((خُلُقُ الْوَفَاءِ))
فَإِنَّ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْإِنْسَانِيَّةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي تَعَارَفَ أَصْحَابُ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ عَلَى احْتِرَامِهَا وَتَقْدِيرِهَا وَتَعْظِيمِ مَنْ أَتَى بِهَا؛ إِنَّ مِنْ تِلْكَ الْأَخْلَاقِ: خُلُقَ الْوَفَاءِ.
وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ تَضْرِبُ الْأَمْثَالَ، فَمِنْ أَمْثَالِهِمْ: ((هُوَ أَعَزُّ مِنَ الْوَفَاءِ))، فَلَمَّا رَأَوْا نُدْرَةَ هَذَا الْخُلُقِ وَعِزَّةَ وُجُودِهِ فِي النَّاسِ، وَيَظَلُّونَ الْأَمَدَ مُفْتَقِدِينَ إِلَيْهِ، بَاحِثِينَ عَنْهُ، فَنَادِرًا مَا يَلْقَوْنَهُ، وَقَلَّ مَا يَجِدُونَهُ، وَعَلِمُوا أَنَّهُ صَعْبُ الْمَنَالِ جِدًّا، وَلَا يُدْرِكُهُ إِلَّا الْأَفْذَاذُ مِنَ الْبَشَرِ؛ ضَرَبُوا بِنُدْرَتِهِ الْمَثَلَ، فَقَالُوا: ((هُوَ أَعَزُّ مِنَ الْوَفَاءِ)).
فَجَعَلُوا لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ أَنْ يُتَحَصَّلَ عَلَيْهِ إِلَّا بِشِقِّ النَّفْسِ أَوْ مَا فَوْقَ ذَلِكَ؛ جَعَلُوا لَهُ الْمَثَلَ الْمَضْرُوبَ بِالْوَفَاءِ الْمَفْقُودِ.
كَانَتِ الْعَرَبُ تُقَدِّرُ هَذَا الْخُلُقَ جِدًّا، فَلَمَّا جَاءَ سَيِّدُ الْأَوْفِيَاءِ ﷺ؛ ارْتَكَزَ -بَعْدَ ارْتِكَازِهِ عَلَى مَوْرُوثِ الْفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ- عَلَى الْحَقَائِقِ الشَّرْعِيَّةِ الْمَرْعِيَّةِ.
الْوَفَاءُ: إِتْمَامُ الْعَهْدِ، وَإِكْمَالُ الشَّرْطِ.
وَضِدُّهُ: الْغَدْرُ، وَهُوَ خُلُقٌ خَبِيثٌ، حَذَّرَ مِنْهُ النَّبِيُّ ﷺ كَثِيرًا، وَدَعَا فِي الْمُقَابِلِ ﷺ -كَمَا دَعَا الْكِتَابُ الْعَزِيزُ- إِلَى الْأَخْذِ بِنَقِيضِهِ، وَهُوَ الْوَفَاءُ.
وَقَدْ أَمَرَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِصِدْقِ اللِّسَانِ، وَصِدْقِ الْفِعْلِ جَمِيعًا، وَهَذَا هُوَ الْوَفَاءُ.
الْوَفَاءُ: صِدْقُ اللِّسَانِ وَالْعَمَلِ مَعًا، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالْإِنْسَانِ، فَمَهْمَا فَقَدَ الْإِنْسَانُ الْوَفَاءَ؛ فَقَدَ حَظَّهُ مِنَ الْإِنْسَانِيَّةِ أَصْلًا.
وَقَدْ أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ بِالْوَفَاءِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ:
يَقُولُ رَبُّنَا: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40].
فَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، بِالْعَهْدِ الَّذِي قَطَعَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى بَنِي آدَمَ فِي عَالَمِ الذَّرِّ؛ {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172].
فَهَذَا الْعَهْدُ الَّذِي أَخَذَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْمِيثَاقِ الْأَوَّلِ؛ يُطَالِبُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِالْوَفَاءِ بِهِ، وَالرُّجُوعِ إِلَى الْفِطْرَةِ الَّتِي لَمْ تَنْتَكِسْ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ إِنْسَانًا.
وَلَا يَسْتَطِيعُ هَذَا الْخُلُقَ إِلَّا الْأَفْذَاذُ الْأَقَلُّونَ مِنَ الْبَشَرِ، وَقَدْ بَيَّنَ لَنَا رَبُّنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ، يَقُولُ رَبُّنَا: {وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ} [الأعراف: 102].
فَأَكْثَرُهُمْ -كَمَا تَرَى- لَا عَهْدَ لَهُ، وَمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْغَدْرِ لَا مَحَالَةَ، فَأَخْبَرَنَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِأَنَّ أَهْلَ التَّحَقُّقِ بِهَذَا الْخُلُقِ الْعَظِيمِ هُمُ الْأَقَلُّونَ عَدَدًا، الْأَرْفَعُونَ قَدْرًا.
الْوَفَاءُ: وَفَاءٌ بِالْعَهْدِ، وَوَفَاءٌ بِالْعَقْدِ، وَوَفَاءٌ بِالْوَعْدِ.
هَذَا مِنْ حَيْثُ الْمُوفَى بِهِ.
فَالْوَفَاءُ: صِدْقُ اللِّسَانِ وَالْفِعْلِ جَمِيعًا، وَأَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ مِنَ الصِّدْقِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَحِينَئِذٍ إِذَا مَا تَعَلَّقَ الْوَفَاءُ بِشَيْءٍ أَتَى بِهِ عَلَى وَجْهِهِ مِنْ غَيْرِ مَا نُكْثٍ وَلَا غَدْرٍ، وَمِنْ غَيْرِ مَا ارْتِكَاسٍ فِي تِلْكَ الْحَمْئَةِ الْوَبِيلَةِ بِالْبُعْدِ عَنِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي جَاءَ الرَّسُولُ ﷺ لِيُتَمِّمَهَا ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ)) ﷺ.
وَيَقُولُ فِي رِوَايَةٍ ﷺ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)) .
المصدر:الْبِرُّ وَالْوَفَاءُ وَرِسَالَةٌ هَامَّةٌ وَمُتَجَدِّدَةٌ إِلَى الْمِصْرِيِّينَ