فينبغي عليك أنْ تَقِفَ طويلًا مُتأملًا، وأن تخشعَ مَلِيًّا عند هذا الشهر بما يُفِيضُ الله رب العالمين فيه من الرحمات.
تَذَكَّرْ أَصْلَ الخلقِ وسَبَبَ الوجودِ؛ فإنَّ الله -جلَّ وعلا- قال: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].
قال النوويُّ -رحمه الله-:
«وهذا تصريحٌ بأنهم خُلِقوا للعبادة، فحُقَّ عليهم الاعتناءُ بما خُلِقوا له، والإعراضُ عن حُظُوظِ الدُّنْيَا بِالزَّهَادَة؛ فإنَّها دَارُ نَفَادٍ لا مَحَلُّ إِخْلَادٍ، وَمَرْكَبُ عُبُورٍ لَا مَنْزِلُ حُبُورٍ، ومَشْرَعُ انْفِصَامٍ لَا مَوْطِنُ دَوَامٍ.
فَتَفَكَّرْ في عِظَمِ فضلِ اللهِ عليك؛ ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا﴾ [إبراهيم: 33].
وأَجَلُّ تلك النِّعَمِ وأَعْظَمُهَا: نعمةُ الإسلام؛ فكم يعيش على هذه الأرض مِنْ أُمَمٍ حُرِمَتْ الشهادةَ؛ شهادةَ ألَّا إلهَ إلا اللهُ، وأنَّ مُحمدًا رسولُ الله؟!
وهذا فضلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يشاء، ثم احْمَدِ اللهَ -عز وجل- على نعمةِ الهدايةِ والتوفيقِ؛ فكم ممن ينتسبُ إلى الإسلام وهم مخالفون لتعاليمِهِ ظاهرًا وباطنًا مُفَرِّطُون في الواجبات، غارقون في المعاصي والآثام واللذات؟! وأنت تتقلبُ في نِعَمِ الله -عز وجل-، من سَعَةٍ في الرزق، وصحةٍ في البدن؛ فعليك واجبُ الشكرِ بالقول والعمل.
وأعظمُ أنواعِ الشكرِ: طاعةُ اللهِ -عز وجل-، واجتنابُ نَوَاهِيهِ؛ فإنَّ النِّعَمَ تَدُومُ بالشكرِ، كما قال -جلَّ وعلا-: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: 7].
ومن نِعَمِ الله عليك: أنْ مَدَّ في عُمُرِكَ، وجَعَلَكَ تُدْرِكُ هذا الشهرَ العظيمَ؛ فكم غَيَّبَ الموتُ مِنْ صاحبٍ، ووَارَى الثَّرَى مِنْ حَبِيب؟
فإنَّ طُولَ العُمُرِ، والبَقَاءَ على قَيْدِ الحياةِ فرصةٌ للتَّزَوُّدِ مِن الطاعاتِ، والتَّقَرُّبِ إلى اللهِ ربِّ العالمينَ بالعملِ الصالحِ.
فَرَأْسُ مَالِ المُسْلِمِ عُمُرُهُ.
لذا احرص على أوقاتك وساعاتك؛ حتى لا تَضِيعَ سُدَى، وَتَذَكَّرْ مَنْ صَامَ مَعَنَا العَامَ المَاضِيَ وصَلَّى العِيد!! ثم أين هو الآنَ بَعْدَ أَنْ غَيَّبَهُ الموتُ؟!
واجْعَلْ لَكَ نَصِيبًا مِنْ حَدِيثِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وآله وسلم-: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: حَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ، وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ، وشَبَابَكَ قَبْلَ هِرَمِكَ، وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ».
أخرجه الحاكمُ، وصححه الألباني.
واحرص أن تكون من خيار الناس كما أخبر بذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؛ فعن أبي بكرة -رضي الله عنه-، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟
قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ».
قَالَ: فَأَيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟
قَالَ -صلى الله عليه وآله وسلم-: «مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ».
أخرجه الترمذي، وصححه الألباني.
ويجبُ الإخلاصُ في النيَّة، وصِدْقُ التوجهِ إلى الله -عز وجل-، واحذر وأنت تعمل الطاعاتِ مداخلَ الرياء والسُّمعة؛ فإنها داءٌ خطيرٌ يُحبط العمل.
اُكْتُمْ حسناتك وأَخْفِهَا كما تكتم وتخفي سيئاتك وعيوبك، واجعل لك خبيئةً من عملٍ صالح لا يعلمُ به إلا اللهُ -عز وجل-، من صلاةِ نافلة، أو دمعةٍ في ظُلمةِ الليل، أو صدقةِ سِرٍّ، واعلم أنَّ اللهَ -عز وجل- لا يتقبل إلا من المتقين، فاحرص على التقوى؛ ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ﴾ [المائدة: 27].
ولا تكن ممن يَأْبَوْنَ دخولَ الجنةِ، كما ذَكَرَ ذلك الرسولُ -صلى الله عليه وسلم- بقوله: «كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى».
قَالُوا: وَمَنْ يَأْبَى يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الجَنَّةَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ أَبَى». أخرجه البخاري.
وعَوِّدْ نفسَك على ذِكْرِ الله في كل حينٍ وعلى كل حال، ولْيَكُنْ لسانُك رَطْبًا بذِكْرِ اللهِ -عز وجل-، وحَافِظْ على الأدعيةِ المعروفةِ والأَوْرَادِ الشرعيةِ.
قال الله -جل وعلا-: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الأحزاب: 41-42].
وقال جل وعلا: ﴿وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب: 35].
قَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: «كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ». رواه مسلم.
ورَوَى عن رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال: «سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ».
قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: «الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ».
قال الإمامُ ابنُ القَيِّمِ -رحمه الله-:
«وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَإنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَعْرَضَ عَنِ اللَّهِ وَاشْتَغَلَ بِالْمَعَاصِي؛ ضَاعَتْ عَلَيْهِ أَيَّامُ حَيَاتِهِ الْحَقِيقِيَّةُ، الَّتِي يَجِدُ غِبَّ إِضَاعَتِهَا يَوْمَ يَقُولُ: ﴿يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ [سُورَةُ الْفَجْرِ: 24]».
واعلم أنه لن يَعْمَلَ أَحَدٌ لك بعد موتِك، مِن صلاةٍ وصيامٍ وغيرِها؛ فَهُبَّ إلى الإكثارِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ عز وجل، والتَّزَوُّدِ مِن الطاعات والقربات، واحرص على قراءة القرآن الكريم كلَّ يوم، ولو رَتَّبْتَ لنفسك أن تقرأ بعد كل صلاة جزءًا من القرآن؛ لأتممتَ في اليوم الواحد خمسة أجزاء، وهذا فضلٌ مِنَ اللهِ عظيمٌ.
والبعض يَظْهَرُ عليه الجِدُّ والحَمَاسَةُ في أوَّلِ الشهر، ثم يَفْتُرُ، وربما يمرُّ عليه اليومُ واليومان بعد ذلك وهو لا يقرأُ من القرآن شيئًا.
وقد ورد في فضل القرآن ما تَقَرُّ به النفوس، وتَهْنَأُ به القلوب:
فعن ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ: ﴿الم﴾ حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلْفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ».
أخرجه الترمذيُّ، وهو حديثٌ صحيح.
وعن أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «اقْرَءُوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ شَفِيعًا لِأَصْحَابِهِ». رواه مسلم.
رمضانُ فرصةٌ مواتيةٌ للدعوةِ إلى الله، فَتَقَرَّبْ إلى اللهِ -عز وجل- في هذا الشهرِ الكريم بدعوةِ أقاربك وجيرانك وأَحِبَّائِك عَبْرَ الكتابِ والنصيحةِ والتوجيه، ولا يَخْلُ لك يومٌ دون أنْ تساهمَ في أمرِ الدعوةِ، فإنَّ الدعوةَ مُهمةُ الرُّسلِ والأنبياءِ والدعاةِ والمصلحين، ولْيكنْ لك سهمٌ في هذا الشهرِ العظيم؛ فإن النفوسَ مُتَعَطِّشَةٌ، والقلوبَ مُتَفَتِّحَةٌ، والأجرَ عظيمٌ؛ قال رسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللهُ بِكَ رَجُلاً وَاحِدًا خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ». أخرجاه.
قال الحسنُ -رحمه الله-: «فمقام الدعوة إلى الله أفضل مقامات العبد».
واحذر مجالسَ الفارغين، واحفظ لسانك مِن الغِيبةِ والنميمةِ وفاحشِ القَول، واحبس لسانك عن كلِّ ما يُغضب الله، وأَلزم نفسك الكلامَ الطيبَ الجميل، وليكن لسانُك رطبًا بذِكرِ الله، وهي فرصة للتزودِ من الطاعةِ والتفرغِ للعبادة، وقد لا تتكررُ الفرصة؛ بل قد تموتُ قبل أنْ تعود الفُرَصُ.
واعلم أنَّ كلَّ يومٍ يعيشُهُ المؤمنُ فهو غنيمة.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: كَانَ رَجُلَانِ مِنْ بَلِيٍّ -حَيٍّ مِنْ قُضَاعَةَ- أَسْلَمَا على عهدِ رسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فاسْتُشْهِدَ أَحَدُهُمَا، وَأُخِّرَ الْآخَرُ سَنَةً، فقَالَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ: فَأُرِيتُ الْجَنَّةَ –يعني في الرؤيا-، فَرَأَيْتُ الْمُؤَخَّرَ مِنْهُمَا أُدْخِلَ قَبْلَ الشَّهِيدِ، فَتَعَجَّبْتُ لِذَلِكَ، فَأَصْبَحْتُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَوْ ذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ-صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: «أَلَيْسَ قَدْ صَامَ بَعْدَهُ –أي بعد الشهيد- رَمَضَانَ، وَصَلَّى سِتَّةَ آلَافِ رَكْعَةٍ، أَوْ كَذَا وَكَذَا رَكْعَةً صَلَاةَ السَّنَةِ؟!»
أخرجه أحمد وابن حبان والبيهقيُّ، وصححه الألبانيُّ في «صحيح الترغيب»، وفي «صحيح الجامع».
مَنْزِلُكَ هو مَنَاطُ تَوْجِيهِكَ الأَوَّلِ؛ فاحْرِصْ أولًا على أَخْذِ نفسِك وتَرْبِيَتِها على الخير، ثم احرص على مَنْ حَوْلَكَ، مِنْ زوجةٍ وأخٍ وأختٍ وأبناءٍ، بتذكيرِهم بعِظَمِ هذا الشهرِ، وحَثِّهِمْ على المحافظةِ على الصلاة، وكثرةِ قراءةِ القرآن.
كُن آمرًا بالمعروف ناهيًا عن المنكرِ في منزلِك بالقولِ الطيب والكلمةِ الصادقة، وأَتْبِعْ ذلك كُلَّهُ بالدعاءِ لهم بالهداية.
هذا الشهرُ فرصةٌ لمراجعةِ ومناصحةِ المُقَصِّرِينَ والمُفَرِّطِين، فَلَعَلَّ اللهَ -عز وجل- أنَّ يَهْدِيَ مَنْ حَوْلَكَ، فيكونَ لك الأجرُ العظيمُ، كما قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ دَلَّ عَلَى خَيْرٍ فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِ فَاعِلِهِ».
رواه مسلم.