«الرد على الملحدين»
«من الأدلة العقلية على وجود الخالق»
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ
وَنَسْتَغْفِرُه، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا،
مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ
أَلَّا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّم.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ،
وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ،
وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ
ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فقد مَرَّ بفضل الله تبارك وتعالى ذكرُ أقسام
المعلوم، وأنها ثلاثة:
المستحيل لذاته؛ وهو: ما كان عدمه لذاته من حيث
هي.
والممكن؛ وهو: ما كان وجوده وعدمه بالنسبة إلى
ذاته على التساوي.
فما استوى في حقه الوجود والعدم؛ فهو ممكن لذاته.
وأما الواجب لذاته؛ فما كان وجوده لذاته من حيث
هي.
ومَرَّ أحكام كلٍّ مِنْ هذه الأقسام الثلاثة،
والآن ننظر في إثبات وجود الباري جل وعلا بالدليل العقلي؛ لِيُدْفَعَ بذلك في وجوه
الملحدين.
وأما من كان ذا فطرة سوية؛ فإنه لا يحتاج إلى
إثبات وجود ربه تبارك وتعالى؛ لأن الله جعل ذلك مستقرًا في قلبه وضميره.
«وجود الله جل وعلا»
الكائنات ممكنة، فنحن نرى في الكون أمامنا أشياء
توجد وتعدم، أناس يولدون، وآخرون يموتون، ونباتات وحيوانات توجد، وأخرى تعدم، إِلَى
آخر ذَلِكَ.
هذه الكائنات إما أن تكون من قسم المستحيل، أو
من قسم الواجب، أو من قسم الممكن؛ لِأَنَّهُ لا قسم وراء هذه الأقسام الثلاثة.
لا يصح أن تكون هذه الكائنات من قسم المستحيل؛
لأن المستحيل: ما عدمه لذاته، ولا يقبل الوجود أبدًا، وهذه الكائنات نراها توجد بعد
أن لم تكن موجودة.
وكذَلِكَ لا يصح أن تكون هذه الكائنات من قسم
الواجب؛ لأن الواجب: ما وُجُوده لذاته، ولا يقبل العدم أصلًا، وهذه الكائنات يلحقها
العدم، إما قبل وُجُودها، أو بعد وُجُودها تصير إِلَى العدم.
إذا لم يصح أن تكون هذه الكائنات من قسم المستحيل
أو من قسم الواجب؛ وجب أن تكون من قسم الممكن؛ إذ ليس هُنَالِكَ قسم آخر سواه، فهذه
الكائنات إِذًَا ممكنة؛ لِأَنَّهُا تقبل الوجود تارة، وتقبل العدم تارة أخرى، فهذا
مما يدل عليه العقل ضرورة.
وهذا الممكن – أعني هذه الكائنات – موجود قطعًا، فإذا كَانَت هذه الكائنات
ممكنة، ونحن نحس بوجودها ثم عدمِها إحساسًا ظاهرًا؛ كَانَ حكمنا عليها بأنها موجودة
حكمًا بديهيًا لا يحتاج إِلَى استدلال، بل يكفي فِيه مجرد توجيه الإحساس إِلَى الكون
من حولنا، بل إِلَى أنفسنا ذاتها.
إذًا؛ هذه الكائنات - كما مر – من قسم الممكن، وهذه الكائنات الممكنة
موجودة، لا يماري فِي ذَلِكَ أح؛ بل لا نحتاج إِلَى دليل عقلي لإثبات وُجُود هذه الممكنات
– أي: هذه الكائنات -، بل يكفي أن نوجه
الإحساس إِلَى الكون من حولنا؛ بل إِلَى أنفسنا ذاتها لنثبت أن هذه الكائنات أو هذه
الممكنات موجودة قطعًا.
فالممكن موجود قطعًا.
وجود الممكن يقتضي بالضرورة وُجُودَ الواجب؛
فجملة الكائنات الموجودة ممكنة قطعًا، وكل ممكن موجود محتاج إِلَى سبب موجود يعطيه
الوجود، وذَلِكَ السبب هو واجب الوجود.
ما الدليل على ذَلِكَ؟
الدليل الأول على ذَلِكَ: أن كل ممكن وُجُوده
من غيره؛ فجملة الكائنات الممكنة إِذًَا محتاجة إِلَى سبب موجود يوجدها، وذَلِكَ السبب
إما أن يكون عين هذه الكائنات، أو جزءَها، أو غيرها؛ لأنك تجد الْمُلْحِدِينَ لا يمارون
فِي أن هذه الممكنات احتاجت إِلَى سبب؛ ولكنهم يَقُولون: وجدت بالصدفة! أوجدتها الطبيعة!
أوجدت نفسها! إِلَى غير ذَلِكَ من هذه الأمور التي هي مردودة عقلًا.
فإذًا؛ جملة الكائنات الممكنة تحتاج إِلَى سبب
موجود يوجدها.
ذَلِكَ السبب إما أن يكون عين هذه الكائنات،
أو جزءَها، أو غيرها.
لا يجوز أن تكون هذه الممكنات سببَ وُجُودها،
إذ يلزم على ذَلِكَ تقدم الشيء على نفسه بالوجود، أي أن تكون هذه الكائنات موجودة باعتبارها
سَبَبًَا؛ لأن السبب لا بد أن يكون سابقًا للمسبَّب -كما مر-؛ فإن الَّذِي أوجد الممكن
لا بد أن يكون سابقًا على وُجُود هذا الممكن، وقد مر إثبات ذَلِكَ بالطريقة العقلية.
فكذَلِكَ هنا؛ لا يجوز أن تكون هذه الممكنات؛
أن يكون هذه الوجود سببَ وُجُود نفسه؛ أي أن هذا الكون هو الَّذِي أعطى نفسه الوجود؛
لأن هذا يلزم عليه تقدم الشيء على نفسه بالوجود؛ أي أن تكون هذه الكائنات موجودة باعتبارها
سَبَبًَا قبل أن توجد باعتبارها مسببة، وفي هذا اجتماع للنقيضين فِي شيء واحد وحالة
واحدة، وهما: الوجود والعدم، والتقدم والتأخر؛ فبطل هذا.
ولا يصح كذَلِكَ أن يكون جزء هذه الممكنات؛ أن
يكون جزء هذا الوجود السبب فِي وُجُوده؛ لأن ذَلِكَ الجزء إن فرض أَنَّهُ أول جزء وجد
من هذه الكائنات؛ فإنه يكون سَبَبًَا فِي وُجُود نفسه باعتباره جزءا من هذه الكائنات
التي هو سبب فِي وُجُودها جميعًا، وكون الشيء سَبَبًَا فِي وُجُود نفسه محال كما مر.
كذَلِكَ إِذَا فرض أن ذَلِكَ الجزء ليس هو الجزء
الأول، بأن كَانَ الجزء العاشر أو العشرين مثلًا، أي الَّذِي لم يوجد فِي أول زمن وجدت
فِيه هذه الممكنات، بل وجد فِي زمن متأخر؛ لا يصح أن يكون هو السبب فِي وُجُود جملة
الكائنات؛ إذ يترتب على ذَلِكَ كونه علة لنفسه، ولما سبقه من الأجزاء، وقد مر بطلان
كون الشيء علة فِي نفسه.
وأما بطلان كونه علة لما سبقه؛ فلأن سبب الشيء
– كما مر – لا بد وأن يكون موجودًا قبله؛ حتى يعطيه
الوجود، فلا يوجد بعده أبدًا، وإلا فإن الشيء لو وجد قبل وُجُود سببه؛ لما كَانَ محتاجًا
إِلَى ذَلِكَ السبب، وعدم حاجة الشيء إِلَى سببه باطل كما مر.
وإذا ثبت أن هذه الكائنات أو جزءها ليست سَبَبًَا
فِي وُجُودها؛ تعين أن يكون سببها غيرَها، وذَلِكَ الغير إما مستحيل، أو واجب، المستحيل
معدوم، والعدم لا يكون مصدرًا للوجود؛ فتعين أن يكون سبب هذه الموجدات واجبَ الوجود.
فهذه الكائنات الموجودة إذًا لها موجد واجب الوجود،
هو الله تبارك وتعالى.
هذا برهان عقلي، وهذا هو الدليل الأول.
الدليل الثاني: هذه الممكنات الموجودة؛ سواء
كَانَت متناهية فِي العدد أو غير متناهيةٍ؛ قائمةٌ بوجود، أي أن تحققها فِي الخارج
إنما كَانَ لما ثبت لها من معنى الوجود، وإلا لما وجدت.
فوجود هذه الكائنات فِي الخارج إنما كَانَ لما
ثبت لها من معنى الوجود. ذَلِكَ الوجود إما أن يكون سببه: معنى الإمكان القائم بالممكنات
– وهو تساوي وُجُودها وعدمها -، وماهيات
تلك الممكنات وحقائقها باعتبارها أمورًا يجوز عليها الوجود والعدم، وهذا باطل؛ لما
سبق فِي أحكام الممكن من أَنَّهُ لا شيء من الماهيات الممكنة بمقتض للوجود اقتضاء ضروريًا
بحيث يجب وُجُوده، وإلا لما كَانَ ممكنًا؛ لأن الممكن: ما استوى فِي حقه الوجود والعدم؛
فتعين أن يكون مصدر الوجود فِي تلك الممكنات سواها، وهو واجب الوجود ضرورة؛ لِأَنَّهُ
لن يَقُول قائل: نعم، سبب ومصدر هذه الممكنات سواها؛ ولَكِنه المستحيل.
فيقال: إن المستحيل معدوم، وعدمه لذاته؛ فكيف
يعطي الوجود لهذه الموجودات؟!!
إذًا؛ تعين أن يكون موجدها واجب الوجود ضرورة،
يعني وُجُوده ليس من غيره، بل وُجُوده لذاته من حيث هي، وهذا الواجب –كما يَقُولون – له أحكام؛ لِأَنَّهُ قد مر تعريفه بأنه:
ما كَانَ وُجُوده لذاته، أي ما تقتضي ذاته الوجود دائمًا بحيث لا يقبل العدم أصلًا،
فهذا هو الواجب.
بناء على هذا تعريفه؛ ثبتت له هذه الأحكام:
«الأولية»:
فمن أحكام الواجب: أَنَّهُ أول أزلي.
والأول
الأزلي هو: الَّذِي لا أول لوجوده، ولم يسبق وُجُوده بالعدم؛ لِأَنَّهُ لو سبق وُجُوده
بالعدم لكان ممكنًا، فيكون محتاجًا إِلَى من يعطيه الوجود، ويكون هُنَالِكَ من أوجده
بعد العدم.
إذًا؛ من أحكام الواجب: أَنَّهُ أول أزلي.
والأول الأزلي هو: الَّذِي لا أول لوجوده، ولم
يسبق وُجُوده بالعدم.
يقابل الأولَ الحادثُ، وهو: الَّذِي لوجوده أولٌ
يكون مسبوقًا فِيه بالعدم.
فهذا حادث.
وأما الأول؛ فلا أول لوجوده.
الدليل على أن واجب الوجود أول: أَنَّهُ لو لم
يكن أولًا؛ لكان حادثًا، وفي كلام العلماء استخدام للقديم بَدَلَ «الأول»، فيقولون:
والدليل على أن واجب الوجود قديم: أَنَّهُ لو لم يكن قديمًا؛ لكان حادثًا.
ولَكِن هو الأول الَّذِي ليس قبله شيء، وقد مر
أن استعمال القديم وإن كَانَ فاشيًا على ألسنة بعض من كتب فِي العقيدة كالسَّفَّارِينِيِّ
وغيرِه؛ إلا أَنَّهُ انْتُقِدَ عليه؛ لِأَنَّهُ ما من قديم إلا وهو حادث بالنسبة لما
هو أقدم منه، أو لمن هو أقدم منه، فالعرجون القديم هو قديم بالنسبة للعرجون الحَادث؛ ولكن هذا العرجون القديم هو حادث بالنسبة
للعرجون الَّذِي هو أقدم منه، فاستعمال «القديم» استعمال حادث، يعني لم يستعمله لا
القرآن، ولا السنة، ولا السلف المتقدمون، وإنما دخل على العقيدة عَنْدما ظهر علم الكلام،
فاستخدمه بعض علماء أهل السنة؛ حتى فِي تقرير العقائد، كما مر ذكر ذَلِكَ فِيما يتعلق
بالسفاريني رحمه الله.
ولكنْ من أحكام الواجب: أَنَّهُ أول أزلي.
والأول الأزلي: الَّذِي لا أول لوجوده، ولم يسبق
وُجُوده بالعدم.
ويقابله «الحادث»، وهو: الذي لوجوده أولٌ، ويكون
مسبوقًا فيه بالعدم.
الدليل على أن واجب الوجود أول: أَنَّهُ لو لم
يكن أولًا لكان حادثًا، و الْحادث هو: ما سبق وُجُوده بالعدم.
فلو لم يكن الواجب أولًا؛ لكان وُجُوده مسبوقًا
بالعدم، وذَلِكَ مستحيل على الواجب؛ لأن الواجب: ما كَانَ وُجُوده لذاته من حيث هي،
بمعنى أن ذاته تقتضي الوجود دائمًا بحيث لا تقبل العدم أصلًا، فإذا قلنا: إنَّهُ كَانَ
معدومًا ثم وجد؛ فكيف يكون واجبًا؟!
فلو لم يكن الواجب أولًا؛ لكان وُجُوده مسبوقًا
بالعدم، وذَلِكَ مستحيل على الواجب؛ لأن كل ما سبق وُجُوده بالعدم يحتاج إِلَى علة
تعطيه الوجود؛ وإلا لزم رجحان المرجوح - وهو الوجود – على العدم بلا سبب، وهو محال.
فلو لم يكن الواجب أولًا؛ لكان محتاجًا فِي وُجُوده
إِلَى غيره، وقد سبق أن الواجب: ما كَانَ وُجُوده لذاته، فلا يكون الواجب واجبًا على
ذَلِكَ الفرض، وهذا تناقض محال.
إذًا؛ هو الأول الَّذِي ليس قبله شيء.
ويمكن أن يختصر هذا الدليل هكذا:
إنَّهُ لو لم يكن أولًا؛ لكان حادثًا مسبوقًا
فِي وُجُوده بالعدم، وذَلِكَ باطل؛ لأن العدم مستحيل فِي حق الواجب، فذاته تقتضي الوجوب
دائمًا ولا تقبل العدم أصلًا، وبذَلِكَ يجب أن يكون أولًا.
فهذا من أحكام الواجب.
الذي أوجد الوجود وأعطاه وجوده؛ إذا كان وجوده
من غيره؛ فإن هذا يكون حينئذ مما لا يقبله العقل؛ لأنه إذا كان وجوده من غيره؛ فهو
لا يستطيع ووجودُه متوقف على من يعطيه الوجود أن يعطي الوجود، وأن ينشئ ويوجد شيئًا
من العدم؛ لأنه هو نفسه يحتاج إلى من يعطيه وجوده، فأعطاه الوجود بدءًا، وهو في حاجة
إلى هذا الذي أوجده في استمرار وجوده – كما مر في أحكام الممكن -، فلا يكون واجبًا؛ بل يكون ممكنًا
محتاجًا إلى من يوجده.
إذًا؛ بطل أن يكون من أعطى الوجود وجوده كالوجود
في أحكامه؛ بل يكون وجوده لذاته كما مر، ولا يكون لأوله بدء؛ بل هو أول لا بدء له،
كما مر في أول أحكام الواجب: «الأولية».
وكذلك «البقاء»:
فمن أحكام الواجب: «البقاء».
ومعناه: أَنَّهُ لا آخر لوجود الخَالِق الْعَظِيم،
ولا يلحقه عدم؛ لِأَنَّهُ لو لحقه العدم من بعد الوجود؛ لكان ممكنًا، والممكن: ما يستوي
فِي حقه الوجود والعدم، وقد مر أن الواجب: ما كَانَ وُجُوده لذاته من حيث هي، أي أن
ذاته تقتضي الوجود دائمًا، بحيث لا تقبل العدم أصلًا، فإذا ما صار هذا الواجب إِلَى
العدم؛ فمعنى ذَلِكَ أَنَّهُ لا يكون واجبًا.
إذًا؛ من أحكام الواجب: «الأولية»، وكذَلِكَ
«البقاء»، بمعنى: أنه لا آخر لوجوده، ولا يلحقه عدم.
والدليل على ذلك: أَنَّهُ لو لم باقيًا بلا آخرَ
لوجوده؛ للحقه العدم، والعدم مستحيل فِي حق الواجب كما مر؛ لأن الوجود لازم من لوازم
ماهية الواجب، لا يفارقها، فلو عدم الواجب؛ لسلب لازم الماهية عَنْها، أي لم يكن الواجب
موجودًا، والواجب إِذَا لم يكن موجودًا؛ لا يكون واجبًا، فيكون ذَلِكَ تناقضا، فلو
لم يكن الواجب باقيًا؛ لما كَانَ واجبًا، وذَلِكَ محال، فثبت للواجبِ البقاءُ.
فلا بد أن يكون لا أول له، ولا آخر له؛ لأن وُجُوده
لذاته من حيث هي، ليس من غيره.
الذي وُجُوده من غيره هو الممكن.
المستحيل
لا وُجُود له.
العدم من لوازم ذاته.
وأما
الممكن؛ فهو الَّذِي يوجد بعد العدم، فوجوده من غيره، ثم يصير إِلَى العدم من بعد الوجود،
فإذا شاء من أوجده أن يفنيه؛ فني؛ لِأَنَّهُ متوقف فِي وُجُوده على من يعطيه الوجود،
وهو الواجب الَّذِي يكون وُجُوده لذاته، بحيث لا تقبل ذاته العدم أصلًا.
فثبت إِذًَا لله عز وجل؛ حتى بالدليل العقلي،
وأنت لا ترى هنا نصًا؛ لا من الكتاب، ولا من السنة؛ لأنك عَنْدما تواجه الْمُلْحِدِينَ؛
هم أصلًا ينكرون وُجُود الله تبارك وتعالى، وينكرون الرسالة، وينكرون الوحي، وينكرون
البعث، وينكرون القيامة، ويقولون: نحن نعتمد على الحس، أو نعتمد على العقل، فإذا ما
أتيت لهم بالنقل؛ فإنهم لا يقبلون؛ مع أن النقل أثبت هذا الَّذِي نحن فِيه بطريقة أخرى
هي أوضح وأجلى وأدق وأحسن وأسمى من هذه الطريقة العقلية المجردة؛ لأن الله تعالى يَقُول
مخاطبًا أُولَئِكَ القوم: «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُون»،
فهذا هو ما نحن فِيه؛ ولَكن هم لا يقبلون النص القرآني؛ لِأَنَّهُم ينكرون وُجُود الله
الَّذِي تكلم به جل وعلا، وينكرون الرسول والرسالة، وينكرون البعث والقيامة.
أنت إِذَا قلت مثلًا: لو لم يكن الإنسان مفكرًا؛
لما كَانَ إنسانًا، فالتفكير من لوازم ذاته، أي من لوازم ماهية الإنسان، فلو سلب عَن
الذات هذا اللازم؛ لما كَانَ الإنسان إنسانًا.
هذه هي الطريقة العقلية التي يسلكها علماؤنا
رحمة الله عليهم أحيانًا فِيما يتعلق بالرد على الماديين، أو الدهريين، أو الْمُلْحِدِينَ،
كما هو الشأن فِي هذا العصر، وهي نافعة جدًا بفضل الله تبارك وتعالى فِي إلزامهم الحجة؛
لأنهم ينكرون وجود الخالق.
عندنا الآن أمر مهم:
إِذَا سألك سائل عَنْ هذه الأشياء المشاهَدة
فِي هذا العالم - كما فِي «قصة الإيمان» -: كيف تكونت وتركبت وصنعت؟
وما هي الفروض التي يمكن أن نتصورها ونفرضها؟
إذا سألك عَنْ هذا؛ فإنما سألك كما سأل القرآن
عما فِي ملكوت السماوات والأرض من أشياء مركبة ومتنوعة؛ كيف يفرض أن تكون خلقت وتكونت
بهذا التنوع؟
هذه الصور والأشكال من التنوعات المركبة؛ ولاسيما
الحية منها - أي من هذه المخلوقات -؛ كالنباتات والحيوانات والإنسان خاصة، لا العقل
يَقُول بأنها قديمة بمعنى أَنَّهُا لا أول لها؛ لِأَنَّهُ يستحيل وهي مركبة ومتغيرة
أن تكون قديمة؛ لأن القديم عَنْدهم لا يكون متغيرًا، ولا يكون مركبًا؛ لِأَنَّهُ لو
كَانَ مركبًا؛ لاحتاج بعض أجزائه إِلَى بعض، فيكون حينئذ محتاجًا، ويقولون: القديم
لا يكون محتاجًا.
إذًا؛ هذه المخلوقات؛ لاسيما الحية منها؛ كالنباتات
والحيوانات والإنسان؛ العقل لا يَقُول: إنَّهُا لا أول لها، لا يقول: إنها قديمة؛ لِأَنَّهُ
يستحيل وهي مركبة ومتغيرة أن تكون قديمة، ولا الْعِلْمُ المادي يَقُول إنها قديمة،
لِأَنَّهُ اكتشف فِي طبقات الْأَرْض أَنَّهُا حادثة، ومعنى كونها حادثة: أَنَّهُا مركبة
ومصنوعة بعد أن لم تكن - كما مر -، كانت معدومة ثم وجدت، فكل ممكن حادث؛ فكيف تفرض
أن تكون صنعت وتكونت؟
هُنَالِكَ ثلاثة فروض لا رابع لها أبدًا:
الأول: أن تكون من صنع اللهِ هذه الأشياءُ الحادثةُ؛
لاسيما الحية منها؛ لِأَنَّهُا هي التي يمكن أن يذهب الذهن فِيها إِلَى أمور؛ لِأَنَّهُا
أعطيت الحياة.
فهذه الأشياء كلها؛ من الذي أوجدها؟
وكيف أوجدها؟
وكيف وجدت؟
وكيف صنعت؟
عندنا فروض:
الأول: أن تكون من صنع الله.
الثاني: أن تكون من صنع ذرات المادة وأجزائها
وعناصرها عَنْ إرادة وقصد وغاية، أي أن عَنْاصر المادة الأصلية فكرت ودبرت واتفقت على
صنع تنوعات هذا العالم بهذه الأشكال والصور التي تراها!!
الثالث من الفروض: أن تكون هذه التنوعات قد تكونت
بطريق المصادفة، أي أن الذرات تلاقت وتجمعت على نسب وأوضاع مخصوصة بطريق المصادفة،
فتكونت العناصر الأصلية، ثم تلاقت العناصر، وتجمعت، وتمازجت بالمصادفة، على نسب صالحة
بالمصادفة، فِي مدد كافية بالمصادفة، وأجواء ملائمة بالمصادفة، فتكونت هذه التنوعات،
وخلقت الحياة من هذه المصادفات!!
هذا هو الفرض الثالث، ولا يوجد فرض رابع يمكن
تصوره.
أما الفرض الأول – وهو أَنَّهُا من صنع الله -؛ فهذا ما
يَقُول به المؤمنون بالله؛ سواء كَانَ إيمانهم عَنْ هداية دينية، أو عَنْ هداية عقلية؛
كالملحد الَّذِي تأتي له بالدليل العقلي على وُجُود الرب تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فيقر
بوجوده، ويهتدي هداية عقلية.
فهذه هداية عقلية.
وجملة المؤمنين هدايتهم هداية قلبية؛ لأن الله
جعل مركوزًا فِي الفطرة الإنسانية الإقرارَ بوجوده جَلَّ وَعَلَا.
فالمؤمنون يَقُولون بالفرض الأول؛ أن هذه التنوعات
وهذا الكون من صنع الله رب العالمين.
الفرض الثاني: أن تكون هذه التنوعات كلها من
صنع ذرات المادة وأجزائها وعناصرها عَنْ إرادة وقصد وغاية، أي أن عَنْاصر المادة الأصلية
فكرت ودبرت واتفقت على صنع تنوعات هذا العالم بهذه الأشكال والصور التي نراها، فقالت:
نجعل السماء سماء!! والأرض أرضًا!! والبحار بحارًا!! والأناسيَّ والحشراتِ والطيورَ
والحيواناتِ...!!
هذا الفرض الثاني لا يَقُول به أحد مطلقًا، لا
المؤمنون ولا الماديون؛ بل إن هَؤُلَاءِ الماديين لَيُنكرون إنكارًا قاطعًا أن يكون
لعناصر المادة إرادة وقصد وغاية.
إذًا؛ أصبحنا أمام فرضين لا ثالث لهما، فإما
أن تكون تنوعات العالم من خلق الله وصنعه، وإما أن تكون نتيجة للمصادفة، فإذا بطل أَنَّهُا
وجدت مصادفة؛ لم يبق إلا الفرض الأول، وهو أن تكون من صنع الله جَلَّ وَعَلَا؛ ولَكِن:
هل المصادفة أمر مستحيل عقلًا؛ أم هي أمر فِي
حدود الإمكان؟
تستطيع أن تجيب بالنفي وبالإيجاب فِي آن واحد؛
فالمصادفة تكون أحيانًا ممكنة، وتكون أحيانًا فِي حكم المستحيلة عقلًا؛ فعليك إِذًَا
أن تصوغ هذا السؤال هكذا؛ تقول:
ما هي قيمة المصادفة فِي ميزان العقل السليم؟
«أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ»؟!!
هكذا مصادفة!!
فإبطال هذا الفرض كيف؟
هكذا.
ما هي قيمة المصادفة فِي ميزان العقل السليم؟
جاء الآن دور الإبر:
خذ لوحًا من خشب، واغرز فِيه إبرة، وضع فِي ثقبها
إبرة ثانية أخرى.
إذا رأى إنسان عاقل هاتين الإبرتين وسأل: كيف
أدخلت الثانية فِي ثقب الأولى؟
فأخبره إنسان معروف بالصدق أن الَّذِي أدخلها
رجل ماهر قذف بها من بعد عشرة أمتار، فاستطاع أن يدخلها فِي ثقب الإبرة الأولى، ثم
أخبره إنسان آخر معروف بالصدق أَيْضًا أن الَّذِي ألقاها صبي صغير ولد من بطن أمه أعمى،
فلما قذفها هذا الصبي الأكمه؛ وقعت الإبرة فِي الثقب بطريق المصادفة؛ أي الخبرين يصدِّق؟
لا ريب أَنَّهُ يميل إِلَى تصديق الخبر الأول؛
ولَكِنه أمام صدق المخبرَيْنِ يرى أن المصادفة ممكنة، فلا يجزم بترجيح أحد الخبرين
على الآخر. يَقُول: يمكن، هذا رجل صادق مصدق عَنْدي، وقال: إن هذا الصبي الأكمه الَّذِي
ولد أعمى ألقى الإبرة، فوقعت فِي ثقب التي غرزت فِي لوح من خشب، فيقول: هذا ممكن؛ ولَكِنه
يميل إِلَى تصديق من؟
إلى تصديق الأول، ولا يجزم بترجيح أحد الخبرين
على الآخر؛ لَكِن:
إذا رأى هذا الرجل إبرة ثالثة مغروزة فِي ثقب
الثانية أَيْضًا؛ فهل يبقى عدم الترجيح على حاله؟
يعني أخبره الأول بأن الذي صنع ذلك إنما هو رجل
حاذق، فوضع هذه في هذه، وأخبره الثاني – وهو مصدق عنده – بأن الذي صنع ذلك هو الصبي الأعمى نفسه؛
هل يبقى الترجيح على حاله؟!
كلا؛ بل يتقوى ترجيح القصد على المصادفة؛ لأن
هذا الصبي إنما يأتي ما يأتي منه على سبيل المصادفة؛ هو لا يرى شيئًا، فيقع منه على
سبيل المصادفة.
وأما الأول؛ فيأتي ما يأتي منه على سبيل القصد،
فحينئذ أنت ترجح القصد على المصادفة؛ ولَكِن يبقى على كل حال ترجيحًا ضعيفًا.
إذا رأى الرجل أن هُنَالِكَ عشر إبر؛ كل واحدة
منها مغروزة فِي ثقب الأخرى التي تليها؛ فهل يبقى ترجيح فكرة القصد على ضعفه؟
كلا؛ بل يتقوى عَنْده ترجيح القصد؛ حتى تكاد
فكرة المصادفة أن تتلاشى.
لو جاءه إنسان من أُولَئِكَ الَّذِينَ يصدق فِيهم
قول القرآن: «وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا»، وأخذ يجادله فِي معنى
الاستحالة العقلية والاستحالة العادية، ويبرهن له على أن المصادفة هاهنا ليست مستحيلة،
لا عقلًا ولا عادة؛ ولَكِنها تكون أحيانًا مستبعدة؛ فصاحبنا العاقل لا بد أن يذعن لكلامه،
فهو كلام عقلي؛ وإن كَانَ التصور هاهنا يتخلف عَنْه، كما مر أن الإنسان يمكن أن يتعقل
ولا يتصور، وأن كثيرًا من الأمور نتعقلها؛ ولَكِن العقل يكل عَنْ تصورها، ففرق بين
التعقل والتصور، ومع ذلك فهو يذعن هاهنا، العقل يذعن؛ لَكِن القلب يميل إِلَى ترجيح
القصد، ويقول: أما هذه المصادفة التي تقول من هذا الصبي الَّذِي ولد أعمى؛ فهذه مع
أَنَّهُا غير مستحيلة عقلًا ولا عادة؛ إلا أنني أستبعدها، فيستبعدها ويميل إِلَى ترجيح
القصد؛ ولَكِن فلنترقى فِي تعقيد الأحجية - أي اللغز -، كما مر فِي أحجية الورقة المقطعة،
وكيف أنك لو أخذت تقسمها وهي من المائة من المللي متر في سمكها، فهي رقيقة جدًا، ولكن
تجعلها ثنتين، وتجعل الثنتين أربعة، وتجعل الأربعة ثمانية، وهكذا إلى ثمان وأربعين
مرة، فلو قال لك قائل: إنها لو جعلتها ركامًا بعضها فوق بعض؛ فإنها تبلغ مترًا؛ فإنك
تستبعد ذلك؛ فكيف لو كان كيلو متر؟!!
فإنك تستبعد ذلك أكثر.
فكيف إذا كان ذلك مُؤَدِّيًَا إلى أن تكون ملامسة
لسطح القمر؟!!
وقد مَرَّ أنك سَتَسْهَرُ هذه الليلةَ مِنْ أَجْلِ
أَنْ تُجَرِّبَ هذا بطريقة الحساب، وستجد ذلك كما قال.
فهذا لا يمكن أن يتخلف.
هذا بالحساب؛ ولكن العقل لا يتصوره؛ وإن كان
يتعقله، فكذلك في هذه الأحجية.
الإبر العشر مرقمة بخطوط، لكل واحدة منها رقم،
من الواحدة إِلَى العشرة، وقيل لنا فِي الخبر: إن الصبي الأعمى أعطي كيسًا فِيه هذه
الإبر العشر مخلوطة مشوشة، وكان يضع يده فِي الكيس يستخرج الإبر تباعًا على ترتيب أرقامها
من واحد إِلَى عشرة بطريق المصادفة، ويلقيها، فتقع الأولى فِي ثقب المغروزة فِي اللوح،
وتقع الثانية فِي الأولى، والثالثة فِي الثانية، والرابعة فِي الثالثة، وهكذا حتى تم
إدخال الإبر العشر فِي بعضٍ على ترتيب أرقامها وهي مشوشة في كيسه وهو أعمى!! وأن ذَلِكَ
قد حصل كله بطريق المصادفة، وجاء ذَلِكَ الإنسان المجادل يحاول أن يبرهن على أن إمكان
المصادفة لم يزل موجودًا وغير مستحيل عقلًا؛ فماذا يكون موقف صاحبنا العاقل مع هذا
المجادل؟
لا ريب فِي أَنَّهُ لا يصدقه؛ لأن المصادفة بهذا
التتابع والتعاقب بعيدة جدًا جدًا إن لم تكن مستحيلة؛ بل إنها فِي مجال الأعداد الكبرى
تصبح مستحيلة بداهة.
هذه البداهة تعتمد فِي أعماق العقل الباطن على
قانون عقلي رياضي لا يمكن الخروج عَنْه، فقانون المصادفة يَقُول: إن حظ المصادفة من
الاعتبار يزيد وينقص بنسبة معكوسة مع عدد الإمكانيات المتكافئة المتزاحمة.
هذا قانون المصادفة.
فالمصادفة لها قانون.
قانون المصادفة يَقُول: إن حظ المصادفة من الاعتبار
يزيد وينقص بنسبة معكوسة مع عدد الإمكانيات المتكافئة المتزاحمة.
فكلما قل عدد الأشياء المتزاحمة؛ ازداد حظ المصادفة
من النجاح، وكلما كثر عددها؛ قل حظ المصادفة.
فإذا كَانَ التزاحم بين شيئين اثنين متكافئين؛
يكون حظ المصادفة بنسبة واحد «1» ضد اثنين «2»، وإذا كَانَ التزاحم بين عشرة «10»؛
يكون حظ المصادفة بنسبة واحد «1» ضد عشرة «10»؛ لأن كل واحد له فرصة للنجاح مماثلة
لفرصة الآخر بدون أقل تفاضل طبعًا، وإِلَى هنا يكون الحظ فِي النجاح قريبا من المتزاحمين؛
حتى لو كَانَوا مائة أو ألفًا؛ ولَكِن متى تضخمت النسبة العددية تضخمًا هائلًا؛ يصبح
حظ المصادفة فِي حكم العدم؛ بل المستحيل؛ وذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا اتفق للصبي الأعمى
أن سحب أول مرة الرقم «1»؛ قلنا: إن حظ المصادفة للرقم «1» تغلب على الأعداد الأخرى
المتزاحمة معه بنسبة واحد إِلَى عشرة «1-10»، وأما إذا اتفق له أَنْ سَحَبَ العددين
«1»، ثم «2» بالتتابع؛ قلنا: إن حظ المصادفة للعدد الثاني هو بنسبة واحد ضد مائة «1-100»؛
لأن كلًا من العشرة يزاحم للرتبة الثانية ضد عشرة، فيصبح التزاحم بين مائة، وإذا اتفق
أن سحب الصبي الأعمى الإبر الثلاث «واحد واثنان وثلاثة»«1،2،3» على التوالي؛ قلنا:
إن حظ المصادفة بنسبة واحد ضد ألف«1-1000»؛ لأن كلًا من العشرة يزاحم ضد مائة، وهكذا.
فإذا افترضنا أن الصبي سحب الإبر العشر على ترتيب
أرقامها من واحد إِلَى عشرة«1-10»؛ فإن حظ المصادفة يصبح بنسبة واحد ضد عشرة مليارات
«1-10000000000».
هذه أحجية حسابية، وهي مثل أحجية الورقة الرقيقة
التي تقطع ثماني وأربعين مرة، فيصل سمكها إِلَى القمر.
جرب هذا أَيْضًا فِي هذه الإبر، واضرب كل مرة
حاصل الضرب بعشرة، وستجد أن حظ المصادفة يصبح بنسبة واحد ضد عشرة مليارات «1-10000000000».
ولَكِنْ على وُجُود هذه النسبة البعيدة التفاوت؛
ربما يتصور متصور أن المصادفة فِي سحب هذه الإبر العشر على ترتيب أرقامها ممكنة وغير
مستحيلة، فلننتقل إِلَى ترتيب آخر فِي شكل آخر وأعداد أكثر:
لو فرض أنك تملك مطبعة فِيها نصف مليون حرف مفرقة
فِي صناديقها، من المطابع اليدوية القديمة، كَانَت الحروف تكون فِي صندوقها.
فالآن أنت تملك مطبعة فِيها نصف مليون حرف مفرقة
فِي صناديقها، فجاءت هزة أرضية «زلزال»، فقلبت صناديق الحروف على بعضها، وتبعثرت تلك
الحروف واختلطت، ثم جاءك مُنَضِّدُ الحروف ليخبرك أَنَّهُ قد تألف من اختلاط الحروف
بالمصادفة عشر كلمات متفرقة غير مترابطة المعاني؛ هل كنت تصدق؟
قد تقول: نعم، أصدق.
فلو قَالَ لك: إن الكلمات العشرة تؤلف جملة كاملة
مفيدة؛ هل كنت تصدق؟
ستستبعد ذَلِكَ جدًا كما استبعدته فِي مثال الإبر
العشر؛ ولَكِن لن تراه مستحيلًا.
لو أخبرك أن حروف المطبعة بكاملها كونت عَنْد
اختلاطها بالمصادفة كتابًا كاملًا من خمس مائة صفحة، ينطوي على قصيدة واحدة، تؤلف بمجموعها
وحدة كاملة مترابطة متلائمة منسجمة بألفاظها وأوزانها وقوافيها ومعانيها ومغازيها؛
فهل كنت تصدق ذَلِكَ؟!!
أبدًا لا تصدقه.
فلماذا لا تصدقه؟
لأنك ترى الاستحالة هاهنا بديهية؛ لماذا؟
لأنك عَنْدما تتصور أن الإبر العشر ألقيت على
ترتيب أرقامها بالمصادفة؛ لا تجد وجه الاستحالة واضحًا وبديهيًا كما تجده فِي مثال
الكتاب فِي هذه الحروف المبعثرة.
ما السبب فِي ذَلِكَ؟
السبب يرتكز على قانون المصادفة نفسه.
فالتزاحم بين الإبر المرقمة يجري بين عشر إبر
على عشرة ترتيبات، فيجعل حظ المصادفة بنسبة واحد إِلَى عشرة مليارات «1-10000000000»،
وهذه النسبة على تفاوتها الكبير ليست من العظم بحيث تحدث لك فِي عقلك تلك البداهة فِي
إدراك الاستحالة؛ ولَكِن التزاحم بين حروف الكتاب يجري بين خمسمائة ألف «500000» حرف
على تكوين خمسة وعشرين ومائة ألف «125000» كلمة تقريبًا، بأشكال وترتيبات لا تعد ولا
تحصى أبدًا، وهذا ما يجعل حظ المصادفة بنسبة واحد ضد عدد هائل جدًا جدًا لو قلت عَنْه:
أَنَّهُ مليار مليار مليار مليار؛ لكان قليلًا، ويكفيك لكي تدرك ضخامة العدد أن تعلم
أن الإبر لو كَانَت اثنتي عشرة «12» إبرة؛ لأصبح حظ المصادفة بنسبة واحد ضد ألف مليار
«1-1000000000000»، ولو كَانَت إحدى وعشرين «21» إبرة؛ لأصبح حظ المصادفة بنسبة واحد
ضد ألف مليار مليار؛ فتصور ماذا تكون النسبة إِذَا كَانَ التزاحم يجري بين خمسمائة
ألف كلمة بأشكال وترتيبات لا تعد ولا تحصى!!
هذا فِي كتاب المطبعة وكلماته المحدودة المعدودة؛
فما قولك فِي كتاب الله الأعظم؟! فِي خلق الله عز وجل التي يَقُول عَنْها ربنا تبارك
وتعالى: «قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ
قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109»).
«وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْض مِنْ شَجَرَةٍ
أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ
اللَّهِ».
وتأمل فِي كل ذرة من مياه البحار وأشجار الْأَرْض.
وتأمل فِي كل ما فِي الكون من ذرات وعناصر، ونظم
وقوانين ونواميس، ونسب وروابط وعلائق، وأقدار وأحجام وأوزان، ومُدد وأوقات وأزمان،
وصور وأشكال وألوان، وحركات وسكنات وأوضاع، وأجناس وأصناف وأنواع، وتعال تتصور عدد
ما فِي العالم عالم الخَلق من شيء فِي ملكوت السماوات والأرض من الذرة إِلَى المجرة،
وتصور عدد ما يربط بينها فِي عالم الأمر من روابط وعلائق على اختلاف النواميس والأقدار
والمدد، والأشكال والحركات والأوضاع، ثم تعال ندرس فِي ضوء الْعِلْم والقرآن بعض ما
فِي هذا العالم من تقدير واتزان، وتنظيم وترتيب وإحكام وإتقان؛ لنعرف ما هو حظ المصادفة
فِي تكوينه!!
من جملة الآيات: «إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ
بِقَدَرٍ (49»).
«وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا
(2»).
«وَكُلُّ شَيْءٍ عَنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8»).
«وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا
رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19»).
«وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عَنْدَنَا خَزَائِنُهُ
وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21»).
«وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ».
«صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ».
«الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ».
«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ
تَقْوِيمٍ».
«مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ».
«قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ».
«وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105»).
«سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي
أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقّ».
هذا بعض كلام الله الَّذِي نزل على عبده ورسوله
محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ، النَّبِيِّ الأمي، سَلِيلِ القبيلةِ
الأمية، ورَبِيبِ البيئةِ الأمية، منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان.
فتعال فانظر - كما أمر الله عز وجل – بعض ما فِي السماوات والأرض فِي ضوء
الْعِلْم؛ لترى: هل فِي خلقه ذَلِكَ التقديرُ والاتزان والإتقان والإحسان والتقويم
الَّذِي ذكره الله رب العالمين فِي القرآن كما فِي الآيات التي مرت؛ ليبرهن على الخلق
المقصود ضد المصادفة؟ ولترى كم هو عدد الأشياء المتزاحمة التي ستخضع - كما مر - لقانون
المصادفة عَنْد القول بالمصادفة، فهذه الأشياء المتزاحمة: ذرات وعناصر وأشكال ومقاييس
وأوزان وخواص وطبائع ونواميس وأوضاع وظروف ومدد وأزمان وأجواء؛ كلها فِي تكوين هذا
العالم.
ثم تساءل: هل يعقل أن يكون هذا قد كتب له الفوز
بهذا الترتيب الشامل الكامل الدقيق المقدر المتزن المتقن الجميل بمجرد المصادفة ضد
عدد هائل من الممكنات الأخرى المتزاحمة؟!!
ماذا يَقُول الْعِلْم عما فِي هذا العالم من
تقدير وترتيب واتزان وإتقان وإحسان، وعما فيه من قوانين ونواميس؟!!
فبطل هذا الفرض؛ وهو القول بالمصادفة، ولم يبق
إلا الفرض الأول، وهو أن يكون هذا الكون كله من صنع الله وخلقه، وهو المطلوب إثباته.
بماذا؟
بقانون الْعِلْم نفسه، وبما دل الْعِلْم المادي
نفسه، وليس بالوحي؛ وإن كَانَ الوحي أجلى من هذا كله وأظهر؛ ولَكِن عَنْد المنصف الَّذِي
يقبله، الَّذِي ينظر فِي الآيات، ويتأمل فِي الأحاديث، وينظر فِي خلق الله رب العالمين،
وفي آياته التي بثها فِي تضاعيف هذا الكون المخلوق له، ثم حينئذ يذعن لما دل عليه العقل
بعد النظر فِي الآيات المتلوة والآيات المنظورة؛ لَكِن أين الإنصاف من الملحد؟!
وأين العدل منه؟!!
فإذا كَانَ يخضع لقانون العقل؛ فهذا قانون العقل
كما مر!!
فإذا كَانَ يخضع لقانون الْعِلْم المادي؛ فهذا
قانون الْعِلْم المادي كما مر أَيْضًا!!
وإذا كَانَ يكابر؛ فإنه لا حيلة فِي المكابر!!
نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا
بما علمنا، وأن يزيدنا علمًا.
وصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ،
وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.