((مُحَاسَبَةُ النَّفْسِ دَوَاءُ الْقَلْبِ الْمَرِيضِ وَالنَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ))
فِي هَذِهِ الرِّيَاحِ الْهُوجِ، الَّتِي هِيَ بِمَهَابِّهَا، تُطَوِّحُ بِالْقُلُوبِ، وَتَطِيرُ بِهَا كُلَّ صَوْبٍ، وَتَتْبَعُ بِهَا كُلَّ حَدْبٍ، فِي هَذَا الشَّأْنِ يَنْبَغِي عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَتَأَمَّلَ فِي حَالِ قَلْبِهِ، وَمَا أَنْذَرَ عِلْمَ الْقُلُوبِ! فَإِنَّ النَّاسِ فِي غَفْلَةٍ -إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا--، فَأَقْبَلَ عَلَى قَلْبِهِ مُفَتِّشًا، وَفِي أَطْوَاءِ ضَمِيرِهِ مُنَقِّبًا؛ لِيَنْظُرَ مَا انْطَوَى عَلَيْهِ قَلْبُهُ، وَمَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ فُؤَادُهُ، وَلِيَتَأَمَّلَ فِي حَالِهِ، أَمُرْضٍ هُوَ لِرَبِّهِ بِفِعَالِهِ وَقَالِهِ، أَمْ هُوَ عَابِدٌ لِهَوَاهُ؟!!
وَالنَّفْسُ قَدْ تَكُونُ أَمَّارَةً، وَتَارَّةً لَوَّامَةً، وَتَارَةً مُطْمَئِنَّةً، بَلْ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ وَالسَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ؛ يَحْصُلُ مِنْهَا هَذَا وَهَذَا، وَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ عَلَيْهَا مِنْ أَحْوَالِهَا، فَكَوْنُهَا مُطْمَئِنَّةً وَصْفُ مَدْحٍ لَهَا، وَكَوْنُهَا أَمَّارَةً بِالسُّوءِ وَصْفٌ ذَمٍّ لَهَا، وَكَوْنُهَا لَوَّامَةً يَنْقَسِمُ إِلَى الْمَدْحِ وَالذَّمِّ، بِحَسَبِ مَا تَلُومُ عَلَيْهِ.
مَرَضُ الْقَلْبِ بِاسْتِيَلَاءِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ عَلَيْهِ، لَهُ عِلَاجَانِ:
مُحَاسَبَتُهَا وَمُخَالَفَتُهَا.
عَلَى الْمَرْءِ أَنْ ينظرَ فِي نَفْسِهِ أَمُطْمَئِنَّةٌ هِيَ؟
أَلَوَّامَةٌ؟
أَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ؟
فِي أَيِّ قِسْمٍ نَفْسُهُ قَدْ اسْتَقَرَّتْ؟
وَهِيَ لَا تَسْتَقِرُّ فِي قِسْمٍ أَبَدًا، فَتَارَةً تَكُونُ مُطْمَئِنَّةً، وَتَارَةً تَكُونُ لَوَّامَةً، وَتَارَةً تَكُونَ أَمَّارَةً بِالسُّوءِ.
وَمَرَضُ الْقَلْبِ بِاسْتِيلَاءِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ عَلَيْهِ، لَهُ عِلَاجَانِ:
مُحَاسَبَتُهَا وَمُخَالَفَتُهَا، وَهَلَاكُ الْقَلْبِ مِنْ إِهْمَالِ مُحَاسَبَتِهَا، وَمِنْ مُوَافَقَتِهَا وَاتِّبَاعِ هَوَاهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ((الزُّهْدِ))، عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ قَالَ: ((حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، فَإِنَّهُ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ فِي الْحِسَابِ غَدًا؛ أَنْ تُحَاسِبُوا أَنْفُسَكَمُ الْيَوْمَ، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ)).
وَذَكَرَ -أَيْضًا- عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: ((لَا تَلْقَى الْمُؤْمِنَ إِلَّا يُحَاسِبُ نَفْسَهُ، مَا أَرَدْتُ بِكَلِمَتِي؟ مَا أَرَدْتُ بِأَكْلَتِي؟ مَا أَرَدْتُ بِشَرْبَتِي؟
وَالْفَاجِرُ يَمْضِي قُدُمَا، لَا يُحَاسِبُ نَفْسَهُ)).
لَا تَلْقَى الْمُؤْمِنَ إِلَّا يُحَاسِبُ نَفْسَهُ، وَأَمَّا الْفَاجِرُ فَيَمْضِي قُدُمًا!!
إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَضَاعَ نَفْسَهُ وَظَلَمَهَا؛ ضَيَّعَ حَظَّهَا مِنْ رَبِّهَا.
قَالَ الْحَسَنُ: ((إِنَّ الْعَبْدَ لَا يَزَالُ بِخَيْرٍ، مَا كَانَ لَهُ وَاعِظٌ مِنْ نَفْسِهِ، وَكَانَتِ الْمُحَاسَبَةُ مِنْ هِمَّتِهِ)).
وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: ((لَا يَكُونُ الْعَبْدُ تَقِيًّا، حَتَّى يَكُونَ لِنَفْسِهِ أَشَدَّ مُحَاسَبَةً مِنَ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ))؛ وَلِهَذَا قِيلَ: ((النَّفْسُ كَالشَّرِيكِ الْخَوَّانِ، إِنْ لَمْ تُحَاسِبْهُ ذَهَبَ بِمَالِكَ)).
وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ -أَيْضًا-: ((التَّقِيُّ أَشَدُّ مُحَاسَبَةً لِنَفْسِهِ مِنْ سُلْطَانٍ عَاضٍّ، وَمِنْ شَرِيكٍ شَحِيحٍ)).
وَذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ وَهْبٍ, قَالَ: ((مَكْتُوبٌ ((فِي حِكْمَةِ آلِ دَاوُدَ)): ((حَقٌّ عَلَى الْعَاقِلِ أَنْ لا يَغْفَلَ عَنْ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ:
سَاعَةٍ يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وَسَاعَةٍ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ، وَسَاعَةٍ يَخْلُو فِيهَا مَعَ إِخْوَانِهِ الَّذِينَ يُخْبِرُونَهُ بِعُيُوبِهِ وَيَصْدُقُونَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَسَاعَةٍ يُخَلِّي بَيْنَ نَفْسِهِ وَبَيْنَ لَذَّاتِهَا فِيمَا يَحِلُّ وَيَجْمُلُ؛ فَإِنَّ في هَذِهِ السَّاعَةِ عَوْنًا عَلَى تِلكَ السَّاعَاتِ، وَإِجْمَامًا لِلْقُلُوبِ)).
وَكُلُّ السَّائِرِينَ إِلَى اللهِ، مُجْمِعُونَ عَلَى أَنَّ مُرَاقَبَةَ اللهِ تَعَالَى فِي الْخَوَاطِرِ، سَبَبٌ لِحِفْظِهَا فِي حَرَكَاتِ الظَّوَاهِرِ، فَمَنْ رَاقَبَ اللهَ فِي سِرِّهِ، حَفِظَهُ اللهُ فِي حَرَكَاتِهِ فِي سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ.
المصدر: محاسبة النفس