«مِثَالٌ مَضْرُوبٌ فِي الْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ»
لَقَد تَذَاكَرَ جَمَاعَةٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ آثَارَ مَعْنِ بْنِ زَائِدَةَ، وَهُوَ مِنْ أَشْهَرِ أَجْوَادِ الْعَرَبِ، أَدْرَكَ الْعَصْرَيْنِ الْأُمَوِيَّ وَالْعَبَّاسِيَّ، وَوَلَّاهُ الْمَنْصُورُ إِمَارَةَ (سِجِسْتَانَ)، فَأَقَامَ بِهَا، ثُمَّ قُتِلَ بِهَا غِيلَةً سَنَةَ إِحْدَى وَخَمْسِينَ وَمِائَةٍ (151هـ)، وَثَبَتْ عَلَيْهِ خَوَارِجُ وَهُوَ يَحْتَجِمُ فَقَتَلُوهُ.
تَذَاكَرَ جَمَاعَةٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ آثَارَ مَعْنٍ وَأَخْبَارَ كَرَمِهِ، مُعْجَبِينَ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ مِنَ التُّؤَدَةِ وَوَفْرَةِ الْحِلْمِ وَلِينِ الْجَانِبِ، وَغَالَوْا فِي ذَلِكَ كَثِيرًا، فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ وَأَخَذَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُغْضِبَهُ، فَأَنْكَرُوا عَلَيْهِ، وَوَعَدُوهُ مِائَةَ بَعِيرٍ إِذَا هُوَ فَعَلَ ذَلِكَ.
فَعَمَدَ الْأَعْرَابِيُّ إِلَى بَعِيرٍ فَسَلَخَهُ وَارْتَدَى بِإِهَابِهِ -وَالْإِهَابُ: الْجِلْدُ مَا لَمْ يُدْبَغْ-، وَاحْتَذَى بِبَعْضِهِ -وَاحْتَذَى؛ أَيِ: انْتَعَلَ بِبَعْضِهِ-، جَاعِلًا بَاطِنَهُ ظَاهِرًا، وَدَخَلَ عَلَى مَعْنٍ بِصُورَتِهِ تِلْكَ، وَأَنْشَأَ الرَّجُلُ يَقُولُ:
أَتَذْكُرُ إِذْ لِحَافُكَ جِلْدُ شَاةٍ = وَإِذْ نَعْلَاكَ مِنْ جِلْدِ البَعِيرِ
قَالَ مَعْنٌ: أَذْكُرُهُ وَلَا أَنْسَاهُ.
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: فَسُبْحَانَ الَّذِي أَعْطَاكَ مُلْكًا = وَعَلَّمَكَ الجُلُوسَ عَلَى السَّرِيرِ
فَقَالَ مَعْنٌ: إِنَّ اللَّهَ يُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ.
فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: فَلَسْتُ مُسَلِّمًا إِنْ عِشْتُ دَهْرًا = عَلَى مَعْنٍ بِتَسْلِيمِ الْأَمِيرِ
فَقَالَ مَعْنٌ: السَّلَامُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ فِي تَرْكِهِ ضَيْرٌ.
فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: سَأَرْحَلُ عَنْ بِلَادٍ أَنْتَ فِيهَا = وَلَوْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى الفَقِيرِ
فَقَالَ مَعْنٌ: إِنْ جَاوَرْتَنَا فَمَرْحَبًا بِالْإِقَامَةِ، وَإِنْ جَاوَزْتَنَا فَمَصْحُوبًا بِالسَّلَامَةِ.
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: فَجُدْ لِي يَا ابْنَ نَاقِصَةٍ بِمَالٍ = فَإِنِّي قَدْ عَزَمْتُ عَلَى الْمَسِيرِ
-قَالَ: يَا ابْنَ نَاقِصَةٍ، بِدَلًا مِنِ: ابْنِ زَائِدَةَ! احْتِقَارًا لَهُ-!!
فَجُدْ لِي يَا ابْنَ نَاقِصَةٍ بِمَالٍ = فَإِنِّي قَدْ عَزَمْتُ عَلَى المَسِيرِ
فَقَالَ مَعْنٌ: أَعْطُوهُ أَلْفَ دِينَارٍ تُخَفِّفُ عَنْهُ مَشَاقَّ الأَسْفَارِ.
فَأَخَذَهَا وَقَالَ: قَلِيلٌ مَا أَتَيْتَ بِهِ وَإِنِّي = لَأَطْمَعُ مِنْكَ فِي الْمَالِ الْكَثِيرِ
فَثَنِّ فَقَدْ آتَاكَ الْمُلْكَ عَفْوًا = بِلَا عَقْلٍ وَلَا رَأْيٍ مُنِيرِ
فَقَالَ مَعْنٌ: أَعْطُوهُ أَلْفًا ثَانِيَةً؛ كَيْ يَكُونَ عَنَّا رَاضِيًا.
فَتَقَدَّمَ الأَعْرَابِيُّ إِلَيْهِ, وَقَبَّلَ الأَرْضَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَقَالَ:
سَأَلْتُ اللَّهَ أَنْ يُبْقِيكَ دَهْرًا = فَمَا لَكَ فِي الْبَرِيَّةِ مِنْ نَظِيرِ
فَمِنْكَ الْجُودُ وَالْإِفْضَالُ حَقًّا = وَفَيْضُ يَدَيْكَ كَالْبَحْرِ الْغَزِيرِ
فَقَالَ مَعْنٌ: أَعْطَيْنَاهُ عَلَى هَجْوِنَا أَلْفَيْنِ، فَلْيُعْطَ أَرْبَعَةً عَلَى مَدْحِنَا.
فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: بِأَبِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ وَنَفْسِي؛ فَأَنْتَ نَسِيجُ وَحْدَكَ فِي الْحِلْمِ، وَنَادِرَةُ دَهْرِكَ فِي الجُودِ، وَلَقَدْ كُنْتُ فِي صِفَاتِكَ بَيْنَ مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ، فَلَمَّا بَلَوْتُكَ صَغَّرَ الْخُبْرُ الْخَبَرَ، وَأَذْهَبَ ضَعْفَ الشَّكِّ قُوَّةُ الْيَقِينِ، وَمَا بَعَثَنِي عَلَى مَا فَعَلْتُ إِلَّا مِائَةُ بَعِيرٍ جُعِلَتْ لِي عَلَى إِغْضَابِكَ.
فَقَالَ لَهُ مَعْنٌ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكَ، وَوَصَلَهُ بِمِائَتَيْ بَعِيرٍ؛ نِصْفُهَا لِلرِّهَانِ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لَهُ.
فَانْصَرَفَ الْأَعْرَابِيُّ دَاعِيًا لَهُ، شَاكِرًا لِهِبَاتِهِ، مُعْجَبًا بِأَنَاتِهِ.
وَقَدْ خَرَجَ مَعْنُ بْنُ زَائِدَةَ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ خَوَاصِّهِ لِلصَّيْدِ، فَاعْتَرَضَهُمْ قَطِيعٌ مِنْ ظِبَاءٍ؛ فَتَفَرَّقُوا فِي طَلَبِهِ، وَانْفَرَدَ مَعْنٌ خَلْفَ ظَبْيٍ حَتَّى انْقَطَعَ عَنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا ظَفِرَ بِهِ نَزَلَ فَذَبَحَهُ، فَرَأَى شَيْخًا مُقْبِلًا مِنَ البَرِّيَّةِ عَلَى حِمَارٍ، فَرَكِبَ فَرَسَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ؟ وَإِلَى أَيْنَ؟
قَاَل: أَتَيْتُ مِنْ أَرْضٍ لهَا عِشْرُونَ سَنَةً مُجْدِبَةً، وَقَدْ أَخْصَبَتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ، فَزَرَعْتُهَا مَقْثَأَةً -وَالْمَقْثَأَةُ: مَوْضِعُ الْقِثَّاءِ-، فَأَخْرَجَتِ الْقِثَّاءَ فِي غَيْرِ أَوَانٍ، فَجَمَعْتُ مِنْهَا مَا اسْتَحْسَنْتُهُ، وَقَصَدْتُ بِهِ مَعْنَ بْنَ زَائِدَةَ؛ لِكَرَمِهِ الْمَشْكُورِ، وَفَضْلِهِ الْمَشْهُورِ، وَمَعْرُوفِهِ الْمَأْثُورِ، وَإِحْسَانِهِ الْمَوْفُورِ.
فَقَالَ لَهُ مَعْنٌ: وَكَمْ أَمَّلْتَ مِنْهُ؟
قَالَ: أَلْفَ دِينَارٍ.
قَالَ: فَإِنْ قَالَ لَكَ: كَثِيرٌ؟
قَال: خَمْسَمِائَةٍ.
قَالَ: فَإِنْ قَالَ لَكَ: كَثِيرٌ؟
قَالَ: ثَلَاثَمِائَةٍ.
قَالَ: فَإِنْ قَالَ لَكَ: كَثِيرٌ؟
قَالَ: مِائَةً.
فَمَا زَالَ بِهِ حَتَّى قَالَ: لَا أَقَلَّ مِنَ الثَّلَاثِينَ.
قَالَ لَهُ مَعْنٌ: فَإِنْ قَالَ لَكَ: كَثِيرٌ؟
قَالَ الأَعْرَابِيُّ -وَهُوَ لَا يَعْرِفُهُ-: أُدْخِلُ قَوَائِمَ حِمَارِي فِي عَيْنِهِ، وَأَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي خَائِبًا.
فَضَحِكَ مَعْنٌ، وَسَاقَ جَوَادَهُ حَتَّى لَحِقَ بِأَصْحَابِهِ، وَنَزَلَ فِي مَنْزِلِهِ، وَقَالَ لِحَاجِبِهِ: إِذَا أَتَاكَ شَيْخٌ عَلَى حِمَارٍ بِقِثَّاءٍ فَادْخُلْ بِهِ عَلَيَّ، فَأَتَى الرَّجُلُ بَعْدَ سَاعَةٍ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ لَمْ يَعْرِفْهُ؛ لِهَيْبَتِهِ وَجَلَالِهِ، وَكَثْرَةِ حَشَمِهِ وَخَدَمِهِ، وَهُوَ مُتَصَدِّرٌ فِي دَسْتِهِ -وَالدَّسْتُ: صَدْرُ الْبَيْتِ-، وَالْخَدَمُ قِيَامٌ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ الْأَعْرَابِيُّ قَالَ لَهُ: مَا الَّذِي أَتَى بِكَ يَا أَخَا الْعَرَبِ؟
قَالَ: أَمَّلْتُ فَضْلَ الْأَمِيرِ، وَأَتَيْتُهُ بِقِثَّاءٍ فِي غَيْرِ أَوَانٍ.
فَقَالَ: كَمْ أَمَّلْتَ فِينَا؟
قَالَ: أَلْفَ دِينَارٍ.
قَالَ: كَثِيرٌ.
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ فِي نَفْسِهِ: وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ شُؤْمًا عَلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ.
قَالَ: كَثِيرٌ.
فَمَا زَالَ بِهِ إِلَى أَنْ قَالَ: خَمْسِينَ دِينَارًا.
فَقَالَ لَهُ: كَثِيرٌ.
فَقَالَ: لَا أَقَلَّ مِنَ الثَّلَاثِينَ.
فَضَحِكَ مَعْنٌ، فَعَلِمَ الأَعْرَابِيُّ أَنَّهُ صَاحِبُهُ، فَقَالَ: يَا سَيِّدِي؛ إِنْ لَمْ تُجِبْ إِلَى الثَّلَاثِينَ فَالْحِمَارُ مَرْبُوطٌ بِالْبَابِ!
وَهَاهُوَ ذَا مَعْنٌ جَالِسٌ، فَضَحِكَ مَعْنٌ حَتَّى اسْتَلْقَى عَلَى فِرَاشِهِ، ثُمَّ دَعَا بِوَكِيلِهِ فَقَالَ: أَعْطِهِ أَلْفًا، وَخَمْسَمِائَةٍ، وَثَلَاثَمِائَةٍ، وَمِائَةً، وَخَمْسِينَ، وَثَلَاثِينَ.. وَدَعِ الْحِمَارَ مَكَانَهُ!
كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَوْ كَانَ ابْنَ زَائِدَةَ، فَقِيلَ لَهُ: يَا ابْنَ نَاقِصَةَ، قَالَ:
لَا يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرَّفِيعُ مِنَ الْأَذَى = حَتَّى يُرَاقَ عَلَى جَوَانِبِهِ الدَّمُ
وَتَقُومُ الْمَعْرَكَةُ!!
وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى إِنْفَاذِ الْعِقَابِ، وَلَكِنْ هَذَا هُوَ الْحِلْمُ؛ لِأَنَّ مَعْنًا كَانَ قَادِرًا عَلَى إِنْفَاذِ الْعِقَابِ لَوْ أَرَادَ؛ بَلْ عَلَى إِنْفَاذِ أَشَدِّ عِقَابٍ.
إِنَّ الصَّفْحَ، وَالتَّسَامُحَ، وَالصَّبْرَ، وَالْوَفَاءَ، وَالْبَذْلَ.. كُلُّ أُولَئِكَ خِصَالٌ مَحْمُودَةٌ، وَشِيَاتٌ مَرْمُوقَةٌ، كُلُّ أُولَئِكَ غَايَاتٌ تَتَقَطَّعُ دُونَ بُلُوغِهَا الْأَعْنَاقُ.
المصدر: عَفْوُ اللهِ الْكَرِيمِ