«دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ»
«الدرس التاسع عشر»
«فَضْلُ العَشْرِ الأَوَاخِرِ ولَيْلَةُ القَدْرِ»
إنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّـه مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّـهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّـهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
«عِبَادَةُ النَّبِيِّ ﷺ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ»
فإنَّ صيامَ رمضانَ ما يَزَالُ يَرْتَقِي بالنَّفْسِ في مَدَارِجِ الكمالِ؛ حتى يَبْلُغَ الصائمُ العَشْرَ الأواخرَ مِن رمضان، وفيها الاعتكافُ؛ لِعُكُوفِ القلبِ على اللهِ، ولِجَمْعِيَّةِ القلبِ على سَيِّدِهِ ومَوْلَاه، ولِلْفِكْرِ في تحصيلِ مَرْضَاةِ الله، وما يُقَرِّبُ منه تعالى في عُلَاهُ.
وفي العَشْرِ: اِلْتِمَاسُ ليلةِ القَدْرِ، وهي خَيْرٌ مِنْ ألفِ شهر.
في «الصحيحين» عن عائشة-رضي الله عنها- قالت: «كَانَ رَسُوْلُ اللهِ ﷺ إِذَا دَخَل الْعَشْرُ؛ شَدَّ مِئْزَرَه، وَأَحْيَا لَيْلَه، وَأَيْقَظَ أَهْلَه».
هذا لفظُ البخاري.
«كَانَ رَسُوْلُ اللهِﷺ إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ؛ شَدَّ مِئْزَرَه، وَأَحْيَا لَيْلَه، وَأَيْقَظ أَهْلَه».
قد يَفْهَمُ فَاهِمٌ أنَّ قَوْلَها -رضي الله عنها-: «أَحْيَا لَيْلَه» أنه كان يُحْيِي الليلَ كلَّهُ بالصلاة!
وقد رَدَّت هي-رضي الله عنها- هذا الفَهْمَ، فقالت: «ما عَلِمْتُ رسولَ اللهِ -صلي الله عليه وسلم- صَلَّى ليلةً كاملةً حتى أَصْبَحَ».
ولكنْ «أَحْيَا لَيْلَهُ» بالصلاةِ، بتلاوةِ كتابِ الله، بالذِّكْرِ، بالفِكْرِ في أحوالِ الآخرة، والقيامِ بين يَدَيْ رَبِّ العِزَّةِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- في القيامةِ؛ يُقَرِّبُ عَبْدَهُ، يُدْنِيهِ، يُلْقِي عليه كَنَفَهُ؛ يُقرِّرُهُ: «أَتَذْكُرُ ذَنْبَ كذا؟ أَتَذْكُرُ ذَنْبَ كذا؟»
فيقول: أَيْ رَبِّ -أَيْ أَذْكُرُ-، أَيْ رَبِّ أَذْكُرُ، حتى إذا أَيْقَنَ بالهَلَكَةِ؛ قال له ربُّهُ -وهو الرحمنُ الرحيم- : «قد سَترتُ ذلك عليك في الدنيا، وأنا أغفرُهُ لك اليوم، ويُؤمرُ به إلى الجنَّةِ».
«أَحْيَا لَيْلَهُ»: يُحْيِي لَيْلَهُ بالعبادة، ليس شرطًا بالصلاةِ في طُولِ الليل؛ فما فَعَلَ ذلك في ليلةٍ حتى أصبح- ﷺ-، كما قالت عائشةُ -رضي الله عنها-.
ولفظُ مُسلمٍ: «أَحْيَا الْلَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ -صلى اللهُ عليه وآله سلم-».
«وجَدَّ» في العبادةِ بالزيادةِ على العادة.
«وَجَدَّ» وهو رسولُ اللهِ ﷺ وقد غَفَرَ اللهُ له ما تَقَدَّمَ من ذَنْبِهِ وما تَأَخَّرَ!
«وَجَدَّ» في العبادةِ بالزيادةِ على العادة.
«وَشَدَّ الْمِئْزَرَ»: للتَّفَرُّغِ للعبادة؛ بالتشميرِ، بالاجتهادِ، أَوْ هو كنايةٌ عن اعتزالِ النِّسَاء.
«وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ ﷺ».
وفي روايةٍ لمسلم عن عائشةَ -رضي الله عنها- قالت: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ يَجْتَهِدُ فِيْ الْعَشْرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِيْ غَيْرِهِ»؛ لأنه ﷺ كان يَلْتَمِسُ لَيْلَةَ القَدْرِ.
«خَصَائِصُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ»
عَشْرُ رمضانَ الأخيرةُ فيها الخَيْرَات، وفيها الأُجورُ الكثيرة، وفيها الفضائلُ المشهورة والخصائصُ العظيمة.
وقد كان النبيُّ - صلى الله عليه وآله سلم- يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأواخرَ مِن رمضان؛ إلَّا أنْ يكونَ - ﷺ- مُسافرًا في جهادٍ في سبيلِ اللهِ لغَزْوٍ، لالتماسِ مرضاةِ الله.
فالاعتكاف سنَّةٌ مِن السُّننِ الثابتة، دلَّ عليها كتابُ ربِّنا، وسُنَّةُ نبيِّنا، وإجماعُ الأمة.
والمقصِدُ الأجَلُّ: تفريغُ القلبِ للعكوفِ على العبادة والذِّكْرِ، لالتماسِ الأجرِ بتَحَرِّي ليْلَة القَدْرِ، وبالبُعْدِ عن الدنيا بكُلِّ ما فيها مِنْ مَآسيِها ومَبَاهِرِهَا، بكلِّ ما يَشْغَلُ القلبَ عن الربِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وصراطِهِ المستقيمِ وطلبِ الآخرة.
وفي العَشْرِ الأواخرِ مِن شهرِ رمضان: لَيْلَةُ القَدْرِ، وهي خَيْرٌ مِن ألفِ شَهْر.
فَعَشْرُ رَمَضَانَ الأخيرةُ فيها الخَيْرَاتُ والأجورُ الكثيرةُ، وفيها الفضائلُ المشهورةُ والخصائصُ العظيمة، ومنها:-
*أنَّ النبيَّ -صلى اللهُ عليه وآله سلم- كان يجتهدُ في العَشْرِ الأواخرِ ما لا يجتهدُ في غيرِهِ، وهذا شاملٌ للاجتهادِ في جميعِ أنواعِ العبادةِ؛ مِن صلاةٍ وتِلاوةٍ وذِكْرٍ وصَدَقةٍ وغيرِها.
*ومِن خصائصِ العَشْرِ: أنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وآله سلم- كان يُوقِظُ أهلَهُ في العَشْرِ للصَّلاة.
«أَيْقَظ أَهْلَه...أَحْيَا لَيْلَه»: كأنَّ الليلَ كان مَوَاتًا؛ بل كان، إذ لا يُذْكَرُ فيه اللهُ، فإذا عُبِدَ فيه اللهُ؛ حَيِيَ.
«أَحْيَا لَيْلَه، وَأَيْقَظ أَهْلَهُ» للصلاةِ والذِّكْرِ؛ حِرْصًا على اغتنامِ هذه الليالي المُبَاركة؛ لأنها فرصةُ العُمُرِ، وغَنيمةٌ لمَن وَفَّقَهُ اللهُ.
ومِن الخُسرانِ العظيمِ والحِرمانِ الكبيرِ: أنْ يُمْضِيَ المسلمونَ هذه الأوقات الثمينة في اللهوِ الباطلِ، والعَبَثِ الفَاجرِ، واللغوِ الزائلِ، وهذا مِن تَلاعُبِ الشيطانِ بِهم، ومِن مَكْرِهِ بِهم، وصَدِّهِ إيَّاهم عن سبيلِ الله، ومِن إغوائِهِ لهم، وقد قالَ ربُّنا -جَلَّ وعَلا- للشيطانِ اللعين: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عليهمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ﴾ [الحجر: 42].
فمَن تَبِعَ الغاوي؛ فهو غَاوي، مَن اتَّبَعَ الغَوِيَّ؛ فهو غَوِيِّ، ومَن اتَّبَعَ الشيطانَ فهو من الغاوين، كما قالَ ربُّ العالمين.
فَمِن الخُسْرَانِ المُبين....مِن الخسارةِ الفَادحة: أنْ تُمَضَّى الأوقاتُ في ليالِ العَشْرِ في اللهوِ الباطلِ.
وقد تَكَالبَ المُنحرفونَ والمُنحرفات على المُسلمين في مَخادعِهم؛ ليَشْغَلُوهم عن العبادةِ والتِّلاوةِ والذِّكْرِ، وليُغْرُوهم بالنظرِ والاستماعِ إلى كلِّ ما حَرَّمَ اللهُ -جلَّ وعلا- مِمَّا هو فُسُوقٌ مَحْضٌ، وزَيْفٌ صِرْفٌ، ومعصيةٌ بَحْت.
*سُنَّةُ الاعْتِكَافِ فِي العَشْرِ الْأَوَاخِرِ وَالْتِمَاسُ لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِيهَا:
*من خصائصِ العَشْرِ: الاعتكافُ فيها، والاعتكافُ سُنَّةٌ ثابتةٌ بالكتابِ والسُّنَّةِ، وبإجماعِ الأمة.
وقد اعتكفَ النبيُّ ﷺ، واعتكفَ معه أصحابُهُ وبَعْدَهُ؛ فاعتكفوا مَعَهُ، واعتكفوا بَعْدَهُ -صلى اللهُ عليه وآله وسلم، ورضيَ اللهُ عنهم-.
أخرجَ مُسلمٌ في «صحيحه» بسندِهِ من روايةِ أبي سعيد الخُدريِّ -رضي الله عنه- قال: «اعتكفَ رَسُوْلُ اللهُ ﷺ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ مِنْ رَمَضَانَ، يَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ قَبْلَ أَنْ تُبَانَ لَهُ -أي: قبل أن تُظْهَرَ له-.
فَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ مِنْ شهر رَمَضَانَ -أي: في عام-، يَلْتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ قَبْلَ أَنْ تُبَانَ لَهُ، فَلَمَّا انْقَضَيْنَ -يعني: العَشْرَ الأَوْسَطَ- أَمَرَ بِالْبِنَاءِ فَقُوِّضَ -أي: أُزيلَ، يعني: الخِبَاء الذي كان يعتكفُ فيه ﷺ يُضْرَبُ له في المسجد-، فَلَمَّا انْقَضَيْنَ؛ أَمَرَ بِالْبِنَاءِ فَقُوِّضَ-أي: أُزيل-.
ثُمَّ أُبِيْنَتْ لَهُ أَنَّهَا فِيْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَأَمَرَ بِالْبِنَاءِ -أي: الخِبَاءِ- فَأُعِيْدَ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَىَ الْنَّاسِ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا الْنَّاسُ؛ إِنَّهَا كَانَتْ أُبِيْنَتْ لِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَإِنِّي خَرَجْتُ لَأُخْبِرَكُمْ بِهَا، فَجَاءَ رَجُلَانِ يَحْتَقَّانِ -أي: كلٌّ يَدَّعى أنَّ الحقَّ له-».
وفي روايةٍ «يَتَلَاحَيَانِ»: كلٌّ قد أَمْسَكَ بلِحْيَةِ صاحبِهِ.
وفي رواية «يَسْتَبَّانِ».
«مَعَهُمَا الْشَّيْطَانُ، فَنُسِّيتُهَا، فَالْتَمِسُوْهَا فِيْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، الْتَمِسُوْهَا فِيْ الْتَّاسِعَةِ وَالْسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ».
«فَجَاءَ رَجُلَانِ يَحْتَقَّانِ مَعَهُمَا الْشَّيْطَانُ؛ فَنُسِّيتُهَا، أو فَأُنْسِيتُها».
أي: نُسِّيَ تحديدَ عِلْمِها بقَطْعٍ ويقين، لا أنها في العَشْرِ الأواخر مِن شهرِ رمضان!
وهذا مِن شؤمِ الخصامِ والخِلافِ والجِدال: «فجاء رجلان يَحْتَقَّانِ...يَسْتَبَّانِ... يَتَلَاحَيَانِ، مَعَهُمَا الْشَّيْطَانُ؛ فَأُنْسِيتُها».
فكم من الخيرِ يُرْفعُ لوقوعِ الخصامِ والخلافِ والجدالِ، والمُنَاقَرَةِ كَمُنَاقَرَةِ الدُّيُوك؟!!
قال رسولُ اللهِ ﷺ: «الْتَمِسُوْهَا فِيْ الْتَّاسِعَةِ وَالْسَّابِعَةِ وَالْخَامِسَةِ».
بَيَّنَ أبو سعيد -رضيَ اللهُ عنه- أنَّ التاسعةَ هي: الثانيةُ والعشرون، والسابعةُ هي: الرابعةُ والعشرون، والخامسةُ هي: السادسة والعشرون.
فَفَهِمَ -رضي اللهُ عنه- أنَّ ليلةَ القَدْرِ قد تكونُ في الأشفاعِ كما تكونُ في الأوتارِ مِنَ العَشْرِ الأواخرِ من رمضان، وإلى هذا أشارَ شيخُ الإسلامِ -رحمهُ اللهُ تعالى-.
«فِيْ تَاسِعَةٍ تَبْقَىَ، فِيْ سَابِعَةٍ تَبْقَىَ، فِيْ خَامِسَةٍ تَبْقَىَ، في ثالثةٍ تَبقى»، إذا كان الشهرُ تسعةً وعشرين.
وإذا كان الشهرُ ثلاثين؛ فَيَصْدُقُ أنْ تكونَ في الأوتار، كما يَصْدُقُ أنْ تكونَ في الأشفاع.
وعليه؛ فمَنْ أرادَ أنْ يُصيبَ لَيْلَةَ القَدْرِ؛ فعليه أنْ يجتهدَ في العشرِ الأواخرِ كلِّها مِنْ غيرِ ما تمييز، وإنَّ خَصَّ الأوتارَ بمزيدِ عنايةٍ فلا بأس؛ لدلالةِ النصوصِ على ذلك.
*فَضَائِلُ لَيْلَةِ القَدْرِ:
في العَشْرِ الأواخرِ: لَيْلَةُ القَدْرِ التي شَرَّفَهَا اللهُ تعالى على غيرِها، ومَنَّ على هذه الأمةِ بها، وأَنْعَمَ عليها بجزيلِ خَيْرِها، وأشادَ اللهُ تعالى بِفَضْلِهَا؛ فَقَالَ -جَلَّ وعلا-: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾ [الدخان: 3-4].
مِن بَرَكَةِ ليلةِ القَدْرِ: أنَّ هذا القرآنَ المبارك أُنْزِلَ فيها، وقد وَصَفَها اللهُ تعالى بأنه يُفْرَقُ فيها كلُّ أَمْرٍ حكيمٍ مِنْ أوامرِ اللهِ المُحْكَمَةِ العظيمةِ المُتْقَنَةِ، التي ليس فيها خللٌ ولا نَقْصٌ ولا باطل ﴿ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ العَلِيمِ﴾ [الأنعام: 96].
﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ* تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ* سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ [القدر: 1-5].
القَدْرُ: بمعني الشَّرَفِ والتعظيمِ، أو بمعني التقديرِ والقضاءِ؛ لأنَّ ليلةَ القَدْرِ يُفْصَلُ فيها مِنَ اللوْحِ المحفوظِ إلي الكَتَبَةِ ما هو كائنٌ من أَمْرِ اللهِ سبحانه في تلك السَّنَةِ مِن الأرزاقِ والآجالِ والخيرِ والشرِّ: مَن يُولَد ومَن يموت، مَن يُرفعُ ومَن يُخْفَض، مَن يُعَزُّ ومَن يُذَلُّ، مَن يُعْطَى ومَن يُحْرَم، مَن يَحُجُّ ومَن يَعتمر إلى غيرِ ذلك مِن ألوانِ التقدير.
لأنَّ التقديرَ -كما هو معلوم- تقديرٌ أزليٌّ، كَتَبَ اللهُ -تبارك وتعالى- مقاديرَ كلِّ شيءٍ قبلَ أنْ يَخلقَ السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ.
واللهُ ربُّ العالمين يَجْعَلُ نُسخةً من هذا التقديرِ الأزليِّ في ليلةِ القَدْرِ مِن كلِّ عام إلى الكَتَبَة، وفيها ما هو كائنٌ مِن أَمْرِ اللهِ سبحانه في تلك السَّنةِ من الأرزاقِ والآجالِ، والخيرِ والشرِّ، وغيرِ ذلك مِنْ كلِّ أَمْرٍ حكيم مِنْ أوامرِ اللهِ المُحْكَمَةِ المُتْقَنَةِ.
ولَيلةُ القَدْرِ شريفةٌ عظيمةٌ، يُقَدِّرُ اللهُ فيها ما يكونُ في السَّنَةِ إلى ليلةِ القَدْرِ من العامِ بَعْدَهُ، وما يَقْضِيهِ اللهُ تعالى مِن أوامرِهِ الحكيمةِ وأمورِهِ الجليلة.
﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ [القدر: 3]، يعني: في الفَضْلِ والشَّرَفِ، وكثرةِ الثوابِ والأجرِ؛ لِذَا مَن قَامَهَا إيمانًا واحتسابًا؛ غُفِرَ لَهُ ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ.
وفي سورةِ القَدْرِ مِن فضائلِ ليلةِ القَدْرِ: أنَّ اللهَ أَنْزَلَ فيها القرآنَ المجيد الذي به هدايةُ البَّشَرِ، وسعادتُهم في الدنيا والآخرة، وكذلك ما يَدُلُّ عليه الاستفهامُ مِن التفخيمِ والتعظيم: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ [القدر: 2].
وكلُّ «ما أَدْرَاكَ» في القرآنِ أَدْرَاهُ، وكلُّ ما يُدريك لم يُدْرِه.
إذَا قالَ بَعد هذا الاستفهام الذي هو للتفخيمِ والتعظيمِ والتشويق: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ [القدر: 2-3]؛ فكُلُّ «وما أدراك» في القرآنِ أَدْرَاهُ.
وهي خيرٌ من ألفِ شهرٍ، كما قَضَى بذلك ربُّنا -جلَّ وعلا-.
والملائكةُ تتنزلُ فيها، وَهُم لا يتنزلونَ إلا بالخيرِ والبركةِ والرحمةِ؛ حتى تضيقَ بِهم الأرضُ، وهو أحدُ القَوْلينِ في معنى القَدْرِ.
القَدْرُ: الشَّرَفُ.
والقَدْر: الضِّيقُ.
قالوا: لأنَّ الأرضَ تضيقُ بالملائكةِ من كثرتِهم، والملائكةُ لا تتنزلُ إلا بالخيرِ والبركةِ والرحمةِ.
﴿والرُّوحُ﴾: وهو جبريلُ -عليه السلام -.
ومما يَدُلُّ على فَضْلِها في سورةِ القَدْرِ: أنها سلام؛ ﴿سَلَامٌ هِيَ﴾.
وقد أتى بالجُملةِ مَعرَّفةَ الطرفين، لا...بَلْ إنه -جلَّ وعلا- ذكرها هكذا تفخيمًا وتعظيمًا وتكريمًا وتشريفًا: ﴿سَلَامٌ هِيَ﴾، فدلَّ على كَوْنِها سلامًا لُحْمَةً وسُدَى، فهي سلامٌ مَحْض؛ ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾؛ فهي سَاجيةٌ صافية «طَلِقَةٌ بَلِجَةٌ» كما قال رسولُ الله؛ إذ هي سَلَامٌ، تتنزلُ فيها الملائكةُ، يتنزلُ فيها مِن ربِّنَا السلامِ السلامُ على أهلِ الأرضِ؛ حتى يَصِيروا إلى السلامِ مِن بَعْدِ الضِّيقِ والشِّدَّةِ والعناءِ والكَرْبِ، فتجدُ الرُّوحُ مُنْطَلَقَها و يجدُ القلبُ مُستقرَّهُ، وما يدري أحدٌ متى يجدُ قَلْبُهُ مُستقرَّهُ؟!
﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾؛ لكثرةِ السلامةِ فيها مِن العذابِ، لِمَا يقومُ به العبدُ مِن طاعةِ اللهِ -جلَّ وعلا-.
ومما يَدُلُّ على عظيمِ قَدْرِها ورِفْعَةِ شأنِها وجليلِ قَدْرِها: أنَّ اللهَ أنزلَ فيها سورةً برأسِها؛ تُتلى، يُتَعَبَّدُ للهِ بتلاوتِها إلى أنْ يَرفعَ اللهُ الكتابَ المجيدَ بين يَدي الساعةِ مِن الصُّدورِ والسُّطور.
ولا تختصُ ليلةُ القَدْرِ بلَيْلَةٍ مُعيَّنَةٍ في جميعِ الأعوامِ، بل تنتقلُ، فتكونُ في عامٍ ليلةَ سَبْعٍ وعشرين مثلًا، وفي عامٍ ليلةَ خمسٍ وعشرين، وهكذا...تَبَعًا لمشيئةِ اللهِ تعالى وحِكمته.
ودليلُ ذلك: قولُه ﷺ: «التمسوها فِيْ تَاسِعَةٍ تَبْقَىَ، فِيْ سَابِعَةٍ تَبْقَىَ، فِيْ خَامِسَةٍ تَبْقَىَ».
قال الحافظ في «الفتح»: «الأرجحُ: أنها في العَشْرِ الأخير، وأنها تَنْتَقِل».
فالأرجحُ على حَسَبِ دلالاتِ النصوص: أنَّ لَيْلَةَ القَدْرِ في العَشْرِ الأواخرِ مِنْ شهرِ رمضان، وأنها في أوتارِ العَشْرِ، وأنها تَنْتَقِلُ؛ فليست في ليلةِ بعَيْنِها، تكونُ ثابتةً في كلِّ عامٍ، ولكنَّها تنتقلُ كمَا هو الأرجحُ.
وقد أَخْفَى اللهُ -تبارك وتعالى- عن العبادِ تحديدَ لَيْلَةِ القَدْرِ بِقَطْعٍ؛ رحمةً بهم؛ ليَكُثرَ عَمَلُهم في طلبِ لَيْلَةِ القَدْرِ في تلك الليالي الفاضلة، بالذِّكْرِ والصلاة، وبالدعاءِ والإخباتِ، وبالبكاءِ والإنابة؛ ليزدادوا من اللهِ قُرْبًا، وليَكْثُرَ لهم من اللهِ الثوابُ، وليُعْلَمَ مَنْ كان جَادًّا في طلبِها، حريصًا عليها مِمن كان كسلانًا مُتهاونًا.
أَخفى اللهُ ربُّ العالمين رِضاهُ في طاعتِهِ؛ فلا تدري بِمَ يَرْضَى عنك مما تَتَزَلَّفُ به إليه؟
ولا تَدري؛ أيُّ ذلك يُقْبَلُ لديه ويُعتمدُ عنده؟
فأَخْفَى رضاهُ في طاعتِهِ، كما أخفى سَخَطَهُ في معصيتِهِ.
وقد أَخْفَى اللهُ ربُّ العالمين ساعةَ الإجابةِ في يومِ الجُمُعةِ، في ساعاتِهِ، والأرجحُ: أنها الساعةُ الأخيرةُ قبل المغرب من يومِ الجُمُعة، لا يوافقُها عَبْدٌ يَسْأَلُ اللهَ ربَّ العالمين أَمْرًا مِن أمورِ الدنيا والآخرة؛ إلا آتاهُ اللهُ إياه.
وذلك لِيَحْرِصَ الناسُ على فِعْلِ الخيرات، وبَذْلِ النفوسِ في طاعةِ الله، وتفريغِ الأوقاتِ لعبادةِ الله؛ فأَخْفَى اللهُ -ربُّ العالمين- لَيْلَةَ القَدْرِ في العَشْرِ الأواخرِ مِن رمضان.
قال رسولُ الله: «فَنُسِّيْتُهَا، وَعَسَىَ أَنْ يَكُوْنَ خَيْرًا لَكُمْ»؛ أي: لتزدادوا اجتهادًا في العبادةِ والطلب، ولأنكم إذا عَلِمتم تحديدَها بقَطْعٍ في لَيْلِةٍ مُحددةٍ؛ تَوفرتم على العبادةِ في تلك الليلة، ثم كَسَلْتُم بعدَ ذلك، وفَتَرْتُم عن العبادة والذِّكْرِ، ولا كذلك فِعْلُ المُتقين؛ فإنَّ النبيَّ الأمينَ ﷺ مع أنَّ الله -جلَّ وعلا- قد أخبرَهُ أنه قد غَفَرَ له ما تَقَدَّمَ من ذنبِهِ؛ إلا أنه «كَانَ يَقُوْمُ الْلَّيْلَ حتى تَتَوَرَّمَ قَدَمَاهُ، حَتَّىَ تَتَفَطَّرُ قَدَمَاهُ»، فلمَّا رُوجعَ في ذلك قال: «أَفَلَا أَكُوْنُ عَبْدًا شَكُوْرًا؟!!» ﷺ.
يُسْأَلُ اللهُ -تبارك وتعالى- في لَيْلَةِ القَدْرِ وفي كلِّ حينٍ العَفوَ والمعافاة.
يَسألُ العبدُ ربَّهُ-جلَّ وعلا- في ليلةِ القَدْرِ العفوَ والمعافاةَ؛ قالت عائشةُ -رضيَ اللهُ عنها- كما في الحديثِ الصحيح الذي أخرجَهُ أحمدُ في «المُسندِ»:
قُلْتُ: يَا رَسُوْلَ الْلَّهِ؛ أرأيتَ إِنْ وَافْقَتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ؛ مَا أَقُوْلُ فِيْهَا؟
قَالَ: «قُوْلِيْ: الْلَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّيْ».
لو كان هناك طلبٌ هو أعلى مِن هذا؛ لذَكَرَهُ النبيُّﷺ لعائشة -رضيَ اللهُ تبارك وتعالى عنها-.
لأنَّ النبيَّ ﷺ أَخْبَرَ أنها أَحبُّ الناسِ إليه؛ لمَّا سألَهُ عمرو بن العاص -رضي الله عنه-: مَنْ أَحَبُّ الْنَّاسِ إِلَيْكَ يا رسولَ الله؟
قَالَ: «عَائِشَةُ».
قَالَ: فمِنَ الْرِّجَالِ؟
قَالَ: «أَبُوْهَا» -رضي الله عنه وعنها وعن الصحابة أجمعين-.
فهذا اختيارُ الحبيبِ للحبيب.
يختارُ النبيُّ ﷺ لعائشةَ في الليلةِ المباركةِ التي يُقْبَلُ فيها الدُّعاءُ، ويُجْزَلُ فيها العطاءُ، وتُمْحَى فيها الخطايا، وتُزالُ فيها السيئات، يَخْتَارُ لها رسولُ اللهِ هذا الدعاءَ: «الْلَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّيْ».
ولو كان هناك ما هو فَوْقَهُ؛ لذَكَرَهُ لها -ﷺ، ورضيَ اللهُ عنها-.
هو العفوُّ، وهو يحبُّ العَفو؛ فيُحِبُّ أنْ يعفو عن عبادِهِ، ويحبُّ مِن عبادِهِ أنْ يعفوَ بعضُهم عن بعض، فإذا عفا بعضُهم عن بعض؛ عاملَهم بعفوِهِ، وعَفْوُهُ أَحَبُّ إليه من عقوبتِهِ.
كان النبيُّ ﷺ يقول: «أَعُوْذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوْبَتِكَ»، كما في «صحيحِ مسلم».
عَفْوهُ أَحَبُّ إليه مِن عقوبته؛ «وَأَعُوْذُ بِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوْبَتِكَ»: مِن نِقْمَتِكَ.
قال مُطَرِّفُ بنُ عبد الله: «لَأَنْ أَبِيتَ نائمًا وأُصْبِحَ نادمًا؛ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَبِيتَ قائمًا وأُصْبِحَ مُعْجَبًا».
الإخلاصَ...الإخلاصَ!
نسألُ اللهَ أنْ يرزقَنا إيَّاه.
هو عُقْدَةُ المسألة، وحَرْفُها وقُطْبُها الذي عليه تدور.
«أولئك قَوْمٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا»؛ فلم ينفعهم عملٌ صالح.
وتأمَّل في وصفِ ما يكون: «أَعْمَالٌ كأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بَيْضَاءَ؛ يَجْعَلَهَا الله هَبَاءً مَنْثُوْرًا»؛ كالقُطنِ الْمَنْتُوفِ الْمَنْدُوفِ؛ يَجْعَلَهَا اللهُ هَبَاءً مَنْثُوْرًا، والجبالُ متماسكةٌ صُلْبَةٌ قائمةٌ، مُتلاحمة بذَرَّاتِها، وبصَخْرِها، وبمُكوِّناتِها.
ولكنْ وَا أَسَفَاهُ! ما من لُحْمَةٍ ها هنا تَرْبِط؛ فأعمالٌ متناثرةٌ لا حقيقةَ لها، يَجْعَلُ هَا اللهُ هَبَاءً مَنْثُوْرًا.
«لَأَنْ أَبِيتَ نائمًا وأُصْبِحَ نادمًا؛ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَبِيتَ قائمًا وأُصْبِحَ مُعْجَبًا»؛ لأنه لا يُقْبَلُ مع الإعجابِ عَمَلٌ، والنَّدَمُ من شروطِ التوبةِ؛ فإذا استَكْمَلَت شُروطَها؛ كانت نَصوحًا مقبولاً.
فاحرص في العَشْرِ الأواخرِ على التصفيةِ والتزكيةِ على الكتابِ والسُّنةِ ومنهاجِ النُّبوة، وخَلِّفْ دُنياك وَرَاءَكَ، وأَقْبِل صحيحًا؛ حتى تصيرَ مُعَافَى.
اللهم إنكَ عفوٌّ تحبُّ العفو فاعفُ عنَّا.
وصلى اللهُ وسلَّم على نبيِّنا مُحَمَّد، وعلى آلهِ وأصحابِهِ أجمعين.
المصدر:دُرُوسٌ مُهِمَّةٌ لِعُمُومِ المُسْلِمِينَ فِي رَمَضَانَ