«دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ»
«الدرس الرابع»
«التَّسَامُحُ»
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
«إِصْلَاحُ ذَاتِ البَيْنِ وَالتَّسَامُحِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ»
فَقَد قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 1].
وهذه الآيات –يعني هذه الآية وَمَا تَلَاهَا في صَدْرِ السورةِ- إِنَّمَا نَزَلَت في قِصَّةِ «بَدْر» في أَوَّلِ غَنِيمَةٍ كبيرةٍ غَنِمَهَا المُسْلِمونَ مِن المُشْرِكِينَ، فَحَصَلَ بين بَعْضِ المُسْلِمِينَ فيها نِزَاعٌ، فَسَأَلُوا رسولَ اللهِ ﷺ عنها, فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى قَوْلَهُ: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ﴾ كيف تُقْسَمُ وَعَلَى مَن تُقْسَمُ؟
﴿قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾: قُل لَهُم: الأنفالُ للهِ ورسولِهِ، يَضَعَانِهَا حَيْثُ شَاءَا, فَلَا اعتراضَ لكم على حُكْمِ اللهِ ورسولِهِ.، بل عليكم إذا حَكَمَ اللهُ ورسولُهُ, أنْ تَرْضَوْا بِحُكْمِهِمَا, وَتُسَلِّمُوا الأمرَ لَهُمَا، وذلك دَاخِلٌ في قولِهِ ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ﴾ بامتثالِ أَوَامِرِهِ, واجتنابِ نَوَاهيه.
﴿وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾: أَصْلِحُوا ما بَيْنَكُم مِن التَّشَاحُنِ, والتَّقَاطُعِ, والتَّدَابُرِ, بالتَّوَادُدِ, والتَّحَابِّ, والتَّوَاصُلِ، فَبِذَلِكَ تَجْتَمِعُ كَلِمَتُكُم, وَيَزُولُ مَا يَحْصُلُ -بِسَبَبِ التَّقَاطُعِ- مِن التَّخَاصُمِ والتَّشَاجُرِ والتَّنَازُعِ.
وَيَدْخُلُ في إصلاحِ ذَاتِ البَيْنِ, تَحْسِينُ الخُلُقِ لَهُم, والعَفْوُ عن المُسِيئِينَ مِنْهُم فإنه -بذلك- يَزُولُ كثيرٌ مِمَّا يكونُ في القلوبِ مِن البَغْضَاءِ والتَّدَابُرِ.
والأمرُ الجَامِعُ لذلك كلِّهِ قولُهُ –جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ فَإِنَّ الإيمانَ يَدْعُو إلى طاعةِ اللهِ ورسولِهِ، كَمَا أَنَّ مَن لم يُطِع اللهَ ورسولَه, فَلَيْسَ بِمُؤمِنٍ، وَمَن نَقَصَت طاعتُهُ للهِ ورسولِهِ, فذلك لِنَقْصٍ في إيمانِهِ.
وقال ربنا –جل وعلا-: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ﴾ [الحجر: 85-86].
أي: مَا خَلَقْنَاهُمَا عَبَثًا بَاطِلًا, كما يَظُنُّ ذلك أعداءُ اللهِ، بل ما خَلَقْنَاهُمَا ﴿إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ الذي منه, أنْ تَكُونَا بما فيهما دَالَّتَيْنِ على كمالِ خَالِقِهِمَا, واقتدارِهِ, وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ, وحِكْمَتِهِ, وعِلْمِهِ المُحِيطِ, وأنه الذي لا تَنْبَغِي العبادةُ إِلَّا له وَحْدَهُ لا شَرِيكَ له.
﴿وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ﴾ لا رَيْبَ فيها, لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ والأرضِ أَكْبَرُ مِن خَلْقِ النَّاسِ ﴿فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ﴾: وهو الصَّفْحُ الذي لا أَذِيَّةَ فيه, بل يُقَابِلُ إساءةَ المُسِيءِ بالإحسانِ, وَذَنْبَهُ بالغُفْرَانِ, لِتَنَالَ مِن رَبِّكَ جَزِيلَ الأَجْرِ والثَّوَابِ, فَإِنَّ كلَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٍ.
والمأمورُ به هو الصَّفْحُ الجَمِيلُ, أي: الحَسَنَ الذي قد سَلِمَ مِن الحِقْدِ والأذِيَّةِ القوليةِ والفِعْلِيَّةِ، دونَ الصَّفْحِ الذي ليس بِجَمِيلٍ, وهو: الصَّفْحُ في غَيْرِ مَحَلِّهِ، فلا يُصْفَحُ حيثُ اقْتَضَى المَقَامُ العقوبةَ, كعقوبةِ المُعْتَدِينَ الظَّالِمِينَ, الذين لا يَنْفَعُ مَعَهُم إِلَّا العقوبة.
وَقَالَ –جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ [الإسراء: 53].
وهذا مِن لُطْفِهِ تَعَالَى بِعِبَادِهِ حَيْثُ أَمَرَهُم بِأَحْسَنِ الأخلاقِ والأعمالِ والأقوالِ المُوجِبَةِ للسعادةِ في الدنيا والآخرةِ فَقَالَ –جَلَّ مِن قَائِلٍ-: ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾: وهذا أَمْرٌ بِكُلِّ كلامٍ يُقَرِّبُ إلى اللهِ مِن قِرَاءَةٍ وذِكْرٍ، وعِلْمٍ وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ ونَهْيٍ عن مُنْكَرٍ، وَكَلَامٍ حَسَنٍ لطيفٍ مع الخَلْقِ على اختلافِ مَرَاتِبِهِم وَمَنَازِلِهِم، وأنه إذا دَارَ الأمرُ بين أَمْرَيْنِ حَسَنَيْنِ فَإِنَّهُ يَأمُرُ بِإِيثَارِ أَحْسَنِهِمَا إنْ لم يمْكِنِ الجَمْعُ بَيْنَهُمَا.
والقَوْلُ الحَسَنُ دَاعٍ لكلِّ خُلُقٍ جميلٍ وعَمَلٍ صَالِحٍ، فَإِنَّ مَن مَلَكَ لِسَانَهُ مَلَكَ جَمِيعَ أَمْرِهِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ﴾ أي: يَسْعَى بين العبادِ بِمَا يُفْسِدُ عَلَيْهِم دينَهُم ودُنياهُم، فدواءُ هذا أنْ لا يُطِيعُوهُ في الأقوالِ غَيْرِ الحَسَنَةِ التي يَدْعُوهُم إليها، وأنْ يَلِينُوا فيما بينهم لِيَنْقَمِعَ الشيطانُ الذي يَنْزَغُ بينهم فإنه عَدوُّهُم الحقيقيُّ الذي ينبغي لَهُم أنْ يُحَارِبوهُ، فإنه يَدْعُوهُم ﴿لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾، وأَمَّا إخوانُهُم الذين اخْتَلَفُوا بينهم فَإِنَّهُم وإنْ نَزَغَ الشيطانُ فيما بينهم وَسَعَى في العَدَاوَةِ فَإِنَّ الحَزْمَ كل الحَزْمِ السَّعْيُ في ضِدِّ عَدوِّهِم وأنْ يَقْمَعُوا أَنْفَسَهُم الأمَّارَةِ بِالسُّوءِ التي يَدْخُلُ الشيطان مِن قِبَلِهَا، فَبِذَلِكَ يُطِيعُونَ رَبَّهُم ويَسْتَقِيمُ أَمْرُهُم ويُهْدَوْنَ لِرُشْدِهِم.
«يُوسُفُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِثَالٌ فَرِيدٌ للصَّفْحِ الجَمِيلِ»
قَالَ رَبُّنَا –جَلَّ وَعَلَا- عن قَوْلِ يَعْقُوبَ –عَلَيْهِ السَّلَام-: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)﴾ [يوسف: 87-92].
أي: قالَ يعقوبُ -عليه السلام- لِبَنِيهِ ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾ أي: احْرِصُوا واجْتَهِدُوا على التَّفْتِيشِ عَنْهُمَا ﴿وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ﴾ فَإِنَّ الرَّجَاءَ يُوجِبُ للعَبْدِ السَّعْيَ والاجْتِهَادَ فَيمَا رَجَاهُ, وَأَمَّا الإيَاسُ: فَيُوجِبُ له التَّثَاقُلَ والتَّبَاطُؤَ، وأَوْلَى مَا رَجَا العِبَادُ فَضْلَ اللهِ وَإِحْسَانَهُُ, وَرَحْمَتَهُ ورَوْحُهُ.
﴿إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾: فَإِنَّهُم -لِكُفْرِهِم- يَسْتَبْعِدُونَ رَحْمَتَهُ, ورحمتُهُ بعيدةٌ منهم, فلا تَتَشَبَّهُوا بِالكافِرِينَ، وَدَلَّ هذا على أنه بِحَسَبِ إيمانِ العَبْدِ, يكونُ رجاؤُهُ لرحمةِ اللهِ وَرَوْحِهِ.
فَذَهَبُوا، ﴿فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا﴾ مُتَضَرِّعِينَ إِلَيْهِ ﴿يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾ أي: قد اضُطُرِرْنَا نحن وأهلُنَا وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مَدْفُوعَةٍ مَرْغُوبٍ عنها, لِقِلًّتِهَا, وَعَدَمِ وُقُوعِهَا المَوْقِعَ ﴿فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ﴾ مع عَدَمِ وَفَاءِ العِوَضِ, وَتَصَدَّق عَلَيْنَا بالزيادةِ عن الواجبِ ﴿إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ﴾ بِثَوَابِ الدنيا والآخرةِ.
فَلَمَّا انْتَهَى الأمرُ, وَبَلَغَ أَشُدَّهُ, رَقَّ لَهُم يوسفُ رِقَّةً شَدِيدَةً, وَعَرَّفَهُم بِنَفْسِهِ, وَعَاتَبَهُم فقالَ: ﴿هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ﴾ أمَّا يوسفُ فَظَاهِرٌ فِعْلُهِم فيه، وأَمَّا أَخُوهُ, فَلَعَلَّهُ -واللهُ أَعْلَمُ- قَوْلُهُم: ﴿إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾، أو أنَّ الحَادِثَ الذي فَرَّقَ بينه وبين أَبِيهِ, هُم السَّبَبُ فيه, وَهُم الأصلُ المُوجِبُ له.
﴿إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ﴾: وهذا نَوْعُ اعتذارٍ لَهُم بِجَهْلِهِم, أو تَوْبِيخٌ لَهُم إذ فَعَلُوا فِعْلَ الجَاهِلِينَ, مع أنه لا يَنْبَغِي ولا يَلِيقُ منهم.
فَعَرَفُوا أنَّ الذي خَاطَبَهُم هو يوسفُ، فقالوا: ﴿أَئِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا﴾ بالإيمانِ والتَّقْوَى, والتمكينِ في الدنيا, وذلك بِسَبَبِ الصَّبْرِ والتقوى فـ ﴿إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ﴾ أي: يَتَّقِي فِعْلَ مَا حَرَّمَ اللهُ, وَيَصْبِرُ على الآلامِ والمَصَائِبِ, وعلى الأوامرِ بِامْتِثَالِهَا ﴿فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾: فإنَّ هذا مِن الإحسانِ, واللهُ لا يُضِيعُ أَجْرَ مَن أَحْسَنَ عَمَلًا.
﴿قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا﴾ أي: فَضَّلَكَ عَلَيْنَا بِمَكَارِمِ الأخلاقِ, ومحاسنِ الشِّيَمِ, وَأَسَأْنَا إليكَ غايةَ الإساءةِ, وحَرَصْنَا على إيصالِ الأَذَى إليك, والتبعيدِ لك عن أَبِيكَ, فَآثَرَكَ اللهُ تَعَالَى وَمَكَّنَكَ مِمَّا تُرِيدُ ﴿وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ﴾: وهذا غايةُ الاعترافِ منهم بالجُرْمِ الحَاصِلِ منهم على يُوسف.
فَقَالَ لهم يوسف -عليه السَّلَام-, كَرَمًا وَجُودًا: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ﴾ أي: لا أُثَرِّبُ عَلَيْكُم ولا أَلُومُكُم ﴿يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾.
فَسَمَحَ لَهُم سَمَاحًا تَامًّا, مِن غَيْرِ تَعْيِيرٍ لَهُم على ذِكْرِ الذَّنْبِ السَّابِقِ, وَدَعَا لَهُم بالمَغفرةِ والرحمةِ, وهذا نهايةُ الإحسانِ الذي لا يَتَأَتَّى إلَّا مِن خَوَاصِّ الخَلْقِ, وَخِيَارِ المُصْطَفَيْنَ.
«مُقَابَلَةُ الإِسَاءَةِ بِالإِحْسَانِ مِن مَكَارِمِ الأَخْلَاقِ»
قالَ –جَلَّ وَعَلَا-: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾ [المؤمنون: 96].
وهذا مِن مَكَارِمِ الأخلاقِ، التي أَمَرَ اللهُ رسولَهُ بها فَقَالَ: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾ أي: إذا أَسَاءَ إليك أَعْدَاؤُكَ، بالقَوْلِ والفِعْلِ، فلا تُقَابِلْهُم بِالإساءَةِ، مع أنه يجوز مُعَاقَبَةُ المُسِيءِ بِمِثْلِ إساءتِهِ، ولَكِنِ ادْفَع إساءَتَهم إليكَ بالإحسانِ مِنْكَ إِلَيْهِم، فَإِنَّ ذَلِكَ فَضْلٌ مِنْكَ على المُسِيءِ.
ومِن مَصَالِحِ ذلك، أنه تَخِفُّ الإساءةُ عنك في الحالِ وفي الاستقبالِ، وأنه أَدْعَى لِجَلْبِ المُسِيءِ إلى الحَقِّ، وأَقْرْبُ إلى نَدَمِهِ وَأَسَفِهِ، وَرُجُوعِهِ بِالتَّوْبَةِ عَمَّا فَعَلَ، وَيَتَّصِفُ العَافِي بِصَفَةِ الإحسانِ، وَيَقْهَرُ بذلك عَدُوَّهُ الشيطانَ، وَيَسْتَوْجِبُ الثَّوَابَ مِن الرَّبِّ، قَالَ تَعَالَى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾، وَقَالَ تَعَالَى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ* وَمَا يُلَقَّاهَا﴾ أي: وما يُوَفَّقُ لِهَذَا الخلُقِ الجَمِيلِ ﴿إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾.
وقولُهُ تَعَالَى: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾ أي: بما يَقُولُونَ مِن الأقوالِ المُتَضَمِّنَةِ للكُفْرِ والتَّكْذِيبِ بِالحَقِّ، قَد أَحَاطَ عِلْمُنَا بِذَلِكَ، وَقَد حَلِمْنَا عنهم، وأَمْهَلْنَاهُم، وَصَبَرْنَا عَلَيْهِم، والحقُّ لنا، وَتَكْذِيبُهُم لَنَا، فَأَنْتَ -يَا مُحَمَّد- يَنْبَغِي لكَ أنْ تَصْبِرَ على مَا يَقُولُونَ، وَتُقَابِلَهُم بالإحسانِ، هذه وظيفةُ العَبْدِ في مُقَابَلَةِ المُسِيءِ مِنَ البَشَرِ.
وَقَالَ –جَلَّ وَعَلَا-: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت: 34-35].
قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ﴾ أي: لا يَسْتَوِي فِعْلُ الحَسَنَاتِ والطَّاعَاتِ لأَجْلِ رِضَا رَبِّ الأَرْضِ والسَّمَاوَاتِ، ولا فِعْلُ السَّيِّئَاتِ وَالمَعَاصِي التي تُسْخِطُهُ ولا تُرْضِيهُ، ولا يَسْتَوِي الإحسانُ إلى الخَلْقِ، ولا الإسَاءَةُ إليهم، لا في ذَاتِهَا، ولا في وَصْفِهَا، ولا في جَزَائِهَا ﴿هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾.
ثُمَّ أَمَرَ بإحسانٍ خَاصٍّ، له مَوْقِعٌ كَبِيرٌ، وهو الإحسانُ إلى مَن أَسَاءَ إِلَيْكَ، فَقَالَ –جَلَّ وَعَلَا-: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ أي: فَإِذَا أَسَاءَ إِلَيْكَ مُسِيءٌ مِنَ الخَلْقِ، خُصُوصًا مَن له حَقٌّ كبيرٌ عليك، كالأقاربِ، والأصحابِ، ونحوِهِم، إساءَةً بالقولِ أو بالفِعْلِ، فَقَابِلْهُ بالإحسانِ إِلَيْهِ، فَإِنْ قَطَعَكَ فَصِلْهُ، وإنْ ظَلَمَكَ فَاعْفُ عَنْهُ، وإنْ تَكَلَّم فِيكَ غَائِبًا أو حَاضِرًا، فَلَا تُقَابِلْهُ، بَل اعْفُ عَنْهُ، وَعَامِلْهُ بِالقَوْلِ اللَّيْنِ، وإنْ هَجَرَكَ وَتَرَكَ خِطَابَكَ فَطيِّبْ لَهُ كَلَامَكَ، وَابْذُل لَهُ سَلَامَكَ.
فَإِذَا قَابَلْتَ الإساءَةَ بِالإِحْسَانِ، حَصلَ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ ﴿فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ أي: كأنه قَرِيبٌ شَفِيقٌ.
﴿وَمَا يُلَقَّاهَا﴾ أي: وما يُوَفَّقُ لهذِهِ الخَصْلَةِ الحَمِيدَةِ ﴿إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا﴾ نُفُوسَهُم على مَا تَكْرَهُ، وَأَجْبَرُوهَا على مَا يُحِبُّهُ اللهُ، فَإِنَّ النُّفُوسَ مَجْبُولَةٌ على مُقَابَلَةِ المُسِيءِ بِإِسَاءَتِهِ وَعَدَمِ العَفْوِ عَنْهُ، فَكَيْفَ بِالإِحْسَانِ؟!
فَإِذَا صَبَّرَ الإنسانُ نَفْسَهُ، وامْتَثَلَ أَمْرَ رَبِّهِ، وَعَرَفَ جَزِيلَ الثَّوَابِ، وَعَلِمَ أَنَّ مُقَابَلَتَهُ للمُسِيءِ بِجِنْسِ عَمَلِهِ، لا يُفِيدُهُ شيئًا، وَلَا يَزِيدُ العَدَاوَةَ إِلَّا شِدَّةً، وَأَنَّ إِحْسَانَهُ إليه لَيْسَ بِوَاضِعٍ قَدْرَهُ، بَلْ مَن تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ، هَانَ عَلَيْهِ الأمرُ، وَفَعَلَ ذلك مُتَلَذِّذًا مُسْتَحْلِيًا لَهُ.
﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ لِكَوْنِهَا مِن خِصَالِ خَوَاصِّ الخَلْقِ، التي يَنَالُ بها العَبْدُ الرِّفْعَةَ في الدنيا والآخرة، التي هي مِن أكبرِ خِصَالِ مَكَارِمِ الأخْلَاقِ.
والفَرْقُ بين العَفْوِ والذُّلِّ، أنَّ العَفْوَ إسقاطُ حَقِّكَ جُودًا وَكَرَمًا وَإِحْسَانًا مع قُدْرَتِكَ على الانْتِقَامِ، فَتُؤثِرُ التَّرْكَ رَغْبَةً في الإحسانِ وَمَكَارمِ الأَخْلَاقِ، بِخِلَافِ الذُّلِّ، فَإِنَّ صَاحِبَهُ يَتْرُكُ الانتقامَ عَجْزًا وَخَوْفًا وَمَهَانَةَ نَفْسٍ، فَهَذَا مَذْمُومٌ غَيْرُ مَحْمُودٍ.
وَلَعَلَّ المُنْتَقِمَ بِالحَقِّ أَحْسَنُ حَالٍ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾ [الشورى: 39]، فَمَدَحَهُم لِقُوَّتِهِم على الانتصارِ لِنُفُوسِهِم، وَتَقَاضِيهِم مِنْهَا ذلك، حتى إذا قَدَرُوا على مَن بَغَى عَلَيْهِم، وَتَمَكَّنُوا مِن استيفاءِ مَا لَهُم عَلَيْهِ، نَدَبَهُم إلى الخُلُقِ الشَّرِيفِ مِن العَفْوِ والصَّفْحِ، فَقَالَ: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ [الشورى: 40]، فَذَكَرَ المَقَامَاتِ الثَّلَاثَة:
العَدْلُ وَأَبَاحَهُ، وَالفَضْلُ وَنَدَبَ إِلَيْهِ، وَالظُّلْمُ وَحَرَّمَهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَيْفَ مَدَحَهُم على الانتصارِ والعَفْوِ وَهُمَا مُتَنَافِيَانِ؟
قَيلَ: لَم يَمْدَحْهُم على الاستيفاءِ والانْتِقَامِ، وإنَّمَا مَدَحَهُم على الانتصارِ وهو القُدْرَةُ والقوةُ على استيفاءِ حَقِّهِم، فَلَمَّا قَدَرُوا نَدَبَهُم إلى العَفْوِ، قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ في هذه الآيةِ: كانوا يَكْرَهُونَ أنْ يُسْتَذَلُّوا، فَإِذَا قَدَرُوا عَفَوْا، فَمَدَحَهُم على عَفْوٍ بَعْدَ قُدْرَةٍ، لا عَفْوِ ذِلَّةٍ وَعَجْزٍ وَمَهَانَةٍ، وَهَذَا هو الكمالُ الذي مَدَحَ سُبْحَانَهُ به نَفْسَهُ في قَوْلِهِ: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا﴾ [النساء: 99].
عَن عَبْدِ اللهِ بن مَسْعُودٍ –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «كَأنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأَنْبِيَاءِ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: اللهم اغْفِر لِقَوْمِي فَإِنَّهُم لَا يَعْلَمُونَ». مُتفقٌ عليه.
فَالتَّسَامُحُ والعَفْوُ إنما يَكُونَا مِمَّن تَحَلَّى بالأخلاقِ الجميلةِ، وتَخَلَّى عَن الأخلاقِ الرذِيلَةِ.
وهذا إنما يكونُ مِمَّن تَاجَرَ مع اللهِ، وَعَفَا عن عبادِ اللهِ رحمةً بهم، وإحسانًا إليهم، وكراهةً لِحُصُولِ الشَّرِّ عليهم، ولَيَعْفُوَ اللهُ عنه، ويكونَ أَجْرُهُ على رَبِّهِ الكريم، لا على العَبْدِ الفَقِيرِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
المصدر:دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ