((التَّعْلِيمُ ضَرُورَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَنَصَائِحُ غَالِيَةٌ لِلطُّلُّابِ))
جَمْعٌ وَتَرْتِيبٌ مِنْ خُطَبِ الشَّيْخِ الْعَلَّامَةِ:
أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيد رَسْلَان -حَفِظَهُ اللهُ-.
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ.
وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللَّهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَقَدْ تَضَافَرَتِ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِمَا لَا يُحْصَى عِدَّةً، وَلَا يُسْتَقْصَى كَثْرَةً عَلَى بَيَانِ رِفْعَةِ شَأْنِ الْعِلْمِ وَأَهْلِهِ، وَالتَّرْغِيبِ فِي النَّهْلِ مِنْ مَعِينِهِ الصَّافِي وَسَلْسَبِيلِهِ الْعَذْبِ الشَّافِي.
((بَيَانُ فَضْلِ الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ))
*بَيَانُ فَضْلِ الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ:
قَالَ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ وَشَرَفِ الْعُلَمَاءِ وَفَضْلِهِمْ; فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ أَشْرْفَ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَقَرَنَهُمُ اللهُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ مَلَائِكَتِهِ كَمَا قَرَنَ اسْمَ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ فِي شَرَفِ الْعِلْمِ لِنَبِيِّهِ ﷺ: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ أَشْرَفَ مِنَ الْعِلْمِ لَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَزِيدَ مِنْهُ كَمَا أَمَرَ أَنْ يَسْتَزِيدَهُ مِنَ الْعِلْمِ)).
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّهُ سُبْحَانَهُ نَفَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَ أَهْلِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ، كَمَا نَفَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَأَصْحَابِ النَّارِ، فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُون} [الزمر: 9] كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ فَضْلِهِمْ وَشَرَفِهِمْ)).
وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6].
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ أُولِي الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ حَقًّا، وَجَعَلَ هَذَا ثَنَاءً عَلَيْهِمْ وَاسْتِشْهَادًا بِهِمْ)).
وقال -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَهْلُ الذِّكْرِ: أَهْلُ الْقُرْآنِ وَقِيلَ: أَهْلُ الْعِلْمِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ)).
وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ هُمْ أَهْلُ خَشْيَتِهِ، بَلْ خَصَّهُمْ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ بِذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}. وَهَذَا حَصْرٌ لِخَشْيَتِهِ فِي أُولِي الْعِلْمِ)).
قَالَ تَعَالَى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْأَلَهُ مَزِيدَ الْعِلْمِ، وَكَفَى بِهَذَا شَرَفًا لِلْعِلْمِ أَنْ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَزِيدَ مِنْهُ)).
عِبَادَ اللهِ! عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْتِصَمَ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وأَنْ يَسْلُكَ سَبِيلَ الطَّلَبِ عَلَى نَهْجِ الصَّحَابَةِ ومَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَفِي هَذَا النَّجَاةُ، وَلَا نَجَاةَ إِلَّا فِيهِ، فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- جَعَلَ النَّجَاةَ في الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُمَا مَعْدِنُ الْعِلْمِ وأَصْلُهُ، فَمَهْمَا تَرَكَ الْإِنْسَانُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وتَنَكَّبْهُمَا وَاسْتَدْبَرْهُمَا وَجَعَلَهُمَا دَبْرَ أُذُنيْهِ وَخَلْفَ ظَهْرِهِ؛ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا.
وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ جَاهِلٌ ثُمَّ يَصْبِرُ عَلَى جَهْلِهِ، وَالْجَهْلُ أَشَدُّ فَتْكًا مِنَ السَّرَطَانِ بِالْبَدَنِ، وَهُوَ لَوْ عَلِمَ بِجَسَدِهِ عِلَّة مَا صَبِرَ وَلَا لَحْظَةً، وَإِنَّمَا يَبْحَثُ عَنِ الشِّفَاءِ، وَأَمَّا الْجَهْلُ -وَالْجَهْلُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ دَاءٌ كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ: ((أَلَا إِنَّ شِفَاءَ الْعِيِّ السُّؤُالُ)). وَالْعِيُّ هَاهُنَا: الْجَهْلُ، فَجَعَلَهُ دَاءً، وَجَعَلَ سُؤُالَ أَهْلِ الْعِلْمِ دَوَاءً.
فَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ جَاهِلٌ وَيَصْبِرُ عَلَى جَهْلِهِ، وَلَا يَطْلُبُ الْعِلْمَ الَّذِي يُصَحِّحُ بِهِ عَقِيدَتَهُ، وَيُصَحِّحُ بِهِ عِبَادَتَهُ، وَيُصَحِّحُ بِهِ مُعَامَلَتَهُ.
*بَيَانُ فَضْلِ الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ مِنْ نُصُوصِ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)).
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)).
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُفَقِّهْهُ فِي دِينِهِ لَمْ يُرْدِ بِهِ خَيْرًا، كَمَا أَنَّ مَنْ أَرَادَ بِهِ خَيْرًا فَقَّهَهُ فِي دِينِهِ، وَمَنْ فَقَّهَهُ فِي دِينِهِ فَقَدْ أَرَادَ بِهِ خَيْرًا، إِذَا أُرِيدَ بِالْفِقْهِ الْعِلْمُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْعَمَلِ.
وَأَمَّا إِنْ أُرِيدَ بِهِ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ فَقُهَ فِي الدِّينِ فَقَدْ أُرِيدَ بِهِ خَيْرًا، فَإِنَّ الْفِقْهَ حِينَئِذٍ يَكُونُ شَرْطًا لِإِرَادَةِ الْخَيْرِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مُوجَبًا، وَاللهُ أَعْلَمُ)).
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانِ فِي الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ)).
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الطَّرِيقُ الَّتِي يَسْلُكُهَا إِلَى الْجَنَّةِ: جَزَاءٌ عَلَى سُلُوكِهِ فِي الدُّنْيَا طَرِيقَ الْعِلْمِ الْمُوصِلَةَ إِلَى رِضَا رَبِّهِ.
وَوَضْعُ الْمَلَائِكَةِ أَجْنَحَتَهَا لَهُ تَوَاضُعًا، وَتَوْقِيرًا، وَإِكْرَامًا لِمَا يَحْمِلُهُ مِنْ مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ وَيَطْلُبُهُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالْتَّعْظِيمِ، فَمِنْ مَحَبَّةِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ وَتَعْظِيمِهِ تَضَعُ أَجْنَحَتَهَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ طَالِبٌ لِمَا بِهِ حَيَاةُ الْعَالَمِ وَنَجَاتُهُ، فَفِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ تَنَاسُبٌ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ أَنْصَحُ خَلْقِ اللهِ وَأَنْفَعُهُمْ لِبَنِي آدَمَ.
وَعَلَى أَيْدِيهِمْ حَصَلَ لَهُمْ كُلُّ سَعَادَةٍ وَعِلْمٍ وَهُدًى، وَمِنْ نَفْعِهِمْ لِبَنِي آدَمَ وَنُصْحِهِمْ، أَنَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِمُسِيئِهِمْ، وَيُثْنُونَ عَلَى مُؤْمِنِيهِمْ، وَيُعِينُونَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَيَحْرِصُونَ عَلَى مَصَالِحِ الْعَبْدِ أَضْعَافَ حِرْصِهِ عَلَى مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، بَلْ يُرِيدُونَ لَهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا لَا يُرِيدُهُ الْعَبْدُ وَلَا يَخْطُرُ لَهُ بِبَالٍ؛ كَمَا قَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: وَجَدْنَا الْمَلَائِكَةَ أَنْصَحَ خَلْقِ اللهِ لِعِبَادِهِ وَوَجَدْنَا الشَّيَاطِينَ أَغَشَّ الْخَلْقِ لِلْعِبَادِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر: 7-9].
فَأَيُّ نُصْحٍ لِلْعِبَادِ مِثْلَ هَذَا إِلَّا نُصْح الْأَنْبِيَاءِ؟! فَإِذَا طَلَبَ الْعَبْدُ الْعِلْمَ فَقَدْ سَعَى فِي أَعْظَمِ مَا يَنْصَحُ بِهِ عِبَادَ اللهِ، فَلِذَلِكَ تُحِبُّهُ الْمَلَائِكَةُ وَتُعَظِّمُهُ حَتَّى تَضَعَ أَجْنَحَتَهَا لَهُ رِضًا وَمَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا)).
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَقَوْلُهُ ﷺ: ((إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ)): هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَنَاقِبِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ خَيْرُ خَلْقِ اللهِ، فَوَرَثَتُهُمْ خَيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَهُمْ، وَلَمَّا كَانَ كُلُّ مَوْرُوثٍ يَنْتَقِلُ مِيرَاثُهُ إِلَى وَرَثَتِهِ، إِذْ هُمُ الَّذِينَ يَقُومُونَ مَقَامَهُ مِنْ بَعْدِهِ، لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الرُّسُلِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمْ فِي تَبْلِيغِ مَا أُرْسِلُوا بِهِ إِلَّا الْعُلَمَاءُ، كَانُوا أَحَقَّ النَّاسِ بِمِيرَاثِهِمْ.
وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْمِيرَاثَ إِنَّمَا يَكُونُ لِأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْمَوْرُوثِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي مِيرَاثِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، فَكَذَلِكَ هُوَ فِي مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ، وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ.
وَفِيهِ أَيْضًا إِرْشَادٌ وَأَمْرٌ لِلْأُمَّةِ بِطَاعَتِهِمْ، وَاحْتِرَامِهِمْ، وَتَعْزِيرِهِمْ، وَتَوْقِيرِهِمْ، وَإِجْلَالِهِمْ، فَإِنَّهُمْ وَرَثَةُ مَنْ هَذِهِ بَعْضُ حُقُوقِهِمْ عَلَى الْأُمَّةِ، وَخُلَفَاؤُهُمْ فِيهِمْ.
وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَحَبَّتَهُمْ مِنَ الدِّينِ، وَبُغْضَهُمْ مُنَافٍ لِلدِّينِ، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ لِمَوْرُوثِهِمْ.
وَكَذَلِكَ مُعَادَاتُهُمْ وَمُحَارَبَتُهُمْ، مُعَادَاةٌ وَمُحَارَبَةٌ للهِ كَمَا هُوَ فِي مَوْرُوثِهِمْ.
قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَحَبَّةُ الْعُلَمَاءِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ)).
وَقَالَ ﷺ فِيمَا يُرْوَى عَنْ رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: ((مَنْ عَادَى لِي وَلِّيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ)).
وَوَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ سَادَاتُ أَوْلِيَاءِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).
وَعَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا)). وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَوْلُهُ ﷺ: ((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ)) قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحَسَدُ قِسْمَانِ: حَقِيقِيٌّ وَمَجَازِيٌّ، فَالْحَقِيقِيُّ: تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْ صَاحِبِهَا، وَهَذَا حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مَعَ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ.
وَأَمَّا الْمَجَازِيُّ: فَهُوَ الْغِبْطَةُ وَهُوَ أَنْ يَتَمَنَّى مِثْلَ النِّعْمَةِ الَّتِي عَلَى غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ زَوَالِهَا عَنْ صَاحِبِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا كَانَتْ مُبَاحَةً، وَإِنْ كَانَتْ طَاعَةً فَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ.
وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ: لَا غِبْطَةَ مَحْبُوبَةٌ إِلَّا فِي هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا.
قَوْلُهُ ﷺ: ((فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ)): أَيْ إِنْفَاقِهِ فِي الطَّاعَاتِ.
قَوْلُهُ ﷺ: ((وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا)) مَعْنَاهُ: يَعْمَلُ بِهَا وَيُعَلِّمُهَا احْتِسَابًا، وَالْحِكْمَةُ كُلُّ مَا مَنَعَ مِنَ الْجَهْلِ وَزَجَرَ عَنِ الْقَبِيحِ.
قَوْلُهُ ﷺ: ((آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)): أَيْ سَاعَاتُهُ وَوَاحِدُهُ الْآنَ وَإِنًا وَإِنْيٌ وَإِنْوٌ؛ أَرْبَعُ لُغَاتٍ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ: «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا؛ إِلَّا ذِكْرَ اللهِ، وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ))، وَكَذَا حَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ))، وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْمُرَادُ بِالدُّنْيَا: كُلُّ مَا يَشْغَلُ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَيُبْعِدُ عَنْهُ، وَلَعَنَهُ: بَعَّدَهُ عَنْ نَظْرِهِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: ((إِلَّا ذِكْرَ اللهِ)) مُنْقَطِعٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا: الْعَالَمُ السُّفْلِيُّ كُلُّهُ، وَكُلُّ مَا لَهُ نَصِيبٌ فِي الْقَبُولِ عِنْدَهُ تَعَالَى قَدِ اسْتُثْنِيَ بِقَوْلِهِ: ((إِلَّا ذِكْرَ اللهِ، وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا»، فَالِاسْتِثْنَاءُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُتَّصِلًا.
وَالْمُوَالَاةُ: الْمَحَبَّةُ. أَيْ: إِلَّا ذِكْرَ اللهِ، وَمَا أَحَبَّهُ اللهُ مِمَّا يَجْرِي فِي الدُّنْيَا، أَوْ بِمَعْنَى الْمُتَابَعَةِ، فَالْمَعْنَى مَا يَجْرِي عَلَى مُوَافَقَةِ أَمْرِهِ تَعَالَى أَوْ نَهْيِهِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ: وَمَا يُوَافِقُ ذِكْرَ اللهِ، أَيْ: يُجَانِسُهُ وَيُقَارِبُهُ، فَطَاعَتُهُ تَعَالَى، وَاتِّبَاعُ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ؛ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِيمَا يُوَافِقُ ذِكْرَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).
وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ: ((لِمَّا كَانَتِ الدُّنْيَا حَقِيرَةً عِنْدَ اللهِ، لَا تُسَاوِي لَدَيْهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ؛ كَانَتْ وَمَا فِيهَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ اللَّعْنَةِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا خَلَقَهَا مَزْرَعَةً لِلْآخِرَةِ وَمَعْبَرًا إِلَيْهَا، يَتَزَوَّدُ مِنْهَا عِبَادُهُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ يُقَرِّبُ مِنْهَا إِلَّا مَا كَانَ مُتَضَمِّنًا لِإِقَامَةِ ذِكْرِهِ، وَمُفْضِيًا إِلَى مَحَابِّهِ، وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُعْرَفُ اللهُ بِهِ، وَيُعْبَدُ، وَيُذْكَرُ، وَيُثْنَى عَلَيْهِ، وَيُمَجَّدُ -جَلَّ وَعَلَا-؛ وَلِهَذَا خَلَقَهَا وَخَلَقَ أَهْلَهَا، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12]
فَتَضَمَّنَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لِيُعْرَفَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلِيُعْبَدَ، فَهَذَا الْمَطْلُوبُ، وَمَا كَانَ طَرِيقًا إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالتَّعَلُّمِ؛ فَهُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنَ اللَّعْنَةِ، وَاللَّعْنَةُ وَاقِعَةٌ عَلَى مَا عَدَاهُ؛ إِذْ هُوَ بَعِيدٌ عَنِ اللهِ وَعَنْ مَحَابِّهِ وَعَنْ دِينِهِ، «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إِلَّا ذِكْرَ اللهِ، وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا»، وَهَذَا هُوَ مُتَعَلَّقُ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ كَمَا كَانَ مُتَعَلَّقُ اللَّعْنَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الذَّمَّ وَالْبُغْضَ؛ فَهُوَ مُتَعَلَّقُ الْعِقَابِ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ ذِكْرَهُ، وَعِبَادَتَهُ، وَمَعْرِفَتَهُ، وَمَحَبَّتَهُ، وَلَوَازِمَ ذَلِكَ، وَمَا أَفْضَى إِلَيْهِ، وَمَا عَدَاهُ فَهُوَ مَبْغُوضٌ لَهُ، مَذْمُومٌ عِنْدَهُ)). انْتَهَى كَلَامُهُ (رح ).
فَعَيْبٌ كَبِيرٌ عَلَى مَنْ آتَاهُ اللهُ تَعَالَى عَقْلًا أَنْ يَرْضَى بِالْجَهْلِ صِفَةً، وَبِالْجَاهِلِينَ أَوْلِيَاءَ وَرُفَقَاءَ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَنْسَلِخَ مِنْ تِلْكَ الْحَالِ، وَأَنْ يَتَّقِيَ اللهَ رَبَّهُ، وَأَنْ يُقْبِلَ عَلَى مَجَالِسِ الْعِلْمِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْعِلْمَ:
قَالَ اللهُ.. قَالَ رَسُولُهُ.. قَالَ الصَّحَابَةُ.. لَيْسَ بِالتَّمْوِيهِ
مَا الْعِلْمُ نَصْبَكَ لِلْخِلَافِ سَفَاهَةً بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَ قَوْلِ فَقِيهِ
فَيُقْبِلُ عَلَى تَعَلُّمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَفْهَمُهُمَا بِفَهْمِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَفِي ذَلِكَ النَّجَاةُ، وَفِي ذَلِكَ السَّعَادَةُ، وَفِي ذَلِكَ الْخُرُوجُ مِنَ اللَّعْنَةِ، وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّعْنَةَ نَازِلَةٌ بِسَاحَتِهِ، شَامِلَةٌ لَهُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إِلَّا ذِكْرَ اللهِ، وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا».
((بَادِرُوا إِلَى طَلَبِ الْعِلْمِ))
وَلَمَّا كانَ كُلٌّ مِنَ الْجِهَادِ بِالسَّيْفِ وَالْحُجَّةِ يُسَمَّى سَبِيلَ اللهِ؛ فَسَّرَ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- قَوْلَهُ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]، بِالْأُمَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ، فَإِنَّهُمُ الْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ، هَؤُلَاءِ بِأَيْدِيهِمْ -يَعْنِي: الْأُمَرَاء-، وَهُؤَلَاءِ بِأَلْسِنَتِهِمْ -يَعْنِي العُلَمَاء-.
فَطَلَبُ العِلْمِ وتَعْلِيمُهُ مِنْ أَعْظَمِ سَبِيلِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-:
قَالَ أَبو الدَّرْدَاءِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَنْ رَأَى الْغُدُوَّ وَالرَّوَاحَ إِلَى الْعِلْمِ لَيْسَ بِجِهَادٍ؛ فَقَدْ نَقَصَ عَقْلَهُ وَرَأيَهُ)).
وَجَاءَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-: ((إِذَا جَاءَ الْمَوْتُ طَالِبَ الْعِلْمِ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ مِنَ الطَّلَبِ؛ مَاتَ وَهُوَ شَهِيدٌ)).
وَقَالَ سُفْيَانُ ابْنُ عُيَيْنَةَ: ((مَن طَلَبَ الْعِلْمَ فَقَدْ بَايَعَ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- )).
وَذَكَرَ ابنُ عَبْدِ الْبَرِّ في ((الْجَامِعِ)) عَن بَعْضِهِم في قَدْرِ العُلَمَاءِ وَقِيمتِهِم:
وَمِدَادُ مَا تَجْرِي به أَقْلَامُهُمْ أَزْكَى وَأَفْضْلُ مِن دَمِ الشُّهَدَاءِ
يَا طَالِبِي عِلْمَ النَّبيِّ مُحَمَّدٍ مَا أَنْتُم وَسُواكُم بِسَوَاءٍ.
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي ((الْفَقِيهِ وَالْمُتَفَقِّهِ)): ((يَنْبَغِي لِمَنْ اتَّسَعَ وَقْتُهُ، وَأَصْلَحَ اللهُ لَهُ جِسْمَهُ، وَحَبَّبَ إِلَيْهِ الْخُرُوجُ عَنْ طَبَقَةِ الْجَاهِلِينَ، وَأَلْقَى فِي قَلْبِهِ الْعَزِيمَةَ عَلَى التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، أَنْ يَغْتَنِمَ الْمُبَادَرَةَ إِلَى ذَلِكَ؛ خَوْفًا مِنْ حُدُوثِ أَمْرٍ يَقْطَعُهُ عَنْهُ، وَتَجَدُّدِ حَالٍ تَمْنَعُهُ مِنْهُ.
وَلْيَسْتَعْمِلَ الْجِدَّ فِي أَمْرِهِ، وَإِخْلَاصَ النِّيَّةِ فِي قَصْدِهِ، وَالرَّغْبَةَ إِلَى اللهِ فِي أَنْ يَرْزَقَهُ عِلْمًا يُوَفِّقُهُ فِيهِ، وَيُعِيذُهُ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ، وَلْيَحْذَرْ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ فِيمَا يَطْلُبُ الْمُجَادَلَةَ بِهِ وَالْمُمَارَاةَ بِهِ، وَصَرْفَ الْهِمَمِ إِلَيْهِ، وَأَخْذَ الْأَعْوَاضِ عَلَيْهِ)). انْتَهَى كَلَامُهُ -رَحِمَهُ اللهُ-.
فَاحْذَرِ الْمِرَاءَ، وَإِيَّاكَ وَإِيَّاهُ، وَلَوْ أَنَّ الْأَمْرَ مَرَّ كَفَافًا لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ؛ لَكَانَ هَيِّنًا، وَكَانَ مُحْتَمَلًا، وَلَكِنَّ الْعِقَابَ مُرٌّ أَلِيمٌ، وَالْعَذَابُ مُهِينٌ عَظِيمٌ.
يَا طَالِبَ الْعِـلِمْ:
الْعِلْمُ أغْلَى وَأَحْلَى مَا لَهُ اسْتَمَعَتْ ... أُذْنٌ وَأَعْرَبَ عَنْهُ نَاطِقٌ بِفَمِ
الْعِلْمُ غَايَتُهُ الْقُصْوَى وَرُتْبَتُهُ الْـ ...ـعَلْيَاءُ فَاسْعَوْا إِلَيْهِ يَا أُولِي الْهِمَمِ
الْعِلْمُ أَشْرَفُ مَطْلوبٍ وَطَالِبُهُ ...للهِ أكْرَمُ مَنْ يَمْشِي عَلَى قَدَمِ
الْعِلْمُ نُورٌ مُبِينٌ يَسْتَضِيءُ بِهِ ...أَهْلُ السَّعَادَةِ وَالْجُهَّالُ فِي الظُّلَمِ
الْعِلْمُ أعْلَى حَياةٍ لِلْعِبَادِ كَمَا ...أهْلُ الْجَهالَةِ أمْواتٌ بِجَهْلِهِمِ
لَا سَمْعَ لَا عَقْلَ بَلْ لَا يُبْصِرُونَ **** وَفِي السَّعِيرِ مُعْتَرِفٌ كُلٌّ بِذَنْبِهِمِ
فَالْجَهْلُ أَصْلُ ضَلَالِ الْخَلْقِ قَاطِبَةً **** وَأَصْلُ شِقْوَتِهِمْ طُرًّا وَظُلْمِهِمِ
وَالْعِلْمُ أَصْلُ هُدَاهُمْ مَعْ سَعَادَتِهِمْ ****فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ذَوُو الْحِكَمِ
وَالْخَوْفُ بِالْجَهْلِ وَالْحُزْنُ الطَّوِيلُ بِهِ **** وَعَنْ أُولِي الْعِلْمِ مَنْفِيَّانِ فَاعْتَصِمِ
الْعِلْمُ وَاللهِ مِيرَاثُ النُّبُوَّةِ **** لَا مِيرَاثَ يُشْبِهُهُ طُوبَى لِمُقْتَسِمِ
لِأَنَّهُ إِرْثُ حَقٍّ دَائِمٍ أَبَدًا **** وَمَا سِوَاهُ إِلَى الْإِفْنَاءِ وَالْعَدَمِ
وَمِنْهُ إِرْثُ سُلَيْمَانَ النُّبُوَّةَ وَالْـ **** فَضْلُ الْمُبِينُ فَمَا أَوْلَاهُ بِالنِّعَمِ
الْعِلْمُ يَا صَاحِ يَسْتَغْفِر لِصَاحِبِهِ **** أَهْلُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ مِنْ لَمَمِ
كَذَاكَ تَسْتَغْفِرُ الْحِيتَانُ فِي لُجَجٍ **** مِنَ الْبِحَارِ لَهُ فِي الضَّوْءِ وَالظُّلَمِ
وَخَارِجٌ فِي طِلَابِ الْعِلْمِ مُحْتَسِبًا **** مُجَاهِدٌ فِي سَبِيلِ اللهِ أَيُّ كَمِ
وَإِنَّ أَجْنِحَةَ الْأَمْلَاكِ تَبْسُطُهَا **** لِطَالِبِيهِ رِضًا مِنْهُمْ بِصُنْعِهِمِ
يَا طَالِبَ الْعِلْمِ:
إِيَّاكَ وَاحْذَرْ مُمَارَاةَ السَّفِيهِ بِهِ **** كَذَا مُبَاهَاةُ أَهْلِ الْعِلْمِ لَا تَرُمِ
فَإِنَّ أَبْغَضَ كُلِّ الْخَلْقِ أَجْمَعِهِمْ **** إِلَى الْإِلَهِ أَلَدُّ النَّاسِ فِي الْخِصَمِ.
((الْعِلْمُ ضَرُورَةٌ دِينِيَّةٌ شَرْعِيَّةٌ))
*بَيَانُ مَا هُوَ الْوَاجِبُ الْعَيْنِيُّ وَالْوَاجِبُ الْكِفَائِيُّ:
*الْفَرْضُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ: هُوَ مَا طَلَبَ الشَّارِعُ فِعْلَهُ عَلَى وَجْهِ اللُّزُومِ, بِحَيْثُ يُذَمُّ تَارِكُهُ, وَمَعَ الذَّمِّ الْعِقَابُ, وَيُمْدَحُ فَاعِلُهُ وَمَعَ الْمَدْحِ الثَّوَابُ.
وَالْوَاجِبُ -وَهُوَ الْفَرْضُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ- يَنْقَسِمُ عَلَى: «وَاجِبٍ عَيْنِيٍّ, وَوَاجِبٍ عَلَى الْكِفَايَةِ».
*الْوَاجِبُ الْعَيْنِيُّ هُوَ: مَا يَنْظُرُ فِيهِ الشَّارِعُ إِلَى ذَاتِ الْفَاعِلِ; كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَخْصٍ تَلْزَمُهُ بِعَيْنِهِ طَاعَةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات : 56].
فَالْوَاجِبُ الْعَيْنِيُّ: هُوَ مَا تَوَجَّهَ فِيهِ الطَّلَبُ اللَّازِمُ إِلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ, أَيْ: هُوَ مَا طَلَبَ الشَّارِعُ حُصُولَهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُكَلَّفِينَ, فَلَا يَكْفِي فِيهِ قِيَامُ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ الْآخَرِ, وَلَا تَبْرَأُ ذِمَّةُ الْمُكَلَّفِ مِنْهُ إِلَّا بِأَدَائِهِ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الشَّارِعِ فِي هَذَا الْوَاجِبِ, لَا يَتَحَقَّقُ, إِلَّا إِذَا فَعَلَهُ كُلُّ مُكَلَّفٍ, وَمِنْ ثَمَّ يَأْثَمُ تَارِكُهُ وَيَلْحَقُهُ الْعِقَابُ, وَلَا يُغْنِي عَنْهُ قِيَامُ غَيْرِهِ بِهِ، وَمِثَالُهُ: الصَّلَاةُ, وَالصِّيَامُ, وَالْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ, وَإِعْطَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.
*وَالْوَاجِبُ عَلَى الْكِفَايَةِ: هُوَ مَا طَلَبَ الشَّارِعُ حُصُولَهُ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُكَلَّفِينَ, لَا مِنْ كُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الشَّارِعِ حُصُولُهُ مِنَ الْجَمَاعَةِ.
فَإِذَا فَعَلَهُ الْبَعْضُ سَقَطَ الْفَرْضُ عَنِ الْبَاقِينَ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْبَعْضِ يُقُومُ مَقَامَ فِعْلِ الْبَعْضِ الْآخَرِ, فَكَانَ التَّارِكُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ فَاعِلًا, وَإِذَا لَمْ يَقُمْ بِهِ أَحَدٌ أَثِمَ جَمِيعُ الْقَادِرِينَ.
وَقَدْ يَؤُولُ وَاجِبُ الْكِفَايَةِ إِلَى أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا عَيْنِيًّا, فَلَوْ كَانَتِ الْبَلَدُ مُضَطَرَّةً إِلَى قَاضِيَيْنِ, وَكَانَ هُنَاكَ عَشْرَةٌ يَصْلُحُونَ لِلْقَضَاءِ؛ فَإِنَّ تَوَلِّيهِ وَاجِبٌ كِفَائيٌّ عَلَى الْعَشْرَةِ.
وَأَمَّا إِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ غَيْرُ اثْنَيْنِ, فَإِنَّهُ يَكُونُ وَاجِبًا عَيْنِيًّا عَلَيْهِمَا.
عَنْ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ».
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي كِتَابِ «جَامِعِ بَيَانِ الْعِلْمِ», بَعْدَ أَنْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ ذَكَرَهَا: « قَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ مِنَ الْعِلْمِ مَا هُوَ فَرْضٌ مُتَعَيَّنٌ عَلَى كُلِّ امْرِئٍ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إِذَا قَامَ بِهِ قَائِمٌ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَلْخِيصِ ذَلِكَ وَالَّذِي يَلْزَمُ الْجَمِيعَ فَرْضُهُ مِنْ ذَلِكَ مَالا يَسَعُ الإِنْسَانَ جَهْلُهُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَرَائِضِ الْمُفْتَرَضَةِ عَلَيْهِ، نَحْوَ الشَّهَادَةِ بِاللِّسَانِ وَالإِقْرَارِ بِالْقَلْبِ بِأَنَّ اللَّهَ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَلا شِبْهَ لَهُ وَلا مِثْلَ لَهُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ كُلُّ شَيْءٍ، الْمُحْيِي الْمُمِيتُ الْحَيُّ الَّذِي لا يَمُوتُ.
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُمَا عِنْدَهُ سَوَاءٌ، لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ، هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ، وَالَّذِي عَلَيْهِ جَمَاعَةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ بِصِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ لَيْسَ لأَوَلِيَّتِهِ ابْتِدَاءٌ، وَلا لآخِرِيَّتِهِ انْقِضَاءٌ، هُوَ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى.
وَالشَّهَادَةِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَخَاتَمُ أَنْبِيَائِهِ حَقٌّ، وَأَنَّ الْبَعْثَ بَعْدَ الْمَوْتِ لِلْمُجَازَاةِ بِالأَعْمَالِ، وَالْخُلِودَ فِي الآخِرَةِ لأَهْلِ السَّعَادَةِ بِالإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ فِي الْجَنَّةِ، وَلأَهْلِ الشَّقَاوَةِ بِالْكُفْرِ وَالْجُحُودِ فِي السَّعِيرِ حَقٌّ.
وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلامُ اللَّهِ وَمَا فِيهِ حَقٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يَلْزَمُ الإِيمَانُ بِجَمِيعِهِ، وَاسْتِعْمَالُ مُحْكَمِهِ وَأَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فَرِيضَةٌ وَيَلْزَمُهُ مِنْ عِلْمِهَا عِلْمُ مَا لا تَتِمُّ إِلا بِهِ مِنْ طَهَارَتِهَا وَسَائِرِ أَحْكَامِهَا وَأَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ فَرْضٌ، وَيَلْزَمُهُ عِلْمُ مَا يُفْسِدُ صَوْمَهُ، وَمَا لا يَتِمُّ إِلا بِهِ.
وَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَقُدْرَةٍ عَلَى الْحَجِّ لَزِمَهُ فَرْضًا أَنْ يَعْرِفَ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، وَمَتَى تَجِبُ وَفِي كَمْ تَجِبُ، وَلَزِمَهُ أَنْ يَعْلَمَ بِأَنَّ الْحَجَّ عَلَيْهِ فُرِضَ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي دَهْرِهِ إِنِ اسْتَطَاعَ السَّبِيلَ إِلَيْهِ، إِلَى أَشْيَاءَ يَلْزَمُهُ مَعْرِفَةُ جُمَلِهَا وَلا يُعْذَرُ بِجَهْلِهَا نَحْوَ تَحْرِيمِ الزِّنَا وَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَأَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَأَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَالأَنْجَاسِ كُلِّهَا وَالسَّرِقَةِ وَالرِّبَا وَالْغَصْبِ وَالرِّشْوَةِ فِي الْحُكْمِ، وَالشَّهَادَةِ بِالزُّورِ، وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَبِغَيْرِ طِيبٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ إِلا إِذَا كَانَ شَيْئًا لا يُتَشَاحُّ فِيهِ وَلا يُرْغَبُ فِي مِثْلِهِ.
وَتَحْرِيمِ الظُّلْمِ كُلِّهِ وَهُوَ كُلُّ مَا مَنَعَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- مِنْهُ وَرَسُولُهُ ﷺ، وَتَحْرِيمِ نِكَاحِ الأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالأَخَوَاتِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُنَّ، وَتَحْرِيمِ قَتْلِ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَمَا كَانَ مِثْلَ هَذَا كُلِّهِ مِمَّا قَدْ نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَأُجْمَعَتِ الأُمَّةُ عَلَيْهِ.
ثُمَّ سَائِرَ الْعِلْمِ، وَطَلَبَهُ وَالتَّفَقُّهَ فِيهِ وَتَعْلِيمَ النَّاسِ إِيَّاهُ وَفَتْوَاهُمْ بِهِ فِي مُصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَالْحُكْمُ بِهِ بَيْنَهُمْ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ يَلْزَمُ الْجَمِيعَ فَرْضُهُ فَإِذَا قَامَ بِهِ قَائِمٌ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنِ الْبَاقِينَ بِمَوْضِعِهِ لا خِلافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ، وَحُجَّتُهُمْ فِيهِ قَوْلُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122]، فَأُلْزِمَ النَّفِيرُ فِي ذَلِكَ الْبَعْضَ دُونَ الْكَلِّ، ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ فَيُعَلِّمُونَ غَيْرَهُمْ، وَالطَّائِفَةُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الْوَاحِدُ فَمَا فَوْقَهُ».
*عُلُومُ الدُّنْيَا كَالطِّبِّ وَالْحِسَابِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَاتِ:
وَمِنْ فُرُوضُ الْكِفَايَةِ: كُلُّ عِلْمٍ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ فِي قِوَامِ أَمُورِ الدُّنْيَا؛ كَالطِّبِّ: إِذْ هُوَ ضَرُورِيٌّ فِي حَاجَةِ بَقَاءِ الْأَبْدَانِ عَلَى الصِّحَّةِ, وَالْحِسَابِ: فَإِنَّهُ ضَرُورِيٌّ فِي قِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ وَالْوَصَايَا وَغَيْرِهَا.
فَهَذِهِ الْعُلُومُ لَوْ خَلَا الْبَلَدُ عَمَّنْ يَقُومُ بِهَا حَرِجَ أَهْلُ الْبَلَدِ, وَإِذَا قَامَ بِهَا وَاحِدٌ كَفَى وَسَقَطَ الْفَرْضُ عَنِ الْبَاقِينَ.
((الْعُلُومُ وَالْأَعْمَالُ النَّافِعَةُ الْعَصْرِيَّةُ دَاخِلَةٌ فِي الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ))
قَالَ الْعَلَّامَةُ عَبْدُ الرَّحْمَن بْنُ نَاصِرِ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي رِسَالَتِهِ: ((الدَّلَائِلُ الْقُرْآَنِيَّةُ فِي أَنَّ الْعُلُومَ وَالْأَعْمَالَ النَّافِعَةَ الْعَصْرِيَّةَ دَاخِلَةٌ فِي الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ)): ((فَهَذِهِ رِسَالَةٌ تَتَضَمَّنُ الْبَرَاهِينَ الْقَوَاطِعَ الدَالَّةَ عَلَى أَنَّ الدِّينَ الْإِسْلَامِيَّ، وَعُلُومَهُ وَأَعْمَالَهُ وَتَوْجِيهَاتِهِ، جَمَعَتْ كُلَّ خَيْرٍ وَرَحْمَةٍ وَهِدَايَةٍ وَصَلَاحٍ وَإِصْلَاحٍ مُطْلَقٍ لِجَمِيعِ الْأَحْوَالِ.
وَأَنَّ الْعُلُومَ الْكَوْنِيَّةَ وَالْمُخْتَرَعَاتِ الْعَصْرِيَّةَ الصَّحِيحَةَ النَّافِعَةَ دَاخِلَةٌ فِي ضِمْنِ عُلُومِ الدِّينِ وَأَعْمَالِهِ، لَيْسَتْ مُنَافِيَةً لَهَا كَمَا زَعَمَ الْجَاهِلُونَ وَالْمَادِيُّونَ، وَلَا جَاءَتِ الْعُلُومُ الْعَصْرِيَّةُ النَّافِعَةُ بِشَيْءٍ جَدِيدٍ كَمَا ظَنَّهُ الْجَاهِلُونَ أَوْ الْمُتَجَاهِلُونَ، بَلْ النَّافِعُ مِنْهَا لِلدِّينِ وَالدُّنْيَا وَلِلْجَمَاعَاتِ وَالْأَفْرَادِ دَاخِلٌ فِي الدِّينِ، وَالدِّينُ قَدْ دَلَّ عَلَيْهِ وَأَرْشَدَ الْخَلْقَ إِلَيْهِ وَإِلَى كُلِّ أَمْرٍ نَافِعٍ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ.
وَبَيَانُ أَنَّ الْعُلُوم الْعَصْرِيَّةَ إِذَا لَمْ تُبْنَ عَلَى الدِّينِ وَتُرْبَطْ بِهِ فَضَرَرُهَا أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهَا وَشَرُّهَا أَكْبَرُ مِنْ خَيْرِهَا.
*أَدِلَّةٌ قُرْآنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْعُلُومُ وَالْأَعْمَالُ وَالْمُخْتَرَعَاتِ النَّافِعَةُ الْعَصْرِيَّةُ دَاخِلَةٌ فِي الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ:
قَالَ تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53]، فَإِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَخْبَرَ بِتَوْحِيدِهِ وَتَفَرُّدِهِ بِالْكَمَالِ الْمُطْلَقِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، وَأَمَرَ بِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ، وَأَنَّ قَوْلَهُ حَقٌّ، وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ حَقٌّ، وَرَسُولَهُ وَكِتَابَهُ حَقٌّ، أَخْبَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يُرِيَهُمْ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِي الْآَفَاقِ مَا يَتَبَيَّنُ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا سِوَاهُ بَاطِلٌ.
فَالْآيَاتُ الْأُفُقِيَّةُ الْكَوْنِيَّةُ، وَالْآيَاتُ النَّفْسِيَّةُ، كُلُّهَا تُحَقِّقُ هَذِهِ الْأُصُولِ الْعَظِيمَةِ وَيَعْرِفُ بِهَا أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ، وَقَوْلَهُ وَكِتَابَهُ وَدِينَهُ حَقٌّ.
*فَالْآيَاتُ الْأُفُقِيَّةُ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآَيَاتٍ لأُِولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] الآيَات.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164].
وَآيَاتٌ كَثِيرَةٌ يُخْبِرُ فِيهَا عَنْ أَحْوَالِ الْكَوْنِ، وَأَنَّهُ آيَاتٌ وَأَدِلَّةٌ عَلَى وَحْدَانِيَةِ اللهِ وَصِدْقِهِ وَصِدْقِ رُسُلِهِ.
*وَأَمَّا الْآيَاتُ النَّفْسِيَّةُ: فَإِنَّ اللهَ قَالَ: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]، {أَوَلَمْ يَرَ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} [يس: 77]، {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ *خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6-5-6]، وَنَحْوَهَا مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي يُنِّبُهُ اللهُ فِيهَا الْإِنْسَانَ عَلَى التَّأَمُّلِ وَالنَّظَرِ فِي ابْتِدَاءِ خَلْقِهِ وَتَطَوُّرِهِ، وَكَيْفَ تَنَقَّلَتْ بِهِ الْأَحْوَالُ مِنَ النُّطْفَةِ إِلَى أَنْ صَارَ إِنْسَانًا كَامِلًا فِي بَدَنِهِ وَفِي عَقْلِهِ، وَكَيْفَ أَحْسَنَ اللهُ خَلْقَهُ وَنَظَمَهُ هَذَا النِّظَامَ الْعَجِيبَ، فَوَضَعَ فِيهِ كُلَّ عُضْوٍ يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَنَافِعِهِ كُلِّهَا، وَوَضَعَ كُلُّ عُضْوٍ فِي مَحِلِّهِ اللَّائِقِ بِهِ الَّذِي لَا يَحْسُنُ وَلَا يَلِيقُ أَنْ يُوضَعَ إِلَّا فِي مَحِلِّهِ.
وَمِنْ آيَاتِهِ الْأُفُقِيَّةِ النَّفْسِيَّةِ إِخْبَارُهُ تَعَالَى أَنَّهُ سَخَّرَ لِلْإِنْسَانِ جَمِيعَ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَعَادِنَ الْكَوْنِ وَعَنَاصِرَهُ، ثُمَّ إِخْبَارُهُ بِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا، وَجَعَلَ لَهُ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ وَآلَاتِ الْعِلْمِ، وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ.
فَحَمَلَ بِهَذَا التَّسْخِيرِ وَبِهَذَا التَّعْلِيمِ مِنْ أَلْوَانِ الْعِلْمِ وَصُنُوفِ الْمُخْتَرَعَاتِ الْبَاهِرَةِ مَا هُوَ مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ تَرَّقَتْ بِهِ الصِّنَاعَاتُ، وَتَوَسَّعَتْ بِهِ الْمُخْتَرَعَاتُ، وَتَنَوَّعَتْ بِهِ الْمَنَافِعُ، وَتَقَارَبَتْ بِهِ الْأَقْطَارُ الشَّاسِعَةُ، وَتَخَاطَبَ بِهِ أَهْلُ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ)). انْتَهَى كَلَامُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-.
وَهُوَ يُشِيرُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- إِلَى مَا تَوَصَّلَ إِلَيْهِ الْإِنْسَانُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَتَبَ فِيهِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ مِنْ تِلْكَ الْأُمُورِ الْمَعْلُومَاتِيَّةِ فِي ثَوْرَةِ الْإِنْسَانِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْلُومَاتِ، وَكَيْفَ أَنَّهُ يَبُثُّهَا عَنْ بُعْدٍ وَيَتَلَّقَاهَا مِنْ بُعْدٍ، وَمَا كَانَ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- لِيَتَصَوَّرَ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ النَّاسُ الْآنَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي فِيهَا نَقْلٌ لِلْمَعْلُومَاتِ عَلَى طَرِيقَةٍ مِنْ أَسْرَعِ مَا يَكُونُ!!
إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَأْمُرُنَا بِأَنْ نَعْبُدَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنْ نَجْتَهِدَ فِي النَّظَرِ فِي الْآفَاقِ وَفِي الْأَنْفُسِ وَفِيمَا بَثَّ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي تَضَاعِيفِ هَذَا الْكَوْنِ مِنَ الْآيَاتِ؛ لِكَيْ نَضَعَ أَيْدِيَنَا عَلَى الْأَسْرَارِ الَّتِي تَرْتَقِي بِهَا الْحَيَاةُ.
فَجَعَلَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- كُلَّ مَا يُؤَدِّي إِلَى تَرْقِيَةِ الْإِنْسَانِ فِيمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لَهُ، جَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ عِبَادَةً للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
فَهَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ هُوَ دِينُ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الَّذِي أَكْمَلَهُ وَرَضِيَهُ لِخَلْقِهِ فِي أَرْضِهِ، وَهُوَ يَحْمِلُ فِي آيَاتِهِ وَتَضَاعِيفِهِ الْبَرَاهِينَ الدَّالَّةَ عَلَى صِدْقِ مِنْ أَتَى بِهِ مِنْ لَدُنْ رَبِّهِ.
قَالَ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25].
أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ، وَأَيَّدَهُمْ بِالْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الْمُبَيِّنَةِ لِلْحَقَائِقِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِهِمْ وَحَقِيقَةِ مَا جَاؤُوا بِهِ، وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ الَّذِي فِيهِ الْهُدَى وَالرَّحْمَةُ، وَأَنْزَلَ مَعَهُمْ أَيْضًا الْمِيزَانَ الَّذِي هُوَ الْعَدْلُ وَمَا يُعْرَفُ بِهِ الْعَدْلُ مِنْ أُصُولِ الْعَدْلِ وَفُرُوعِهِ، وَذَلِكَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ إِذَا عَمِلُوا بِهَا فِي عَقَائِدِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ وَسُلُوكِهِمْ وَجَمِيعِ أُمُورِهِمْ.
فَمَتَى عَمِلُوا بِمَا أَنْزَلَهُ اللهُ مِنَ الْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ صَلَحَتْ مِنْهُمْ هَذِهِ الْأُمُورِ وَاسْتَقَامَتْ أَحْوَالُهُمْ.
وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَنْزَلَ الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، فَخَصَّ مَنَافِعَهُ فِي أُمُورِ الْحَرْبِ، ثُمَّ عَمَّمَهَا فِي سَائِرِ الْأُمُورِ، فَالْحَدِيدُ أَنْزَلَهُ اللهُ لِهَذِهِ الْمَنَافِعِ الضَّرُورِيَّةِ وَالْكَمَالِيَّةِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ.
فَجَمِيعُ الْأَشْيَاءِ إِلَّا النَّادِرَ مِنْهَا تَحْتَاجُ إِلَى الْحَدِيدِ، وَقَدْ سَاقَهَا اللهُ فِي سِيَاقِ الِامْتِنَانِ عَلَى الْعِبَادِ بِهَا، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ؛ الْأَمْرُ بِاسْتِخْرَاجِ هَذِهِ الْمَنَافِعِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَعَلُّمَ الْفُنُونِ الْعَسْكَرِيَّةِ وَالْحَرْبِيَّةِ وَصِنَاعَةِ الْأَسْلِحَةِ وَتَوَابِعِهَا، وَالْمَرَاكِبِ الْبَحْرِيَّةِ وَالْبَرِيَّةِ وَالْهَوَائِيَّةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ الْعِبَادُ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60].
وَقَالَ تَعَالَى: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء: 102]، فَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَ بِإِعْدَادِ الْمُسْتَطَاعِ مِنَ الْقُوَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ وَالْمَادِيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَيَقْتَضِي أَخْذَ الْحَذَرِ مِنَ الْأَعْدَاءِ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ وَبِكُلِّ طَرِيقٍ، فَجَمِيعُ الصِّنَاعَاتِ الدَّقِيقَةِ وَالْجَلِيلَةِ وَالْمُخْتَرَعَاتِ وَالْأَسْلِحَةِ وَالتَّحَصُّنَاتِ دَاخِلَةٌ فِي هَذَا الْعُمُومِ)).
((الرَّدُّ عَلَى افْتِرَاءَاتِ الْمَادِّيِّينَ الْجَاهِلِينَ أَنَّ الْعُلُومَ الْعَصْرِيَّةَ وَالْمُخْتَرَعَاتِ الْحَدِيثَةَ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ))
هَذَا الدِّينُ لَمْ يَكُنْ يَوْمًا قَطُّ كَمَا يَدَّعِي الْمَادَّيُّونَ الْمُلْحِدُونَ سَبَبًا لِتَأَخُّرِ الْبَشَرِ، بَلْ إِنَّ الْبَشَرَ إِنَّمَا يَتَأَخَّرُونَ وَيَتَخَلَّفُونَ إِذَا تَرَكُوا تَعَالِيمَ هَذَا الدِّينِ.
وَتَأَمَّلْ فِيمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ الْعَرَبِيَّةُ قَبْلَ بَعْثَةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُمْ كَمَا قَالَتِ الْفُرْسُ لَهُمْ: كَانُوا أَكَلَةَ رَأْسٍ، وَكَانَتِ الْحُرُوبُ تَنْشِبُ بَيْنَهُمْ لِأَتْفَهِ الْأَسْبَابِ، وَتَسْتَمِرُّ عُقُودًا طَوِيلَةً، رُبَّمَا زَادَتِ الْحَرْبُ مَثَلًا عَلَى أَرْبَعِينَ سَنَةً كَحَرْبِ (داحسَ وَالْغَبْرَاءِ).
لِأَسْبَابٍ تَافِهَةٍ تَظَلُّ الْحُرُوبُ قَائِمَةً بَيْنَهُمْ لِعِدَّةِ أَجْيَالٍ، فَتَفْنَى فِي أَتُّونِهَا وَنَارِهَا تِلْكَ الْأَجْيَالُ عَلَى تَتَابُعِهَا!! وَكَانُوا يَأْكُلُونَ الْمَيْتَةَ، وَكَانَ يَظْلِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَكَانُوا مُتَخَلِّفِينَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعُلُومِ الْعَصْرِيَّةِ.
ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللهِ ﷺ بِهَذَا الدِّينِ، فَحَرَّرَ الْعَقْلَ مِنْ أَوْهَامِهِ، وَحَرَّرَ الْقَلْبَ وَالنَّفْسَ مِنْ أَوْضَارِهِمَا وَأَوْصَارِهِمَا، وَصَارَ الْإِنْسَانُ الْعَرَبِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ صَاحِبَ حَضَارَةٍ بِفَضْلِ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ وَبِتَعْلِيمِ النَّبِيِّ الرَّشِيدِ ﷺ.
حَتَّى بَلَغَتِ الْأُمَّةِ الْعَرَبِيَّةِ الْمُسْلِمَةِ -فِي فَتْرَةٍ وَجِيزَةٍ جِدًّا- الْمَبَالِغَ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْهَا أُمَّةٌ مِنْ قَبْلِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ مُؤَسَّسًا عَلَى تَعَالِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
فَلَمَّا تَمَسَّكَتِ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ بِتَعَالِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ فَاقَتِ الْأُمَمَ كُلَّهَا، وَمَلَكَتِ الْعَالَمَ الْقَدِيمَ أَجْمَعَهُ.
ثُمَّ لَمَّا كَانَ الْغَرْبُ فِيمَا هُوَ فِيهِ مِنْ تِلْكَ الْخُرَافَاتِ الدِّينِيَّةِ وَتِلْكَ الْخُزْعْبَلَاتِ الْعَقَدِيَّةِ، وَقَيَّدَتِ الْكَنِيسَةُ الْغَرْبِيَّةُ الْعَقْلَ الْغَرْبِيَّ عَنْ أَنْ تَكُونَ لَهُ مُشَارَكَةٌ فِي النَّظَرِ فِي الْأَنْفُسِ أَوْ فِي الْآفَاقِ عَلَى عَكْسِ مَا جَاءَ بِهِ دِينُ الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ، اضُطِرَّ مَنْ آتَاهُمُ اللهُ عَقْلًا مِنَ الْغَرْبِيِّينَ إِلَى مُحَارَبَةِ الدِّين.
فَحَرْبُ الدِّين الَّذِي قَامَ بِهَا مَنْ قَامَ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَادَّةِ فِي الْغَرْبِ إِنَّمَا كَانَتْ مُوَجَّهَةً إِلَى الْكَنِيسَةِ.
فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقْتُلُونَ مَنْ وَصَلَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ مَعْرِفَةٍ بِأَسْرَارِ هَذَا الْكَوْنِ، كَمَا فَعَلُوا فِي كَثِيرٍ مِنَ الَّذِينَ كَانُوا يَنْظُرُونَ فِي آيَاتِ السَّمَاءِ، وَالَّذِينَ كَانُوا يَضَعُونَ بَعْضَ الْأُمُورِ مَوْضِعَ النَّظَرِ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُقْبِلَ عَلَيْهَا الْعَقْلُ كـ(كوبر نيكوس)، ثُمَّ مَا حُكِمَ بِهِ مِنْ حُكْمٍ عَلَى (جاليليو جاليلي) بَعْدَ ذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ كِبَرَ سِنِّهِ عَصَمَهُ مِنْ أَنْ يُقْتَلَ كَمَا قُتِلَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ.
وَأَمَّا دِينُ الْإِسْلَامِ؛ فَالْإِسْلَامُ نَفْسُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ شَأْنِ مَنْ مَلَّكَهُمُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْأَمْرَ وَالْحُكْمَ فِي الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، كَانُوا حَرِيصِينَ عَلَى التَّقَدُّمِ الْعِلْمِيِّ.
فَلَمَّا تَحَرَّرَ الْعَقْلُ الْغَرْبِيُّ مِنْ قُيُودِ الْفِكْرِ الدِّينِيِّ السَّقِيمِ، وَمِنَ الْخُرَافَاتِ الَّتِي كَانَتِ الْكَنِيسَةُ الْغَرْبِيَّةُ تَفْرِضُهَا عَلَى الْعَقْلِ الْإِنْسَانِيِّ؛ تَقَدَّمُوا فِي أُمُورِ الْمَادَّةِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمُوا بِالْعَقْلِ الْغَرْبِيِّ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا بِمَا سَرَقُوهُ مِنْ آثَارِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنَّهُمْ بَنَوْا عَلَى مَا وَصَلَ إِلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ.
تَقَدَّمَ الْمُسْلِمُونَ لَمَّا تَمَسَّكُوا بِتَعَالِيمِ الدِّينِ، وَتَأَخَّرُوا لَمَّا تَرَكُوا تَعَالِيمَ الدِّينِ، لَمَّا تَمَزَّقُوا عَقَدِيًّا وَمَذْهَبِيًّا عَلَى حَسَبِ الْفِقْهِ وَالتَّوَجُّهِ الْعِبَادِيِّ، فَلَمَّا وَقَعَ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ تَحَلَّلُوا إِلَى نَحْوٍ مِنَ الْأَنْحَاءِ مِنْ تَعَالِيمِ الدِّينِ، فَتَأَخَّرُوا وَتَقَدَّمَ غَيْرُهُمْ.
الْآخَرُونَ عِنْدَمَا يَتْرُكُونَ الدِّينَ يَتَقَدَّمُونَ فِي الْمَادَّةِ.
الْمُسْلِمُونَ لَا يَتَقَدَّمُونَ فِي عُلُومِ الْمَادَّةِ إِلَّا إِذَا تَمَسَّكُوا بِالدِّينِ.
وَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ الدِّينِ الْحَقِّ وَالدِّينِ الْبَاطِلِ، فَالْإِسْلَامُ هُوَ الدِّينُ الْحَقُّ وَمَا عَدَاهُ فَهُوَ دِينٌ بَاطِلٌ.
إِذَنْ؛ دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ يَحُضُّ الْمُسْلِمِينَ عَلَى التَّرَقِّي فِي الْعُلُومِ، وَفِي النَّظَرِ فِي آفَاقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَعَلَى النَّظَرِ فِي الْأَنْفُسِ، بَلْ وَعَلَى النَّظَرِ فِيمَا تَحْتَ الثَّرَى، وَهُوَ مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مَنْ وَصَلَ مِمَّنْ نَظَرُوا فِي أَمْثَالِ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي حَدَّدَهُ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَهُوَ مَا تَحْتَ الثَّرَى، فَاسْتَخْرَجُوا الْمَعَادِنَ، وَاسْتَخْرَجُوا تِلْكَ الْمَادَّةَ الَّتِي صَارَتْ طَاقَةً لَا يَسْتَغْنِي عَنْهَا الْعَالَمُ الْيَوْمَ.
وَكُلُّ ذَلِكَ أَشَارَ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ إِشَارَةً مُجْمَلَةً {وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} [طه: 6].
فَالْمُسْلِمُونَ لَمَّا أَخَذُوا بِتَعَالِيمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تَقَدَّمُوا حَتَّى مَلَكُوا الْعَالَمَ الْقَدِيمَ كُلَّهُ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ السَّعْدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَهَذَا الدِّينُ الْإِسْلَامِيُّ يَحُثُّ عَلَى الرُّقِّيِّ الصَّحِيحِ وَالْقُوَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ، عَكْسَ مَا افْتَرَاهُ أَعْدَاؤُهُ أَنَّهُ -أَيْ: الْإِسْلَامُ- مُخَدِّرٌ مُفَتِّرٌ، وَهُمْ يَعْلَمُونَ كَذِبَهُمْ وَافْتَرَاءَهُمْ عَنْهُ، وَلَكِنَّ الْمُبَاهَتَاتِ وَالْمُكَابَرَاتِ سَهَّلَتْ عَلَيْهِمْ، وَظَنُّوا مِنْ جَهْلِهِمْ أَنَّهَا تَرُوجُ عَلَى الْعُقَلَاءِ.
وَكُلُّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ كَذِبَهُمْ وَافْتَرَاءَهُمْ، وَإِنَّمَا يَغْتَرُّ بِهِمُ الْجَاهِلُونَ الضَّالُّونَ الَّذِينَ لَا يَعْرِفُونَ عَنِ الْإِسْلَامِ لَا قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، بَلْ يُصَوِّرُ لَهُمْ هَؤَلَاءِ الْأَعْدَاءُ الْإِسْلَامَ بِصُوَرٍ شَنِيعَةٍ لِيُرَوِّجُوا مَا يَقُولُونَهُ مِنَ الْبَاطِلِ، وَإِلَّا فَمْنْ عَرَفَ الْإِسْلَامَ مَعْرِفَةً صَحِيحَةً عَرَفَ أَنَّهُ لَا تَسْتَقِيمُ أُمُورُ الْبَشَرِ دِينِهَا وَدُنْيَوِيِّهَا إِلَّا بِهِ، وَأَنَّ تَعَالِيمَهُ الْحَكِيمَةَ أَكْبَرُ بُرْهَانٍ عَلَى أَنَّهُ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، عَالِمٍ بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، رَحِيمٍ بِعِبَادِهِ، حَيْثُ شَرَعَ لَهُمْ هَذَا الدِّينَ)). انْتَهَى كَلَامُ السَّعْدِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! طِيبُوا نَفْسًا بِهَذَا الدِّينِ الْخَاتَمِ الَّذِي رَضِيَهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- لَكُمْ، وَالَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْكُمْ بِهِ.
عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ نَشَأُوا فِي الْبِيئَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَلَمْ يَنْشَئُوا فِي بِيئَةٍ كُفْرِيَّةٍ، فَجَعَلَهُمُ اللهُ مُسْلِمِينَ بِالنَّشْأَةِ؛ أَنْ يَعْرِفُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا إِخْوَانُنَا الَّذِينَ نَشَأُوا فِي بِيئَاتٍ كُفْرِيَّةٍ وَهَدَاهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، فَهَؤُلَاءِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَهُمْ أَجْرَانِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا.
ثَبَّتَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ عَلَى هَذَا الدِّينِ الْحَقِّ، وَقَبَضَنَا اللهُ وَإِيَّاكُمْ عَلَيْهِ، وَحَشَرَنَا وَإِيَّاكُمْ فِي زُمْرَةِ مَنْ جَاءَ بِهِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ هُوَ يَتَوَلَّى الصَالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ, صَلَاةً وَسَلَامًا دَائِمَيْنِ مُتَلَازِمَيْنِ إِلَى يَومِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((نَصَائِحُ غَالِيَةٌ لِلطُّلُّابِ وَالدَّارِسِينَ))
*النَّصِيحَةُ بِالْإِخْلَاصِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ وَخُطُورَةُ الرِّيَاءِ:
فَيَا طُلَّابَ الْعِلْمِ؛ أَخْلِصُوا النِّيَّةَ للهِ فِي الطَّلَبِ؛ فَإِنَّ مِنْ مُقَرَّرَاتِ الشَّرْعِ وَمِنْ مُسَلَّمَاتِ الدِّينِ: أَنَّ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ خَالِصًا وَأُرِيدَ بِهِ وَجْهُهُ، وَقَدْ نَبَّهَ النَّبِيُّ ﷺ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ النِّيَّةِ، وَوُجُوبِ تَخْلِيصِهَا مِمَّا قَدْ يَشُوبُهَا مِنْ شَوَائِبَ تُفْسِدُ الْقَصْدَ وَتُحْبِطُ الْعَمَلَ.
فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ رِوَايَةِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَهُ عَلَى الْمِنْبَرِ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا؛ فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-.
حُسْنُ النِّيَّةِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ: أَنْ يَقْصِدَ بِهِ وَجْهَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَالْعَمَلَ بِهِ، وَإِحْيَاءَ الشَّرِيعَةِ، وَتَنْوِيرَ قَلْبِهِ، وَتَحْلِيَةَ بَاطِنِهِ، وَالْقُرْبَ مِنَ اللهِ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالتَّعَرُّضَ لِمَا أَعَدَّ لِأَهْلِهِ مِنْ رِضْوَانِهِ وَعَظِيمِ فَضْلِهِ.
قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((مَا عَالَجْتُ شَيْئًا هُوَ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ نِيَّتِي)).
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟
قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ.
قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟
قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ.
قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟
قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ قَالَ كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَـسُحِبَ عَـلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).
فَتَعَلُّمُ الْعِلْمِ لِغَيْرِ وَجْهِ اللهِ تَعَالَى ابْتِغَاءً لِشَهْوَةٍ فَارِضَةٍ، وَشُهْرَةٍ بَاطِلَةٍ، وَطَلَبًا لِشَهْوَةٍ عَاجِلَةٍ، وَسَعْيًا وَرَاءَ تَقْدِيرٍ يَصِيرُ إِلَى عَدَمٍ، وَعَدْوًا خَلْفَ فَرَحٍ يَؤُولُ إِلَى نَدَمٍ، كُلُّ ذَلِكَ مِمَّا يُدْخَلُ فِي دَائِرَةِ الْوَعِيدِ، وَيُنْظَمُ فِي سِلْكِ التَّحْرِيمِ الشَّدِيدِ.
عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُجَارِي بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ يَصْرِف بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ؛ أَدْخَلَهُ اللهُ النَّارَ)).أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّ طَلَبَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ عُقُوبَةٌ فِي الدُّنْيَا عَاجِلَةٌ، وَمَحْقٌ لِبَرَكَةِ الْعُمُرِ، وَذَهَابٌ لِخَيْرِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدُ وَعِقَابٌ أَلِيمٌ.
قَالَ الْحَسَنُ: ((عُقُوبَةُ الْعَالِمِ مَوْتُ الْقَلْبِ)).
قِيلَ لَهُ: وَمَا مَوْتُ الْقَلْبِ؟
قَالَ: ((طَلَبُ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ)).
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: ((إِذَا رَأَيْتُمُ الْعَالَمَ مُحِبًّا لِدُنْيَاهُ فَاتَّهِمُوهُ عَلَى دِينِكُمْ، فَإِنَّ كُلَّ مُحِبٍّ لِشَيْءٍ يَحُوطُ مَا أَحَبَّ)).
*نَصَائِحُ ثَمِينَةٌ لِطُلَّابِ الْعِلْمِ مِنَ الْعَلَّامَةِ الْبَشِيرِ الْإِبْرَاهِيمِيِّ -رَحِمَهُ اللهُ-:
قَالَ الْعَلَّامَةُ الْبَشِيرُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَا أَبْنَاءَنَا، إِنَّ الْحَيَاةَ قِسْمَانِ: حَيَاةٌ عِلْمِيَّةٌ، وَحَيَاةٌ عَمَلِيَّةٌ، وَإِنَّ الثَّانِيَةَ مِنْهُمَا تَنْبَنِي عَلَى الْأُولَى قُوَّةً وَضَعْفًا، وَإِنْتَاجًا وَعُقْمًا، وَإِنَّكُمْ لَا تَكُونُونَ أَقْوِيَاءَ فِي الْعَمَلِ إِلَّا إِذَا كُنْتُمْ أَقْوِيَاءَ فِي الْعِلْمِ، وَلَا تَكُونُونَ أَقْوِيَاءَ فِي الْعِلْمِ إِلَّا إِذَا انْقَطَعْتُمْ لَهُ، وَوَقَفْتُمْ عَلَيْهِ الْوَقْتَ كُلَّهُ، إِنَّ الْعِلْمَ لَا يُعْطِي الْقِيَادَ إِلَّا لِمَنْ مَهَرَهُ السُّهَادُ، وَصَرَفَ إِلَيْهِ أَعِنَّةَ الِاجْتِهَادِ.
لَا تَعْتَمِدُوا عَلَى حِلَقِ الدُّرُوسِ وَحْدَهَا، وَاعْتَمِدُوا مَعَهَا عَلَى حِلَقِ الْمُذَاكَرَةِ، فَإِنَّ الْمُذَاكَرَةَ لِقَاحُ الْعِلْمِ؛ فَاشْغَلُوا أَوْقَاتَكُمْ حِينَ تَخْرُجُونَ مِنَ الدَّرْسِ بِالْمُذَاكَرَةِ فِي ذَلِكَ الدَّرْسِ، إِنَّكُمْ إِنْ تَفْعَلُوا؛ تَنْفَتِحْ لَكُمْ أَبْوَابٌ مِنَ الْعِلْمِ، وَتَلُحْ لَكُمْ آفَاقٌ وَاسِعَةٌ مِنَ الْفَهْمِ.
لَا تَقْنَعُوا بِالْكِتَابِ الْمُقَرَّرِ، وَاقْرَؤُوا غَيْرَهُ مِنَ الْكُتُبِ السَّهْلَةِ الْمَبْسُوطَةِ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ؛ تَسْتَحْكِمِ الْمَلَكَةُ، وَيَتَّسِعِ الْإِدْرَاكُ، وَسَيَنْتَهِي الْإِصْلَاحُ الَّذِي تَقُومُ بِهِ إِدَارَاتُ جَامِعَاتِنَا إِلَى اخْتِيَارِ كُتُبٍ سَهْلَةٍ مُمْتِعَةٍ فِي كُلِّ عِلْمٍ، تَفْرِضُ عَلَيْكُمْ قِرَاءَتَهَا وَمُطَالَعَتَهَا، ثُمَّ كُتُبٍ أُخْرَى فِي الْمَعَارِفِ الْعَامَّةِ؛ كَالتَّارِيخِ، وَالْأَدَبِ، وَالْحِكْمَةِ، وَالْأَخْلَاقِ، وَالتَّرْبِيَةِ.
فَوَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَرَوِّضُوهَا عَلَى اخْتِيَارِ النَّافِعِ الْمُفِيدِ مِنَ الْكُتُبِ؛ فَمِنَ الْعَارِ الْفَاضِحِ أَلَّا نَرَى فِي الْكَثِيرِ مِنْ أَبْنَائِنَا الَّذِينَ تَخَرَّجُوا مِنَ الْجَامِعَةِ، وَاتَّجَهُوا بِفِطْرَتِهِمْ إِلَى الْأَدَبِ، مَنِ اسْتَوْعَبَ كِتَابَ الْأَغَانِي قِرَاءَةً، مِنَ الْعَارِ أَلَّا نَرَى ذَلِكَ، وَلَا فِي مَنِ اتَّجَهُوا إِلَى عُلُومِ الدِّينِ مَنِ اسْتَوْعَبَ قِرَاءَةَ الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ؛ وَلَعَمْرِي مَا سِلَاحُ الْأَدِيبِ إِلَّا الْعِقْدُ الْفَرِيدُ وَأَمْثَالُهُ، وَلَا سِلَاحُ الْفَقِيهِ إِلَّا تِلْكَ الْكُتُبُ وَأَشْبَاهُهَا.
وَوَفِّرُوا الْوَقْتَ كُلَّهُ لِلدَّرْسِ النَّافِعِ وَالْمُطَالَعَةِ الْمُثْمِرَةِ.
وَلَا تَعْتَمِدُوا عَلَى حِفْظِ الْمُتُونِ وَحْدَهَا، بَلِ احْفَظُوا كُلَّ مَا يُقَوِّي مَادَّتَكُمُ اللُّغَوِيَّةَ، وَيُنَمِّي ثَرْوَتَكُمُ الْفِكْرِيَّةَ، وَيُغَذِّي مَلَكَتَكُمُ الْبَيَانِيَّةَ.
وَالْقُرْآنَ الْقُرْآنَ؛ تَعَاهَدُوهُ بِالْحِفْظِ، وَأَحْيُوهُ بِالتِّلَاوَةِ، وَرَبُّوا أَلْسِنَتَكُمْ عَلَى الِاسْتِشْهَادِ بِهِ فِي اللُّغَةِ وَالْقَوَاعِدِ، وَعَلَى الِاسْتِشْهَادِ بِهِ فِي الدِّينِ وَالْأَخْلَاقِ، وَعَلَى الِاسْتِظْهَارِ بِهِ فِي الْجَدَلِ، وَعَلَى الِاعْتِمَادِ عَلَيْهِ فِي الِاعْتِبَارِ بِسُنَنِ اللهِ فِي الْكَوْنِ.
إِنَّنَا نَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَنْطَوُونَ فِي أَيَّامِ الطَّلَبِ عَلَى خَيَالَاتٍ وَأَمَانِيَّ مِنَ الرَّاحَةِ وَرُفَهْنِيَةِ الْعَيْشِ، وَعَلَى آمَالٍ فَسِيحَةٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، يَوْمَ تَنْتَقِلُونَ إِلَى الْعَمَلِ، وَتَنْتَقِلُونَ إِلَى أَهْلِيكُمْ تَحْمِلُونَ الشَّهَادَاتِ وَالْأَلْقَابَ.
وَإِنَّ هَذَا هُوَ مَنْشَأُ الْقَلَقِ وَالِاضْطِرَابِ فِي نُفُوسِ الْكَثِيرِينَ مِنْ إِخْوَانِكُمُ الَّذِينَ يُزَاوِلُونَ التَّعْلِيمَ الْآنَ.
فَادْفَعُوا عَنْكُمْ هَذِهِ الْخَيَالَاتِ، وَوَطِّنُوا النُّفُوسَ عَلَى أَنَّكُمْ تَلْقَوْنَ مِنَ الْبَلَاءِ وَالْمَجْهَدَةِ فِي الْحَيَاةِ الْعَمَلِيَّةِ أَضْعَافَ مَا تَلْقَوْنَ مِنْهَا فِي الْحَيَاةِ الْعِلْمِيَّةِ.
لَا أَقُولُ لَكُمْ هَذَا تَهْوِيلًا، وَلَكِنْ أَقُولُهُ تَرْوِيضًا، وَمَنْ وَطَّنَ نَفْسَهُ عَلَى الْمَكْرُوهِ؛ هَانَتْ عَلَيْهِ الشَّدَائِدُ، وَوَجَدَ كُلَّ شَيْءٍ ضَاحِكًا بَاسِمًا جَمِيلًا مَحْبُوبًا.
وَمَنْ تَخَيَّلَ الرَّاحَةَ، وَحَكَّمَ أَخْيِلَتَهَا فِي نَفْسِهِ، ثُمَّ كَذَبَتْهُ الْآمَالُ كَانَ بَيْنَ عَذَابَيْنِ، أَمَضُّهُمَا كَذِبُ الْمَخِيلَةِ.
يَا أَبْنَائِي!
إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَدْ وَضَعَكُمْ وَضْعًا صَيَّرَكُمْ جَدِيرِينَ بِأَنْ تَطْلُبُوا الْعِلْمَ لِوَجْهِ الله، لَا لِلْوَظَائِفِ وَلَا لِلشَّهَادَاتِ، فَاتَّقُوا اللهَ وَأَخْلِصُوا فِي الطَّلَبِ. اِنْتَهَى كَلَامُ الْبَشِيرِ -رَحِمَهُ اللهُ- )).
وَأَقُولُ:
*يَا طُلَّابَ الْعِلْمِ؛ صُونُوا الْعِلْمَ وَلَا تُذِلُّوهُ:
وَمِنْ صِيَانَةِ أَهْلِ الْعِلْمِ لَهُ: مَا رَوَاهُ الْخَطِيبُ -رَحِمَهُ اللهُ- بِسَنَدِهِ عَنْ حَمْدَانَ بْنِ الْأَصْبَهَانِيِّ قَالَ: ((كُنْتُ عِنْدَ شَرِيكٍ، فَأَتَاهُ بَعْضُ وَلَدِ الْمَهْدِيِّ، فَاسْتَنَدَ إِلَى الْحَائِطِ -أَيْ: ذَلِكَ الْوَلَدُ مِنْ وَلَدِ الْمَهْدِيِّ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ- وَسَأَلَهُ -أَيْ: سَأَلَ شَرِيكًا- عَنْ حَدِيثٍ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ.
فَقَالَ: كَأَنَّكَ تَسْتَخِفُّ بِأَوْلَادِ الْخِلَافَةِ!!
قَالَ: لَا، وَلَكِنَّ الْعِلْمَ أَزْيَنُ عِنْدَ أَهْلِهِ مِنْ أَنْ يُضَيِّعُوهُ.
قَالَ: فَجَثَا ذَلِكَ الْوَلَدُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ سَأَلَهُ.
فَقَالَ شَرِيكٌ: «هَكَذَا يُطْلَبُ الْعِلْمُ».
وَأَخْرَجَ الْخَطِيبُ أَيْضًا عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ إِسْحَاقَ الْحَرْبِيِّ قَالَ: ((كَانَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ عَبْدًا أَسْوَدَ لِامْرَأَةٍ مِنْ مَكَّةَ، وَكَانَ أَنْفُهُ كَأَنَّهُ بَاقِلَاةٌ، قال: وَجَاءَ سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ -أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ- إِلَى عَطَاءٍ هُوَ وَابْنَاهُ، فَجَلَسُوا إِلَى عَطَاءٍ وَهُوَ يُصَلِّي، فَلَمَّا صَلَّى انْفَتَلَ إِلَيْهِمْ، فَمَا زَالُوا يَسْأَلُونَهُ عَنْ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَقَدْ حَوَّلَ قَفَاهُ إِلَيْهِم، ثُمَّ قَالَ سُلَيْمَانُ لِابْنَيْهِ: قُومَا، فَقَامَا، وَقَالَ: يَا بْنَيَّ لَا تَنِيَا فِي طَلَبِ الْعِلْمِ؛ فَإِنِّي لَا أَنْسَى ذُلَّنَا بَيْنَ يَدَيْ هَذَا الْعَبْدِ الْأَسْوَدِ)).
فَيَا طُلَّابَ الْعِلْمِ؛ لَا تُذِلُّوهُ، لَا تُهِينُوا الْعِلْمَ، وَحَافِظُوا عَلَيْهِ، وَكَرِّمُوهُ، وَأَكْرِمُوهُ.
ولَكِنْ هَلْ حَقَّقَ الْمُسْلِمُونَ مَعْرِفَةَ وَعِلْمَ فَرْضِ الْعَيْنِ مِنَ الْعِلْمِ كَمَا فَرَضَهُ اللهُ عَلَيْهِمْ؟!
*انْتِشَارُ الْجَهْلِ بَيْنَ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ وَخُطُورَتُهُ:
إِنَّكَ لَتَسْمَعُ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ -بَلْ مِنْ جَمَاهِيرِ الْمُسْلِمِينَ- مَنْ يَقُولُ لَكَ مُتَبَجِّحًا: إِنَّ الصَّلَاةَ هَذِهِ لَيْسَتْ شَيْئًا عِنْدَ اللهِ، وَإِنَّ الْمَرْءَ إِذَا كَانَ نَظِيفَ الْقَلْبِ أَبْيَضَهُ؛ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ طَائِرًا -كَمَا يَقُولُ الْعَوَامُّ!!- مِنْ غَيْرِ صَلَاةٍ وَلَا زَكَاةٍ وَلَا حَجٍّ!!
هَذَا عَيْنُ الْإِرْجَاءِ.
هَذَا تَعَلَّمَ مِنَ الْعَقِيدَةِ شَيْئًا؟!
مَنْ عَلَّمَهُ؟!
إِنَّ جَمَاهِيرَ الْمُسْلِمِينَ -وَأَخُصُّ الْمُثَقَّفِينَ وَحَمَلَةَ الشَّهَادَاتِ مِنْهُمْ- قَدْ فُرِّغُوا دِينِيًّا وَثَقَافِيًّا وَعِلْمِيًّا، فَهُمْ كَالطَّبْلِ الْأَجْوَفِ.
أَيْنَ تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ وَالْمَرَاحِلُ الِابْتِدَائِيَّةُ وَالْإِعْدَادِيَّةُ وَالثَّانَوِيَّةُ فِي التَّعْلِيمِ الْعَامِّ وَمَا أَشْبَهَهُ لَا تُعَلِّمُ الدِّينَ، وَلَا تُعَلِّمُ الْعِلْمَ الَّذِي هُوَ فَرْضٌ مُتَعَيَّنٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ وَمُسْلِمَةٍ؟! لَا يُعَلِّمُونَهُ.
وَأَمَّا الْجَامِعَاتُ؛ فَلَيْسَ فِيهَا مِنْ تَعْلِيمِ الدِّينِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ، فَأَيْنَ يَتَعَلَّمُ هَؤُلَاءِ؟!
هَؤُلَاءِ مَحْسُوبُونَ عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ؛ لِذَلِكَ يَسْهُلُ أَنْ يُقَادُوا كَمَا تُقَادُ الْأَنْعَامُ، أَلَا تَرَاهُمْ يَخْرُجُونَ الْمُظَاهَرَاتِ وَالِاعْتِصَامَاتِ؟!
أَلَا تَرَاهُمْ يَخْرُجُونَ لِإِحْدَاثِ الْفَوْضَى، وَالْإِحْرَاقِ، وَالْقَتْلِ، وَالتَّخْرِيبِ، وَالتَّدْمِيرِ؟!
وَلَوْ عَلِمُوا الدِّينَ عِلْمًا صَحِيحًا؛ لَحَجَزَهُمْ عَنْ هَذَا الْبَاطِلِ وَهَذَا الْفَسَادِ.
تَأَمَّلْ؛ إِنَّ هَذَا الدِّينَ الْعَظِيمَ يَنْفِي عَنِ الْعُقُولِ خُرَافَاتِهَا، وَعَنِ الْقُلُوبِ شَعْوَذَاتِهَا، وَيَنْفِي عَنِ الْجَوَارِحِ خَطَأَهَا وَخَطَاءَهَا، وَيُقِيمُ الْأَبْدَانَ وَالْأَرْوَاحَ وَالْقُلُوبَ وَالْأَنْفُسَ عَلَى الْجَادَّةِ الْمُسْتَقِيمَةِ، مِنْ قَالَ اللهُ قَالَ رَسُولُهُ قَالَ الصَّحَابَةُ، هَذَا هُوَ الْعِلْمُ.
فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَلْتَفِتَ، وَأَلَّا نُضَيِّعَ الْأَوْقَاتَ.
عَلَى هَذَا الْجِيلِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ سَيُمْسِكُ بِالزِّمَامِ بَعْدَ حِينٍ، وَيَنْبَغِي عَلَيْهِمْ أَنْ يُخْرِجُوا الْأُمَّةَ مِنْ وَرْطَتِهَا؛ لِأَنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُعَادُونَهَا ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا، ظَاهِرًا مَكْشُوفًا، لِأَنَّ أُولَئِكَ قَدْ بَحَثُوا بِعُقُولٍ عَرَبِيَّةٍ، بِعُقُولٍ مُسْلِمَةٍ، بَحَثُوا، وَوَفَّرُوا لِهَؤُلَاءِ الْبَاحِثِينَ مَا وَفَّرُوهُ لَهُمْ مِنَ الْإِمْكَانَاتِ الْعِلْمِيَّةِ، وَالْإِمْكَانَاتِ التَّرَفِيَّةِ، وَوَفَّرُوا لَهُمْ سُبُلَ الْحَيَاةِ الْكَرِيمَةِ، تَتَوَفَّرُ عَلَى الْبَحْثِ، وَأَخْرَجُوا لَهُمْ مَا أَخْرَجُوهُ مِمَّا طَوَّرُوهُ، فَصَارَ مِنْ أَسْلِحَةِ الدَّمَارِ الشَّامِلِ، يُهَدِّدُونَ بِهَا النَّاسَ، وَيَرْدَعُونَهُمْ بِهَا، وَالْمُسْلِمُونَ لَا يَسْتَعْمِلُونَ حَتَّى مَا آتَاهُمُ اللهُ {مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال: 60]، هَذَا لَا يَأْخُذُونَ بِهِ!!
*نَصِيحَةٌ لِلطُّلَّابِ لِتَجَنُّبِ أَخْطَارِ الِاخْتِلَاطِ وَالشَّهَوَاتِ:
وَقَبْلَ بِدَايَةِ الْعَامِ الدِّرَاسِيِّ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى الِاخْتِلَاطِ الْمَفْتُوحِ, وَالتَّسَيُّبِ الْمَفْضُوحِ, وَاللَّامُبَالَاة الَّتِي لَا حِسَابَ لَهَا, وَالرَّتْعِ فِي شَهَوَاتٍ لَا نِهَايَةَ لِحَدِّهَا، قَبْلَ ذَلِكَ كُلِّهِ لَا يَجِدُ الْإِنْسَانُ خَيْرًا مِنْ كَلَامِ نَبِيِّهِ ﷺ تَذْكِيرًا لِلشَّبَابِ, وَحَضًّا لَهُمْ عَلَى الْأَخْذِ بِمَوْفُورِ الْوَقَارِ, وَالْبُعْدِ عَنْ مَوَاطِنِ الزَّلَلِ.
إِنَّ الْأُمَّةَ الْيَوْمَ تَعْقِدُ رَجَاءَهَا بِأَمْرِ رَبِّهَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ- عَلَى شَبَابِهَا الَّذِي يُؤْمِنُ بِرَبِّهِ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَعُودَ الْأَمْرُ مُصَحَّحًا إِلَى سَبِيلِهِ السَّوِيِّ, وَطَرِيقِهِ الْمَرْضِيِّ بَعِيدًا عَنْ عَسْفِ الشَّهَوَاتِ, وَتَخَبُّطِ اللَّذَّاتِ, وَبَعِيدًا عَنِ الْخَبْطِ فِي أَوْدِيَةِ الضَّلَالَاتِ, وَرُجُوعًا إِلَى النَّهْجِ الْأَحْمَدِ وَالصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
لَا يَجِدُ الْمَرْءُ فِي النَّصِيحَةِ خَيْرًا مِنْ كَلَامِ رَبِّهِ, وَمِنْ وَحْيِهِ إِلَى نَبِيِّهِ ﷺ: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} [النور : 33], وَيَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ رِوَايَةِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ)).
وَذَكَرَ الرَّسُولُ ﷺ ذَلِكَ عِدْلًا بِعِدْلٍ وَمِثْلًا بِمِثْلٍ, وَأَتَى بِفَوَائِدَ مِمَّا يَتَحَصَّلُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ فِي حِينِ زَوَاجِهِ عَلَى مَنْهَجِ رَبِّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ ﷺ: ((فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ)), فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِالْعِدْلِ وَالْمِثْلِ كِفَاءًا بِكِفَاءٍ, وَأَخْذًا بِمَا جَاءَ بِهِ خَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ ﷺ: ((فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ)).
وَالْوِجَاءُ الَّذِي كَانُوا يَصْنَعُونَهُ فِي فُحُولِ إِبِلِهِمْ: أَنْ يَأْتِيَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ بِحَجَرَيْنِ يَرُضُّ الْخُصْيَتَيْنِ - خُصْيَتَيِ الْفَحْلِ - بَيْنَهُمَا رَضًّا مِنْ أَجْلِ قَطْعِ مَادَّةِ الشَّهْوَةِ وَقَتْلِ نَوَازِعِ اللَّذَّاتِ، فَأَخَذَ الرَّسُولُ ﷺ ذَلِكَ فَجَعَلَهُ وَاقِعًا, ثُمَّ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ السَّبِيلَ إِلَيْهِ مَسْلُوكًا, وَالنَّهْجَ إِلَيْهِ مَحْمُودًا وَوَاضِحًا, فَقَالَ صلى الله عليه وعلى آله وسلّم: ((فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ)).
إِذَنْ؛ هُمَا أَمْرَانِ فِي كِفَّتَيْنِ إِذَا مَا لَمْ يَسْتَطِعِ الْمَرْءُ أَنْ يَأْتِيَ بِأَحَدِهِمَا؛ فَلَدَيْهِ الْآخَرُ: ((يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ, فَلْيَتَزَوَّجْ؛ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ, وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ, وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ)).
النَّبِيُّ ﷺ حَضَّ الشَّبَابَ عَلَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بِرَحْمَةِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَاصِمًا لِلشَّابِّ مِنْ أَنْ يَتَلَوَّثَ شَبَابُهُ بِمَا يُشِيِنُهُ, وَأَنْ يَتَوَرَّطَ فِي مَعْصِيَةٍ مِنْ مَعَاصِي اللهِ -جَلَّ َوَعَلَا- بِإِطْلَاقِ الْبَصَرِ, وَالْبَطْشِ بِالْيَدِ, وَالسَّعْيِ بِالرِّجْلِ اقْتِرَافًا لِلزِّنَا وَإِن لَمْ يَسْتَوْجِبْ حَدًّا, فَإِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((كُتِبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظُّهُ مِنَ الزِّنَا فَهُوَ مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ، وَاللِّسَانُ يَزْنِي وَزِنَاهُ الْكَلَامُ، وَالْأُذُنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ، وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا السَّعْيُ، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ)).
فَسَمَّى الرَّسُولُ ﷺ ذَلِكَ كُلَّهُ زِنًا, وَبَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ أَنَّهُ مَكْتُوبٌ حَظًّا عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ مِنْ نَسْلِ آدَمَ مَنْسُولًا إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ, وَأَخَذَ بِمَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ الْأَمِينُ ﷺ فَحَبَسَ مَادَّةَ الشَّهْوَةِ مِنْ أَصْلِهَا, وَجَفَّفَ فِي مَنَابِعِهَا؛ حَتَّى لَا تَسْرِيَ الدِّمَاءُ, وَحَتَّى لَا تَشْتَعِلَ الْغَرَائِزُ بِثَوْرَةٍ عَارِمَةٍ قَدْ لَا تُكَفُّ إِلَّا بِالْوُقُوعِ فِي الْحَرَامِ.
((التَّعْلِيمُ وَاجِبٌ شَرْعِيٌّ لِرَفْعِ شَأْنِ الْوَطَنِ الْإِسْلَامِيِّ))
بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ: ((مَنْهُومَانِ لَا يَشْبَعَانِ: طَالِبُ عِلْمٍ, وَطَالِبُ مَالٍ)).
إِنَّ الْأُمَّةَ الَّتِي عَقَدَتْ رَجَاءَهَا عَلَى رَبِّهَا بِأَخْذِ شَبَابِهَا بِأَسْبَابِ الْقُوَّةِ تَحْصِيلًا وَإِعْمَالًا لَهَا فِي كَوْنِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ لِتَعُودَ لِلْأُمَّةِ رِيَادَتُهَا, وَلِيَعُودَ لِلْأُمَّةِ سَبْقُهَا بِفَضْلِ رَبِّهَا, لِأَنَّ الضَّعِيفَ الْعَاجِزَ يُؤَثَّرُ فِيهِ وَلَا يُؤَثِّرُ, وَيَتَأَثَّرُ وَلَا يُؤَثِّرُ, لِأَنَّ الضَّعِيفَ الْعَاجِزَ يَكُونُ الطَّمَعُ فِيهِ قَائِمًا, وَلِأَنَّ الشَّرَّ مَتَى مَا وَجَدَ الْحَقَّ مُتَهَاوِنًا؛ عَدَا عَلَيْهِ بجُنْدِهِ وَرَجِلِهِ وَخَيْلِهِ, وَحَاوَلَ أَنْ يَئِدَهُ فِي مَهْدِهِ, وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ.
إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ أَمَرَنَا بِإِعْدَادِ مَا نَسْتَطِيعُ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ -أَمَرَنَا رَبُّ الْعَالَمِينَ-, وَالْأَمْرُ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ مَتَى مَا أَتَى مِنْ غَيْرِ قَرِينَةٍ صَارِفَةٍ عَنِ الْوُجُوبِ فَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ لِلْوُجُوبِ؛ فَهُوَ إِذًا أَمْرٌ وَاجِبٌ حَتْمٌ إِذَا مَا فَرَّطَتْ فِيهِ الْأُمَّةُ عَاقَبَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الدُّنْيَا بِذُلٍّ وَخَسْفٍ وَمَهَانَةٍ وَإِحْبَاطٍ, وَعَاقَبَهَا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْآخِرَةِ جَزَاءً وِفَاقًا لِمَا فَرَّطَتْ فِيهِ مِنْ حَمْلِ الْأَمَانَةِ وَالْأَخْذِ بِتَنْفِيذِ الْأَمْرِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
إِنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ يَعْلَمُ حَالَ الْعَالَمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَخْلُقَهُ, وَيَعْلَمُ حَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ حَالٍ وَحِينٍ، وَالْمُسْلِمُونَ يُنَادُونَ فِي الصَّبَاحِ وَفِي الْمَسَاءِ:
أَيْنَ أَنْتَ يَا صَلَاحَ الدِّينِ؟!
وَهَذَا وَهْمٌ كَبِيرٌ جِدًّا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ عَصْرٍ دَوْلَةً وَرِجَالا؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ فُرِضَ أَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ بَعَثَ الرَّجُلَ الْمُجَاهِدَ الصَّالِحَ رَحِمَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ, فَقَامَ فِي الْأُمَّةِ الْيَوْمَ, فَإِنَّهُ لَنْ يُجَيِّشَ الْجُيُوشَ عَلَى سَهْمٍ وَسَيْفٍ، وَلَا عَلَى رُمْحٍ وَخَيْلٍ, وَإِنَّمَا سَيَنْظُرُ فِي أَحْوَالِ الْعَالَمِ مُتَبَصِّرًا, وَيَنْظُرُ فِي أَحْوَالِ الْعَالَمِ مُعْتَبِرًا.
ثُمَّ يُحَاوِلُ أَنْ يَتَمَلَّكَ أَسْبَابَ الْقُوَّةِ الَّتِي عَقَدَتِ الْأُمَّةُ رَجَاءَهَا فِي رَبِّهَا عَلَى شَبَابِهَا؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونُوا لَهَا مُحَصِّلِينَ وَلَهَا مُهْتَدِينَ، مِنْ أَجْلِ أَنْ يَأْخُذُوا بِهَذَا الَّذِي يَبْدَؤُونَهُ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ الَّذِي يَأْخُذُونَ فِيهِ بِأَسْبَابِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي الْإِقْبَالِ عَلَى الدَّرْسِ, وَبَذْلِ الْجُهْدِ وَالْمَجْهُودِ فِي التَّحْصِيلِ مِنْ غَيْرِ مَا شَقٍّ لِلْحَنَاجِرِ فِي هُتَافٍ وِبُهَتَافٍ لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ، وَإِنَّمَا هُوَ تَبْدِيدٌ لِلطَّاقَاتِ, وَتَضْيِيعٌ لِلْأَوْقَاتِ, ثُمَّ يَبْقَى الْعِلْمُ يَتِيمًا لَيْسَ لَهُ مِنْ أَبٍ يَرْعَاهُ, وَلَا أُمٍّ يُمْكِنُ أَنْ تَحُوطَهُ بِعِنَايَةٍ وَلَا رِعَايَةٍ وَلَا كَلَاءَةٍ, وَيَبْقَى الْعِلْمُ مَهْجُورًا لَا يُقْبِلُ عَلَيْهِ أَحَدٌ.
*التَّوَازُنُ الدَّقِيقُ بَيْنَ طَلَبِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ وَالْعِلْمِ الْمَادِّيِّ:
وَأَعْلَمُ أَنَّ إِشْكَالًا عَظِيمًا يَقَعُ فِي أَذْهَانِ وَقُلُوبِ كَثِيرٍ مِنْ شَبَابِنَا الصَّالِحِينَ, أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنْ يَبْدَؤُوا حَيَاتَهُمْ بِدِرَاسَةِ الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ الصَّحِيحِ, وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَدَّرَ لَهُمْ بِمَقَادِيرَ كَانُوا يَرْجُونَهَا أَنْ يُقْبِلُوا مُتَوَفِّرِينَ عَلَى دَرْسِ دِينِهِمْ, وَمَعْرِفَةِ سُنَّةِ نَبِيِّهِمْ ﷺ، فَسَاقَتْهُمْ مَقَادِيرُهُمْ إِلَى حَيْثُ يَدْرُسُونَ مِنْ ذَلِكَ الْعِلْمِ الْمَادِّيِّ الَّذِي هُمْ لَهُ هَاجِرُونَ, وَعَلَيْهِ غَيْرُ مُقْبِلِينَ.
هَذَا الَّذِي يَقَعُ مِنْ هَذَا الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى عَدَمِ الِاتِّزَانِ بِالذَّبْذَبَةِ مَا تَهْوَاهُ الْأَنْفُسُ وَتَهْفُو إِلَيْهِ الْأَرْوَاحُ، وَمَا هُوَ وَاقِعٌ فِي دُنْيَا اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُ دَفْعًا, وَلَا يَمْلِكُونَ لَهُ تَغْيِيرًا؛ فَيَنْصَرِفُونَ عَمَّا هُمْ بِهِ مُكَلَّفُونَ، وَعَمَّا أَرْسَلَهُ أَهْلُوهُمْ إِلَيْهِ رَاغِبِينَ طَائِعِينَ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَكُونُوا فِيهِ سَابِقِينَ, يَدَعُونَ ذَلِكَ جَانِبًا, يَجْعَلُونَهُ دَبْرَ الْآذَانِ, وَتَحْتَ الْأَقْدَامِ, وَوَرَاءَ الْأَظْهُرِ -يَتَّخِذُونَهُ ظِهْرِيًّا-, ثُمَّ يُقْبِلُونَ عَلَى الْعِلْمِ الشَّرْعِيِّ فِيمَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمْ أَوْ غَيْرُ مَعْلُومٍ أَنَّهُ إِنَّمَا يُطْلَبُ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ الْكِفَائِيِّ لَا عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ الْعَيْنِيِّ، وَعِنْدَئِذٍ يَتَوَرَّطُونَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مَتَاهَاتٍ لَا مَخْلَصَ مِنْهَا وَلَا مَنْجَى.
وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُسْلِمَ مَا دَامَ قَدْ حَصَّلَ الْعِلْمَ الْفَرْضَ الَّذِي يَلْزَمُهُ فِي اعْتِقَادِهِ وَعِبَادَتِهِ وَمُعَامَلَتِهِ وَأَخْلَاقِهِ وَسُلُوكِهِ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَفَّرَ عَلَى مَا هُوَ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ, وَعَمَّا أَقَامَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ، وَلِأَنَّ الْأُمَّةَ لَنْ تَكُونَ بِجَمْعِهَا وَفِي مَجْمُوعِهَا مِنَ الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَحْذِقُونَ الْعِلْمَ الْكِفَائِيَّ, وَيُؤَدُّونَهُ إِلَى الْأُمَّةِ، بَلْ أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْأُمَّةَ أَمْرًا وَاضِحًا: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة : 122], فَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي الْعِلْمِ الْكِفَائِيِّ بِذَلِكَ.
وَأَمَّا الْعِلْمُ الَّذِي هُوَ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ؛ فَلَا يَسَعُ الْمُسْلِمَ أَنْ يُفَرِّطَ فِيهِ لَحْظَةَ عَيْنٍ وَلَا أَقَلَّ مِنْهَا، فَيَنْبَغِي إِذَا مَا حَصَّلَهُ أَنْ يَلْتَفِتَ إِلَى مَا أَقَامَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ, وَلَا يَتَوَرَّطُ فِي الْوُقُوعِ بِالذَّبْذَبَةِ بَيْنَ غَايَتَيْنِ يَظَلُّ كَبندُولِ السَّاعَةِ رَائِحًا وَغَادِيًا بَيْنَهُمَا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِلَ إِلَى نِهَايَةٍ مَحْمُودَةٍ, وَمِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْقَى عَلَى قَرَارٍ مَكِينٍ, وَإِنَّمَا هُوَ الْخَبْطُ فِي أَوْدِيَةِ الظُّنُونِ، فَلَا يَصِلُ بَعْدَ أَمَدٍ مُتَطَاوِلٍ لَا إِلَى عِلْمٍ شَرْعِيٍّ حَصَّلَهُ, وَلَا إِلَى عِلْمٍ مَادِّيٍّ نَفَعَ بِهِ الْأُمَّةَ مِنْ بَعْدِ مَا حَصَّلَ الْيَقِينَ بِفَضْلِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا-.
وَتَعْلَمُونَ حَفِظَكُمُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَنَّ خَالدًا رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِ - وَهُوَ الْفَارِسُ الَّذِي لَمْ يُهْزَمُ قَطُّ, وَالْقَائِدُ الَّذِي لَمْ يُغْلَبْ أَبَدًا، لَا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ - لَمْ يَكُنْ أَقْرَأَ الْأَصْحَابِ, وَلَمْ يَكُنْ أَعْلَمَهُمْ بِالْفَرَائِضِ, وَلَمْ يَكُنْ أَثْبَتَهُمْ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عِلْمًا وَمَعْرِفَةً وَإِحَاطَةً بِمَا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ ﷺ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي مَجَالِهِ سَابِقًا, وَكَانَ حَيْثُ جَعَلَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ رَائِدًا مُسْتَفْرِغًا لِلْجَهْدِ فِيمَا أَقَامَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِيهِ.
*رِسَالَةٌ إِلَى طُلَّابِ الْعِلْمِ: تُبْنَى الْأَوْطَانُ الْقَوِيَّةُ عَلَى الْعِلْمِ:
يَا طُلَّابَ الْعِلْمِ؛ لَقَدِ ائْتَمَنُكُمْ آبَاؤُكُمْ وَأُمَّهَاتُكُمْ عَلَى مُسْتَقْبَلِكُمْ، وَبَذَلُوا لَكُمُ الْمَالَ وَالْمَجْهُودَ فَلَا تَخُونُوهُمْ، وَائْتَمَنَتْكُمْ جَامِعَاتُكُمْ وَكُلِّيَّاتُكُمْ عَلَى مَبَانِيهَا وَمُنْشَأَتِهَا وَمَعَامِلِهَا وَمُدَرَّجَاتِهَا وَأَثَاثِهَا؛ فَلَا تُخَرِّبُوهَا.
وَائْتَمَنَكُمْ وَطَنُكُمْ وَبَذَلَ لَكُمْ وَتَكَفَّلَ بِكُمْ؛ فَلَا تُضَيِّعُوهُ، وَلَا تَتَّبِعُوا كُلَّ نَاعِقٍ، وَاتَّقُوا الله تَعَالَى فِي وَطَنِكُمْ وَلَا تَخُونُوهُ.
فَالْخِيَانَةُ: هِيَ الِاسْتِبْدَادُ بِمَا يُؤْتَمَنُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْحُرَمِ، وَتَمَلُّكُ مَا يُسْتَوْدَعُ، وَمُجَاحَدَةُ مُودِعِهِ.
وَهِيَ أَيْضًا: طَيُّ الْأَخْبَارِ إِذَا نُدِبَ لِتَأْدِيَتِهَا، وَتَحْرِيفُ الرَّسَائِلِ إِذَا تَحَمَّلَهَا فَصَرَفَهَا عَنْ وُجُوهِهَا.
وَقَالَ الْمُنَاوِيُّ: ((الْخِيَانَةُ: هِيَ التَّفْرِيطُ فِي الْأَمَانَةِ، وَقِيلَ: هِيَ مُخَالَفَةُ الْحَقِّ بِنَقْضِ الْعَهْدِ فِي السِّرِّ، وَقِيلَ: إِنَّ الْخِيَانَةَ تُقَالُ اعْتِبَارًا بِالْعَهْدِ وَالْأَمَانَةِ، وَخِيَانَةُ الْأَعْيُنِ: مَا تَسَارَقُ مِنَ النَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ)).
وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: ((الْخِيَانَةُ: التَّفْرِيطُ فِيمَا يُؤْتَمَنُ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ، وَنَقِيضُهَا الْأَمَانَةُ)).
فَيَا طُلَّابَ الْجَامِعَاتِ: اِتَّقُوا اللهَ وَلَا تَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: ((الْخِيَانَةُ: الْغَدْرُ وَإِخْفَاءُ الشَّيْءِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} [غافر: 19])).
وَأَمَّا حُكْمُ الْخِيَانَةِ:
فَقَدْ عَدَّهَا الْأَئِمَّةُ مِنَ الْكَبَائِرِ؛ بِدَلِيلِ قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّث كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ»، وَلِقَوْلِهِ ﷺ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَكَ».
وَقَالَ الذَّهَبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-فِي عَدِّهَا مِنَ الْكَبَائِرِ-: ((الْخِيَانَةُ قَبِيحَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَبَعْضُهَا شَرٌّ مِنْ بَعْضٍ، وَلَيْسَ مَنْ خَانَكَ فِي فَلْسٍ كَمَنْ خَانَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ وَارْتَكَبَ الْعَظَائِمَ)).
وَأَمَّا ابْنُ حَجَرٍ؛ فَقَدْ ذَكَرَ: أَنَّ الْخِيَانَةَ فِي الْأَمَانَاتِ وَالْوَدِيعَةِ وَالْعَيْنِ الْمَرْهُونَةِ وَالْمُسْتَأْجَرَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَقَالَ: ((عَدُّ ذَلِكَ كَبِيرَةً هُوَ مَا صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَظَاهِرٌ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ)).
فالْخِيَانَةُ كَبِيرَةٌ مِنَ الْكَبَائِرِ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالذُّنُوبَِ، وَعَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَجْتَهِدَ فِي أَنْ يَكُونَ مِنْهَا بِمَنْأَى وَعَنْهَا بِمَبْعَدَةٍ.
فَأَمَّا إِذَا مَا ائْتَمَنَ الْإِنْسَانَ وَطَنُهُ عَلَى مُمْتَلَكَاتِهِ فَخَرَّبَهَا وَدَمَّرَهَا وَحَرَّقَهَا وَأَتْلَفَهَا؛ فَهَذِهِ الْمُمْتَلَكَاتُ تَتَعَلَّقُ بِهَا ذِمَمُ الْجَمِيعِ، وَإِتْلَافُ الْمَالِ الْعَامِّ لَا مَخْلَصَ مِنْهُ وَلَا مَخْرَجَ، وَإِنَّمَا هُوَ تَوَرُّطٌ فِي إِثْمٍ كَبِيرٍ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ ذِمَّةٍ مِنَ الذِّمَمِ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ فِي هَذَا الْوَطَنِ إِلَّا وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَالِ الْعَامِّ، فَمَنْ أَتْلَفَهُ، مَنْ خَرَّبَهُ، مَنْ حَرَّقَهُ، مَنْ دَمَّرَهُ؛ فَقَدْ تَعَلَّقَتْ بِفِعْلِهِ هَذَا ذِمَمُ الْجَمِيعِ؛ فَأَنَّى يُوَفِّيهَا؟!
قَالَ الْعَلَّامَةُ الْبَشِيرُ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((يَا أَبْنَاءَنَا، اُتْرُكُوا الْمُنَاقَشَاتِ الْحِزْبِيَّةَ وَالْخِلَافَاتِ السِّيَاسِيَّةَ لِأَهْلِهَا، الْمُضْطَلِعِينَ بِهَا، الْمُنْقَطِعِينَ لَهَا، وَدَعُوا كُلَّ قَافِلَةٍ تَسِيرُ فِي طَرِيقِهَا، وَكُلَّ حَامِلٍ لِأَمَانَةٍ مِنْ أَمَانَاتِ الْوَطَنِ مُضْطَلِعًا بِحَمْلِهَا، قَائِمًا بِعَهْدِهِ فِيهَا، حَتَّى تَنْتَهِيَ تِلْكَ الْأَمَانَاتُ بِطَبِيعَتِهَا إِلَى جِيلِكُمْ، فَتَأْخُذُوهَا بِقُوَّةٍ وَاسْتِحْقَاقٍ.
وَاعْلَمُوا أَنَّ كُلَّ مَنْ يَدْعُوكُمْ إِلَى ذَلِكَ إِنَّمَا يَدْعُوكُمْ لِيُضِلَّكُمْ عَنْ سَبِيلِ الْعِلْمِ فَهُوَ مُضِلٌّ، وَكُلُّ مُضِلٍّ مُضِرٌّ؛ أَوْ لِيَسْتَكْثِرَ بِكُمْ فَهُوَ غَاشٌّ، وَكُلُّ غَاشٍّ مَمْقُوتٌ، أَوْ لِيُلْهِيَكُمْ بِمَا لَا تُحْسِنُونَ عَمَّا تُحْسِنُونَ، فَهُوَ مَاكِرٌ، وَكُلُّ مَاكِرٍ مَمْكُورٌ بِهِ.
إِنَّ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَكْثِرَ بِكُمْ لَا يَتَكَثَّرُ إِلَّا لِيُقَلِّلَكُمْ، وَلَا يَتَقَوَّى بِكُمْ حِسًّا إِلَّا عَلَى حِسَابِ إِضْعَافِكُمْ مَعْنًى، فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ؛ فَإِنَّ الْوَطَنَ يَرْجُو أَنْ يَبْنِيَ بِكُمْ جِيلًا قَوِيَّ الْأَسْرِ، شَدِيدَ الْعَزَائِمِ، سَدِيدَ الْآرَاءِ، مَتِينَ الْعِلْمِ، مُتَمَاسِكَ الْأَجْزَاءِ، يَدْفَعُ عَنْهُ هَذِهِ الْفَوْضَى السَّائِدَةَ فِي الْآرَاءِ، وَهَذَا الْفُتُورَ الْبَادِيَ عَلَى الْأَعْمَالِ، وَهَذَا الْخُمُولَ الْمُخَيِّمَ عَلَى الْأَفْكَارِ، وَهَذَا الِاضْطِرَابَ الْمُسْتَحْكِمَ فِي الْحَيَاةِ، وَهَذَا الْخِلَافَ الْمُسْتَمِرَّ عَلَى السَّفَاسِفِ، فَإِذَا جَارَيْتُمْ هَذِهِ الْأَهْوَاءَ الْمُتَبَايِنَةَ، وَاسْتَجَبْتُمْ لِهَذِهِ الْأَصْوَاتِ الْمُتَنَافِرَةِ، ضَيَّعْتُمْ عَلَى الْوَطَنِ جِيلًا، وَزِدْتُمْ فِي بَلَائِهِ وَمِحْنَتِهِ، وَأَطَلْتُمْ مُدَّةَ الْمَرَضِ بِتَأْخِيرِ الْعِلَاجِ.
لَا يَعْذُلُكُمْ فِي حُبِّ وَطَنِكُمْ إِلَّا ظَالِمٌ، وَلَا يَصْرِفُكُمْ عَنْ إِتْقَانِ وَسَائِلِ النَّفْعِ لَهُ إِلَّا أَظْلَمُ مِنْهُ.
أَنْتُمُ الْيَوْمَ جُنُودُ الْعِلْمِ، فَاسْتَعِدُّوا لِتَكُونُوا غَدًا جُنُودَ الْعَمَلِ.
إِنَّ وَطَنَكُمْ مُفْتَقِرٌ إِلَى جِيلٍ قَوِيِّ الْبَدَنِ، قَوِيِّ الرُّوحِ، مُسْتَكْمِلِ الْأَدَوَاتِ مِنْ فَضَائِلَ وَعَزَائِمَ، وَإِنَّ هَذَا الْجِيلَ لَمُنْتَظَرٌ تَكْوِينُهُ مِنْكُمْ، وَمُحَالٌ أَنْ تُخْرِجَ الْحَالَةُ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا جِيلًا بِهَذِهِ الصِّفَاتِ)).
فَأَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُوَفِّقَ الطُّلَّابَ لِطَاعَتِهِ، وَالْبُعْدِ عَنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ مِنْ شَيَاطِينِ الْإِنْسِ يُرِيدُ أَنْ يَحْرِفَهُمْ عَنِ الْجَادَّةِ وَعَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ أَجمَعِينَ.
المصدر:التَّعْلِيمُ ضَرُورَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَنَصَائِحُ غَالِيَةٌ لِلطُّلُّابِ