((دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ لِلْقُرْآنِ بِرَمَضَانَ مَزِيدَ اخْتِصَاصٍ؛ فَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ -تَعَالَى- الْقُرْآنَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَلِنُزُولِ الْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ أَوْجَبَ اللهُ -تَعَالَى- صِيَامَهُ.
وَلِلنَّبِيِّ ﷺ بِالْقُرْآنِ فِي رَمَضَانَ مَزِيدُ عِنَايَةٍ وَرِعَايَةٍ، وَمَوْصُولُ تَدَارُسٍ وَتَدَبُّرٍ.
وَلِلْمُسْلِمِ فِي رَسُولِ اللهِ ﷺ الْأُسْوَةُ الْحَسَنَةُ؛ لِأَنَّ تَدَبُّرَ الْقُرْآنِ أَصْلُ صَلَاحِ الْقَلْبِ، وَفَلَاحِهِ، وَثَبَاتِهِ.
وَلَا شَيْءَ مِثْلُهُ فِي تَثْبِيتِ قَوَاعِدِ الْإِيمَانِ فِي الْقَلْبِ، وَإِرْسَاءِ دَعَائِمِهِ؛ «لِأَنَّ اللهَ أَمَرَ بِتَدَبُّرِ كِتَابِهِ، وَالتَّفَكُّرِ فِي مَعَانِيهِ، وَالِاهْتِدَاءِ بِآيَاتِهِ، وَأَثْنَى عَلَى الْقَائِمِينَ بِذَلِكَ، وَجَعَلَهُمْ فِي أَعْلَى الْمَرَاتِبِ، وَوَعَدَهُمْ أَسْنَى الْمَوَاهِبِ.
فَلَوْ أَنْفَقَ الْعَبْدُ جَوَاهِرَ عُمُرِهِ فِي هَذَا التَّدَبُّرِ؛ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَثِيرًا فِي جَنْبِ مَا هُوَ أَفْضَلُ الْمَطَالِبِ، وَأَعْظَمُ الْمَقَاصِدِ، وَأَصْلُ الْأُصُولِ كُلِّهَا، وَقَاعِدَةُ أَسَاسِ السَّعَادَةِ فِي الدَّارَيْنِ، وَصَلَاحُ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَانَتْ حَيَاةُ الْعَبْدِ زَاهِرَةً بِالْهُدَى وَالْخَيْرِ وَالرَّحْمَةِ، وَطِيبِ الْحَيَاةِ، وَالْبَاقِيَاتِ الصَّالِحَاتِ» .
قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: ((لَيْسَ شَيْءٌ أَنْفَعَ لِلْعَبْدِ فِي مَعَاشِهِ وَمَعَادِهِ وَأَقْرَبَ إِلَى نَجَاتِهِ مِنْ تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، وَإِطَالَةِ التَّأَمُّلِ، وَجَمْعِ الْفِكْرِ عَلَى مَعَانِي آيَاتِهِ؛ فَإِنَّهَا تُطْلِعُ الْعَبْدَ عَلَى مَعَالِمِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ بِحَذَافِيرِهِمَا، وَعَلَى طُرُقَاتِهِمَا، وَأَسْبَابِهِمَا، وَغَايَاتِهِمَا، وَثَمَرَاتِهِمَا، وَمَآلِ أَهْلِهِمَا، وَتَتُلُّ فِي يَدِهِ –أَيْ: تَجْعَلُ مُسْتَقِرًّا فِي يَدِهِ- مَفَاتِيحَ كُنُوزِ السَّعَادَةِ وَالْعُلُومِ النَّافِعَةِ.
وَتُثَبِّتُ قَوَاعِدَ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ، وَتُشَيِّدُ بُنْيَانَهُ، وَتُوَطِّدُ أَرْكَانَهُ، وَتُرِيهِ صُورَةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ فِي قَلْبِهِ، وَتُحْضِرُهُ بَيْنَ الْأُمَمِ، وَتُرِيهِ أَيَّامَ اللَّهِ فِيهِمْ.
وَتُبَصِّرُهُ مَوَاقِعَ الْعِبَرِ، وَتُشْهِدُهُ عَدْلَ اللَّهِ وَفَضْلَهُ، وَتُعَرِّفُهُ ذَاتَهُ، وَأَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ، وَأَفْعَالَهُ، وَمَا يُحِبُّهُ وَمَا يُبْغِضُهُ، وَصِرَاطَهُ الْمُوصِلَ إِلَيْهِ، وَمَا لِسَالِكِيهِ بَعْدَ الْوُصُولِ وَالْقُدُومِ عَلَيْهِ، وَقَوَاطِعَ الطَّرِيقِ وَآفَاتِهَا.
وَتُعَرِّفُهُ النَّفْسَ وَصِفَاتِهَا، وَمُفْسِدَاتِ الْأَعْمَالِ وَمُصَحِّحَاتِهَا، وَتُعَرِّفُهُ طَرِيقَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَهْلِ النَّارِ، وَأَعْمَالَهُمْ، وَأَحْوَالَهُمْ، وَسِيمَاهُمْ، وَمَرَاتِبَ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَهْلِ الشَّقَاوَةِ، وَأَقْسَامَ الْخَلْقِ، وَاجْتِمَاعَهُمْ فِيمَا يَجْتَمِعُونَ فِيهِ، وَافْتِرَاقَهُمْ فِيمَا يَفْتَرِقُونَ فِيهِ.
وَفِي تَأَمُّلِ الْقُرْآنِ، وَتَدَبُّرِهِ، وَتَفَهُّمِهِ أَضْعَافُ أَضْعَافِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْحِكَمِ وَالْفَوَائِدِ.
وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَهُوَ أَعْظَمُ الْكُنُوزِ، طِلَّسْمُهُ -أَيْ: الْمُزِيلُ لِغُمُوضِهِ، الْمُوَضِّحُ لِمَعَانِيهِ، الْمُفَسِّرُ لِمُبْهَمِهِ- الْغَوْصُ بِالْفِكْرِ إِلَى قَرَارِ مَعَانِيهِ».
فَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ نَتَعَامَلَ مَعَ الْقُرْآنِ؛ خَاصَّةً فِي الشَّهْرِ الَّذِي أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ الْقُرْآنَ؛ وَإِلَّا مَا اسْتَفَدْنَا مِنْهُ مَا نَرْجُوهُ، وَمَا حَقَّقْنَا مِنْهُ مَا نَطْلُبُهُ، وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
إِنَّ مِمَّا تَزْكُو بِهِ النَّفْسُ، وَيَزِيدُ بِهِ الْإِيمَانُ: الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ، وَقَدْ جَعَلَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَوْصُولَةً، وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ لِهَذِهِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي افْتَرَضَ عَلَيْنَا وَالَّتِي نَدَبَ إِلَيْهَا نَبِيُّنَا ﷺ؛ جَعَلَ لَهَا مَرْدُودًا فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَفِي تَطْهِيرِهَا، وَبُعْدِهَا عَمَّا يُشِينُهَا دُنْيَا وَآخِرَةً.
وَمَا تَقَرَّبَ الْعَبْدُ بِشَيْءٍ إِلَى اللهِ بِمِثْلِ كَلَامِهِ، الْقُرْآنُ كَلَامُ اللهِ، وَكَلَامُ اللهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقُرْآنِ وَكَلَامِ النَّاسِ كَالْفَرْقِ بَيْنَ الْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ، فَمَنْ قَدَّرَ الْقُرْآنَ قَدْرَهُ، وَمَنْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ فَأَشْبَعَ بِهِ قَلْبَهُ وَنَفْسَهُ؛ زَكَّاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
وَإِنَّ مِنْ أَعْمَالِ هَذَا الشَّهْرِ: الِاجْتِهَادَ فِي قِرَاءَةِ القُرْآنِ؛ فَقَدْ ((كَانَ جِبْرِيلُ يُدَارِسُ النَّبِيَّ ﷺ القُرْآنَ فِي رَمَضَانَ)) .
فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقْبِلُوا عَلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِتِلَاوَةِ كِتَابَهِ الْعَظِيمِ، وَالتَّفَقُّهِ فِي مَرَامِيهِ، وَالنَّظَرِ فِي زَوَاجِرِهِ، وَالِاتِّعَاظِ بِمَوَاعِظِهِ، وَتَطْبِيقِ أَوَامِرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَالْقِيَامِ عَلَيْهِ، مَعَ الصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى فِيهِ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّهْرَ هُوَ شَهْرُ الْقُرْآنِ، أَنْزَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِيهِ الْقُرْآنَ، فَهَذَا شَهْرُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.
وَالرَّسُولُ ﷺ كَانَ يَأْتِيهِ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي رَمَضَانَ؛ لِيُدَارِسَهُ الْقُرْآنَ، كَمَا أَخْبَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «كَانَ النَّبِيُّ ﷺ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ -وَفِي رِوَايَةٍ بِالنَّصْبِ: أَجْودَ - مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ؛ إِذْ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي رَمَضَانَ، فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ؛ فَلَرَسُولُ اللهِ ﷺ أَجْوَدُ بِالْخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ ﷺ » .
وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنَ الدُّرُوسِ وَالْعِظَاتِ مِنْ تَفْسِيرِ آيَاتِ كِتَابِ اللهِ الْعَظِيمِ، نَسْأَلُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَنْ يُبَارِكَ لَنَا فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ.
اللَّهُمَّ افْتَحْ لَنَا فِي الْقُرْآنِ فَتْحًا مُبَارَكًا.
وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
((الدَّرْسُ الْأَوَّلُ:
رَمَضَانُ شَهْرُ الْقُرْآنِ وَالصِّيَامِ))
المصدر: دُرُوسٌ وَعِظَاتٌ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ-الجزء الأول