المَوْعِظَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ
((جُمْلَةٌ مِنْ أُصُولِ الْعَقِيدَةِ لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ(1) ))
الْحَمْدُ للهِ وَحْدَهُ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَدِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَقُومُ عَلَى أَصْلَيْنِ هُمَا:
أَلَّا يُعْبَدَ إِلَّا اللهُ، وَأَلَّا يُعْبَدَ اللهُ إِلَّا بِمَا شَرَعَ.
وَالْإِسْلَامُ: هُوَ الِاسْتِسْلَامُ للهِ وَحْدَهُ، بِشَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَجِّ الْبَيْتِ.
فَهُوَ الْخُضُوعُ للهِ تَعَالَى، وَالْعُبُودِيَّةُ لَهُ وَحْدَهُ، فَمَنِ اسْتَكْبَرَ عَنْ عِبَادَتِهِ، وَأَشْرَكَ مَعَهُ غَيْرَهُ فَغَيْرُ مُسْلِمٍ.
إِنَّ إصْلَاحَ الْعَقِيدَةِ -عِبَادَ اللهِ- هُوَ أَوَّلُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُعْقَدَ عَلَيْهِ الْخِنْصَرُ فِي أَخْذٍ بِأَسْبَابِ إِصْلَاحِ الْأُمَّةِ. يَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَ أُمُورَ التَّوْحِيدِ، وَأَنْ نَلْتَزِمَ بِالتَّوْحِيدِ فِي كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَلَّغَنَا عَنْ رَبِّنَا -جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ.
وَبَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ فَضْلَ التَّوْحِيدِ، وَعَظِيمَ أَثَرِهِ فِي النَّفْسِ، وَفِي الْمَآلِ عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَالتَّوْحِيدُ -عِبَادَ اللهِ-: هُوَ إِفْرَادُ اللهِ تَعَالَى بِمَا يَخْتَصُّ بِهِ مِنَ الرُّبُوبِيَّةِ، وَالْأُلُوهِيَّةِ، وَالْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ.
فَيَنْقَسِمُ التَّوْحِيدُ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ، وَتَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَقَدِ اجْتَمَعَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ ۚ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65].
* تَوْحِيدُ الرُّبُوبِيَّةِ: هُوَ إِفْرَادُ اللهِ بِالْخَلْقِ، وَالْمُلْكِ، وَالتَّدْبِيرِ.
* تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ: وَهُوَ إِفْرَادُ اللهِ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ.
فَتَكُونَ عَبْدًا للهِ وَحْدَهُ، تُفْرِدُهُ بِالتَّذَلُّلِ؛ مَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا، وَتَعْبُدُهُ بِمَا شَرَعَ.
فَيَصْرِفُ الْعَبْدُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ مِنْ: خَوْفٍ وَرَجَاءٍ، وَرَغْبَةٍ وَرَهْبَةٍ، وَإِنَابَةٍ وَخَشْيَةٍ، وَتَوَكُّلٍ وَخَوْفٍ، وَذَبْحٍ وَنَذْرٍ، وَدُعَاءٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ للهِ تَعَالَى وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
* تَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: وَهُوَ إِفْرَادُ اللهِ سُبْحَانَهُ بِمَا سَمَّى بِهِ وَوَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ﷺ، وَذَلِكَ بِإِثْبَاتِ مَا أَثْبَتَهُ وَنَفْيِ مَا نَفَاهُ، مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ.
قَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۖ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
عِبَادَ اللهِ! لَقَدْ وَقَعَ انْحِرَافٌ كَبِيرٌ عَنِ الْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ، وَشَابَ صَفْوَهَا كَثِيرٌ مِنَ الْكَدَرِ، فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي مَعْرِفَةِ الْعَقِيدَةِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ، وَهِيَ عَقِيدَةُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-، وَاعْتِقَادُهُمْ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ اللهُ تَعَالَى سِوَاهُ.
عَقِيدَتُنَا
عَقِيدَتُنَا: الْإِيمَانُ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخَرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ. هَذَا مُجْمَلُ الْعَقِيدَةِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: حَدِيثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-؛ حَيْثُ جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، وَقَالَ: ((أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ))، فَأَخْبَرَهُ، ثُمَّ قَالَ: ((أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ))، فَقَالَ: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)).
1* الْإِيمَانُ بِاللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: هُوَ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ الَّذِي لَا يَلْحَقُهُ رَيْبٌ، بِوُجُودِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَبِرُبُوبِيَّتِهِ، وَبِأُلُوهِيَّتِهِ، وَبِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.
* فَنُؤْمِنُ بِرُبُوبِيَّةِ اللهِ تَعَالَى: أَيْ: بِأَنَّهُ الرَّبُّ الْخَالِقُ الْمَالِكُ الْمُدَبِّرُ لِجَمِيعِ الْأُمُورِ.
وَدَلِيلُ هَذَا قَوْلُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54].
وَقَوْلُهُ: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الجاثية: 27].
* وَنُؤْمِنُ بِأُلُوهِيَّةِ اللهِ تَعَالَى؛ أَيْ بِأَنَّهُ الْإِلَهُ الْحَقُّ، وَكُلُّ مَعْبُودٍ سِوَاهُ بَاطِلٌ: وَهَذَا تَوْحِيدُ الْأُلُوهِيَّةِ، وَالْإِلَهُ بِمَعْنَى: الْمَأْلُوهُ، أَيْ: الْمَعْبُودُ تَذَلُّلًا وَمَحَبَّةً، وَكُلُّ مَعْبُودٍ سِوَى اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ.
وَدَلِيلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
* أَمَّا تَوْحِيدُ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ: فَمَعْنَاهُ إِثْبَاتُ مَا أَثْبَتَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لِنَفْسِهِ، أَوْ أَثْبَتَهُ لَهُ نَبِيُّهُ ﷺ مِنَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، وَتَنْزِيهُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَمَّا نَزَّهَ عَنْهُ نَفْسَهُ، أَوْ نَزَّهَهُ عَنْهُ رَسُولُهُ ﷺ مِنَ الْعُيُوبِ وَالنَّقَائِصِ، مِنْ غَيْرِ تَمْثِيلٍ وَلَا تَشْبِيهٍ، وَمِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَأْوِيلٍ، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وَكَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَللهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180].
مُعْتَقَدُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ فِي بَابِ أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ يَرْتَكِزُ عَلَى ثَلَاثَةِ أُسُسٍ رَئِيسَةٍ:
1- الْإِيمَانُ بِمَا وَرَدَتْ بِهِ نُصُوصُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ وَصِفَاتِهِ، إِثْبَاتًا وَنَفْيًا.
2- تَنْزِيهُ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- عَنْ أَنْ يُشْبِهَ شَيْءٌ مِنْ صِفَاتِهِ شَيْئًا مِنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ.
3- قَطْعُ الطَّمَعِ عَنْ إِدْرَاكِ كَيْفِيَّةِ اتِّصَافِ اللهِ تَعَالَى بِتِلْكَ الصِّفَاتِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255].
عِبَادَ اللهِ! نُؤْمِنُ بِوَحْدَانِيَّةِ اللهِ؛ فَاللهُ وَاحِدٌ فِي رُبُوبِيَّتِهِ، وَأُلُوهِيَّتِهِ، وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ.
وَمِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الثَّابِتَةِ: إِثْبَاتُ عُلُوِّ اللهِ عَلَى خَلْقِهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى عُلُوِّ اللهِ تَعَالَى عُلُوًّا ذَاتِيًّا بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [الشورى: 4].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18].
وَمِنَ السُّنَّةِ: قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ فِي سُجُودِهِ: ((سُبْحَانَ رَبِيَّ الْأَعْلَى)).
الْإِنْسَانُ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ حَرِيصًا عَلَى صَالِحِهِ، وَعَلَى مَا يَنْفَعُهُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.
وَأَهَمُّ ذَلِكَ وَأَوْلَاهُ وَأَوَّلُهُ: أَنْ يَحْرِصَ عَلَى نَجَاتِهِ مِنَ النَّارِ، أَنْ يَحْرِصَ عَلَى تَحْصِيلِ رِضَا رَبِّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَنْهُ.
أَنْ يَحْرِصَ عَلَى أَنْ يَكُونَ مُتَسَنِّنًا مُتَّبِعًا لِسُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ هَذِهِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ، مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، مِنَ الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.
وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبْلُغَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إِلَّا إِذَا كَانَ وَاعِيًا، عَالِمًا، عَارِفًا بِأُصُولِ هَذِهِ الْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ، بِأُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِين.