((اسْتِقْبَالُ الْعَشْرِ بِتَحَرِّي الْحَلَالِ))
إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَمَرَنَا بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَاتًا وَكَسْبًا، فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 171]، أَنْ يَكُونَ طَيِّبًا فِي ذَاتِهِ، طَيِّبًا فِي كَسْبِهِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ طَيِّبًا فِي ذَاتِهِ، وَأَنْ يَكُونَ حَرَامًا فِي كَسْبِهِ، فَتَعْلَقُ بِهِ الْحُرْمَةُ أَيْضًا.
*الْأَكْلُ مِنَ الْحَلَالِ مُعِينٌ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمِنْ أَسْبَابِ قَبُولِهِ:
إِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- سَوَّى بَيْنَ الْمُرْسَلِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي وُجُوبِ الْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ وَاجْتِنَابِ الْحَرَامِ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المُؤْمِنُون: 51].
فَأَمَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُرْسَلِينَ بِالْأَكْلِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْأَمْرِ بِمَا الْمَرْءُ مَأْمُورٌ بِهِ كَمَا فِي قَوْلِ رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} [الأَحْزَاب: 1].
فَيَأْمُرُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِالتَّقْوَى، وَهُوَ إِمَامُ الْمُتَّقِينَ، وَهُوَ مَوْصُوفٌ بِهَا، وَيَأْمُرُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْمُرْسَلِينَ بِالْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ، وَهُمْ آكِلُونَ مِنْهُ، ثُمَّ أَتْبَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْأَمْرَ بِالْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ مِنَ الطَّيِّبَاتِ بِالْأَمْرِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْأَكْلَ مِنَ الْحَلَالِ مُعِينٌ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَكَلَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَعَانَهُ ذَلِكَ -بِفَضْلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ- عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَعَمَلُ الصَّالِحِ هُوَ مَا كَانَ للهِ خَالِصًا، وَعَلَى قَدَمِ النَّبِيِّ سَائِرًا ﷺ.
{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}، وَأَتْبَعَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذَلِكَ الْأَمْرَ الْكَبِيرَ بِالتَّهْدِيدِ وَالتَّحْذِيرِ: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}.
وَفِي ضِمْنِهِ تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ، وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ لِمَنْ خَالَفَ فَأَكَلَ مِمَّا فِيهِ حُرْمَةٌ أَوْ مِمَّا لَيْسِ بِطَيِّبٍ فِي حَقِيقَتِهِ، أَوْ مِمَّا حُصِّلَ مِنْ وَجْهٍ لَا يَلِيقُ بِمُحَصِّلِهِ.
فَذَكَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- ذَلِكَ، وَإِذَا كَانَ قَدْ صَرَفَ الْأَمْرَ إِلَى الْمُرْسَلِينَ؛ فَمَنْ دُونَهُمْ أَوْلَى بِانْصِرَافِ الْأَمْرِ إِلَيْهِمْ.
فَإِذَا قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِلْمُرْسَلِينَ: {كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ}؛ فَإِنَّ مَنْ دُونَهُمْ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ، وَإِذَا جَاءَ التَّحْذِيرُ وَالتَّشْدِيدُ {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} فِي حَقِّ الْمُرْسَلِينَ؛ فَهُوَ فِي حَقِّ مَنْ دُونَهُمْ أَوْلَى وَأَجْدَرُ.
فَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْمُؤْمِنِينَ بِأَكْلِ الطَّيِّبَاتِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} [البَقَرة: 172]: فَوَجَّهَ الْأَمْرَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَكْلِ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقَهُمُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، وَأَمَرَهُمْ بِالشُّكْرِ.
وَعَلَى مَنْ أَرَادَ الْحَجَّ أَنْ يُخْلِصَ للهِ تَعَالَى فِي قَصْدِهِ وَعَمَلِهِ، وَأَنْ يَحْرِصَ عَلَى النَّفَقَةِ الطَّيِّبَةِ الَّتِي لَا حُرْمَةَ فِيهَا وَلَا شُبْهَةَ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا، وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ ((الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أَشْعَثَ أَغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَقَدْ غُذِيَ بِالْحَرَامِ؛ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟)).
*إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا:
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ كَمَا أَخْرَجَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا)) .
((إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا)): إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ فِي ذَاتِهِ، وَطَيِّبٌ فِي صِفَاتِهِ، وَطَيِّبٌ فِي أَفْعَالِهِ، وَطَيِّبٌ فِي أَسْمَائِهِ، فَلَهُ -جَلَّ وَعَلَا- الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ، وَاللهُ -جَلَّ وَعَلَا- مُنَزَّهٌ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ.
((إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا)): لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا كَانَ طَيِّبًا فِي ذَاتِهِ، لَيْسَ بِخَبِيثٍ، وَإِلَّا مَا كَانَ طَيِّبًا فِي تَحْصِيلِهِ، فَلَيْسَ بِحَرَامٍ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ طَيِّبًا فِي ذَاتِهِ، وَيُكْتَسَبُ اكْتِسَابًا تَلْحَقُهُ الْحُرْمَةُ فِيهِ؛ فَيَكُونُ حَرَامًا لِلْكَسْبِ، لَا حَرَامًا لِلذَّاتِ.
فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الْمَيْتَةِ أَوْ مِنْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ؛ قِيلَ: هَذَا مُحَرَّمٌ لِذَاتِهِ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ بِحُرْمَةِ ذَاتِهِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا إِذَا مَا اغْتَصَبَ شَاةً؛ فَالْحُرْمَةُ تَلْحَقُ الْكَسْبَ هَاهُنَا، وَلَا تَلْحَقُ الذَّاتَ.
((إِنَّ اللهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا)): لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا كَانَ طَيِّبًا فِي ذَاتِهِ، فَلَيْسَ بِخَبِيثٍ، وَإِلَّا مَا كَانَ طَيِّبًا فِي كَسْبِهِ، فَلَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَا فِيهِ شُبْهَةٌ.
((وَإِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172])).
فَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ التَّسْوِيَةَ فِي هَذَا الْأَمْرِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ أَكْلُ الْحَلَالِ، وَمُجَانَبَةُ الْحَرَامِ، وَالْبُعْدُ عَنِ الْخَبَائِثِ، وَتَحَرِّي الطَّيِّبِ الطَّاهِرِ.
فَأَمَرَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ، وَفِي هَذَا رَفْعٌ لِشَأْنِ الْمُؤْمِنِينَ؛ إِذْ أَمَرَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الصَّفْوَةَ مِنْ عِبَادِهِ، وَهُمُ الْمُرْسَلُونَ، إِنَّ اللهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ.
وَالرَّسُولُ ﷺ يُخْبِرُ أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا أَنْفَقَ نَفَقَةً مِنْ حَرَامٍ، فَوَصَلَ بِهَا رَحِمَهُ، أَوْ عَطَفَ بِهَا عَلَى يَتِيمٍ، أَوْ أَنْفَقَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، جُمِعَ ذَلِكَ جَمِيعًا ثُمَّ قُذِفَ بِهِ فِي النَّارِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)) يَقُولُ: ((لَا يَقْبَلُ اللهُ صَلَاةً بِغَيْرِ طُهُورٍ، وَلَا صَدَقَةً مِنْ غُلُولٍ)).
*عَلَى تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَقْبِلُوا الْعَشْرَ؛ بِمُجَانَبَةِ الْغِشِّ، وَالتَّطْفِيفِ، وَالِاحْتِكَارِ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ رَهَّبَ مِنَ الغِشِّ، وَرَغَّبَ فِي النَّصِيحَةِ فِي البَيْعِ وَغَيْرِهِ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ، فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا, فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟!»
قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَﷺ: «أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي». رَوَاهُ مُسْلِمٌ .
وَمِنْ كَبائِرِ الإِثْمِ، وَعَظَائِمِ الذُّنُوبِ: تَطْفِيفُ المَكَايِيلِ وَالمَوَازِينِ.
وَالتَّطْفِيفُ: البَخْسُ وَالنَّقْصُ؛ فَهُوَ مُطَفِّفٌ، وَالجَمْعُ: مُطَفِّفُونَ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)} [الرَّحْمَن: 7-9].
وَقَالَ ﷺ فِي رِعَايَةِ المَوَازِينِ: «إِذَا وَزَنْتُمْ؛ فَأَرْجِحُوا» .
وَالنَّبِيُّ ﷺ رَغَّبَ فِي السَّمَاحَةِ فِي البَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَحُسْنِ التَّقَاضِي وَالقَضَاءِ؛ فَعَنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «رَحِمَ اللهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ، سَمْحًا إِذَا اشْتَرَى، سَمْحًا إِذَا اقْتَضَى». رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَرَهَّبَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ الِاحْتِكَارِ؛ وَالِاحْتِكَارُ: هُوَ شِرَاءُ الشَّيْءِ وَحَبْسُهُ؛ لِيَقِلَّ بَيْنَ النَّاسِ؛ فَيَغْلُوَ سِعْرُهُ، وَيُصِيبَهُمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ الضَّرَرُ.
وَالِاحْتِكَارُ حَرَّمَهُ الشَّارِعُ وَنَهَى عَنْهُ؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الجَشَعِ، وَالطَّمَعِ، وَسُوءِ الخُلُقِ، وَالتَّضْيِيقِ عَلَى النَّاسِ، رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ مَعْمَرٍ : أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «مَنِ احْتَكَرَ؛ فَهُوَ خَاطِئٌ». أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ .
المصدر:اسْتِقْبَالُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ بِالْوَفَاءِ بِالْحُقُوقِ وَتَحَرِّي الْحَلَالِ