((الْمَوْعِظَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ))
((التَّوْحِيدُ أَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَى الْعَبِيدِ))
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- خَلَقَنَا؛ لِنَعْبُدَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْغَايَةِ أَرْسَلَ اللهُ الْمُرْسَلِينَ, وَنَبَّأَ النَّبِيِّينَ, وَأَنْزَلَ الْكُتُبَ, وَلِأَجْلِ تَحْقِيقِ هَذِهِ الْغَايَةِ قَامَتِ الْمَعْرَكَةُ بَيْنَ جُنْدِ الرَّحْمَنِ وَجُنْدِ الشَّيْطَانِ؛ فَلِأَجْلِ تَوْحِيدِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَلِأَجْلِ إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لِوَجْهِهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كَانَ هَذَا كُلُّهُ.
عِبَادَ اللهِ! التَّوْحِيدُ أَوَّلُ مَا أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ مِنَ الْوَاجِبَاتِ, وَأَوَّلُ أَوَامِرِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ تَوَجَّهَ بِهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي أَوَّلِ أَمْرٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، أَوَّلُ أَمْرٍ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21].
هَذَا أَوَّلُ أَمْرٍ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِهِ، وَأَرْسَلَ لِأَجْلِهِ الرُّسُلَ وَأَنْزَلَ لِأَجْلِهِ الْكُتُبَ، وَلَا يَقْبَلُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- مِنْ أَحَدٍ أَخَلَّ بِهِ عَمَلًا.
((مَعْنَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))
قَالَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ.
فَقَالَ: ((أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا)) .
النَّبِيُّ ﷺ ذَكَرَ أَرْكَانَ الْإِسْلَامِ الْخَمْسَةَ، وَبَدَأَ بِالشَّهَادَتَيْنِ: أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ.
وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّكَ يَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تُقِرَّ إِقْرَارًا جَازِمًا لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَا مِرْيَةَ تَعْتَرِيهِ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ، وَهُوَ الْمَعْبُودُ وَحْدَهُ مِنْ دُونِ جَمِيعِ مَا يُعْبَدُ مِنْ أَصْنَافِ الْخَلْقِ.
((أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))، فَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ مَعْنَاهَا: لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللهُ.
فَكُلُّ مَعْبُودٍ دُونَ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَكُلُّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَعِبَادَتُهُ مَرْدُودَةٌ عَلَى عَابِدِهِ، فَلَا يُعْبَدُ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ.
((أَهَمِّيَّةُ التَّوْحِيدِ وَثَمَرَاتُهُ))
عِبَادَ اللهِ! بَالتَّوحِيدِ يُقْبَلُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَمِنْ غَيْرِ التَّوْحِيدِ لَا يُقْبَلُ عَمَلٌ، كَمَا أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَصِحُّ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ، فَكَذَلِكَ الْأَعْمَالُ لَا تَصِحُّ بِغَيْرِ التَّوْحِيدِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ}[المائِدَة: 36].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 56].
فَقَبُولُ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الصَّالِحَةِ، مُتَوَقِّفٌ عَلَى التَّوْحِيدِ.
التَّوْحِيدُ فِيهِ الْأَمْنُ وَالْأَمَانُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ}: أَيْ بِشِرْكٍ {أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82].
بِالتَّوْحِيدِ تَكُونُ الْعِزَّةُ، وَيَتَحَقَّقُ النَّصْرُ فِي الدُّنْيَا، وَتَكُونُ عِزَّةُ الْمَرْءِ فِي الْآخِرَةِ، كُلُّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ.
{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
{وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عِمْرَان: 139].
فَالْعِزَّةُ وَالنَّصْرُ دُنْيَا وَآخِرَةً لَا يَتَحَقَّقَانِ إِلَّا بِتَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ.
إِنَّ التَّوْحِيدَ يُحَرِّرُ الْعَبْدَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ؛ لِيَكُونَ عَبْدًا للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ.
فَالتَّوْحِيدُ الْمُحَقَّقُ الصَّافِي يُحَرِّرُ الْإِنْسَانَ مِنَ التَّعَلُّقِ بِغَيْرِ اللهِ؛ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَالْآلِهَةِ الْمُدَّعَاةِ الْبَاطِلَةِ.
وَيَجْعَلُ التَّوْحِيدُ الْإِنْسَانَ شَاعِرًا بِعِزَّتِهِ وَكَرَامَتِهِ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهِ فِي تَحْقِيقِ عُبُودِيَّتِهِ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الَّذِي خَلَقَهُ وَبَرَأَهُ وَسَوَّاهُ.
التَّوْحِيدُ يُحَرِّرُ عَقْلَهُ -كَمَا حَرَّرَ قَلْبَهُ-؛ يُحَرِّرُ عَقْلَهُ مِنَ الْخُرَافَاتِ، مِنَ التُّرَّهَاتِ، مِنَ الْخُزَعْبَلَاتِ، حَتَّى لَا يَخَافَ إِلَّا مِنَ اللهِ، وَلَا يَرْجُوَ إِلَّا اللهَ، وَلَا يَتَعَلَّقَ بِغَيْرِ اللهِ، وَهَذِهِ مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ التَّوْحِيدِ وَأَفْضَالِهِ.
وَأَعْظَمُ ثَمَرَةٍ مِنْ ثَمَرَاتِ التَّوْحِيدِ: دُخُولُ الْجَنَّةِ، فَالْجَنَّةُ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا مُوَحِّدٌ، حَرَّمَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ: {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۖ قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} [الطَّلَاق: 11].
عِبَادَ اللهِ! عَلَيْنَا أَنْ نَجْتَهِدَ فِي تَحْقِيقِ التَّوْحِيدِ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ وَكَمَا أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَا يَقْبَلُ مِنْكَ الصَّلَاةَ إِلَّا إِذَا أَتَيْتَ بِشَرْطِ الطَّهَارَةِ؛ فَيَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تُقِرَّ أَنَّ اللهَ لَا يَقْبَلُ مِنْكَ عَمَلًا وَلَا قَوْلًا وَلَا اعْتِقَادًا حَتَّى تَأْتِيَ بِشَرْطِ التَّوْحِيدِ.
((مَعْنَى التَّوْحِيدِ وَأَقْسَامُهُ))
التَّوْحِيدُ -عِبَادَ اللهِ-: هُوَ إِفْرَادُ اللهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.
*تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ: وَهُوَ الْعِلْمُ وَالْإِقْرَارُ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْخاَلِقُ الرَّزَّاقُ الَّذِي يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، وَيُحْيِي ويُمِيتُ.
*وَتَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ: وَهُوَ إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ؛ كَالدُّعَاءِ، وَالنَّذْرِ، وَالذَّبْحِ، وَالِاسْتِغَاثَةِ، وَمَا أَشْبَهَ.
*وَتَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: وَهُوَ إِثْبَاتُ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ لِنَفْسِهِ، أَوْ أَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ ﷺ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ؛ كَمَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ، مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ.
وَتَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ كُلُّهَا مُتَلَازِمَةٌ، كُلُّ نَوْعٍ مِنْهَا لَا يَنْفَكُّ عَنِ الْآخَرِ؛ فَمَنْ أَتَى بِنَوْعٍ مِنْهَا وَلَمْ يَأْتِ بِالْآخَرِ؛ لَمْ يَكُنْ مُوَحِّدًا.
وَقَدِ اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ فِي قَوْلِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَمَا بَينَهُمَا فَاعبُدهُ وَاصطَبِر لِعِبَادَتِهِ هَل تَعلَمُ لَهُ سَمِيًّا}.[مريم:65].
فَقَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَمَا بَينَهُمَا} هَذَا: تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ.
{فَاعبُدهُ وَاصطَبِر لِعِبَادَتِهِ} هَذَا: تَوْحِيدُ الْعِبَادَةِ أَوْ تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ.
{هَل تَعلَمُ لَهُ سَمِيًّا} هَذَا: تَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.
عِبَادَ اللهِ! عَلَيْنَا أَنْ نَعْلَمَ التَّوْحِيدَ، وَأَنْ نَصْبِرَ عَلَى تَعَلُّمِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَغِيظُ الشَّيْطَانَ شَيْءٌ إِلَّا الدَّعْوَةُ إِلَّى تَوْحِيدِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ لِأَنَّ فِيهَا الْخُصُومَةَ؛ وَلِذَلِكَ تَنْزِلُ السَّكِينَةُ فِي مَجَالِسِ تَعْلِيمِ التَّوْحِيدِ.
((تَعَلَّمُوا التَّوْحِيدَ فَإِنِّي أُحِبُّ لَكُمْ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي))
تَعَلَّمُوا التَّوْحِيدَ -عِبَادَ اللهِ- فَإِنِّي أُحِبُّكُمْ فِي اللهِ؛ لِذَا أُرِيدُ لَكُمْ مَا أُرِيدُ لِنَفْسِي، وَأُحِبُّ لَكُمْ مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي.
سَتَجِدُونَ الْحَيَاةَ قَدْ تَغَيَّرَتْ، وَالنَّظْرَةَ إِلَيْهَا قَدْ تَبَدَّلَتْ، وَسَتَخْرُجُ مِنَ التَّشْوِيشِ، سَتَخْرُجُ مِنَ الْفَوْضَى الْفِكْرِيَّةِ إِلَى السَّلَامِ النَّفْسِيِّ، وَالسَّلَامِ الْعَقْلِيِّ، وَالسَّوَاءِ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ وَلَا الْتِوَاءَ.
أَمَّا إِذَا ظَلَّ الْأَبْعَدُ بَعِيدًا عَنْ حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ فَإِنَّهُ مَا يَزَالُ قَلِقًا، وَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.
أَسْأَلُ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَنَا جَمِيعًا مِنَ الْمُوَحِّدِينَ، وَأَنْ يُحَقِّقَنَا بِالتَّوْحِيدِ، وَأَنْ يُحَقِّقَ فِينَا التَّوْحِيدَ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ دُعَاةِ التَّوْحِيدِ، وَأَنْ يَحْشُرَنَا فِي زُمْرَةِ مَنْ جَاءَ بِالتَّوْحِيدِ وَهُوَ سَيِّدُ الْمُوَحِّدِينَ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ﷺ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.