((اتقوا
الظلم))
من خطبة عيد الفطر
1437هـ
النبي -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم- في أعظمِ مشهدٍ
شَهِدَهُ -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم- وشَهِدَهُ معهُ أصحابُهُ –رضوان
الله عليهم-، يخطبُ فيهم وفي الأجيالِ المُقبِلة، يتهادى سَمْعُهُ في ظِلالٍ من
النَّدى، يسمعُهُ كلُّ أحد –يسمعُ قولَ الرسول -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم--: «إِنَّ
دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَليْكُم كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ
هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا».
﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ﴾
[الأعراف: 29]، أمرَ اللهُ ربُّ العالمين بالعدلِ: ﴿إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ﴾ [النحل: 90]، وينهى اللهُ –تبارك
وتعالى- عن الظلمِ والجَورِ والفواحش ما ظهرَ منها وما بَطَن.
اللهُ –تبارك وتعالى- يُبيِّنُ لنا أنَّ مَن أنعمَ اللهُ –تبارك
وتعالى- عليه بنعمةِ الإسلامِ؛ فأخلصَ الدين وأقامَ التوحيد؛ فلا خوفٌ عليهم ولا
هُم يحزنون: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم
بِظُلْمٍ أُولَٰئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [الأنعام: 82].
في «صحيح البخاري» وعند مسلم أيضًا من روايةٍ أخرى: أنَّ
الصحابة –رضي الله عنهم- لمَّا نزلت هذه الآية؛ فَزِعوا إلى رسولِ
الله -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم-، فقالوا: أيُّنا لم يظلم نفسَهُ يا رسول
الله؟
فقال -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم-: «ليس ذاك، ألم
تسمعوا قولَ لقمان لابنِهِ: ﴿يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ
بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13]؟»
فنهى الله –تبارك وتعالى-
عن الشركِ به، والشركُ به أظلمُ الظلمِ وأفظعُهُ وأعظمُهُ، وأمرَ اللهُ –تبارك
وتعالى- بالعدلِ، وأعدلُ العدلِ وأفخمُهُ وأقومُه: توحيدُ اللهِ –جلَّ
وعلا-.
لقد حذَّرَ النبيُّ -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم-
الأمةَ من الظُّلمِ؛ لأن أَمْرَها لا يقومُ إلا على العدل، فالعدلُ أساسُ المُلك،
وما حَمَى مَلِكٌ ولا سلطانٌ ولا حاكمٌ ولا أميرٌ مُلْكَهُ بمِثْلِ العدلِ.
إنَّ اللهَ يُقيمَ الدولةَ العادلةَ ولو كانت كافرة، ولا
يُقيمُ الدولةَ الظالمةَ ولو كانت مسلمة.
قال رسول الله -صلى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وسَلَّم-: «الظلمُ
ظلماتٌ يوم القيامة»، وهو حديثُ عبدِ اللهِ بنِ عُمرٍ –رضي
الله عنهما- في «الصحيحين».
ومن حديثِ جابر يقول: قال رسول الله -صلى اللهُ عليه
وآلِهِ وسَلَّم-: «اتَّقُوا الظُّلْمَ؛ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
يُبيِّنُ النبيُّ -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم- أنَّ
دعوةَ المظلوم ليس دونَها حجاب: «واتق دعوةَ المظلومِ؛ فإنه ليس دونها حجاب».
اتقِ دعوةَ المظلومِ ولو كان فاجرًا، ففجورُهُ على
نفسِهِ.
اتق دعوةَ المظلوم؛ فإنها تصعدُ إلى السماءِ كأنها
شرارة.
اتقِ دعوةَ المظلومِ ولو كان كافرًا.
شيءٌ لم يرضهُ اللهُ –تبارك
وتعالى- لنفسِهِ، أفيرضاهُ من أحدٍ من خَلْقِهِ؟!
«يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي
وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالَمُوا»، لا تظلموا أنفسَكم.
يقول الرسولُ -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم-: «مَن
ظلمَ قِيدَ شِبرٍ من الأرضِ؛ طُوِّقَهُ من سبعِ أَرَضِينَ يوم القيامة».
يقول النبيُّ -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم-
مُحَذِّرًا أنْ يركنَ الإنسانُ إلى المُهلة، فإنَّ اللهَ لا يعجلُ لعجلةِ أحد،
ويُملي للظالمِ حتى إذا أخذَهُ لم يُفْلتهُ.
كما قال رسول الله -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم-: «لتؤدنَّ
الحقوقَ إلى أصحابِها يوم القيامة؛ حتى يُقادَ للشاةِ الجلحاءِ من الشاةِ القرناء»،
لأن الشاةَ القرناء لا شك تؤلمُ الجلحاء أكثرَ ممَّا تؤلمُها أختُها.
يبعثُ اللهُ الخلائق ليُقيمَ العدل، وليرفعَ القسط،
ويأتي بهذه الحيوانات إقامةً للعدل ورفعًا للقِسط، فتقتصُّ منها كما نطحتها في
الدنيا، يقول الرسول -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم-: «لتؤدنَّ الحقوقَ إلى
أصحابِها؛ حتى يُقادَ للشاةِ الجلحاءِ من الشاةِ القرناء».
فاتقوا الله، لا تظلموا أنفسَكم، اتقوا الظُّلم؛ فإنَّ
الظلمَ ظُلماتٌ يوم القيامة، والظلمُ ثلاثةُ أنواع:
*نوعٌ لا يَغْفِرُ اللهُ منه شيئًا: وهو الشركُ باللهِ –جلَّ
وعلا-: فـ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ
مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ [النساء: 48]، فهذا النوعُ لا يتركُ
اللهُ منه شيئًا، وإنما يؤاخِذُ به ولا يغفرُ منه شيئًا، وإنما يُعذِّبُ به: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13].
*ونوعٌ لا يتركُ اللهُ –تبارك
وتعالى- منه شيئًا:
وهو ظُلمُ العبادِ بعضِهم بعضًا، فلابد من إقامةِ العدل، ومَن لم يتحصل على حقِّهِ
في هذه الحياة؛ فسوف يتحصلُ عليه حتمًا لا محالة.
كما قال رسول -صلى اللهُ عليه وآلِهِ وسَلَّم-: «مَن
كان عنده مَظلمةٌ لأخيه من مالٍ أو عِرض؛ فليُؤدِّها في هذه الحياة قَبْلَ ألَّا
يكونَ درهمٌ ولا دينار، وإنما هي الحسنات والسيئات، فيُؤخذُ من حسناتِهِ ليُعطى
مَن ظَلمه، فإنْ فنيت حسناتُه؛ أُخِذَ من سيئاتِ المظلومِ فطُرِحَ عليه ثم طرِحَ
في النار».
اتقوا الله، حافظوا على أعمالِكم، لا تجعلوها نهبًا
للخصوماتِ والقصاصِ يوم القيامة؛ لأن الرجلَ يُعرضُ عليه كتابُهُ، حتى إذا ما
أحسَّ أنه قد نجا، يقومُ مَن يقولُ ممن ظلمَهُ: يا رب أعطني حقي عند عبدك هذا،
فيُعطى من حسناتِهِ، فما تزالُ تجتمعُ عليه مُحقَّرات الذنوبِ حتى يُلقى في النارِ
وبئس القرار.