تفريغ مقطع : الحلقة الرابعة: بيان بعض أساليب الملحدين الماكرة

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُه، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّم.

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَمَّا بَعْدُ:

ففي كتاب «الفيزياء ووجود الخَالِق» ذِكْرٌ لبعض الأَسْبَابِ التي أَدَّتْ إلي الْإِلْحَادِ فِي العصرِ الْحَدِيث.

*ومن هذه الأَسْبَاب: أن الخلاف بين الْعِلْمِ والدينِ لم يكن خلافًا علميًا؛ بل كَانَ أَيْضًا خلافًا أخلاقيًا وسياسيًا مع الكنيسة التي تتحدث باسم هذا الدين.

لِأَسْبَابٍ مثلِ هذه اعْتَقَدَ كثيرٌ من المؤمنين بوجود الخَالِق والمدافعين عَنْ هذا الإيمان أَنَّهُ ينبغي أن لا يُرْبَطَ الإيمانُ بالله بالدين.

قال أحد مؤرخي الْإِلْحَادِ فِي الحضارة الغربية:

«أنْ يكونَ هذا -يعني الدفاعَ عَنْ وُجُودِ الخَالِقِ- من غير لجوء إلي الكنيسة -يعني الكنيسة الغربية-؛ قَالَ: أن يكون ذَلِكَ كذَلِكَ؛ فهذا يبدو بدهيًا؛ فقد كَانَت الكنيسة جزءًا من المشكلة، جزءًا من المرض الَّذِي كَانَ يصيب كلَّ معرفةٍ باللهٍ، لا جزءًا من العلاج، لقد كَانَت الكنائس الغربية هي الْأَرْضَ التي أَنْبَتَت الْإِلْحَادَ».

قال هذا أحدُ مؤرخي الْإِلْحَادِ فِي الحضارة الغربية.

 *وكان من أكبر أَسْبَاب الْإِلْحَاد: بعض القواعد الفكرية التي أَصَّلَ لها ودافع عَنْها فلاسفةٌ مشهورون مُؤَثِّرون، كَانَوا فِي أنفسهم مؤمنين، أي: كَانَوا مؤمنين بوجود الخَالِق؛ لَكِنَّ قواعدَهم الفكريةَ كَانَت فِي حقيقتها قواعدَ الْإِلْحَاد؛

ولِذَلِكَ اقتنع كثير ممن جاء بعدهم بتلك القواعد الفكرية، وأسسوا عليها إِلْحَادهم، واعتبروا إيمان أُولَئِكَ الْفَلَاسِفَةِ الَّذِينَ قَعَّدُوها؛ اعْتَبَرُوا إيمانَهم أمرًا شخصيًا لا يتناسب مع ما قَعَّدُوا مِنْ قواعدَ عقليةٍ.

كان من هَؤُلَاءِ الْفَلَاسِفَة: «رِينِيه دِيكَارْت» الَّذِي أَتَى بنظريةٍ للطبيعة، ومِن ثَمَّ للعلومِ الطبيعيةِ، فَحْوَاهَا: أنَّ الطبيعة بعد أنْ خَلَقَهَا اللهُ صارت مُسْتَقِلَّةً تمامًا بقوانينِها التي أَوْدَعَها إياها، ولم يَعُدِ الخَالِقُ يَتَدَخَّلُ فِي شُؤُونِهَا، أو يُوقِفُ فَاعِلِيَّتَها.

 صار الخَالِق إِذَن -علي كلامِ هذا- شيئًا بعيدًا عَنْ حياة الناس اليوميةِ واهتماماتِهِمُ الحاليةِ!!

صار شيئًا يمكن أن تستمر الحياة من غير لجوء إِلَيْهِ، أو حتى من غير تَذَكُّرِهِ!!

ولم يَعُدْ مِنْ ضرورةٍ لذِكْرِهِ إلا إِذَا كَانَ الْحَدِيثُ عَنْ بدايةِ الخلقِ!!

لم يلبث هذا الخَالِقُ السلبي الَّذِي دلَّ عليه «دِيكَارْت» أنْ تَحَوَّلَ عَنْد كثير من الْعلماء الطَّبِيعِيِّينَ إِلَى مجرد اسم مجازي للمبدأ أو المبادئ التي يقوم عليها نظام الطبيعة.

كثيرٌ من الناس يظنون أن «أَيْنِشْتَايِنْ» كَانَ مؤمنًا بالله حين يسمعون ذِكْرَهُ لله فِي عبارات؛ مثل قوله المشهور: «إن الإلهَ الرَّبَّ لا يقامِر»؛ لَكِنَّ «أَيْنِشْتَايِنْ» إنما كَانَ يَسْتَعْمِلُ هذه العبارةَ مجازًا؛ لِيُعْرِبَ عَنْ رفضه للنظرية التي تقول بأنَّ المصادَفَةَ حقيقةٌ موضوعيةٌ فِي بِنْيَةِ الكَوْنِ، وليست أمرًا نسبيًا خاصًا بالمُشاهِد للكون.

في أيامنا هذه قَالَ «جُورْجْ سْمُوتْ» الَّذِي اكْتَشَفَ وُجُودَ تَجَعُّدَاتٍ فِي الإشعاع الكوني الخَلْفِيِّ ترجع إِلَى ثلاثِ مائةِ ألفِ سنةٍ الأولى لِعُمْرِ الكونِ -كما يَقُول-!!، والتي كَانَت النواةَ التي تَكَوَّنَتْ منها الأجسام الكونية على حسب ما ذهبوا إِلَيْهِ من نظرية الانفجار الْعَظِيم.

قال وهو يعلن ذَلِكَ الاكتشاف ويشرحه لغير المختصين فِي مؤتمرٍ صحفيٍّ سنةَ اثنتينِ وتسعينَ وتِسْعِمِائَةٍ وألفٍ «1992» من القرن الْمُنْصَرِمِ؛ قَالَ: «إذا كنتَ متديِّنًا فكَأَنَّكَ تَرَى اللهَ».

وكانت هذه العبارةُ مِنْ بَيْنِ كُلِّ ما قَالَ فِي شرحِ اكتشافه هي التي تناقلتها وسائل الإعلام، ونشرتها على نطاقٍ واسعٍ فِي العالم كله؛ لَكِنَّهُ حين كتب كتابه المسمى «تجعداتٌ فِي الزمان»؛ قَالَ وكأنه يعتذر لإخوانه الفيزيائيين فِي علم الكون:

يتلاقى علم الطبيعة بالفلسفة عَنْدما يقترب البحث من السؤال الأقصى عَنْ وُجُودنا العقلاني للكون.

قال ذات مرة: «إنني أريد أن أعرف كيف خلق الله العالم؟

أريد أن أعرف أفكاره!!»

لقد قَصَدَ أن يكونَ هذا مجازًا.

لقد كَانَ يُعَبِّرُ به عَنْ المدى العميقِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي البحث.

وقد كَانَت ملاحظتي -كذَلِكَ هو يَقُول؛ لِأَنَّهُ عَنْدما يتكلم عما قَالَه أَيْنِشْتَايِنْ فِي تلك العبارة التي مرَّت-: «إنني أريد أن أعرف كيف خَلَقَ اللهُ العالم؟ أريد أن أعرف أفكاره».

راح يعتذر عَنْ هذه المقولة؛ قال: لقد قَصَدَ أن يكون هذا مجازًا.

لقد كَانَ يُعَبِّرُ به عَنْ المدى العميقِ الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ فِي البحث، ولقد كَانَت ملاحظتي التي كثر الاستدلال بها مَصُوغَةً فِي هذا القالَبِ نفسِهِ.

يعني كَانَت مجازًا؛ لِأَنَّهُ كَانَه يعتذر لإخوانه الفيزيائيين عما قَالَ بأنه لا يؤمن بوجود الخَالِق أصلًا.

فهذا أمر عَنْدهم مما يُسْتَحْيَا منه، وإذا اعتقده معتقِد؛ فعندهم ينبغي عليه أن يُخْفِيَهُ، وأن يكون ذَلِكَ خاصًا به.

*مِنَ الأَسْبَاب التي أدت إِلَى الْإِلْحَاد فِي هذا العصر أَيْضًا: ما يتكررُ ذكره فِي كتابات الغربيين تعليلًا لنفورهم من الدين؛ فإنه يتكرر فِي كتابات الغربيين أنَّ كثرةَ الحروبِ والمَآَسِي التي حَدَثَتْ فِي تاريخِهِم إنما حَدَثَتْ بِسَبَبِ الخِلَافَاتِ الدينيةِ!!

فيقولون: هذا هو الْمُبَرِّرُ الَّذِي يَجْعَلُنا لا نُحِبُّ الدين ولا نعتقده؛ لِأَنَّهُ لم يأت منه خيرٌ كما يَقُولون!! وإنما حدثت بِسَبَبه فِي تاريخِهِم الْمَآَسِي والحروبُ، وكلُّ ذَلِكَ إنما وَقَعَ بِسَبَب الخِلَافَاتِ الدينيةِ كما يزعمون!!

يقول عالِمُ الأحياءِ البريطانيُّ «بِيتَرْ مدورْ» كما نَقَلَ عَنْه «تِيلَرْ»:

لقد كَانَ الثمنُ الَّذِي اضْطُرَّت البشريةُ فِي عُمُومِهَا لِتَدْفَعَهُ مُقَابِلَ الراحةِ والانتعاشِ الرُّوحِيِّ الَّذِي آتَاهُ الدينُ قِلَّةً مِن الناس؛ كَانَ الثمنُ الَّذِي دَفَعَتْهُ البشريةُ اضْطِرارًا؛ كَانَ دَمًا وَدُمُوعًا، وهو مِنَ الْغَلَاءِ بحيث لا يَسُوغُ لنا أنْ نَأْتَمِنَ الاعتقادَ الدينيَّ علي الْخُلُقِيِّ.

ولا جِدَالَ فِي أَنَّهُ حَدَثَ باسمِ ما يُسَمَّى بالدينِ حُرُوبٌ وَمَآَسٍ وَمَظَالِمُ فِي البلادِ الغربيةِ وفي غيرِها؛ ولَكِنْ هل يُعَدُّ هذا مُسَوِّغًا لِرَفْضِ كُلِّ دينٍ أَيًّا كَان؟!

هذا لا يُقْبَلُ؛ فإنَّ المنهجَ الْعِلْمِيَّ الْمُنْصِفَ يَسْتَدْعِي أنْ نَنْظُرَ فِي هذه الأديانِ لِنُمَيِّزَ بينَها؛ فاسْمُ الدينِ اسْمٌ تَنْدَرِجُ تَحْتَهُ مُعْتَقَدَاتٌ وَقِيَمٌ وَدَعَاوَى مختلفةٌ اختلافًا لا يَجْعَلُ بينَها صلةً إلا ذَلِكَ الاسمُ، وَيَسْتَدْعِي أن نَنْظُرَ فِي هذه المعتقداتِ والقِيَمِ والدَّعَاوَى المختلفةِ؛ لِنَتَبَيَّنَ ما هو منها حَقٌّ، وما هو باطلٌ.

وإذا كَانَ بينَها أمرٌ مُشْتَرَكٌ؛ فهل كَانَ هو السببَ فِي تلك المآسِي حتى نَحْكُمَ على الأديانِ كلِّها هذا الحكمَ العامّ؟

أو أن السبب كَانَ أمرًا خارجًا عَنْ تلك المعتقداتِ، فلا تَتَحَمَّلُ جَرِيرَتَه؟

يعني: قد يكون بِسَبَب استغلال تلك الأديان، أو بِسَبَب سوء فهمٍ لها، أو بِسَبَب ظلم واقع على الفئة المتدينة؛ لأن استغلال الدين كاستغلال كل شيء حسن.

يكون استغلالًا سيئًا فِي كثيرٍ من الأحوال، كما هو الواقع فِي كثير من البلدان، وكثيرٍ من المجالات، والدينُ الْحَقّ يقرر هذا، ويُحَذِّرنا منه.

لا نعرف كلامًا هو أشد فِي التحذير من الَّذِينَ يستغلون الدين لتحقيق مآرب دنيوية، والذين يرتكبون الفظائع بِسَبَب التصور المنحرف للدين مثلَما نجد ذَلِكَ فِي كتاب ربنا وسنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ؛ فإن الله -عز وجل- يَقُول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ.

هذه صورةٌ من صور استغلال الدين استغلالًا سيئًا، وقد ذكرها الله رب العالمين للتحذيرِ منها ومن الوقوع فِي شِبْهِهَا.

وأيضًا يَقُول النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ عَنْ الخوارج: «يَقْرَءُونَ القُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لَأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ»، كما فِي «الصحيحين».

فهذا أَيْضًا من استغلال الدين فِي إراقة الدماء، وما فوق ذَلِكَ وما دونَهُ من تكفير المسلمين، ومِنْ سلب أموالهم وانتهاكِ حرماتهم.

فعندنا فِي كتاب ربنا وسنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ ما يحذر؛ بل ما فِيه من التحذير لا تجد مثله من استغلال الدين استغلالًا سيئًا.

فالآخرون يَقُولون: إنَّ الدين قد اسْتُغِلَّ استغلالًا سيئًا، ووقع ما وقع من الحروب والمآسي بِسَبَبه.

فيقال لهم: إن المنهج الْعِلْميَّ يفرض عليكم أن تبحثوا فِي كل دينٍ، فإذا ما نظرتم فِي الدين الإسلامي مثلًا؛ وجدتم الكتاب والسُّنة يحذران من استغلال الدين استغلالًا سيئًا على نحو ما مَرَّ فِي النصين الكريمين.

ثم على افتراض أن المعتقدات الدينية هي التي أدت إِلَى تلك الحروب؛ فهل توقفت الحروب بعد أن حلت الْعَلْمَانِيَّة فِي الغرب محل الدولة الدينية؟!!

هم أزاحوا الدين، وأحلوا الْعَلْمَانِيَّة مَحَلَّ الدينِ، ووقعت الحروب الكبرى التي لم يَشْهَد العالَمُ مِنْ قَبْلُ لها مَثِيلًا مع غِيَابِ الدينِ، ومع وُجُودِ الْعَلْمَانِيَّةِ.

إنَّ القتلَ والْقَرْحَ والأذَى والتدميرَ والإفسادَ الَّذِي حدث بِسَبَبِ الْحَرْبَيْنِ العَالَمِيَّتَيْنِ لم يَكُنْ له مَثِيلٌ فِي تاريخِ البشريةِ كلِّها؛ فهل كَانَ هذا بِسَبَبِ الدينِ؟!!

الحروبُ التي شَنَّتْهَا الدولُ الغربيةُ الرأسِمَالِيَّةُ والشيوعيةُ على الشعوب الضعيفة لاستعمارها وسَرِقَةِ خيراتها؛ هل كَانَت حروبًا

دينية؟!!

الحروب التي حدثت فِي السنوات الأخيرة فِي العراقِ وإيرانَ والصُّومالِ واليمنِ وغيرِها؛ هل كَانَت بِسَبَب معتقداتٍ دينية؟! أم بِسَبَب اسْتِلَابِ الثَّرْوَاتِ وإِذْلَالِ الشُّعُوبِ؟!!

فإذا كَانَت الحروبُ وَالْمَآَسِي التي حَدَثَتْ بِاسْمِ الدينِ سَبَبًا فِي النُّفُورِ مِن الأديانِ كلِّها، وعدمِ الثقةِ بها؛ فَلْتَكُنْ هذه الحروبُ والمآسي سَبَبًا أقوى للنفور من الْعَلْمَانِيَّة وعدم الثقة بها، على حسب قياسهم، وإلا؛ فإنهم يتناقضون.

يجب إِذَن؛ إِذَا أردنا أن نكون منصفين فِي تقويمنا للدين؛ أن نضع كل هذه الأمور فِي اعتبارنا؛ وإلا كَانَ رَفْضُنا للدينِ وَنُفُورُنَا منه أمرًا عاطفيًا يقوم على الهوى؛ لَكِنه يتزيى بِزِيِّ الْعِلْمِ والعقلِ.

*مِن الأَسْبَابِ التي أَدَّتْ إِلَى الْإِلْحَاد: أنَّ الْمُلْحِدِينَ اتبعوا طريقةً خَدَّاعَةً، هي: أن يضعوا الدين فِي مقابل الْعِلْم الطبيعي، ثم يتكلموا عَنْ المزايا التي يمتاز بها منهجه الْعِلْمي، وعن الثمار التي جناها الناس من المخترعات التي قامت على أساسه، وعن توسيعه لدائرة معارف الناس بالكون، وقضائه بذَلِكَ على كثير من الخرافات المتعلقة بطبيعة الكون أو طبيعة الأَسْبَاب الفاعلة فِيه، إِلَى غير ذَلِكَ.

ثم يَقُولون: أَنَّهُ لهذا كلِّه ينبغي أن يكون الاعتماد على الْعِلْم الطبيعي إِلَى الدين فِي معرفة الْحَقائق.

وهذه الحجة كَانَت تصلح لو أن الدين والْعِلْمَ الطبيعي كَانَا أَمْرَيْنِ متناقِضَيْنِ لا يمكن للعاقلِ أن يَجْمَعَ بينهما.

وربما كَانَت تَصْلُحُ هذه الحجةُ لو أَنَّهُ كَانَ مِن الممكنِ أنْ يُسْتَعْمَلَ منهجُ الْعِلْمِ الطبيعيِّ فِي كل المجالات التي يحتاج إِلَيْهِا الناس، بما فِي ذَلِكَ مثلًا-: الهدفُ من حياتهم على هذا الكوكب الْأَرْضي؛ فهل يستطيع الْعِلْم المادي أن يبين لنا هذا الهدف؟!

وكذَلِكَ ما يصير إِلَيْهِ الناس بعد هذه الحياة.

وكذَلِكَ القِيَمُ التي يَسْتَهْدُونَ بها فِي حياتهم؛ لَكِنَّ الْعِلْمَ الطبيعي بطبيعة منهجه، وكذَلِكَ باعتراف أساطينه لا يستطيع أن يَفْصِلَ لنا فِي هذه الأمور.

فالذي يَقُول للناس -والحالُ هذه-: خذوا الْعِلْم الطبيعي واتركوا الدين؛ هو كَإنسانٍ يَقُول لك: إن الناس يتفقون على ما يشاهدون بحواسهم أكثرَ من اتفاقهم على ما يستنتجون بعقولهم.

 فإذا ما وافقته على ذَلِكَ؛ مَضَى لِيقول: إِذَا؛ فِيجب أن نعتمد على الحواس ونترك العقل جانبا!!

فالقياس واحد.

وأنه لا تناقض بين الاعتماد على الحس فِي معرفة ما مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعْرَفَ بها أي: بالحواسِّ-، والاعتمادِ على العقلِ فِي معرفة ما لا يُعْرَفُ إلا به.

إنه لا تَقَابُل بين الْعِلْم الطبيعي والدين؛ بل إن الدين الْحَقّ يعترف بالمنهج الْعِلْمي الطبيعي وسيلةً إِلَى المعرفة؛ بل إن المنهج التجريبي وَضَعَهُ علماؤنا المسلمون، فأوَّلُ مَنْ وَضَعَ المنهجَ التجريبي هو «شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-»، وسُرِقَ منه، ثم رُوِّجَ فِي الغرب على أَنَّهُ من ابتكار فلان وفلان فِي البحث الْعِلْمي!! ولَكِن الثابت الَّذِي لا يقبل المجادلة ولا النقض: أن أولَ من وضع أسس المنهج التجريبي هو «شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميةَ -رحمه الله تعالى-».

إذًا؛ فالدين ليس مقابلًا للعلم الطبيعي؛ ولَكِنه يَقُول أي الدينُ الْحَقُّ الَّذِي يَعْتَرِفُ بالْعِلْمِ الطبيعي-: أَنَّهُ ليس وسيلةً يعني: الْعِلْمَ الطبيعي إِلَى كل المعارف؛ فأنت لا تستطيع بالْعِلْم الطبيعي أنْ تَصِلَ إِلَى كل المعارف؛ بل هُنَاكَ معارف لا تدرك إلا بالرواية، إلا بالخبر، كما مر ذَلِكَ فِي كلام شيخ الإسلام وغيره عَنْد النظر فِي رسالة العلامة السعدي رحمه الله.

بل هُنَالِكَ أَيْضًا معارف لا تُدرك إلا بالاستنتاج العقلي.

فهذه كلها من وسائل المعرفة ومن طرقها: العقل والحِس، وكذَلِكَ الرواية والخبر.

وأيضا هُنَالِكَ ما لا يمكن معرفته إلا من طريق الرسل، وهو بالخبر الصادق، فالعاقل هو الَّذِي يستفيد من كل هذه الوسائل بحسب نوع المعرفة التي يريدها، ومَن لا عَقْلَ له يَحْصُرُ نفسَه فِي بعضِها، ويُنْكِرُ غيرَه؛ لِذَلِكَ فإن الناس لشدة حاجتهم إِلَى تلك المعارف التي لا يُوصِلُهُمُ الْعِلْمُ الطبيعيُّ إِلَيْهِا؛ يفضلون التعلق بأي دين؛ ولو رأوا فِيه بعض الأباطيل؛ لِأَنَّهُ يلبي شيئا من حاجتهم إِلَى هذه المعارف؛ لأن الناس فِيهم جوعٌ فطري إِلَى التعبد للإله الْحَقّ، وهم يتطلعون إِلَى شيء باطل.

الْعِلْم الطبيعي لا يمكن أن يُشْبِعَ هذه الحاجات، ولا أنْ يَسُدَّ تلك الجَوعات، وحينئذ يتعلق الناس بأي دين يأتي لهم ولو بالخرافات؛ ولَكِن يتكلم عَنْ أمثال هذه المعاناة الباطنة التي يجدها الكائن الإنساني فِي نفسه.

كذَلِكَ من المقالات الْمُفْتَعِلَةُ؛ بل هي مضحكةٌ فِي حد ذاتها: ما قَالَه الفيلسوف «بُوبَرْ» الَّذِي اسْتَشْهَدَ به «وَايِنْبِيرْج»:

«إنه من البديهي جدًا أنَّ اللاعقلانية، لا العقلانية، هي المسؤولة عَنْ كل الحروب والعداوات القومية قبل الحروب الصليبية وبعدها؛ ولَكِنني لا أعرف حربا أُشْعِلَتْ لغايةٍ علمية، أو بإِيعَازٍ من الْعِلْماء».

هذا ما قَالَه ذَلِكَ الفيلسوف!!

فيقال له: كذَلِكَ لم تقم حروب بِسَبَب الاختلافات الأدبية والأذواق الفنية؛ لَكِنَّ المتحاربين متدينين كَانَوا أو غير متدينين يستفيدون مما يعرفون من علمٍ بالدنيا فِي حروبهم؛ فلئن لم تقم الحروب باسم هذا الْعِلْم فقد كَانَ خادما مسخَّرًا فِيها-؛ فأيُّ فضلٍ له على الدين فِي ذَلِكَ؟!!

ويقال له: إنَّهُ قد قامت حروب بِسَبَب الاختلافات اللَّوْنية والانتماءات العنصرية؛ فهل يتخلى الناس عَنْ ألوانهم وأجناسهم؟!!

ويقال أَيْضًا: إنَّ الحرب شرٌّ، ما فِي ذَلِكَ شك؛ ولِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآَلِهِ وَسَلَّمَ للمؤمنين: «أَيُّهَا النَّاسُ؛ لاَ تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَاسألوا اللَّهَ العَافِيَةَ». كما فِي «الصحيحين».     

لَكِنَّ هذا الشَّرَّ قد يكون عملًا صالحًا إِذَا كَانَ وسيلة وحيدة للدفاع عَن الْحَقّ، أو لدرءِ شر أكبر.

*كان أَيْضًا من أَسْبَاب الْإِلْحَاد: دعاوى ادعاها وما يزال يدعيها الْمُلْحِدُونَ عَن التناقض بين الإيمان وحقائق الْعِلْم الطبيعي.

سَلَّمَ بها كثير من المفكرين فِي الغرب، وبدأت تتكررُ مُسْتَشْرِيَةً مِنْ جِيلٍ إِلَى جيل، وتُنْقَلُ مِنْ كتابٍ بَعْدَ كتابٍ؛ مع أَنَّهُا لا تَدُلّ على شيء مما أراد لها مُدَّعُوها.

مِنْ أمثال ذَلِكَ: تَوَهُّمُهم أن الإيمان بوجود الخَالِق مرتبط بتصوراتٍ مُعَيَّنًةٍ للدنيا كَانَت شائعة عَنْد الناس فِي أُورُوبَّا، وأن الْعِلْم أثبت عدم صحة تلك التَّصَوُّرَات، فأزال بذَلِكَ الأساسَ الَّذِي كَانَ يقوم عليه ذَلِكَ الإيمانُ.

 هذا مع أَنَّهُ لا علاقة بالضرورة بين الإيمان وتلك التَّصَوُّرَات.

مِن أكثر ما يذكرونه فِي هذا المجال: اعتقاد الناس فِيما مضى بأن الْأَرْض هي مركز الكون، وأنَّ «كُوبَرْ نِيكُوسْ» جاء فأثبت أن الْأَرْض إنْ هي إلا كوكب من كواكب عدة، وأنه لا ميزة لها على سائر الكواكب والنجوم.

ينسى أصحاب هذا القول أن الْعِلْم الطبيعي كذَلِكَ ارتبط فِي أذهان كثير من أهله بتصورات للكون ما لبث الْعِلْم نفسه أن أبطلها.

ألم يكن كثير من الْعلماء الطَّبِيعِيِّينَ يتصورون أن الكون أزلي لا بداية له ولا نهاية؟!!

بل يَعُدُّ هذا أمرًا لازمًا للنظرة الْعِلْمية حتى جاءت نظرية الانفجار الْعَظِيم --وهي مما يتمسك به كثير منهم- فَسَبَّبَتْ لهم حَرَجًا عظيمًا.

فإذا كَانَ الدينُ سَيَرْفُضُ الناسُ التمسكَ به؛ لأن بعض التَّصَوُّرَات قد ارتبطت عَنْد بعض الناس به، وهي ليست بلازمة، لا عقلًا ولا نقلًا؛ فَلْيَرْفُضْ الناسُ الْعِلْمَ الطبيعيَّ أَيْضًا؛ لِارْتِبَاطِهِ فِي أذهانِ بعضِ أهلِه بتصوراتٍ تُبَيِّنُ البُطْلَانَ، وقد تَبَيَّنَ واضحًا فِيها.

فأمثال هذه الحُجج إنما أتت على حَسَبِ البيئة التي نشأ الْإِلْحَاد المعاصر فِيها؛ لِأَنَّهُم -كما مَرَّ- إنما بدأوا فِي الْإِلْحَاد وتطليق الدين والتحلل منه لما وجدوا المصادمة قائمة بين ما تقرره الَكِنيسة الغربية، وتدَّعي أَنَّهُ هو الإيمان الْحَقّ، وأنَّ ما عداه هرطقة وكفر؛ وبَيْنَ ما أثبته الْعِلْم من الْحَقائق الثابتة التي لا يمكن أن يجادَلَ فِيها ولا أن يُمَارَي، فَكَفَرُوا بالدين الَّذِي دَعَتْهُمْ إِلَيْهِ، وتمسكوا بالْعِلْم، وقالوا: إن هذا الدين غير صالح لشيء، وإنما يصل المرء إِلَى ما يصل إِلَيْهِ؛ بل العالم كله؛ بل الجنس الإنساني يصل إِلَى ما يصل إِلَيْهِ من الرُّقِيِّ بهجر الدين وتطليقه، والْبُعْدِ عَنْه، والكفرِ بالإله الخَالِق !!

هذا لم يكن عَنْدنا !!

هذا كَانَ عَنْدهم !!

وأما نحن؛ فديننا يدعو إِلَى الْعِلْم، ويحض عليه، ويدعو الناس إِلَى الاغتراف من مَعِينِه، و إِلَى  الإكثار من طلبه، إِلَى غير ذَلِكَ مما هو معلوم. 

فنسأل الله أنْ يَحْفَظَ علينا وعلى المسلمين دِينَنَا، وأنْ يُثَبِّتَنَا على الْحَقِّ الَّذِي هَدَانَا إِلَيْهِ.

وصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.


التعليقات


مقاطع قد تعجبك


  هل تعلم أن سيد قطب سب ثلاثة من الأنبياء؟ (موسى وداود وسليمان عليهم السلام)
  تحذير الإمام أحمد من بدعة الحاكم ونهيه عن الخروج عليه
  بأي لونٍ أخط الحرف يا عرب
  ليس العيب على الصعاليك...
  هو الرحمن الرحيم ((7))
  هل فكرت يومًا في رؤية ربك؟
  الْمَعْنَى الصَّحِيحُ لِـ((لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ))
  تَطَاوُلُ وَسُوءُ أَدَبِ شَيْخِ الْحَدَّادِيَّةِ هِشَامٌ البِيَلِيّ فِي حَقِّ النَّبِيِّ –صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-
  الزنا والنظر للمحرمات دين سيرد من عرضك
  ذكرى إعتصام الخوارج
  فُرْصَةٌ لِلْمُحَاسَبَةِ
  أيسجد القلب؟!
  الحل الوحيد
  أكثر الناس يكرهون الحق ويكرهون سماعه ويكرهون من جاء به!!
  فرقة إسلامية! يأتون فيها برجال مخنثين يغنون ويرقصون!!
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان