْذَنُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِصَفِيِّهِ وَنَجِيِّهِ وَخَلِيلِهِ وَنَبِيِّهِ وَكَلِيمِهِ مُحَمَّدٍ بِالشَّفَاعَةِ عِنْدَهُ))، لَا يَشْفَعُ ابْتِدَاءً، لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-، فَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مُتَفَرِّدٌ بِالْأَمْرِ كُلِّهِ، لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ.
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ}: {مِنْ عِلْمِهِ}؛ بِمَعْنَى: مَعْلُومِهِ، أَوْ مِنْ عِلْمِهِ الَّذِي يُعَلِّمُهُمْ إِيَّاهُ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.
{وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}: وَالْكُرْسِيُّ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ، وَأَمَّا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ؛ فَهِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْكُرْسِيِّ كَالْحَلْقَةِ فِي الْفَلَاةِ، وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْكُرْسِيِّ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَمَا أَعْظَمَ هَذَا الْخَلْقَ الْعَظِيمَ الَّذِي هُوَ عَرْشُ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ!! الَّذِي اسْتَوَى عَلَيْهِ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}؛ أَثْبَتَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِنَفْسِهِ الِاسْتِوَاءَ عَلَى عَرْشِهِ، وَعَرْشُهُ هُوَ أَعْظَمُ مَخْلُوقٍ مِنْ حَيْثُ الْعِظَمُ وَالْكِبَرُ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَا السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرَضُونَ فِي الْكُرْسِيِّ إِلَّا كَحَلْقَةٍِ مُلْقَاةٍ فِي فَلَاةٍ، وَفَضْلُ الْعَرْشِ عَلَى الْكُرْسِيِّ كَفَضْلِ الْكُرْسِيِّ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)).
فَيَا للهِ مَا أَعْظَمَ عَرْشَ اللهِ!!
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}: أَثْبَتَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- اسْتِوَاءَهُ عَلَى عَرْشِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}.
{وَلَا يَئُودُهُ}؛ أَيْ: لَا يُثْقِلُهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَلَا يَنُوءُهُ {وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}: عَلِيٌّ فِي ذَاتِهِ، عَلِيٌّ فِي صِفَاتِهِ، عَلِيٌّ فِي قَهْرِهِ، لَهُ عُلُوُّ الذَّاتِ، وَعُلُوُّ الصِّفَاتِ، وَعُلُوُّ الْقَهْرِ، وَالْقُلُوبُ مُتَعَلِّقَةٌ بِصِفَةِ الْعُلُوِّ للهِ؛ فَإِنَّهُ مَا سَجَدَ سَاجِدٌ يَدْعُو رَبَّهُ إِلَّا قَالَ وَهُوَ سَاجِدٌ، وَهُوَ مُمَرِّغٌ أَنْفَهُ فِي التُّرَابِ سَاجِدًا للهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ إِلَّا قَالَ: ((سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى))؛ فَتَوَجَّهَ قَلْبُهُ إِلَى جِهَةِ الْعُلُوِّ.
النَّاسُ عِنْدَمَا يَدْعُونَ؛ لَا تَتَوَجَّهُ قُلُوبُهُمْ إِلَى جِهَةِ السُّفْلِ، وَإِنَّمَا تَتَوَجَّهُ قُلُوبُهُمْ إِلَى جِهَةِ الْعُلُوِّ، جَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْإِقْرَارَ وَالْإِثْبَاتَ لِصِفَةِ الْعُلُوِّ؛ عُلُوِّ الذَّاتِ للهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ الْمَجِيدِ الْمُتَعَالِ.. جَعَلَ الْإِقْرَارَ وَالْإِثْبَاتَ لِهَذِهِ الصِّفَةِ الْعَظِيمَةِ مِنْ صِفَاتِ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا-، جَعَلَهَا غَرِيزَةً مَغْرُوزَةً فِي النَّفْسِ الْإِنْسَانِيَّةِ؛ فَإِنَّهُ مَا قَالَ قَائِلٌ يَوْمًا: يَا رَبِّ! إِلَّا وَجَدَ ضَرُورَةً فِي نَفْسِهِ تَتَّجِهُ إِلَى جِهَةِ الْعُلُوِّ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ للهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- صِفَةَ الْعُلُوِّ؛ عُلُوِّ الذَّاتِ، وَأَنَّهُ -جَلَّ وَعَلَا- مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ بِذَاتِهِ، وَهُوَ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، لَا شَيْءَ مِنْ خَلْقِهِ بِدَاخِلٍ فِيهِ، وَلَا هُوَ -سُبْحَانَهُ- بِدَاخِلٍ بِشَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ.
{وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}: لَهُ الْعَظَمَةُ كُلُّهَا، وَلَهُ الْمَجْدُ –سُبْحَانَهُ-، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
((مِنْ دُرُوسِ التَّوْحِيدِ فِي آيَةِ الْكُرْسِيِّ))
«أَخْبَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَعْظَمُ آيَاتِ الْقُرْآنِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَأَنَّهَا تَحْفَظُ قَارِئَهَا مِنَ الشَّيَاطِينِ وَالشُّرُورِ كُلِّهَا؛ لِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ مَعَانِي التَّوْحِيدِ وَالْعَظَمَةِ، وَسَعَةِ صِفَاتِ الْكَمَالِ للهِ -تَعَالَى-؛ فَأَخْبَرَ أَنَّهُ اللهُ الَّذِي لَهُ جَمِيعُ مَعَانِي الْأُلُوهِيَّةِ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْأُلُوهِيَّةَ غَيْرُهُ، فَأُلُوهِيَّةُ غَيْرِهِ وَعِبَادَةُ غَيْرِهِ بَاطِلَةٌ ضَارَّةٌ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ؛ وَعِبَادَتُهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هِيَ الْحَقُّ، الْمُوصِلَةُ إِلَى كُلِّ كَمَالٍ، وَأَنَّهُ الْحَيُّ كَامِلُ الْحَيَاةِ، فَمِنْ كَمَالِ حَيَاتِهِ: أَنَّهُ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ الْقَدِيرُ، الْمُحِيطُ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، الْكَامِلُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ.
فَـ {الْحَيُّ} يَتَضَمَّنُ جَمِيعَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ، وَ {الْقَيُّومُ} قَامَ بِنَفْسِهِ، وَاسْتَغْنَى عَنْ جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَقَامَ بِهَا فَأَوْجَدَهَا وَأَبْقَاهَا، وَأَمَدَّهَا بِكُلِّ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي بَقَائِهَا؛ فَـ {الْقَيُّومُ} يَتَضَمَّنُ جَمِيعَ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ؛ وَلِهَذَا وَرَدَ أَنَّ اسْمَ اللهِ الْأَعْظَمِ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}؛ فَإِنَّ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ الْكَرِيمَيْنِ يَدْخُلُ فِيهِمَا جَمِيعُ الْكَمَالَاتِ الذَّاتِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ.
وَمِنْ كَمَالِ حَيَاتِهِ وَقَيُّومِيَّتِهِ: أَنَّهُ {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ}؛ أَيْ: نُعَاس {وَلَا نَوْمٌ}؛ لِأَنَّهُمَا يَعْرِضَانِ لِلْمَخْلُوقِ الَّذِي يَعْتَرِيهِ الضَّعْفُ وَالْعَجْزُ وَالِانْحِلَالُ، وَيُنَزَّهُ عَنْهُمَا ذُو الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْجَلَالِ.
وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَالِكٌ لِجَمِيعِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ، فَكُلُّهُمْ عَبِيدُهُ وَمَمَالِيكُهُ، لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ هَذَا الْوَصْفِ اللَّازِمِ؛ فَهُوَ الْمَالِكُ لِجَمِيعِ الْمَمَالِكِ، وَهُوَ الَّذِي اتَّصَفَ بِصِفَاتِ الْمُلْكِ الْكَامِلِ، وَالتَّصَرُّفِ التَّامِّ النَّافِذِ، وَالسُّلْطَانِ وَالْكِبْرِيَاءِ.
وَمِنْ تَمَامِ مُلْكِهِ: أَنَّهُ لَا يَشْفَعُ عِنْدَهُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ؛ فَكُلُّ الْوُجَهَاءِ وَالشُّفَعَاءِ عَبِيدٌ لَهُ، مَمَالِيكُ لَا يُقْدِمُونَ عَلَى الشَّفَاعَةِ لِأَحَدٍ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُمْ: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر: 44].
وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَاهُ اللهُ، وَلَا يَرْضَى إِلَّا عَمَّنْ قَامَ بِتَوْحِيدِهِ وَاتِّبَاعِ رُسُلِهِ، فَمَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِهَذَا؛ فَلَيْسَ لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ نَصِيبٌ، وَأَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مَنْ قَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ».
ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ عِلْمِهِ الْوَاسِعِ الْمُحِيطِ، وَأَنَّهُ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِي الْخَلَائِقِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ الَّتِي لَا نِهَايَةَ لَهَا، {وَمَا خَلْفَهُمْ} مِنَ الْأُمُورِ الْمَاضِيَةِ الَّتِي لَا حَدَّ لَهَا، وَأَنَّهُ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]، وَأَنَّ الْخَلْقَ لَا يُحِيطُ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِ اللهِ وَلَا مَعْلُومَاتِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ مِنْهُمَا، وَهُوَ مَا أَطْلَعَهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ، وَهُوَ جُزْءٌ يَسِيرٌ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى عِلْمِ الْبَارِي، تَضْمَحِلُّ الْعُلُومُ كُلُّهَا فِي عِلْمِ الْبَارِي وَمَعْلُومَاتِهِ، كَمَا قَالَ أَعْلَمُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهُمُ الرُّسُلُ وَالْمَلَائِكَةُ: {سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32].
ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ عَظَمَتِهِ وَجَلَالِهِ، وَأَنَّ كُرْسِيَّهُ وَسِعَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَأَنَّهُ قَدْ حَفِظَهُمَا بِمَا فِيهِمَا مِنَ الْعَوَالِمِ بِالْأَسْبَابِ وَالنِّظَامَاتِ الَّتِي جَعَلَهَا اللهُ فِي مَخْلُوقَاتِهِ مَعَ ذَلِكَ، فَلَا يَئُودُهُ –أَيْ: يُثْقِلُهُ- حِفْظُهُمَا؛ لِكَمَالِ عَظَمَتِهِ، وَقُوَّةِ اقْتِدَارِهِ، وَسَعَةِ حِكْمَتِهِ فِي أَحْكَامِهِ.
{وَهُوَ الْعَلِيُّ} بِذَاتِهِ عَلَى جَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ، فَهُوَ الرَّفِيعُ الَّذِي بَايَنَ جَمِيعَ مَخْلُوقَاتِهِ، وَهُوَ الْعَلِيُّ بِعَظَمَةِ صِفَاتِهِ، الَّذِي لَهُ كُلُّ صِفَةِ كَمَالٍ، وَمِنْ تِلْكَ الصِّفَاتِ أَكْمَلُهَا وَمُنْتَهَاهَا، وَهُوَ الْعَلِيُّ الَّذِي قَهَرَ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ، وَدَانَتْ لَهُ كُلُّ الْمَوْجُودَاتِ، وَخَضَعَتْ لَهُ الصِّعَابُ، وَذَلَّتْ لَهُ الرِّقَابُ.
{الْعَظِيمُ} الْجَامِعُ لِجَمِيعِ صِفَاتِ الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْمَجْدِ، الَّذِي تُحِبُّهُ الْقُلُوبُ، وَتُعَظِّمُهُ الْأَرْوَاحُ، وَيَعْرِفُ الْعَارِفُونَ أَنَّ عَظَمَةَ كُلِّ مَوْجُودٍ -وَإِنْ جلت عَنِ الصِّفَةِ-؛ فَإِنَّهَا مُضْمَحِلَّةٌ فِي جَانِبِ عَظَمَةِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ؛ فَتَبَارَكَ اللهُ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ».
«هَذِهِ الْآيَةُ تَتَضَمَّنُ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ خَمْسَةً، وَهِيَ: اللهُ، الْحَيُّ، الْقَيُّومُ، الْعَلِيُّ، الْعَظِيمُ.
وَتَتَضَمَّنُ مِنْ صِفَاتِ اللهِ سِتًّا وَعِشْرِينَ صِفَةً؛ مِنْهَا خَمْسُ صِفَاتٍ تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ الْأَسْمَاءُ.
السَّادِسَةُ: انْفِرَادُهُ بِالْأُلُوهِيَّةِ.
السَّابِعَةُ: انْتِفَاءُ السِّنَةِ وَالْنَّوْمِ فِي حَقِّهِ؛ لِكَمَالِ حَيَاتِهِ وَقَيُّومِيَّتِهِ.
الثَّامِنَةُ: عُمُومُ مُلْكِهِ؛ لِقَوْلِهِ: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ}.
التَّاسِعَةُ: انْفِرَادُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- بِالْمُلْكِ، وَنَأْخُذُهُ مِنْ تَقْدِيمِ الْخَبَرِ.
الْعَاشِرَةُ: قُوَّةُ السُّلْطَانِ وَكَمَالُهُ؛ لِقَوْلِهِ: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ}.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: إِثْبَاتُ الْعِنْدِيَّةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَفِيهِ الرَّدُّ عَلَى الْحُلُولِيَّةِ.
الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: إِثْبَاتُ الْإِذْنِ مِنْ قَوْلِهِ: {إِلَّا بِإِذْنِهِ}.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: عُمُومُ عِلْمِ اللهِ -تَعَالَى-؛ لِقَوْلِهِ: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}.
الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ وَالْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: أَنَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- لَا يَنْسَى مَا مَضَى؛ لِقَوْلِهِ: {وَمَا خَلْفَهُمْ}، وَلَا يَجْهَلُ مَا يَسْتَقْبِلُ؛ لِقَوْلِهِ: {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}.
السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: كَمَالُ عَظَمَةِ اللهِ؛ لِعَجْزِ الْخَلْقِ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِهِ.
السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: إِثْبَاتُ الْكُرْسِيِّ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْقَدَمَيْنِ.
التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ وَالْعِشْرُونَ وَالْحَادِيَةُ وَالْعِشْرُونَ: إِثْبَاتُ الْعَظَمَةِ، وَالْقُوَّةِ، وَالْقُدْرَةِ؛ لِقَوْلِهِ: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}؛ لِأَنَّ عَظَمَةَ الْمَخْلُوقِ تَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ الْخَالِقِ.
الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ وَالرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: كَمَالُ عِلْمِهِ، وَرَحْمَتِهِ، وَحِفْظُهُ؛ مِنْ قَوْلِهِ: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا}.
الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: إِثْبَاتُ عُلُوِّ اللهِ؛ لِقَوْلِهِ: {وَهُوَ الْعَلِيُّ}، وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: أَنَّ اللهَ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَالٍ بِذَاتِهِ، وَأَنَّ عُلُوَّهُ مِنَ الصِّفَاتِ الذَّاتِيَّةِ الْأَزَلِيَّةِ الْأَبَدِيَّةِ.
وَأَمَّا عُلُوُّ الصِّفَاتِ؛ فَهُوَ مَحَلُّ إِجْمَاعٍ مِنْ كُلِّ مَنْ يَدِينُ أَوْ يَتَسَمَّى بِالْإِسْلَامِ.
السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: إِثْبَاتُ الْعَظَمَةِ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ لِقَوْلِهِ: {الْعَظِيمُ}».
«فَآيَةٌ احْتَوَتْ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي الَّتِي هِيَ أَجَلُّ الْمَعَانِي وَأَفْرَضُهَا عَلَى الْعِبَادِ؛ يَحِقُّ أَنْ تَكُونَ أَعْظَمَ آيَاتِ الْقُرْآنِ، وَيَحِقُّ لِمَنْ قَرَأَهَا مُتَدَبِّرًا مُتَفَقِّهًا أَنْ يَمْتَلِئَ قَلْبُهُ مِنَ الْيَقِينِ وَالْعِرْفَانِ وَالْإِيمَانِ، وَأَنْ يَكُونَ بِذَلِكَ مَحْفُوظًا مِنْ شُرُورِ الشَّيْطَانِ، وَقَدْ نَعَتَ الْبَارِي نَفْسَهُ الْكَرِيمَةَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ فِي عِدَّةِ آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ».
أَسْأَلُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَنْ يُحَقِّقَنَا بِالتَّوْحِيدِ، وَأَنْ يُحَقِّقَ فِينَا التَّوْحِيدَ، وَأَنْ يُحَقِّقَنَا بِالدَّعْوَةِ إِلَى التَّوْحِيدِ، وَأَنْ يُمِيتَنَا عَلَى التَّوْحِيدِ، وَأَنْ يَحْشُرَنَا فِي زُمْرَةِ سَيِّدِ الْمُوَحِّدِينَ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ-.
وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
المصدر: دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ-الجزء الأول