«خَصَائِصُ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ»
عَشْرُ رَمَضَانَ الْأَخِيرَةُ فِيهَا الْخَيْرَاتُ، وَفِيهَا الْأُجُورُ الْكَثِيرَةُ، وَفِيهَا الْفَضَائِلُ الْمَشْهُورَةُ، وَالْخَصَائِصُ الْعَظِيمَةُ.
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ؛ إِلَّا أَنْ يَكُونَ ﷺ مُسَافِرًا فِي جِهَادٍ فِي سَبِيلِ اللهِ لِغَزْوٍ، لِالْتِمَاسِ مَرْضَاةِ اللهِ.
فَالِاعْتِكَافُ سُنَّةٌ مِنَ السُّنَنِ الثَّابِتَةِ، دَلَّ عَلَيْهَا كِتَابُ رَبِّنَا، وَسُنَّةُ نَبِيِّنَا، وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ.
وَالْمَقْصِدُ الْأَجَلُّ: تَفْرِيغُ الْقَلْبِ لِلْعُكُوفِ عَلَى الْعِبَادَةِ وَالذِّكْرِ؛ لِالْتِمَاسِ الْأَجْرِ بِتَحَرِّي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَبِالْبُعْدِ عَنِ الدُّنْيَا بِكُلِّ مَا فِيهَا مِنْ مَآسِيهَا وَمَبَاهِرِهَا، بِكُلِّ مَا يَشْغَلُ الْقَلْبَ عَنِ الرَّبِّ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَصِرَاطِهِ الْمُسْتَقِيمِ وَطَلَبِ الْآخِرَةِ.
وَفِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَهِي خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.
فَعَشْرُ رَمَضَانَ الْأَخِيرَةُ فِيهَا الْخَيْرَاتُ وَالْأُجُورُ الْكَثِيرَةُ، وَفِيهَا الْفَضَائِلُ الْمَشْهُورَةُ، وَالْخَصَائِصُ الْعَظِيمَةُ، وَمِنْهَا:
*أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهَا، وَهَذَا شَامِلٌ لِلْاجِتْهَادِ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ؛ مِنْ صَلَاةٍ، وَتِلَاوَةٍ، وَذِكْرٍ، وَصَدَقَةٍ، وَغَيْرِهَا.
*وَمِنْ خَصَائِصِ الْعَشْرِ: أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ كَانَ يُوقِظُ أَهْلَهُ فِي الْعَشْرِ لِلصَّلَاةِ.
«أَيقَظَ أَهْلَهُ...أَحْيَا لَيْلَهُ»: كَأَنَّ اللَّيْلَ كَانَ مَوَاتًا؛ بَلْ كَانَ، إِذْ لَا يُذْكَرُ فِيهِ اللهُ، فَإِذَا عُبِدَ فِيهِ اللهُ؛ حَيِيَ.
«أَحْيَا لَيْلَهُ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ» لِلصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ؛ حِرْصًا عَلَى اغْتِنَامِ هَذِهِ اللَّيَالِي الْمُبَارَكَةِ؛ لِأَنَّهَا فُرْصَةُ الْعُمُرِ، وَغَنِيمَةٌ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللهُ.
وَمِنَ الْخُسْرَانِ الْعَظِيمِ وَالْحِرْمَانِ الْكَبِيرِ: أَنْ يُمْضِيَ الْمُسْلِمُونَ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّمِينَةِ فِي اللَّهْوِ البَاطِلِ، وَالْعَبَثِ الْفَاجِرِ، وَاللَّغْوِ الزَّائِلِ، وَهَذَا مِنْ تَلَاعُبِ الشَّيْطَانِ بِهِمْ، وَمِنْ مَكْرِهِ بِهِمْ، وَصَدِّهِ إِيَّاهُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَمِنْ إِغْوَائِهِ لَهُمْ، وَقَدْ قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا- لِلشَّيْطَانِ اللَّعِينِ: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيسَ لَكَ عليهمْ سُلطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الغَاوِينَ﴾ [الحجر: 42].
فَمَنْ تَبِعَ الْغَاوِي؛ فَهُوَ غَاوٍ، مَنْ اتَّبَعَ الْغَوِيَّ؛ فَهُوَ غَوِيٌّ، وَمَنْ اتَّبَعَ الشَّيْطَانَ فَهُوَ مِنَ الْغَاوِينَ، كَمَا قَالَ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
فَمِنَ الْخُسْرَانِ الْمُبِينِ، مِنَ الْخَسَارَةِ الْفَادِحَةِ: أَنْ تُمَضَّى الْأَوْقَاتُ فِي لَيَالِ الْعَشْرِ فِي اللَّهْوِ البَاطِلِ.
وَقَدْ تَكَالبَ الْمُنْحَرِفُونَ وَالْمُنْحَرِفَاتِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مَخَادِعِهِمْ؛ لِيَشْغَلُوهُمْ عَن الْعِبَادَةِ وَالْتِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ، وَلِيُغْرُوهُم بِالنَّظَرِ وَالِاسْتِمَاعِ إِلَى كُلِّ مَا حَرَّمَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- مِمَّا هُوَ فُسُوقٌ مَحْضٌ، وَزَيفٌ صِرْفٌ، وَمَعْصِيَةٌ بَحْتٌ.
*سُنَّةُ الِاعْتِكَافِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، وَالْتِمَاسُ لَيلَةِ القَدْرِ فِيهَا:
*مِنْ خَصَائِصِ الْعَشْرِ: الِاعْتِكَافُ فِيهَا، وَالِاعْتِكَافُ سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَبِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ.
وَقَدْ اعْتَكَفَ النَّبِيُّ ﷺ، وَاعْتَكَفَ مَعَهُ أَصْحَابُهُ وَبَعْدَهُ؛ فَاعْتَكَفُوا مَعَهُ، وَاعْتَكَفُوا بَعْدَهُ ﷺ، وَرَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.
أَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» بِسَنَدِهِ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: «اعْتَكَفَ رَسُولُ اللهِ ﷺ العَشْرَ الْأَوسَطَ مِنْ رَمَضَانَ، يَلتَمِسُ لَيلَةَ القَدْرِ قَبْلَ أَنْ تُبَانَ لَهُ -أَيْ: قَبْلَ أَنْ تُظْهَرَ لَهُ-.
فَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَوْسَطَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ -أَيْ: فِي عَامِ-، يَلتَمِسُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ قَبْلَ أَنْ تُبَانَ لَهُ، فَلَمَّا انْقَضَيْنَ -يَعْنِي: الْعَشْرَ الْأَوسَطَ- أَمَرَ بِالبِنَاءِ فَقُوِّضَ -أَيْ: أُزِيلَ، يَعْنِي: الْخِبَاءَ الَّذِي كَانَ يَعْتَكِفُ فِيهِ ﷺ يُضْرَبُ لَهُ فِي الْمَسْجِدِ-، فَلَمَّا انْقَضَيْنَ؛ أَمَرَ بِالبِنَاءِ فَقُوِّضَ-أَيْ: أُزِيلَ-.
ثُمَّ أُبِينَتْ لَهُ أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ، فَأَمَرَ بِالبِنَاءِ -أَيْ: الْخِبَاءَ- فَأُعِيدَ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَىَ النَّاسِ، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ؛ إِنَّهَا كَانَتْ أُبِينَتْ لِيَ لَيْلَةُ القَدْرِ، وَإِنِّي خَرَجْتُ لَأُخْبِرَكُمْ بِهَا، فَجَاءَ رَجُلَانِ يَحْتَقَّانِ -أَيْ: كُلٌّ يَدَّعِي أَنَّ الْحَقَّ لَهُ-».
وَفِي رِوَايَةٍ: «يَتَلَاحَيَانِ»: كُلٌّ قَدْ أَمْسَكَ بِلِحْيَةِ صَاحِبِهِ.
وَفِي رِوَايَةٍ: «يَسْتَبَّانِ».
«مَعَهُمَا الشَّيْطَانُ، فَنُسِّيتُهَا، فَالْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، الْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالخَامِسَةِ».
«فَجَاءَ رَجُلَانِ يَحْتَقَّانِ مَعَهُمَا الشَّيطَانُ؛ فَنُسِّيتُهَا، أو فَأُنْسِيتُها».
أَيْ: نُسِّيَ تَحْدِيدَ عِلْمِهَا بِقَطْعٍ وَيَقِينٍ، لَا أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ.
وَهَذَا مِنْ شُؤْمِ الْخِصَامِ وَالْخِلَافِ وَالْجِدَالِ: «فَجَاءَ رَجُلَانِ يَحْتَقَّانِ...يَسْتَبَّانِ... يَتَلَاحَيَانِ، مَعَهُمَا الشَّيطَانُ؛ فَأُنْسِيتُها».
فَكَمْ مِنَ الْخَيْرِ يُرْفعُ لِوُقُوعِ الْخِصَامِ وَالْخِلَافِ وَالْجِدَالِ، وَالْمُنَاقَرَةِ كَمُنَاقَرَةِ الدُّيُوكِ؟!!
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالخَامِسَةِ».
بَيَّنَ أَبُو سَعِيدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ التَّاسِعَةَ هِيَ: الثَّانِيَةُ وَالْعُشْرُونَ، وَالسَّابِعَةُ هِيَ: الرَّابِعَةُ وَالْعُشْرُونَ، وَالْخَامِسَةُ هِيَ: السَّادِسَةُ وَالعُشْرُونَ.
فَفَهِمَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ قَدْ تَكُونُ فِي الْأَشْفَاعِ كَمَا تَكُونُ فِي الْأَوْتَارِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-.
«فِي تَاسِعَةٍ تَبْقَىَ، فِي سَابِعَةٍ تَبْقَىَ، فِي خَامِسَةٍ تَبْقَىَ، فِي ثَالِثَةٍ تَبْقَى»، إِذَا كَانَ الشَّهْرُ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ.
وَإِذَا كَانَ الشَّهْرُ ثَلَاثِينَ؛ فَيَصْدُقُ أَنْ تَكُونَ فِي الْأَوْتَارِ، كَمَا يَصْدُقُ أَنْ تَكُونَ فِي الْأَشْفَاعِ.
وَعَلَيْهِ؛ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُصِيبَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ كُلِّهَا مِنْ غَيْرِ مَا تَمْيِيزٍ، وَإِنْ خَصَّ الْأَوْتَارَ بِمَزِيدِ عِنَايَةٍ فَلَا بَأْسَ؛ لِدَلَالَةِ النُّصُوصِ عَلَى ذَلِكَ.
المصدر:فَضْلُ العَشْرِ الأَوَاخِرِ ولَيلَةِ القَدْرِ وَأَحْكَامُ زَكَاةِ الفِطْرِ