عَقِيدَتُنَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ


 ((عَقِيدَتُنَا فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ))

مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ أَنَّهُ كَلَامُ اللهِ مُنَزَّلٌ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، مِنْهُ بَدَا وَإِلَيْهِ يَعُودُ.

وَمَعْنَى (مِنْهُ بَدَا)؛ أَيْ: أَنَّهُ هُوَ الْمُتَكَلِّمُ بِهِ، لَمْ يَخْلُقْهُ فِي غَيْرِهِ كَمَا قَالَتِ الْجَهْمِيَّةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَنَّهُ بَدَأَ مِنْ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ كَالشَّجَرَةِ الَّتِي كَلَّمَ اللهُ عِنْدَهَا مُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يَقُمْ بِهِ كَلَامٌ.

وَمَعْنَى (إِلَيْهِ يَعُودُ)؛ أَنَّهُ يُرْفَعُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، فَلَا يَبْقَى مِنْهُ حَرْفٌ فِي الْمَصَاحِفِ، وَلَا آيَةٌ فِي الْقُلُوبِ.

فِي فَاتِحَةِ النِّعَمِ الَّتِي عَدَّدَهَا اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَلَى عِبَادِهِ أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- ذَكَّرَ النَّاسَ بِتَعْلِيمِهِمُ الْقُرْآنَ {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآَنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)}

[الرحمن: ١-٤]

فَفِي فَاتِحَةِ تَعْدَادِ النِّعَمِ يَذْكُرُ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ الَّذِي هُوَ كَلَامُهُ حَقِيقَةً, كَمَا أَخْبَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِهِ الْعَظِيمِ بِنَفْسِهِ, فَقَالَ  -جَلَّ وَعَلَا- مُخَاطِبًا نَبِيَّهُ ﷺ {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [ التوبة: ٦ ]

{حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، فَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَقِيقَةً.

 وَأَصْحَابُ النَّبِيِّ ﷺ تَعَامَلُوا مَعَ صِفَاتِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- الَّتِي ذَكَرَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ بِأَنْ أَخَذُوهَا كَمَا وَرَدَتْ, فَأَثْبَتُوا لَهَا مَعَانِيَهَا الَّتِي تَلِيقُ بِجَلَالِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَنَزَّهُوا اللهَ-جَلَّ وَعَلَا- عَنْ كُلِّ نَقْصٍ, وَأَثْبَتُوا لِلَّهِ -جَلَّ وَعَلَا- مَا أَثْبَتَهُ اللهُ لِنَفْسِهِ مِنَ الصِّفَاتِ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ ﷺ مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ وَلَا تَجْسِيمٍ وَلَا تَأْوِيلٍ وَلَا تَعْطِيلٍ؛ لِأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- أَدْرَى وَأَعْلَمُ بِذَاتِهِ الْمُقَدَّسَةِ, وَرَسُولُهُ ﷺ أَعْلَمُ بِهِ سبحانه مِنْ كُلِّ خَلْقِهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-.

 فَإِذَا وَصَفَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- نَفْسَهُ بِصِفَةٍ فَيَنْبَغِي لَنَا أَنْ نُثْبِتَ لِلَّهِ مَا أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ, وَإِذَا أَثْبَتَ النَّبِيُّ ﷺ لِرَبِّهِ صِفَةً فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نُثْبِتَ لِلَّهِ مَا أَثْبَتَهُ لَهُ نَبِيُّهُ ﷺ.

قَالَ الطَّحَاوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- : ((وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ، مِنْهُ بَدَأَ بِلَا كَيْفِيَّةٍ قَوْلًا، وَأَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ وَحْيًا، وَصَدَّقَهُ الْمُؤْمِنُونَ عَلَى ذَلِكَ حَقًّا، وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ كَلَامُ اللهِ تَعَالَى بِالْحَقِيقَةِ، لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ كَكَلَامِ الْبَرِيَّةِ)).

وَقَالَ ابْنُ أَبِي زَمَنِينَ : ((وَمِنْ قَوْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ: إِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ وَتَنْزِيلُهُ، لَيْسَ بِخَالِقٍ وَلَا مَخْلُوقٍ، مِنْهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بَدَأَ، وَإِلَيْهِ يَعُودُ)).

وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ وَتَنْزِيلُهُ مِنْهُ بَدَأَ وَإِلَيْهِ يَعُودُ، هُوَ قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ)).

هُوَ يُشِيرُ بِذَلِكَ لِإِجْمَاعِهِمْ، فَهُمْ مُجْمِعُونَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْكَبِيرَةِ.

وَالْأَمْرُ كَمَا قَالَ الْإِمَامُ اللَّالَكَائِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- بَعْدَ أَنْ سَاقَ أَقْوَالَ الْأَئِمَّةِ فِي كَوْنِ كَلَامِ اللهِ غَيْرَ مَخْلُوقٍ، قَالَ : ((فَهَؤُلَاءِ خَمْسُمِئَةٍ وَخَمْسُونَ نَفْسًا أَوْ أَكْثَرُ مِنَ التَّابِعِينَ، وَأَتْبَاعِ التَّابِعِينَ، وَالْأَئِمَّةِ الْمَرْضِيِّينَ، سِوَى الصَّحَابَةِ الْخَيِّرِينَ، عَلَى اخْتِلَافِ الْأَعْصَارِ، وَمُضِيِّ السِّنِينَ وَالْأَعْوَامِ، وَفِيهِمْ نَحْوٌ مِنْ مِئَةِ إِمَامٍ مِمَّنْ أَخَذَ النَّاسُ بِقَوْلِهِمْ، وَتَدَيَّنُوا بِمَذَاهِبِهِمْ، وَلَوِ اشْتَغَلْتُ بِنَقْلِ قَوْلِ الْمُحَدِّثِينَ لَبَلَغَتْ أَسْمَاؤُهُمْ أُلُوفًا كَثِيرَةً))، وَكُلُّهُمْ عَلَى هَذِهِ الْعَقِيدَةِ: أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-.

أَئِمَّةُ السُّنَّةِ يُثْبِتُونَ أَنَّ مُسَمَّى الْكَلَامِ وَهُوَ اللَّفْظُ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا-، وَأَنَّ الْكَلَامَ لَيْسَ هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمَ بِالنَّفْسِ.

كَيْفَ نُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ؟!

نَحْنُ نُؤْمِنُ بِأَنَّهُ كَلَامُ اللهِ، غَيْرُ مَخْلُوقٍ، مِنْهُ بَدَأَ، وَإِلَيْهِ يَعُودُ، أَنْزَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِوَاسِطَةِ جِبْرِيلَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَأَنَّهُ بِحَرْفٍ وَصَوْتٍ، وَأَنَّ اللهَ تَكَلَّمَ بِهِ حَقِيقَةً، وَلَيْسَ بِالْكَلَامِ النَّفْسِيِّ كَمَا يَقُولُ أَهْلُ الضَّلَالِ. نُؤْمِنُ بِهَذَا كُلِّهِ، وَنُؤْمِنُ أَيْضًا بِأَنَّنَا يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَتَّبِعَ مَا وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مِمَّا كَلَّفَنَا اللهُ بِهِ، فَالْعَمَلُ بِالْقُرْآنِ دَاخِلٌ فِي الْإِيمَانِ بِهِ.

وَنُؤْمِنُ بِأَنَّ الْقُرْآنَ نَسَخَ أَحْكَامَ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ، وَمِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى نَسْخِ الْقُرْآنِ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْكُتُبِ قَوْلُهُ تَعَالَى آمِرًا نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالْقُرْآنِ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة: 48].

الْإِيمَانُ بِالْكُتُبِ يَكُونُ بِالِاعْتِقَادِ وَالْقَوْلِ وَالْعَمَلِ؛ بِالِاعْتِقَادِ: أَيْ بِالْإِقْرَارِ بِأَنَّ هَذِهِ الْكُتُبَ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَأَنَّ اللهَ تَكَلَّمَ بِهَا حَقِيقَةً، وَأَنْ يُصَدِّقَ بِمَا صَحَّ مِنْ أَخْبَارِهَا إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالِاعْتِقَادِ. فَهَذَا بِالِاعْتِقَادِ.

وَأَمَّا بِالْعَمَلِ: فَيَكُونُ بِالْعَمَلِ بِمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ؛ لِأَنَّ الْقُرْآنَ نَاسِخٌ لِلْكُتُبِ السَّابِقَةِ، وَقَدْ دَخَلَ فِي الْكُتُبِ السَّابِقَةِ التَّبْدِيلُ وَالتَّحْرِيفُ.

فَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ عَامِلًا بِكِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَهَذَا مِنَ الْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ، أَنْ تَعْمَلَ بِمَا فِيهِ، أَلَّا تُهْمِلَهُ، وَأَلَّا تَجْعَلَهُ خَلْفَ ظَهْرِكَ، وَدَبْرَ أُذُنِكَ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تَجْتَهِدَ فِي فَهْمِهِ، وَفِي الْعَمَلِ بِأَحْكَامِهِ، وَالنَّظَرِ فِي زَوَاجِرِهِ وَمَوَاعِظِهِ؛ يَعْنِي: أَنْزَلَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِيُتْدَبَّرَ وَلِيُعْمَلَ بِهِ.

فَهَذَا مِنَ الْإِيمَانِ بِالْكِتَابِ الْمَجِيدِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ سِوَى هَذِهِ لَكَفَى؛ لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُؤْمِنُ بِالْقُرْآنِ وَلَا يَلْحَظُ هَذَا الْمَعْنَى الْكَبِيرَ، وَهُوَ: أَنَّهُ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَكُونَ مُحَقِّقًا لِلْإِيمَانِ بِكِتَابِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، فَيَنْبَغِي عَلَيْكَ أَنْ تَكُونَ عَامِلًا بِهَذَا الْكِتَابِ الْمَجِيدِ.

 

المصدر:الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ وَأَثَرُهُ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَتَرْسِيخِ الْقِيَمِ الْأَخْلَاقِيَّةِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  الدرس الثامن والعشرون : «الاسْتِغْفَــــارُ وَالتَّوْبَةُ»
  ضَرُورَةُ مَعْرِفَةِ الْبُيُوعِ الْمُحَرَّمَةِ
  إِسْهَامَاتُ الْعَمَلِ التَّطَوُّعِي فِي خِدْمَةِ الْمُجْتَمَعِ
  دَرَجَاتُ الْعَطَاءِ لِلْوَطَنِ
  مَنَازِلُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-
  صَلَاحُ الْمُجْتَمَعِ يَبْدَأُ بِصَلَاحِ الْفَرْدِ وَالْأُسْرَةِ
  مَسْئُولِيَّةُ الْمُسْلِمِ تِجَاهَ أَخِيهِ
  مُلْكٌ عَظِيمٌ لَا يُسَاوِي شَرْبَةَ مَاءٍ!!
  اِنْتِصَارَاتُ الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ فِي الْعَصْرِ الْحَاضِرِ، وَتَحَدِّيَاتُ الْمُسْتَقْبَلِ
  انْتِصَارَاتُ الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ بَيْنَ الْمَاضِي وَالْحَاضِ
  نَمَاذِجُ لِلْإِيجَابِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ
  آثَارٌ عَظِيمَةٌ وَثَمَرَاتٌ جَلِيلَةٌ لِلْإِيمَانِ عَلَى الْمُجْتَمَعِ وَالْأُمَّةِ
  الْأَمَلُ وَالتَّفَاؤُلُ فِي السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ
  الْمَوْعِظَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُونَ : ((بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ))
  الْآمَالُ وَالْبُشْرَيَاتُ فِي نَصْرِ الْأُمَّةِ وَعَوْدَةِ مَجْدِهَا
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان