((ضَوَابِطُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ الْمَشْرُوعِ
وَالْعَمَلُ الْجَمَاعِيُّ التَّنْظِيمِيُّ الْمُبْتَدَعُ))
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا الْإِجْمَالُ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ -فَصَارَ فِتْنَةً- مَا يُقَالَ لَهُ: ((الْعَمَلُ الْجَمَاعِيُّ))، وَهَذَا لَفْظٌ مُجْمَلٌ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا مَا أَطْلَقَ هَذَا الْأَمْرَ -هَكَذَا- عَلَى عَوَاهِنِهِ مِنْ غَيْرِ مَا تَحْدِيدٍ وَلَا بَيَانٍ؛ فِيهِ حَقٌّ -حِينَئِذٍ- وَبَاطِلٌ، فَيُحْمَلُ عَلَى الْجَانِبِ الَّذِي هُوَ حَقٌّ، ثُمَّ يُدْفَعُ فِي وَجْهِ مَنْ يَرُدُّهُ بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَرُدُّ الْحَقَّ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ تَثْبِيتَ الْبَاطِلِ، وَلَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ الْجَمَاعِيَّ -كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ- عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَصْدُقُ عَلَى مَا كَانَ تَعَاوُنًا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى مِنْ غَيْرِ مَا مُخَالَفَةٍ لِدِينِ اللهِ وَشَرْعِهِ وَلَا لِسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ الشَّارِعُ الْحَكِيمُ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَيْهِ وَالتَّآزُرِ وَالتَّنَاصُرِ مِنْ أَجْلِ إِنْجَازِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَرْضِيِّ عِنْدَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى قَوَاعِدِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، يَصْدُقُ عَلَى هَذَا وَهُوَ حَقٌّ.
وَيَصْدُقُ -أَيْضًا- عَلَى مَا هُوَ بَاطِلٌ مِنْ عَقْدِ أُمُورٍ لَا يَرْضَاهَا الشَّرْعُ، وَإِنَّمَا يُنَفِّرُ مِنْهَا وَيُحَذِّرُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَوَرَّطُوا فِي أَمْثَالِهَا؛ كَأَنْ يَجْتَمِعَ قَوْمٌ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الْأُمُورِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَصِيرُوا جَمَاعَةً، لَهُمْ سَمْعٌ وَطَاعَةٌ، وَوَلَاءٌ وَانْتِمَاءٌ وَبَرَاءٌ، وَعَهْدٌ وَعَقْدٌ وَمُبَايَعَةٌ، وَمَرَاحِلُ ثَانَوِيَّةٌ وَأَهْدَافٌ غَائِيَّةٌ، وَتَنْظِيمٌ بِتَرْتِيبٍ هَرَمِيٍّ يَصِلُ فِي النِّهَايَةِ إِلَى آمِرٍ يَأْمُرُ لَا عَلَى ضَوْءِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَلَا فِي ضَوْءِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِالْجَهْلِ وَالْهَوَى؛ لِأَنَّ مَا بُنِيَ عَلَى بَاطِلٍ فَإِنَّمَا هُوَ بَاطِلٌ، فَهَذَا -أَيْضًا- مِمَّا يَدْخُلُ فِي هَذَا الْإِطَارِ الْعَامِّ.
فَإِذَا حُذِّرَ وَنُفِّرَ مِنْ هَذِهِ الصُّورَةِ الَّتِي لَمْ يُجِزْهَا الشَّرْعُ بَلْ حَذَّرَ مِنْهَا وَنَفَّرَ؛ أُتِيَ لِلْإِجْمَالِ وَلِلِاشْتِبَاهِ بِالصُّورَةِ الَّتِي أَقَرَّهَا الشَّرْعُ، فَيَحْدُثُ -حِينَئِذٍ- تَخْبِيطٌ فِي أَذْهَانٍ مُخَبِّطَةٍ مُخَبَّطَةٍ، وَحِينَئِذٍ لَا يَهْتَدِي الْمُسْلِمُ إِلَى وَجْهِ الصَّوَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ وَاضِحٌ جِدًّا عِنْدَ التَّفْصِيلِ؛ لِأَنَّهُ كَمَا يَجْتَمِعُ الْمُسْلِمُونَ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَفِي صَلَاتَيِ الْعِيدَيْنِ، وَفِي الْكُسُوفِ -فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ-، وَفِي الِاسْتِسْقَاءِ، وَفِي الْجِهَادِ، وَفِي الْحَجِّ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَمَرَ الشَّرْعُ بِالِاجْتِمَاعِ عَلَى أَدَائِهِ..
كَمَا يَجْتَمِعُونَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، وَهِيَ قَدْ ثَبَتَتْ بِأَمْرِ الشَّرْعِ الْحَكِيمِ؛ كَذَلِكَ يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ قَوْمٌ عَلَى سَرِقَةِ رَجُلٍ ثَرِيٍّ فَيُخَطِّطُونَ، وَيَجْعَلُونَ لَهُمْ رَأْسًا، وَيُوَزِّعُونَ أَدْوَارًا، وَيَتَعَاهَدُونَ -وَلَوْ كَانَ التَّعَاهُدُ بِالدَّمِ عَقْدًا وَبَيْعَةً- عَلَى أَلَّا يَفِرَّ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَإِذَا مَا وَقَعَ مِنْهُمْ أَحَدٌ فِي قَبْضَةِ السُّلْطَةِ فَإِنَّمَا يَمُوتُ قَبْلَ أَنْ يُقِرَّ بِأَسْمَاءِ إِخْوَانِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ!!
فَهَلْ هَذِهِ الصُّورَةُ مِنَ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ مَرْضِيَّةٌ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَوْ هِيَ مَأْذُونٌ بِهَا؟!! وَهَذِهِ عَمَلٌ جَمَاعِيٌّ -كَمَا تَرَى-!!
لَوْ أَنَّ قَوْمًا اجْتَمَعُوا مَعًا، فَجَعَلُوا لَهُمْ أَمِيرًا.. زَعِيمًا.. مُرْشِدًا.. قَيِّمًا.. أَوْ مَا شِئْتَ، وَوَزَّعُوا الْأَدْوَارَ، وَتَعَاهَدُوا عَلَى أَنْ يَقْتُلُوا رَجُلًا، أَوْ يَقْتُلُوا جَمَاعَةً، أَوْ يَعِيثُوا فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ.. لَوْ أَنَّهُمْ تَجَمَّعُوا وَوَزَّعُوا الْأَدْوَارَ، وَنَسَّقُوا الْخُطَّةَ الَّتِي يَنْبَغِي عَلَيْهِمْ أَنْ يَسِيرُوا عَلَيْهَا مِنْ أَجْلِ تَحْقِيقِ مُرَادِهِمُ الْفَاسِدِ.. لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ؛ أَلَا يَكُونُونَ قَدْ أَخَذُوا بِالْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ فِي صُورَتِهِ الْعَامَّةِ؟!!
هَذَا عَمَلٌ جَمَاعِيٌّ -أَيْضًا- وَلَكِنْ هَلْ أَقَرَّهُ الشَّرْعُ؟!!
وَحِينَئِذٍ عِنْدَمَا يُطْلَقُ هَذَا الْمُصْطَلَحُ -هَكَذَا- بِإِجْمَالٍ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ؛ فَإِنَّ الَّذِي يُطْلِقُهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ خَبِيثَ الطَّوِيَّةِ فَاسِدَ النِّيَّةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ غَمْرًا جَهُولًا ذَا حَمَاسَةٍ لَا يَدْرِي مَا يَخْرُجُ مِنْ رَأْسِهِ!!
فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْدِيدِ الْأَمْرِ وَتَوْضِيحِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْإِجْمَالِ بِالتَّفْصِيلِ وَرَفْعِ الِاشْتِبَاهِ وَإِلَّا فَإِنَّ الضَّرَرَ الَّذِي يَتَحَصَّلُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَكْبَرُ بِكَثِيرٍ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ الْخَيَالُ؛ لِأَنَّهُ سَاعٍ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ، مُجَانِبٌ لِلْكِتَابِ، وَمُجَانِبٌ لِهَدْيِ مَنْ نَزَلَ عَلَى قَلْبِهِ الْكِتَابُ ﷺ، وَهُوَ مُسْتَجْلِبٌ لِكَثِيرٍ مِنَ الشُّرُورِ الَّتِي تَنْزِلُ بِالْأُمَّةِ مِنْ جَرَّاءِ مَا صَنَعَ.
فَأَمْثَالُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ عِنْدَ الْإِجْمَالِ يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مَرْدُودَةً مُتَوَقَّفًا عِنْدَهَا؛ حَتَّى تُفَصَّلَ، وَحَتَّى تُبَيَّنَ، وَحَتَّى يُزَالَ الْغُمُوضُ، وَيُرْفَعَ الِاشْتِبَاهُ.
التَّحَزُّبُ وَهُوَ التَّجَمُّعُ عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٌ، يُقَالُ لِلْجَمَاعَةِ مِنَ النَّاسِ حِزْبٌ، قَالَ تَعَالَى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 32].
التَّحَزُّبُ يَكُونُ مَحْمُودًا وَيَكُونُ مَذْمُومًا؛ يَعْنِي أَنْ تَتَجَّمَعَ جَمَاعَةٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ يَكُونُ هَذَا مَحْمُودًا فِي دِينِ اللهِ؛ كَمَا يَجْتَمِعُونَ فِي الْجُمُعَةِ، وَفِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَفِي الْأَعْيَادِ، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَوَاطِنِ الْجِهَادِ وَالْجِلَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ فَهَذَا تَجَمُّعٌ -تَحَزُّبٌ- مَحْمُودٌ، وَهُوَ مَا كَانَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ انْتَظَمَ جَمْعُهُمْ بِإِمَامٍ ظَاهِرٍ وَلَوْ كَانَ مُتَغَلِّبًا فَلَا يُخْرَجُ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكَ فِيهِ مِنَ اللهِ بُرْهَانٌ، مَا دُمْتَ لَا تَمْلِكُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْخُرُوجِ عَلَيْهِ.
وَلَا يَكُونُ الْخُرُوجُ إِلَّا دَاعِيَةً لِلشُّرُورِ، وَإِرَاقَةِ الدِّمَاءِ، وَهَدْمِ الدُّورِ، وَسَلْبِ الثَّرْوَاتِ، وَالِاعْتِدَاءِ عَلَى الْأَعْرَاضِ، ((وَلَأَنْ يَأْكُلَ الْمَرْءُ -كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-- الْخُبْزَ بِالْمِلْحِ الْجَرِيضِ -أَيِ: الْخَشِنِ الَّذِي لَا يُسْتَسَاغُ- أَحَبُّ إِلَى الْمُؤْمِنِ -عِنْدَمَا يَأْكُلُ الْخُبْزَ بِذَلِكَ الْمِلْحِ فِي أَيَّامِ رَفْعِ الْفِتْنَةِ.. أَحَبُّ إِلَى الْمُؤْمِنِ الْحَرِيصِ عَلَى إِسْلَامِهِ وَإِيمَانِهِ وَإِحْسَانِهِ- مِنْ أَكْلِ الْفَالُوذَجِ فِي أَيَّامِ الْفِتْنَةِ))؛ وَهُوَ نَوْعٌ رَاقٍ جِدًّا مِنَ الْحَلْوَى كَانَ عَلَى أَيَّامِهِ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ، وَعَلَى أَبِيهِ، وَعَلى الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ-.
فَالْمَحْمُودُ هُوَ مَا كَانَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ انْتَظَمَ جَمْعُهُمْ بِإِمَامٍ ظَاهِرٍ، فَوَاجِبُ الْمُسْلِمِ أَنْ يَلْزَمَ هَذَا الْحِزْبَ هَذَا التَّحَزُّبَ، وَأَنْ يُدَافِعَ عَنْهُ، وَأَنْ يَنْصَحَ لَهُ كَمَا أَمَرَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ ﷺ.
قَالَ الْإِمَامُ أَبُو مُحَمَّدٍ سَهْلُ بَنُ عَبْدِ اللهِ التُّسْتَرِيُّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ ثَلَاثٍ وَثَمَانِينَ وَمِائَتَيْنِ مِنْ هِجْرَةِ النَّبِيِّ ﷺ: ((هَذِهِ الْأُمَّةُ ثَلَاثٌ وَسَبْعُونَ فِرْقَةً؛ اثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ هَالِكَةٌ، كُلُّهُمْ يُبْغِضُ السُّلْطَانَ، وَالنَّاجِيَةُ هَذِهِ الْوَاحِدَةُ الَّتِي مَعَ السُّلْطَانِ))؛ بِمَعْنِى أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ عَلَيْهِ حَتَّى تُحْدِثَ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ، وَتُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ.
فَهَذَا هُوَ التَّحَزُّبُ الْمَحْمُودُ.
وَأَمَّا التَّحَزُّبُ الْمَذْمُومُ فَهُوَ الْخُرُوجُ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى تَجَمُّعَاتٍ أُخْرَى تَلْتَقِي عَلَى مُفَارَقَةِ الْجَمَاعَةِ، وَالشُّذُوذِ عَنِ الْوِلَايَةِ الشَّرْعِيَّةِ، وَاتِّبَاعِ الْهَوَى، فَهَؤُلَاءِ مِنْ حِزْبِ الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّهُمْ فَارَقُوا التَّحَزُّبَ الْمَحْمُودَ، قَالَ -تَعَالَى-: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس: 32]، وَقَالَ -سُبْحَانَهُ-: {أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19].
فَأَيُّ تَجَمُّعٍ عَلَى غَيْرِ الْإِمَامِ الظَّاهِرِ بِالشَّوْكَةِ وَالْقُوَّةِ الَّذِي يُبَايِعُهُ الْمُسْلِمُونَ يُعْتَبَرُ فِي الشَّرْعِ تَحَزُّبًا بِدْعِيًّا مُفَارِقًا فِيهِ مَنِ انْتَمَى إِلَيْهِ لِلْجَمَاعَةِ، وَهُوَ نَوَاةُ الْخُرُوجِ الْمُسَلَّحِ الَّذِي يُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَيُشِيعُ فِي الْبِلَادِ الْفَسَادَ.
قَالَ الْحَسَنُ: خَرَجَ عَلَيْنَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- يَوْمًا يَخْطُبُنَا، فَقَطَعُوا عَلَيْهِ كَلَامَهُ، فَتَرَامَوْا بِالْبَطْحَاءِ حَتَّى جَعَلْتُ مَا أُبْصِرُ مَا تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ.
قَالَ: وَسَمِعْنَا صَوْتًا مِنْ بَعْضِ حُجَرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ ﷺ، فَقِيلَ: هَذَا صَوْتُ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ: أَحْسَبُهَا أُمَّ سَلَمَةَ، قَالَ: فَسَمِعْتُهَا وَهِيَ تَقُولُ: ((أَلَا إِنَّ نَبِيَّكُمْ قَدْ بَرِأَ مِمَّنْ فَرَّقَ دِينَهُ وَاحْتَزَبَ، وَتَلَتْ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام: 159])) .
فَالْأَحْزَابُ وَالْجَمَاعَاتُ فُرْقَةٌ نَهَى اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهَا، وَبَرِأَ نَبِيُّهُ مُحَمَّدٌ ﷺ مِنْهَا، فَلَا يَجْنِي مِنْهَا الْمُسْلِمُونَ إِلَّا الْوَيْلَ وَالْفَسَادَ، فَلَا يَجُوزُ لِمُؤْمِنٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُقِيمَ حِزْبًا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ -وَالْحِزْبُ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ، بِمَعْنَى الْفِرْقَةِ، بِمَعْنَى التَّنْظِيمِ- فَلَا يَجُوزُ لِمُؤْمِنٍ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُقِيمَ حِزْبًا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ يَخْرُجُ بِهِ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ، وَيَفْتَاتُ بِهِ عَلَى سُلْطَانِهِمْ؛ لِأَنَّ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ هَدْيَ النَّبِيِّ ﷺ.
وَمَنْ أَقَامَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَحْزَابِ وَدَعَا إِلَيْهَا أَوْ أَعَانَ عَلَى قِيَامِهَا بِكَلِمَةٍ أَوْ بِمَالٍ أَوْ بِنَحْوِ ذَلِكَ فَقَدْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ ﷺ، وَاتَّبَعَ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ ۖ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 115].
فَهُوَ مُشَاقٌّ لِسَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ، خَارِجٌ عَلَى هَدْيِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ وَلَوْ أَعَانَ بِالْكَلِمَةِ، وَلَوْ أَعَانَ بِالْمَالِ وَلَمْ يُعْنِ بِشَخْصِهِ، وَلَمْ يُعِنْ بِجَسَدِهِ، حَتَّى لَوْ تَسَمَّتْ هَذِهِ الْأَحْزَابُ -أَيِ: الْجَمَاعَاتُ وَالْفِرَقُ الضَّالَّةِ- بِأَسْمَاءٍ بَرَّاقَةٍ، وَرَفَعَتْ شِعَارَاتٍ حَسَنَةً، وَقَامَتْ بِأَعْمَالٍ فِيهَا خَيْرٌ؛ فَلَا يَجُوزُ إِعَانَتُهَا وَلَا الدَّعْوَةُ إِلَيْهَا.
فَالْخَوَارِجُ لَهْمُ سَبْقٌ فِي الطَّاعَةِ، وَاجْتِهَادٌ فِي الْعِبَادَةِ، شِعَارُهُمُ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَلَكِنَّهُمْ ((كِلَابُ النَّارِ، وَشَرُّ قَتْلَى تَحْتَ أَدِيمِ السَّمَاءِ، مَنْ قَتَلَهُمْ أَوْ قَتَلُوهُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ))، فَلَمْ تُغْنِ عَنْهُمْ شِعَارَاتُهُمْ شَيْئًا، وَلَمْ تَنْفَعْهُمْ تِلْكَ الْأَعْمَالُ مِنْ صَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَقِرَاءَةٍ لِلْقُرْآنِ؛ لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ -أَيْ: عَنِ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ- وَخَالَفُوا سُنَّةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ .
فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنَ الِانْخِدَاعِ بِهَذِهِ الْجَمَاعَاتِ الْخَارِجَةِ عَنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ -يَعْنِي: عَنْ سَوَادِ الْمُسْلِمِينَ الْأَعْظَمِ-؛ فَإِنَّ هَذِهِ الْجَمَاعَاتِ ابْتُلِيَ بِهَا عَالَمُ الْإِسْلَامِ الْيَوْمَ، وَمَا هِيَ إِلَّا وَكْرٌ يَعْمُرُهُ الشَّيْطَانُ وَيَمُدُّهُ أَعْدَاءُ الدِّينِ وَالسُّنَنِ، مَنِ انْخَدَعَ بِهَا فَيَا حَسْرَةً عَلَيْهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ!!
عِنْدَمَا تَبْحَثُ فِي صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ، وَهِيَ ((الْعَمَلُ الْجَمَاعِيُّ التَّنْظِيمِيُّ))، تُشَكَّلُ بِهِ جَمَاعَةٌ لَهَا رَأْسٌ وَأَمِيرٌ لَهُ سَمْعٌ وَطَاعَةٌ، وَإِلَّا فَلَا جَمَاعَةَ، فَلَا جَمَاعَةَ بِغَيْرِ سَمْعٍ وَطَاعَةٍ، فَلَا بُدَّ -حِينَئِذٍ- أَنْ يَكُونَ هُنَالِكَ رَأْسٌ وَأَنْ تَكُونَ لَهُ فُرُوضُ الطَّاعَةِ مُقَدَّمَةً، وَأَنْ يَكُونَ السَّمْعُ وَأَنْ تَكُونَ الطَّاعَةُ، وَأَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأُمُورُ مَبْذُولَةً لِلْمُقَدَّمِ الْمُطَاعِ، فَإِذَا مَا نَظَرْتَ فِي هَذَا عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ هُنَالِكَ قِيَادَةٌ وَجُنْدِيَّةٌ بِأَمِيرٍ وَمَأْمُورٍ وَسَمْعٍ وَطَاعَةٍ!!
هَذَا هُوَ مَوْطِنُ النِّزَاعِ..
الْبَحْثُ عَنْ ذَلِكَ بِالْأَظَافِرِ فِي الْحَجَرِ؛ حِيَاطَةً لِلْأُمَّةِ، وَنُصْحًا لِلْمُسْلِمِينَ وَلَوْ نَالَ الْمَرْءَ فِي عِرْضِهِ مَا نَالَهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْتَسِبُهُ عِنْدَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَأَمَّا الْعَمَلُ الْجَمَاعِيُّ؛ فَمَنْ يُصَادِمُ قَوْلَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]؟
أَلَيْسَ هَذَا بِعَمَلٍ جَمَاعِيٍّ؟!! فَمَنْ يُنْكِرُهُ -هَكَذَا- فِي إِطْلَاقِهِ؟!!
وَمَنْ يُنْكِرُ الْجُمُعَةَ وَالْجَمَاعَاتِ؟!!
وَمَنْ يُنْكِرُ صَلَاةَ الْعِيدَيْنِ وَالْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ؟!!
وَمَنْ يُنْكِرُ صَلَاةَ الْجَنَازَةِ؟!!
وَمَنْ يُنْكِرُ الِاجْتِمَاعَ فِي الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالدِّفَاعِ عَنْ بَيْضَةِ الْمُسْلِمِينَ وَالْإِسْلَامِ؟!!
مَنْ يُنْكِرُ هَذَا؟!!
أَيُنْكِرُهُ مُسْلِمٌ؟!!
سُبْحَانَ رَبِّي!!
*مَفَاسِدُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ التَّنْظِيمِيِّ الْمُبْتَدَعِ:
إِنَّ ((الْفُرْقَةَ عَذَابٌ))؛ عَذَابٌ لِلنَّفْسِ، وَعَذَابٌ لِلْجِسْمِ، وَعَذَابٌ مُخَيِّمٌ فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الْحَيَاةِ وَالتَّعَايُشِ بَيْنَ النَّاسِ؛ وَلِذَا أَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّ أَكْلَ الْمِلْحِ -وَالنَّاسُ فِي جَمَاعَةٍ، يَنْتَظِمُهُمْ حَاكِمٌ، يَدَبِّرُ أُمُورَهُمْ، قَدِ اسْتَقَرَّتْ أَحْوَالُهُمْ، وَأَمِنَتْ بِلَادُهُمْ- أَحَبُّ إِلَى الْعُقَلَاءِ مِنْ أَكْلِ الْحَلْوَى الشَّهِيَّةِ فِي حِالِ الْفَوْضَى وَالِاضْطِرَابِ النَّاجِمِ عَنْ مُفَارَقَةِ الْجَمَـاعَةِ، وَأَيُّ حَلْوَى تُسْتَلَذُّ إِذَا مَا كَانَ الْإِنْسَانُ خَائِفًا عَلَى مَالِهِ، وَدَمِهِ، وَعِرْضِهِ، وَدِينِهِ؟!!
إِنَّ مُفَارَقَةَ الْجَمَاعَةِ وَالْخُرُوجَ عَلَى الْإِمَامِ فِيهَا: تَبْدِيلُ الْأَمْنِ خَوْفًا، وَفِيهَا: تَبْدِيلُ الشِّبَعِ جُوعًا، وَإِرَاقَةٌ لِلدِّمَاءِ، وَهَتْكٌ لِلْأَعْرَاضِ، وَنَهْبٌ لِلْأَمْوَالِ، وَقَطْعٌ لِلسُّبُلِ، وَتَسَلُّطٌ لِلسُّفَهَاءِ، وَانْتِشَارٌ لِلْجَهْلِ، وَرِفْعَةٌ لِلجُهَّالِ، وَنَقْصٌ فِي الْعِلْمِ، وَغُرْبَةٌ لِأَهْلِهِ، وَضَعْفٌ فِي الدِّينِ، وَغُرْبَةٌ لَهُ، وَكُلُّ لَونٍ مِنْ أَلْوَانِ الْفَسَادِ الْعَرِيضِ فِي الْأَرْضِ {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 64].
وَمَضَارُّ تَكْوِينِ الْجَمَـاعَاتِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَهَذِهِ بَعْضُ مَضَارِّ الْجَمَـاعَاتِ عَلَى وَحْدَةِ الْمُسْلِمِينَ:
((إِنَّ آفَةَ الْآفَاتِ عَقْدُ الْوَلَاءِ وَالْبَرَاءِ عَلَى الْجَمَاعَةِ، فَهَذَا الْمِحْوَرُ الْحِزْبِيُّ لِلْوَلَاءِ وَالْبَرَاءِ هُوَ عَيْنُ الْمُشَاقَّةِ لِلهِ -تَعَالَى- وَلِرَسُولِهِ ﷺ، وَهُوَ نَظِيرُ التَّحَزُّبِ الَّذِى مَحَاهُ الْإِسْلَامُ وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
*وَأَيْضًا؛ فَالْفِرْقَةُ فِي الْإِسْلَامِ لَا تُؤَدِّي إِلَّا إِلَى الْفُرْقَةِ فِيهِ، وَالْفُرْقَةُ فِي الْإِسْلَامِ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى أَسَاسِ الِاخْتِلَافِ فِي الْكِتَابِ، وَالِاخْتِلَافُ فِي الكِتَابِ هَلَكَةٌ فِي الْحَقِّ وَشِقَاقٌ بَعِيدٌ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ۗ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176].
*وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الْفِرَقَ ضَرَبَتْ بِقُيُودِ التَّحَكُّمِ عَلَى سِبِيلِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، إِنَّ الْجَمَـاعَاتِ ضَرَبَتْ بِقُيُودِ التَّحَكُّمِ عَلَى سَبِيلِ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، فَجَعَلَتِ الْعُنْوَانَ لِمُزَاوَلَةِ الدِّينِ وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الِانْتِمَاءُ إِلَى الْجَمَاعَةِ.
بَيْنَمَا الْإِسْلَامُ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ يَعْتَبِرُ الْمُنْتَمِي إِلَى الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَلَّ مَنْ جَاءَ بِالشَّهَادَتَيْنِ بِحَقِّهِمَا، جَاعِلًا الْإِسْلَامَ وَتَبْلِيغَهُ مِحْوَرَ حَيَاتِهِ، وَنُقْطَةَ انْطِلَاقِهِ، لَا يَشْتَرِطُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلَ جُدُرِ الْأَحْزَابِ وَالْفِرَقِ وَالْجَمَـاعَاتِ، بَلْ خَارِجَهَا.
*وَأَيْضًا؛ فَإِنَّ الْحِزْبِيَّةَ وَتَكْوِينَ الْجَمَـاعَاتِ تَرْصُدُ فِي أَفْئِدَةِ شَبَابِ الْأُمَّةِ الرَّبْطَ الشَّدِيدَ بَيْنَ الْفِكْرِ الْحِزْبِيِّ وَالدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ -أَيْ: لَا عَمَلَ إِلَّا بِفِرْقَةٍ وَجَمَاعَةٍ-، فَهَذَا تَرْصُدُهُ الْجَمَاعَاتُ فِي قُلُوبِ شَبَابِ الْأُمَّةِ، فَيَبْقَى السُّؤَالُ الَّذِى لَا جَوَابَ لَهُ يُتَّفَقُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْحِزْبِيِّينَ:
إِلَى أَيِّ جَمَاعَةٍ يَنْتَمِى الْمُسْلِمُ؟!!
نَعَمْ؛ إِنَّ مَنْطِقَ الْإِسْلَامِ يَقُولُ: مِنْهَاجُ النُّبُوَّةِ هُوَ مِقْيَاسُ التَّقْوِيمِ، أَمَّا لَدَى أَيِّ حِزْبٍ أَوْ جَمَاعَةٍ فَإِنَّ مِقْيَاسَ التَّقْوِيمِ هُوَ فِكْرُ الْمُؤَسِّسِ، وَأَمَّا فِي مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، وَعِنْدَ الْعَامِلِينَ عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَبِهِمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْجَمَاعَاتِ فَإِنَّ مِقْيَاسَ التَّقْوِيمِ هُوَ فِكْرُ الْمُؤَسِّسِ اقْتِرَابًا مِنْهُ أَوْ بُعْدًا عَنْهُ، خُرُوجًا عَلَيْهِ أَوِ الْتِزَامًا بِهِ، وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ!!
*الْإِذْنُ بِالْجَمَـاعَاتِ فِي الْإِسْلَامِ فِيهِ فَتْحُ بَابٍ لَا يُرَدُّ وَلَا يُغْلَقُ؛ بِدُخُولِ أَحْزَابٍ تَحْمِلُ شِعَارَ الْإِسْلَامِ وَهِىَ حَرْبٌ عَلَيْهِ، وَكَمْ رَأَيْنَا ذَلِكَ فِي دَعَوَاتٍ ضَالَّةٍ بَلْ كَافِرَةٍ؛ مِنْهَا: الْقَادْيَانِيَّةُ، وَمِنْهَا: الْبَهَائِيَّةُ، وَكُلُّهَا تَنْتَمِي فِي النِّهَايَةِ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَتَدَّعِي أَنَّهَا جَمَاعَاتٌ مِنْ تِلْكَ الْجَمَـاعَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ.
وَكَمِ الْتَفَّ حَوْلَهَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ لَا يُحْصِيهِمْ إِلَّا اللهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-!! فَأَخْرَجَتْهُمْ مِنْ نُورِ الْإِسْلَامِ إِلَى الضَّلَالِ الْبَعِيدِ، فَانْظُرْ كَيْفَ تَعِيْشُ تِلْكَ الْفِرَقُ تَحْتَ مَظَلَّةِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مِنْهَا بَرَاءٌ.
لَيْسَ أَمَامَنَا إِلَّا أَنْ نَلْزَمَ السَّائِرِينَ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ: ((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي)) ﷺ وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.
لَا سَبِيلَ إِلَّا السَّبِيلُ الَّذِى وَضَّحَهُ ﷺ، وَهُوَ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ كَانَ عَلَى مِثْلِ مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي)) ﷺ وَ-رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.
*إِنَّ مِنْ مَضَارِّ الْجَمَاعَاتِ: بِدْعِيَّتَهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَمْرِ الْجَمَاعَاتِ -الَّتِي تَنْفَرِدُ بِاسْمٍ أَوْ رَسْمٍ عَنْ مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ- إِلَّا أَنَّهَا عَمَلٌ مُبْتَدَعٌ مُسْتَحْدَثٌ لَمْ يُعْهَدْ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ لَكَفَى بِذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى خُرُوجِهَا عَنْ صِرَاطِ الْإِسْلَامِ الْمُسْتَقِيمِ.
*إِنَّ الْحِزْبِيَّةَ وَإِنَّ تَكْوِينَ الْجَمَـاعَاتِ هِيَ خَلْفِيَّةُ الِاعْتِقَالِ الْفِكْرِيِّ بِالْحَجْرِ عَلَى الْعَقْلِيِّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ وَالتَّفْكِيرِ الْإِسْلَامِيِّ؛ لِأَنَّ الْعَيْشَ فِي قَالَبِ الْجَمَاعَةِ هَمُّهُ الدِّفَاعُ عَنْهَا وَتَعْمِيقُهَا فِي النُّفُوسِ، فَاعْتُقِلَتْ بِذَلِكَ تِلْكَ الْعُقُولُ، وَاعْتَقَلَتْ -هِيَ- الْإِنْتَاجَ الْفِكْرِيَّ فِي حُدُودِ الْجَمَاعَةِ)) .
فَيا لَلهِ! كَمْ فِي هَذَا مِنْ صَدٍّ وَصُدُودٍ عَنِ الْعَيْشِ مَعَ الشَّرِيعَةِ فِي شُمُولِهَا، وَفِى سَعَتِهَا، وَفِى رَحَابَتِهَا، وَرَجَاحَتِهَا!
وَهَذَا الِاعْتِقَالُ الْفِكْرِيُّ أَفْرَزَ فِي مُقَابِلِهِ الْإِرْهَابَ الْفِكْرِيَّ؛ تَنْفِيرًا عَنْ مَعْرِفَةِ مَا لَدَى الْآخَرِينَ لِلِاسْتِفَادَةِ مِنَ الْعِلْمِ وَتَصْحِيحِ الْمَسَارِ.
وَأَعْظَمُ مُوَلِّدَاتِ هَذَا الْإِرْهَابِ الِانْقِطَاعُ عَنْ هَدْىِ الدَّلِيلِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَةِ، وَالتَّمَحْوُرُ فِي فِكْرِيَّةِ الْجَمَاعَةِ وَالِانْغِلَاقُ فِي قَالَبِهَا، فَفِي الْوَقْتِ الَّذِى بَدَأَ الْمُسْلِمُونَ يَتَخَلَّصُونَ فِيهِ مِنَ الْعَصَبِيَّةِ الْمَذْهَبِيَّةِ الْفُرُوعِيَّةِ، أَخَذَتِ الْجَمَاعَاتُ تَنْفُخُ فِي التَّعَصُّبِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ هُوَ أَشَدُّ سُوءًا.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ الْأَمْرَ وَاضِحٌ، وَلَكِنَّ الْمُغَالَطَاتِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، فَيَنْبَغِي عَلَى الْمَرْءِ أَلَّا يُخْدَعَ، وَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَكُونَ شَحِيحًا بِدِينِهِ، وَأَنْ يَكُونَ حَرِيصًا عَلَى آخِرَتِهِ، وَأَنْ يَتَأَمَّلَ فِيمَا يُعْرَضُ عَلَيْهِ، فِإِنْ وَافَقَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فَذَاكَ وَنِعْمَةُ عَيْنٍ، وَإِلَّا فَلْيَجْعَلْ ذَلِكَ تَحْتَ مَوَاطِئِ الْأَقْدَامِ وَلَا كَرَامَةَ.
هَذَا الْأَمْرُ إِنَّمَا نُدَنْدِنُ حَوْلَهُ طَوِيلًا؛ لِأَنَّهُ هُوَ السُّدَّةُ الَّتِي تَعْتَرِضُ سَبِيلَ الْعَمَلِ الْإِسْلَامِيِّ النَّقِيِّ مِنْ أَجْلِ اسْتِعَادَةِ مَجْدِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْعَالَمِ.
هَذِهِ التَّحَزُّبَاتُ وَالْجَمَاعَاتُ وَالْفِرَقُ بِأَعْمَالِهَا فِي دَهَالِيزِ السَّرَابِ وَفِي كُهُوفِ الظَّلَامِ.. هَذِهِ الْجَمَاعَاتُ إِنَّمَا هِيَ سُدَّةٌ فِي طَرِيقِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَسْتَعِيدَ الْمُسْلِمُونَ مَجْدَهُمُ الْغَابِرَ، وَأَنْ يُعِيدُوا مَا قَدْ سُلِبَ مِنْهُمْ مِنْ عِزَّةٍ إِنَّمَا رَفَعَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَنْهُمْ وَأَنْزَلَ بِهِمْ ضِدَّهَا عِنْدَمَا خَالَفُوا أَمْرَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَهَذَا التَّحَزُّبُ وَهَذَا التَّفَرُّقُ وَهَذَا الِانْتِمَاءُ لِلْجَمَاعَاتِ نَتِيجَتُهُ الْحَتْمِيَّةُ هِيَ أَنَّهُ يَأْتِي إِضْعَافُ الْأُمَّةِ، وَيَأْتِي الِانْكِسَارُ لِلْأُمَّةِ وَالِانْهِزَامُ لَهَا؛ بِسَبَبِ تَكَوُّنِ تِلْكَ الْجَمَاعَاتِ بِتِلْكَ الِانْتِمَاءَاتِ.
فِي ظِلِّ وَحْدَانِيَّةِ الْإِسْلَامِ وَقَوَاعِدِهِ وَأُصُولِهِ الضَّابِطَةِ الْعَامَّةِ يَحْصُلُ بِكُلِّ اطْمِئْنَانٍ الْمَنْعُ شَرْعًا لِتَحَزُّبٍ -أَيْ لِفِرْقَةٍ أَوْ جَمَاعَةٍ- الْمَنْعُ شَرْعًا لِأَيِّ تَحَزُّبٍ يَكُونُ لِفِرْقَةٍ أَوْ لِجَمَاعَةٍ تَحْتَ مَظَلَّةِ الْإِسْلَامِ تُخَالِفُهُ فِي شَكْلٍ أَوْ مَضْمُونٍ، فِي وَسِيلَةٍ أَوْ غَايَةٍ بِأَمْرٍ كُلِّيٍّ أَوْ أَمْرٍ جُزْئِيٍّ؛ إِذِ الْحَقُّ وَاحِدٌ لَا يَتَعَدَّدُ، فَلَوْ كَانَ لِلْحَقِّ فِرَقٌ لَمْ يَقُلْ ﷺ: ((إِلَّا وَاحِدَةً)).
عِنْدَمَا ذَكَرَ الْفِرَقَ قَالَ: ((كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً))، فَلَوْ كَانَ لِلْحَقِّ فِرَقٌ مَا قَالَ ﷺ: ((إِلَّا وَاحِدَةً))؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ ﷺ ذَلِكَ يَحْصُرُ أَهْلَ الْحَقِّ فِي سَبِيلٍ وَاحِدٍ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مَنْفِيٌّ عَنْ الشَّرِيعَةِ بِإِطْلَاقٍ.
لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِلَّا وَاحِدَةً))، ثُمَّ يُقَالُ: إِنَّهَا فِرَقٌ وَلَيْسَتْ بِوَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مَنْفِيٌّ عَنِ الشَّرِيعَةِ بِإِطْلَاقٍ، وَالسَّبِيلُ وَاحِدَةٌ، فَالْوَحْدَانِيَّةُ لَا تَقْتَضِي الِافْتِرَاقَ وَلَا التَّبَدُّدَ وَلَا الِانْقِسَامَ.
وَعَلَيْهِ؛ فَإِنَّ إِنْشَاءَ أَيِّ جَمَاعَةٍ فِي الْإِسْلَامِ يُخَالِفُ هَذَا الْإِنْشَاءُ الْإِسْلَامَ بِأَمْرٍ كُلِّيٍّ أَوْ بِجُزْئِيَّاتٍ لَا يَجُوزُ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ عَدَمُ جَوَازِ الِانْتِمَاءِ إِلَيْهِ -أَيْ إِلَى ذَلِكَ التَّحَزُّبِ، إِلَى تِلْكَ الْفِرَقِ، إِلَى تِلْكَ الْجَمَاعَاتِ- بَلْ نَعْتَزِلُ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا.
وَعَلَيْهِ؛ فَلَا يَجُوزُ الِانْصِهَارُ مَعَ رَايَةٍ أُخْرَى تُخَالِفُ رَايَةَ التَّوْحِيدِ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ فِي وَسِيلَةٍ أَوْ غَايَةٍ، فِي أَمْرٍ كُلِّيٍّ أَوْ أَمْرٍ جُزْئِيٍّ.
وَمَعَاذَ اللهِ! أَنْ تَكُونَ الدَّعْوَةُ عَلَى سَنَنِ الْإِسْلَامِ مَظَلَّةً يَدْخُلُ تَحْتَهَا أَيٌّ مِنْ أَهْلِ الْبِدَعِ وَالْأَهْوَاءِ، فَيُغَضُّ النَّظَرُ عَنْ بِدَعِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ عَلَى حِسَابِ الدَّعْوَةِ، وَلَيْسَ أَمَامَنَا إِلَّا الْإِسْلَامُ فِي صَفَائِهِ وَسِيرَتِهِ الْأُولَى عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ وَعَلَى فَهْمِ سَلَفِ الْأُمَّةِ الصَّالِحِ، الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، نُؤْمِنُ بِذَلِكَ، وَنَدْعُو إِلَيْهِ، وَنَعْمَلُ بِهِ، وَلَا نُخَالِفُهُ بِاسْمٍ وَلَا رَسْمٍ وَلَا وَسِيلَةٍ وَلَا غَايَةٍ، وَهُوَ الْمَرَدُّ عِنْدَ التَّنَازُعِ وَعِنْدَ الِاخْتِلَافِ.
وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَالدَّعْوَةُ بِجَمِيعِ مَرَاحِلِهَا مَضْبُوطَةٌ بِرَسْمِ الشَّرْعِ وَبِمَقَايِيسِهِ وَبِمِيزَانِهِ الْعَادِلِ، {وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101].
فَتَعْلَمُ مِنْ هَذَا جَمِيعِهِ حُرْمَةَ الِانْتِمَاءِ إِلَى تِلْكَ الْجَمَاعَاتِ، وَعَدَمُ جَوَازِ الِانْتِمَاءِ إِلَى شَيْءٍ مِنْهَا قَطُّ، وَأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا يَجُرُّ الْوَيْلَاتِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ الْمَرْحُومَةِ، يُمَزِّقُ صُفُوفَ أَبْنَائِهَا، وَيُؤَدِّي إِلَى الْخَلَلِ الْوَاقِعِ عَلَيْهَا، وَيَدْفَعُ بِالذَّرَائِعِ أَهْلَ الشَّرِّ لِإِيقَاعِ الْكُرُوبِ وَالْمُنْكَرِ عَلَيْهَا، فَاللَّهُمَّ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ اهْدِ جَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى صِرَاطِكَ الْمُسْتَقِيمِ.
المصدر:رُوحُ الْعَمَلِ الْجَمَاعِيِّ وَضَوَابِطُهُ