((جُمْلَةٌ مِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ))
إِنَّ الْوَلَدَ ثَمَرَةُ الْفُؤَادِ، وفِلْذَةُ الْكَبِدِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ مَا تُنْتِجُهُ الشَّجَرَةُ، وَالْوَلَدُ يُنْتِجُهُ الْأَبُ؛ فَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَوْمًا: «وَاللَّهِ مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ رَجُلٌ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ عُمَرَ».
فَلَمَّا خَرَجَ رَجَعَ فَقَالَ: كَيْفَ حَلَفْتُ أَيْ بُنَيَّةُ؟
فَقُلْتُ لَهُ، فَقَالَ: «أَعَزُّ عَلَيَّ، وَالْوَلَدُ أَلْوَطُ». الْحَدِيثُ حَسَنٌ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَحَسَّنَ إِسْنَادَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)).
قَوْلُ أَبِي بَكْرٍ: «أَعَزُّ عَلَيَّ»؛ أَيْ: مَا عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ رَجَلٌ أَعَزُّ عَلَيَّ.
«وَالْوَلَدُ أَلْوَطُ»؛ أَيْ: أَلْصَقُ بِالْقَلْبِ، وَأَحَبُّ إِلَى النَّفْسِ.
«فَقُلْتُ لَهُ»؛ أَيْ: قُلْتُ لَهُ الَّذِي قَالَهُ.
فَخَرَجَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ثُمَّ رَجَعَ، فَسَأَلَ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَمَّا قَالَ: كَيْفَ حَلَفْتُ أَيْ بُنَيَّةُ؟
فقُلْتُ لَهُ -أَيْ: قُلْتُ لَهُ الَّذِي قَالَ- فقَالَ: «أَعَزُّ عَلَيَّ، وَالْوَلَدُ أَلْوَطُ».
فِي هَذَا الْحَدِيثِ: دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ تَعَلُّقِ قَلْبِ الْوَالِدِ بِوَلَدِهِ؛ مَحَبَّةً، وَتَمَنِّيًا لَهُ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ خُلُقًا، وَأَوْسَعِهِمْ رِزْقًا.
لَقَدْ جَعَلَ الْإِسْلَامُ لِلْأَطْفَالِ كَثِيرًا مِنَ الْحُقُوقِ، وَمِنْهَا حُقُوقٌ قَبْلَ وِلَادَتِهِ؛ وَمِنْ هَذِهِ الْحُقُوقِ: الْكِفَايَةُ الْمَادِّيَّةُ؛ فَقَدْ أَلْزَمَ الْإِسْلَامُ الرَّجُلَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى تَحَمُّلِ تَكَالِيفِ الزَّوَاجِ الْمَادِّيَّةِ قَبْلَ الزَّوَاجِ؛ ((يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ)) .
النَّبِيُّ ﷺ أَمَرَ الشَّبَابَ بِالتَّزَوُّجِ إِذَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى مَؤُونَةِ الزَّوَاجِ قُدْرَةً ذَاتِيَّةً وَقُدْرَةً مَالِيَّةً.
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34].
الرِّجَالُ قَائِمُونَ عَلَى تَوْجِيهِ النِّسَاءِ وَرِعَايَتِهِنَّ وَحِفْظِهِنَّ لِسَبَبَيْنِ:
الْأَوَّلُ: بِسَبَبِ مَا فَضَّلَ اللهُ الرِّجَالَ عَلَى النِّسَاءِ مِنْ خَصَائِصَ نَفْسِيَّةٍ وَجَسَدِيَّةٍ.
وَالسَّبَبُ الثَّانِي: بِمَا أَعْطَوْا مِنْ مُهُورِ النِّسَاءِ وَالنَّفَقَةِ عَلَيْهِنَّ.
إِنَّ الزَّوَاجَ مَسْئُولِيَّةٌ مَادِّيَّةٌ وَمَعْنَوِيَّةٌ يَتَحَمَّلُهَا الشَّابُّ؛ فَإِنِ اسْتَعَدَّ لَهَا أَقْدَمَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ مُعْدَمًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَفَّفَ، وَلَا يُقْحِمْ نَفْسَهُ فِيمَا يَجْلِبُ الضَّرَرَ لَهُ وَلِغَيْرِهِ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ؛ قَالَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [النور: 33].
يَعْنِي: وَلْيَلْزَمْ جَانِبَ الْعِفَّةِ بِضَبْطِ النَّفْسِ وَحِفْظِ الْجَوَارِحِ عَنْ الِاسْتِرْسَالِ فِي طَرِيقِ الشَّهَوَاتِ، وَلْيَفْعَلْ ذَلِكَ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ وَسَائِلَ النِّكَاحِ الْمُوصِلَةَ إِلَيْهِ مِنَ الصَّدَاقِ وَالنَّفَقَةِ إِلَى أَنْ يُوَسِّعَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنْ رِزْقِهِ.
فَإِذَا الْتَزَمُوا جَانِبَ الْعِفَّةِ، وَلَمْ يَفْعَلُوا مَا لَمْ يَأْذَنِ اللهُ بِهِ؛ أَغْنَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ، وَهَيَّأَ لَهُمُ الْقُدْرَةَ الْمَالِيَّةَ عَلَى الزَّوَاجِ.
* وَمِنْ أَعْظَمِ حُقُوقِ الطِّفْلِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ: إِحْسَانُ اخْتِيَارِ وَالِدَيْهِ، حَتَّى يَنْشَأَ فِي أُسْرَةٍ صَالِحَةٍ تُحْسِنُ تَقْوِيمَهُ وَتَأْدِيبَهُ وَتَرْبِيَتَهُ؛ فَفِي ظِلَالِ الْأُسْرَةِ الْمُتَمَاسِكَةِ تُغْرَسُ الْعَقِيدَةُ الصَّحِيحَةُ، وَتَنْمُو الْخِلَالُ الطَّيِّبَةُ، وَتَنْشَأُ الْخِصَالُ الْكَرِيمَةُ، وَيَعِيشُ النَّشْءُ الصَّالِحُ حَيْثُ تَسُودُ الْمَوَدَّةُ، وَتَنْتَشِرُ الرَّحْمَةُ فِي جَنَبَاتِ هَذَا الْبَيْتِ الْكَرِيمِ، لِذَا حَثَّ الْإِسْلَامُ عَلَى حُسْنِ اخْتِيَارِ الزَّوْجِ.
وَأَسَاسُ اخْتِيَارِ الزَّوْجِ: التَّقْوَى وَالصَّلَاحُ؛ قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
إِنَّ أَرْفَعَكُمْ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَتْقَاكُمْ لَهُ.
وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32].
وَزَوِّجُوا -أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ- مَنْ لَا زَوْجَ لَهُ مِنْ رِجَالِكُمْ وَنِسَائِكُمْ، وَزَوِّجُوا -أَيُّهَا الْأَوْلِيَاءُ- مَنْ كَانَ فِيهِ صَلَاحٌ وَخَيْرٌ مِنْ عَبِيدِكُمْ.
إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ حَرَّرَ الْمَرْأَةَ مِنْ ظُلْمِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَأَهْلِ الْكِتَابِ؛ فَقَدْ بَعَثَ اللهُ مُحَمَّدًا ﷺ وَالْمَرْأَةُ مَظْلُومَةٌ مَهْضُومَةٌ، تُعَامَلُ كَمَا يُعَامَلُ سَقَطُ الْمَتَاعِ، حَتَّى قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: «وَاللهِ، إِنْ كُنَّا فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَا نَعُدُّ لِلنِّسَاءِ أَمْرًا، حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى- فِيهِنَّ مَا». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَبَعَثَ اللهُ نَبِيَّهُ ﷺ بِهَذَا الدِّينِ الْقَوِيمِ، فَجَعَلَ الْمَرْأَةَ دُرَّةً مَصُونَةً وَجَوْهَرَةً مَكْنُونَةً، حَرَّرَهَا مِنْ ظُلْمِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَعْطَاهَا حُقُوقَهَا الشَّرْعِيَّةَ الَّتِي تُنَاسِبُ فِطْرَتَهَا وَطَبِيعَتَهَا؛ لَا وَكْسَ وَلَا شَطَطَ.
كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُزَوِّجُونَ الْمَرْأَةَ بِدُونِ عِلْمِهَا وَلَا إِذْنِهَا وَلَا رِضَاهَا؛ فَجَاءَتِ الشَّرِيعَةُ الْإِسْلَامِيَّةُ وَأَعْطَتِ الْمَرْأَةَ حَقَّهَا فِي ذَلِكَ.
فِي الزَّوَاجِ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا أَنْ يُزَوِّجَ الْوَلِيُّ وَلِيَّتَهُ إِطْلَاقًا مِنْ غَيْرِ مَا رِضًى مِنْهَا، وَلَوْ حَدَثَ فَهَذَا الزَّوَاجُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ، لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مُوَافِقَةً سَوَاءٌ كَانَتْ ثَيِّبًا أَمْ بِكْرًا، ثَيِّبًا كَانَتْ أَمْ بِكْرًا لَا بُدَّ مِنْ رِضَاهَا، وَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ أَنْ يُزَوِّجَ وَلِيَّتَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهَا.
لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ رَاضِيَةً، بِالْإِقْنَاعِ وَبِالْحُسْنَى، وَهِيَ فِي الْوَقْتِ ذَاتِهِ لَا يَجُوزُ لَهَا مُطْلَقًا أَنْ تَتَزَوَّجَ مِنْ غَيْرِ رِضَى وَلِيِّهَا، «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ، فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ»، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ يَقُولُهَا الرَّسُولُ ﷺ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا تُنْكَحُ الْأَيِّمُ -أَيِ الثَّيِّبُ- حَتَّى تُسْتَأْمَرَ، وَلَا الْبِكْرُ حَتَّى تُسْتَأْذَنَ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ حَثَّ الْإِسْلَامُ الرَّجُلَ أَنْ يُحْسِنَ اخْتِيَارَ الزَّوْجَةِ؛ فَيَنْبَغِي عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّه كَمَا يَجِبُ عَلَى وَلَدِهِ أَنْ يَبَرَّهُ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ -هُوَ أَيْضًا- أَنْ يَبَرَّ ابْنَهُ؛ بِإِحْسَانِ اخْتِيَارِ أُمِّهِ.
وَلَا يَقِفُ مِثْلُ هَذَا عِنْدَ حُدُودِ النَّظَرِ.
بِمَعْنَى: أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَأَمَّلُ فِي الْمَرْأَةِ فَتُعْجِبُهُ؛ فَيُقْبِلُ عَلَيْهَا وَيَتَمَسَّكُ بِهَا, وَتَكُونُ كَخَضْرَاءِ الدِّمَنِ -وَالْحَدِيثُ لَا يَصِحُّ , وَلَكِنْ أَنَا أَسْتَعْمِلُ الْمُصْطَلَحَ- فَإِنَّهَا -حِينَئِذٍ- لَا تَكُونُ صَالِحَةً, وَسَيَظْهَرُ مِنْهَا بَعْدَ حِيْنٍ مَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ أَصْلٍ مَا يَزَالُ دَسِيسَةً فِي قَلْبِهَا حَتَّى يَظْهَرَ فِي لَفْظِهَا وَلِسَانِهَا, وَفِي حَرَكَاتِهَا وَسَكَنَاتِهَا.
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ فِي بَيَانِ صِفَاتِ الْمَرْأَةِ الصَّالِحَةِ: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ، وَخَيْرُ مَتَاعِهَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ» , «الَّتِي إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ, وَإِذَا غَابَ عَنْهَا حَفِظَتْهُ فِي نَفْسِهَا وَمَالِهِ» , هَذِهِ الصِّفَاتُ هِيَ صِفَاتُ المَرْأَةِ الصَّالِحَةِ.
المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا زَوْجُهَا سَرَّتْهُ, وَلَيْسَ السُّرُورُ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا دَلِيلًا عَلَى التَّأنُّقِ في الْمَظْهَرِ مِنَ الْمَلْبَسِ والزِّينَةِ, وَإِنَّمَا أَنْ تَكُونَ طَيِّبَةً, طَيِّبَةً فِي مَلْبَسِهَا, طَيِّبَةً فِي كَلَامِهَا, طَيِّبَةً فِي نَفْسِهَا, طَيِّبَةً فِي حَرَكَتِهَا, طَيِّبَةً فِي سَكَنَاتِهَا, طَيِّبَةً فِي إِشَارَاتِهَا.
إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الطِّيبَةَ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا تَنْعَكِسُ بِالسُّرُورِ عَلَى النَّاظِرِ إِلَيْهَا، الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ الَّتِي إِذَا نَظَرَ إَلَيْهَا سَرَّتْهُ.
وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ -أَيْضًا- أَنْ تَكُونَ بَارِعَةً فِي جَمَالِهَا, وَلَا فَائِقَةً فِي حُسْنِهَا, وَإِنَّمَا تَكُونُ جَمِيلَةَ الطَّبْعِ, حَسَنَةَ الْبَّاطِنِ, طَيِّبَةَ النَّفْسِ, فَهَذَا هُوَ الْجَمَالُ الْحَقُّ؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَعْكِسُ الْأُمُورَ كَمَا هُوَ فِي الغِنَى, كَثِيرٌ مِن النَّاسِ يَحسَبُ أنَّ الغِنَى امْتِلَاكُ الأَمْوالِ مَعَ تَحَصِيلِهَا بِكَثْرَتِهَا!! فَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ؛ إِنَّمَا الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ» .
فَتَكُونُ غَنِيًّا لأَنَّ نَفْسَكَ غَنِيَّةٌ وَلَا تَمْلِكُ شَيْئًا, وَلَكِنْ أَغْنَاكَ اللهُ ربُّ العَالَمِينَ عَنْ خَلْقِهِ, نَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- دَوَامَ الغِنَى عَنِ النَّاسِ.
فَكَثِيرٌ مِن النَّاسِ يَعْكِسُ المَسَائِلَ, وَيَجْعَلُ الحَسَنَ قَبيحًا والقَبِيحَ حَسَنًا!!
كَثِيرٌ مِن النِّسَاءِ تَكُونُ حَسَنَةَ المَظْهَرِ, جَمِيلَةَ الطَّلْعَةِ, بَهِيَّةَ الصُّورَةِ, وَهِيَ مُنْطَوِيَةٌ عَلَى نَفْسٍ خَبِيثَةٍ!!
فَالطِّيبَةُ لَيْسَتْ بِالظَّاهِرِ، وَإنَّمَا الطِّيبَةُ طِيبَةُ الْبَاطِنِ, فَتَنْعَكِسُ طِيبَةُ الْبَاطِنِ عَلَى الظَّاهِرِ حَتَّى يَصِيرَ طَيِّبًا, فَيَصِيرُ الظَّاهِرُ طَيِّبًا فِي اللَّفْظِ, طَيِّبًا فِي الْإِشَارَةِ, طَيِّبًا فِي الْكَلَامِ, طَيِّبًا فِي الْحَرَكَةِ, طَيِّبًا فِي السُّكُونِ, طَيِّبًا فِي الْقِيَامِ, طَيِّبًا فِي الْقُعُودِ, يَصِيرُ طَيِّبًا فِي كُلِّ شَيْءٍ, إِذَا نَظَرَ إِلَيْهَا سَرَّتْهُ.
وَأَعْظَمُ أُسُسِ اخْتِيَارِ الزَّوْجَةِ: الدِّينُ؛ ((فَيُسَنُّ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ دَيِّنَةٍ)).
قَالَ الْعَلَّامَةُ الصَّالِحُ مُحَمَّدُ بْنُ صَالِحٍ الْعُثَيْمِينُ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((«دَيِّنَةٍ»؛ أَيْ: صَاحِبَةِ دِينٍ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَدِينِهَا.. فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ». أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
التَّرَبُ: اللَّصَقُ بِالتُّرَابِ، وَهُوَ هُنَا دُعَاءٌ بِمَعْنَى: أَصَبْتَ خَيْرًا.
فَالدَّيِّنَةُ تُعِينُهُ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَتُصْلِحُ مَنْ يَتَرَبَّى عَلَى يَدَيْهَا مِنْ أَوْلَادِهِ، وَتَحْفَظُهُ فِي غَيْبَتِهِ، وَتَحْفَظُ مَالَهُ، وَتَحْفَظُ بَيْتَهُ، بِخِلَافِ غَيْرِ الدَّيِّنَةِ فَإِنَّهَا قَدْ تَضُرُّهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ».
فَإِذَا اجْتَمَعَ مَعَ الدِّينِ جَمَالٌ وَمَالٌ وَحَسَبٌ؛ فَذَلِكَ نُورٌ عَلَى نُورٍ، وَإِلَّا فَالَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَارَ الدَّيِّنَةُ.
فَلَوِ اجْتَمَعَ عِنْدَ الْمَرْءِ امْرَأَتَانِ: إِحْدَاهُمَا جَمِيلَةٌ وَلَيْسَ فِيهَا فِسْقٌ أَوْ فُجُورٌ، وَالْأُخْرَى دُونَهَا فِي الْجَمَالِ لَكِنَّهَا أَدْيَنُ مِنْهَا، فَأَيُّهُمَا يَخْتَارُ؟
يَخْتَارُ الْأَدْيَنَ.
لَكِنْ أَحْيَانًا بَعْضُ النَّاسِ يَكُونُ مُولَعًا بِالْجَمَالِ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّ هُنَاكَ امْرَأَةً جَمِيلَةً لَا تَطِيبُ نَفْسُهُ بِنِكَاحِ مَنْ دُونَهَا فِي الْجَمَالِ، وَلَوْ كَانَتْ أَدْيَنَ، فَهَلْ نَقُولُ: إِنَّكَ تُكْرِهُ نَفْسَكَ عَلَى هَذِهِ دُونَ هَذِهِ؛ أَيْ عَلَى الْأَدْيَنِ الَّتِي لَا تَبْلُغُ مَبْلَغَهَا مِنَ الْجَمَالِ -أَيْ مَبْلَغَ الَّتِي لَيْسَتْ بِدَيِّنَةٍ وَلَكِنْ لَا فِسْقَ فِيهَا وَلَا فُجُورَ، وَلَكِنْ هِيَ أَجْمَلُ مِنَ الَّتِي هِيَ أَدْيَنُ.
فَهَلْ يُقَالُ: يَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تُكْرِهَ نَفْسَكَ عَلَى هَذِهِ دُونَ هَذِهِ وَإِنْ لَمْ تَرْتَحْ إِلَيْهَا؟ أَوْ نَقُولُ: خُذْ مَنْ تَرْتَاحُ لَهَا مَا دَامَتْ غَيْرَ فَاجِرَةٍ وَلَا فَاسِقَةٍ؟
الظَّاهِرُ الثَّانِي، إِلَّا إِذَا كَانَتْ تِلْكَ الْجَمِيلَةُ غَيْرَ دَيِّنَةٍ، بِمَعْنَى أَنَّهَا فَاسِقَةٌ، فَهَذِهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَأْخُذَهَا.
وَقَدْ يَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ: أَتَزَوَّجُ امْرَأَةً غَيْرَ دَيِّنَةٍ لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَهْدِيَهَا عَلَى يَدَيَّ!!
وَنَقُولُ لَهُ: نَحْنُ لَا نُكَلَّفُ بِالْمُسْتَقْبَلِ، فَالْمُسْتَقْبَلُ لَا نَدْرِي عَنْهُ، فَرُبَّمَا تَتَزَوَّجُهَا تُرِيدُ أَنْ يَهْدِيَهَا اللهُ عَلَى يَدِكَ، وَلَكِنَّهَا هِيَ تُحَوِّلُكَ إِلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ، فَتَشْقَى وَتَضِلَّ أَنْتَ عَلَى يَدَيْهَا.
وَكَذَلِكَ بِالْعَكْسِ بَعْضُ النَّاسِ يَخْطُبُ مِنْهُمُ الرَّجُلُ الْفَاسِقُ، لَكِنْ يَقُولُونَ: لَعَّلَ اللهَ أَنْ يَهْدِيَهُ، وَأَقْبَحُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يُعْرَفَ بِعَدَمِ الصَّلَاةِ، فَيَقُولُونَ: لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَهْدِيَهُ، فَنَقُولُ: نَحْنُ لَا نُكَلَّفُ بِالْمُسْتَقْبَلِ، لَكِنْ نُكَلَّفُ بِمَا بَيْنَ أَيْدِينَا- بِالْحَاضِرِ-، فَلَعَلَّ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي ظَنَنْتَ أَنْ يَسْتَقِيمَ لَعَلَّهُ يُعَوِّجُ ابْنَتَكُمْ وَيُضِلُّهَا؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَهُ سَيْطَرَةٌ عَلَى الْمَرْأَةِ.
وَكَمْ مِنِ امْرَأَةٍ مُلْتَزِمَةٍ تَزَوَّجَتْ شَخْصًا تَظُنُّ أَنَّهُ دَيِّنٌ، فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ غَيْرُ دَيِّنٍ، فَتَتْعَبُ مَعَهُ التَّعَبَ الْعَظِيمَ، وَنَحْنُ دَائِمًا يُشْكَى إِلَيْنَا هَذَا الْأَمْرُ مِنَ النِّسَاءِ، حَتَّى تَوَدُّ أَنْ تَفِرَّ بِدِينِهَا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ، وَلَوْ بِكُلِّ مَا تَمْلِكُ مِنَ الْمَالِ، وَلِهَذَا يَجِبُ التَّحَرُّزُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ، سَوَاءٌ مِنْ جِهَةِ الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ، أَوْ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ تَتَزَوَّجُ الرَّجُلَ)).
* وَمِنْ أُسُسِ اخْتِيَارِ الزَّوْجَةِ أَنْ تَكُونَ بِكْرًا:
((بِكْرٌ)): وَهِيَ الَّتِي لَمْ تَتَزَوَّجْ مِنْ قَبْلُ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- لَمَّا سَأَلَهُ: ((تَزَوَّجْتَ؟))
قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: «بِكْرًا أَمْ ثَيِّبًا؟».
قَالَ: بَلْ ثَيِّبًا.
فَقَالَ: «فَهَلَّا بِكْرًا تُلَاعِبُكَ وَتُلَاعِبُهَا». وَالْحَدِيثُ فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) .
فَالْبِكْرُ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَطْمَحْ إِلَى رِجَالٍ سَابِقِينَ، وَلَمْ يَتَعَلَّقْ قَلْبُهَا بِأَحَدٍ قَبْلَهُ، وَلِأَنَّ أَوَّلَ مَنْ يُبَاشِرُهَا مِنَ الرِّجَالِ هَذَا الرَّجُلُ، فَتَتَعَلَّقُ بِهِ أَكْثَرَ.
لَكِنْ قَدْ يَخْتَارُ الْإِنْسَانُ الثَّيِّبَ لِأَسْبَابٍ، مِثْلَمَا فَعَلَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-؛ فَإِنَّهُ اخْتَارَ الثَّيِّبَ لِأَنَّ وَالِدَهُ عَبْدَ اللهِ بْنَ حَرَامٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- اسْتُشْهِدَ فِي أُحُدٍ، وَخَلَّفَ بَنَاتًا يَحْتَجْنَ إِلَى مَنْ يَقُومُ عَلَيْهِنَّ، فَلَوْ تَزَوَّجَ جَابِرٌ بِكْرًا لَمْ تَقُمْ بِخِدْمَتِهِنَّ وَمَؤُونَتِهِنَّ، فَاخْتَارَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ثَيِّبًا لِتَقُومَ عَلَيْهِنَّ، وَلِهَذَا لَمَّا أَخْبَرَ النَّبِيَّ ﷺ بِذَلِكَ أَقَرَّهُ النَّبِيُّ ﷺ، فَإِذَا اخْتَارَ الْإِنْسَانُ ثَيِّبًا لِأَغْرَاضٍ أُخْرَى فَإِنَّهَا تَكُونُ أَفْضَلَ.
* وَمِنْ أُسُسِ اخْتِيَارِ الزَّوْجَةِ أَنْ تَكُونَ وَلُودًا:
«وَلُودٌ»: أَيْ كَثِيرَةُ الْوِلَادَةِ، وَيُمْكِنُ مَعْرِفَةُ هَذَا بِمَعْرِفَةِ قَرِيبَاتِهَا؛ فَإِذَا كَانَتْ مِنْ نِسَاءٍ عُرِفْنَ بِكَثْرَةِ الْوِلَادَةِ فَالْغَالِبُ أَنَّهَا تَكُونُ مِثْلَهُنَّ.
فَيَخْتَارُ الْمَرْأَةَ الَّتِي عُرِفَتْ قَرِيبَاتُهَا بِكَثْرَةِ الْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ أَمَرَ بِذَلِكَ فَقَالَ: «تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ؛ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأَنْبِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» ، وَلِأَنَّ كَثْرَةَ الْأُمَّةِ عِزٌّ لَهَا.
*مِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ: حَقُّهُ فِي الْحَيَاةِ:
إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَمَرَكُمْ فِي كِتَابِهِ أَلَّا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ بِسَبَبِ الْفَقْرِ وَضِيقِكُمْ مِنْ رِزْقِهِمْ، كَمَا كَانَ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ الْقَاسِيَةِ الظَّالِمَةِ.
نَحْنُ تَكَفَّلْنَا بِرِزْقِ الْجَمِيعِ، فَلَسْتُمُ الَّذِينَ تَرْزُقُونَ أَوْلَادَكُمْ، بَلْ وَلَا أَنْفُسَكُمْ، فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ مِنْهُمْ ضِيقٌ.
قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام: 151]: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ تَخَلُّصًا مِنْ أَزْمَةِ الْفَقْرِ الْوَاقِعِ، فَإِنِّي رَازِقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ.
وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء: 31]: وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ لِتَتَخَلَّصُوا مِنَ النَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ؛ خَوْفَ حُدُوثِ فَقْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، نَحْنُ نَتَكَفَّلُ بِرِزْقِ الْأَوْلَادِ، وَرِزْقِ آبَائِهِمُ الْمُنْفِقِينَ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ تَعَالَى: {إِن يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [النور: 32].
وَالْإِنْسَانُ يَرَى الرِّزْقَ يَنْفَتِحُ إِذَا وُلِدَ لَهُ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- يَقُولُ {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6].
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ ذِي حَيَاةٍ تَمْشِي بِهُدُوءٍ رُوَيْدًا رُوَيْدًا فِي الْأَرْضِ مِنْ أَكْبَرِ حَيَوَانٍ يَدِبُّ فِيهَا حَتَّى أَصْغَرِ حَيَوانٍ كَالْفَيْرُوسَاتِ؛ إِلَّا أَوْجَبَ اللهُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَرْزُقَهَا بِوَسِيلَةٍ مِنْ وَسَائِلِهِ الَّتِي يَخْتَارُهَا.
لَقَدْ حَرَّمَ الْإِسْلَامُ الْإِجْهَاضَ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّهُ اسْـتَشَارَ النَّاسَ فِي إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ، فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: شَهِدْتُ النَّبِيَّ ﷺ قَضَى فِيهِ بِغُرَّةٍ؛ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ.
فَقَالَ: لَتَأْتِيَنَّ بِمَنْ يَشْهَدُ مَعَكَ.
فَشَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ)) .
إِمْلَاصُ الْمَرْأَةِ: أَنْ تُلْقِيَ جَنِينَهَا مَيِّتًا.
اسْتَشَارَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- النَّاسَ فِي الْجَنِينِ إِذَا سَقَطَ بِجِنَايَةٍ؛ يَعْنِي: امْرَأَةٌ حَامِلٌ ضَرَبَهَا إِنْسَانٌ فَكَانَ سَبَبًا لِإِمْلَاصِهَا؛ أَيْ لِوَضْعِ جَنِينِهَا مَيِّتًا بِغَيْرِ تَمَامٍ، فَسَقَطَ الْجَنِينُ -حِينَئِذٍ- بِجِنَايَةٍ، فَمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ؟
لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَضَعَتْ جَنِينَهَا مَيِّتًا قَبْلَ أَوَانِ الْوِلَادَةِ عَلَى إِثْرِ جِنَايَةٍ عَلَيْهِ.
وَكَانَ مِنْ عَادَةِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنْ يَسْتَشِيرَ أَصْحَابَهُ وَعُلَمَاءَ الصَّحَابَةِ فِي الْأُمُورِ وَالْقَضَايَا خَاصَّةً مَا يَسْتَجِدُّ، مَعَ مَا أُوتِيَ مِنْ وَاسِعِ الْعِلْمِ، وَقُوَّةِ الْفِكْرِ، وَقُوَّةِ الْعَقْلِ.
فَلَمَّا أَخَذَ رَأْيَهُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ حِينَ أَسْقَطَتِ الْمَرْأَةُ جَنِينًا مَيِّتًا لِغَيْرِ تَمَامٍ بِجِنَايَةٍ، فَقَدْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ الْحُكْمُ فِي دِيَتِهِ، فَاسْتَشَارَ الصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِي ذَلِكَ، فَأَخْبَرَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ ﷺ أَنَّهُ قَضَى بِدِيَةِ الْجَنِينِ بِغُرَّةٍ؛ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ.
وَأَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَتَثَبَّتَ عَنْ هَذَا الْحُكْمِ؛ لِأَنَّهُ سَيَكُونُ تَشْرِيعًا عَامًّا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَأَكَّدَ عَلَى الْمُغِيرَةِ أَنْ يَأْتِيَ بِمَنْ يَشْهَدُ عَلَى صِدْقِ قَوْلِهِ وَصِحَّةِ نَقْلِهِ، فَشَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ عَلَى صِدْقِ مَا قَالَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ-.
اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- هُوَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنَ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا، فَنَهَى الْوَالِدَيْنِ عَنْ هَذَا الْخُلُقِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَرْذَلِ الْأَخْلَاقِ وَأَسْقَطِهَا.. قَتْلِ أَوْلَادِهِمْ؛ خَشْيَةً مِنَ الْفَقْرِ وَالْإِمْلَاقِ، فَفِيهِ عِدَّةُ جِنَايَاتٍ:
قَتْلُ النَّفْسِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْفَسَادِ.
وَأَشْنَعُ مِنْ ذَلِكَ: قَتْلُ الْأَوْلَادِ الَّذِينَ هُمْ فِلَذُ الْأَكْبَادِ، وَسُوءُ الظَّنِّ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَجَهْلُهُمْ وَضَلَالُهُمُ الْبَلِيغُ؛ إِذْ ظَنُّوا أَنَّ وُجُودَهُمْ يُضَيِّقُ عَلَيْهِمُ الْأَرْزَاقَ، فَتَكَفَّلَ لَهُمْ بِقِيَامِهِ بِرِزْقِ الْجَمِيعِ.
فَأَيْنَ هَذَا الْخُلُقُ الشَّنِيعُ مِنْ أَخْلَاقِ خَوَاصِّ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كُلَّمَا كَثُرَتْ أَوْلَادُهُمْ وَعَوَائِلُهُمْ قَوِيَ ظَنُّهُمْ بِاللهِ، وَرَجَوْا زِيَادَةَ فَضْلِهِ، وَقَامُوا بِمَؤُنَتِهِمْ مُطْمِئَنَّةً نُفُوسُهُمْ، حَامِدِينَ رَبَّهُمْ أَنْ جَعَلَ رِزْقَهُمْ عَلَى أَيْدِيهِمْ، وَمُثْنِينَ عَلَى رَبِّهِمْ؛ إِذْ أَقْدَرَهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَرَاجِينَ ثَوَابَ ذَلِكَ عِنْدَهُ، وَمُشَاهِدِينَ لِمِنَّةِ اللهِ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ؟!!
قَالَ ﷺ: ((هَلْ تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ إِلَّا بِضُعَفَائِكُمْ)).
وَفِي رِوَايَةٍ: «... بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ» .
* وَمِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ: الْتِزَامُ وَالِدَيْهِ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ عِنْدَ الْجِمَاعِ، وَهَذِهِ السُّنَّةُ سَبَبٌ فِي حِفْظِ الطِّفْلِ مِنَ الشَّيْطَانِ إِذَا قَدَّرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ هَذَا الْجِمَاعِ وَلَدًا؛ فَالْمُسْلِمُ صَاحِبُ وَظِيفَةٍ فِي كَوْنِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَحَتَّى عِنْدَ الشَّهْوَةِ لَا يَنْسَى نَفْسَهُ، وَالرَّسُولُ ﷺ يُبَيِّنُ لَنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ.. إِذَا أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مَعَ أَهْلِهِ فِي حَالَةٍ مِنَ الْحَالَاتِ الَّتِي يُقَدِّرُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنْهَا الْوَلَدَ، فَهَذِهِ مَسْئُولِيَّةٌ عُظْمَى، وَلَيْسَتْ شَهْوَةً تُقْضَى.
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ، قَالَ: بِسْمِ اللهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنْ قَضَى اللهُ بَيْنَهُمَا وَلَدًا لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ أَبَدًا)) .
وَمِنْ حُقُوقِ الطِّفْلِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ: الْحِفَاظُ عَلَى صِحَّتِهِ، وَمِنْ سُبُلِ ذَلِكَ: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ أَنْ تُفْطِرَا وَإِنْ لَمْ تَكُونَا مَرِيضَتَيْنِ، وَهَذَا يَشْمَلُ أَوَّلَ الْحَمْلِ وَآخِرَ الْحَمْلِ وَأَوَّلَ الْإِرْضَاعِ وَآخِرَ الْإِرْضَاعِ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَامِلَ يَشُقُّ عَلَيْهَا الصَّوْمُ مِنْ أَجْلِ الْحَمْلِ، لَا سِيَّمَا فِي الْأَشْهُرِ الْأَخِيرَةِ، وَلِأَنَّ صِيَامَهَا رُبَّمَا يُؤَثِّرُ عَلَى نُمُوِّ الْجَنِينِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي جِسْمِهَا غِذَاءٌ، فَرُبَّمَا يَضْمُرُ الْحَمْلُ وَيَضْعُفُ.
وَكَذَلِكَ فِي الْمُرْضِعِ إِذَا صَامَتْ يَقِلُّ لَبَنُهَا فَيَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ وَلِيدُهَا وَطِفْلُهَا، وَلِهَذَا كَانَ مِنْ رَحْمَةِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ رَخَّصَ لَهُمَا -يَعْنِي رَخَّصَ لِلْحَامِلِ وَالْمُرْضِعِ- فِي الْفِطْرِ، وَإِفْطَارُهُمَا قَدْ يَكُونُ مُرَاعَاةً لِحَالِهِمَا، وَقَدْ يَكُونُ مُرَاعَاةً لِحَالِ الْوَلَدِ الْحَمْلِ أَوِ الطِّفْلِ، وَقَدْ يَكُونُ مُرَاعَاةً لِحَالِهِمَا مَعَ الْوَلَدِ -حَمْلًا أَوْ مَوْلُودًا-.
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِمَا الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّ اللهَ -تَعَالَى- فَرَضَ الصِّيَامَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَقَالَ فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] مَعَ أَنَّهُمَا مُفْطِرَانِ بِعُذْرٍ، فَإِذَا لَمْ يَسْقُطِ الْقَضَاءُ عَمَّنْ أَفْطَرَ لِعُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ، فَعَدَمُ سُقُوطِهِ عَمَّنْ أَفْطَرَتْ لِمُجَرَّدِ الرَّاحَةِ مِنْ بَابِ أَوْلَى.
المصدر:حُقُوقُ الطِّفْلِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ