((آثَارُ الْمَعِيَّةِ فِي تَحْقِيقِ السَّلَامِ النَّفْسِيِّ))
الْمَعِيَّةُ الْخَاصَّةُ.. إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عَرَفَ أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ الَّذِي هُوَ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ يَحْظَى أَهْلُهُ بِمَعِيَّةِ اللهِ؛ حَرَصَ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْعَمَلِ، فَيَحْرِصُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّقْوَى فَإِنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ، وَمَعَ أَهْلِ الْإِحْسَانِ وَأَهْلِ الصَّبْرِ وَأَهْلِ الْإِيمَانِ، وَيُكْثِرُ مِنَ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ، وَأَيُّ فَضِيلَةٍ تُدَانِي فَضِيلَةَ مَنْ كَانَ اللهُ مَعَهُ؟!!
وَأَيُّ مَزِيَّةٍ تُوَازِي مَزِيَّةَ مَنْ هُوَ أَهْلُ هَذِهِ الطَّبَقَةِ الشَّرِيفَةِ وَالْمَنْزِلَةِ السَّامِيَةِ؟!!
((فَمَتَى حَظِيَ الْعَبْدُ بِمَعِيَّةِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- الْخَاصَّةِ هَانَتْ عَلَيْهِ الْمَشَاقُّ، وَانْقَلَبَتِ الْمَخَاوِفُ فِي حَقِّهِ أَمَانًا، فَبِاللهِ يَهُونُ كُلُّ صَعْبٍ، وَيَسْهُلُ كُلُّ عَسِيرٍ، وَيَقْرُبُ كُلُّ بَعِيدٍ.
وَبِاللهِ تَزُولُ الْهُمُومُ وَالْغُمُومُ وَالْأَحْزَانُ، فَلَا هَمَّ مَعَ اللهِ وَلَا غَمَّ وَلَا حَزَنَ)) .
وَإِنَّمَا الْحُزْنُ كُلُّ الْحُزْنِ لِمَنْ فَاتَهُ اللهُ؛ فَمَنْ حَصَلَ اللهُ لَهُ فَعَلَى أَيِّ شَيْءٍ يَحْزَنُ؟! وَمَنْ فَاتَهُ فَبِأَيِّ شَيْءٍ يَفْرَحُ؟!!
وَإِذَا كَانَ اللهُ مَعَكَ.. فَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ تَخَافُ؟!!
وَإِذَا كَانَ عَلَيْكَ.. فَمَنْ تَرْجُو؟!!
صِفَةُ الْمَعِيَّةِ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ، وَالْإِيمَانُ بِهَا يُثْمِرُ فِي حَيَاةِ مَنْ آمَنَ بِهَا مِنَ الثَّمَرَاتِ مَا لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ، وَلَا يَعْلَمُ مِقْدَارَهُ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الَّذِي أَجْزَلَهُ لِلْعَبْدِ وَمَنَّ عَلَيْهِ بِهِ.
فَعَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ صِفَاتِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَإِذَا آمَنَ بِالْمَعِيَّةِ الْعَامَّةِ رَاقَبَ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَخَافَهُ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَعْلَمُ مَا يَفْعَلُ، وَهُوَ مُرَاقِبٌ لَهُ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْمَعِيَّةُ الْخَاصَّةُ فَلَهَا أَسْبَابٌ؛ مِنَ الْإِيمَانِ، وَالْإِحْسَانِ، وَالتَّقْوَى... إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا ذَكَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَذَكَرَهُ الرَّسُولُ.
بَلْ إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَصَابَهُ مَرَضٌ فَإِنَّهُ يَتَمَتَّعُ بِالْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ؛ كَمَا قَالَ رَبُّنَا -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- فِي الْحَدِيثِ الْقُدُسِيِّ الصَّحِيحِ: ((أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ)) .
وَهَذِهِ مَعِيَّةٌ خَاصَّةٌ؛ فَإِنَّ الْمَرِيضَ إِذَا كَانَ رَاضِيًا عَنْ رَبِّهِ، مُفَوِّضًا إِلَيْهِ أَمْرَهُ، مُتَبَرِّئًا مِنْ حِيلَتِهِ وَحَوْلِهِ، مُقْبِلًا عَلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ صَابِرًا، لَا يَشْكُو رَبَّهُ إِلَى خَلْقِهِ، بَلْ يَشْكُو نَفْسَهُ إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَحْدَهُ.. إِذَا كَانَ الْمَرِيضُ كَذَلِكَ؛ كَانَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ مَعَهُ بِالْمَعِيَّةِ الْخَاصَّةِ.
قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ ۚ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} [الزمر: 10].
قُلْ يَا رَسُولَ اللهِ وَيَا كُلَّ دَاعٍ إِلَى اللهِ مِنْ أُمَّتِهِ! إِنَّ رَبَّكُمُ الَّذِي شَرَّفَكُمْ بِعُبُودِيَّتِكُمْ لَهُ يُنَادِيكُمْ قَائِلًا لَكُمْ: يَا عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ! اتَّقُوا عِقَابَ رَبِّكُمُ الَّذِي يُمِدُّكُمْ دَوَامًا بِعَطَاءَاتِ رُبُوبِيَّتِهِ لَكُمْ؛ بِالْتِزَامِ حُقُوقِ مَرْتَبَةِ التَّقْوَى بِفِعْلِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَكُونُوا أَبْرَارًا بِالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِنَوَافِلِ الْعِبَادَاتِ يَزِدْكُمْ مِنْ فَضْلِهِ.
وَأَحْسَنُوا.. لِلَّذِينَ عَبَدُوا اللهَ كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ عَطَايَا وَمِنَحٌ حَسَنَةٌ فِي الْآخِرَةِ وَهِيَ الْجَنَّةُ، وَحَسَنَةٌ فِي الدُّنْيَا وَهِيَ الصِّحَّةُ وَالرِّزْقُ وَالتَّأْيِيدُ وَالنَّصْرُ وَغَيْرُ ذَلِكَ.
عِبَادَ اللهِ! أَيْنَ يَجِدُ الْمَرْءُ رَاحَةَ قَلْبِهِ؟
وَأَيْنَ يَجِدُ الْمَرْءُ صَلَاحَ بَالِهِ، وَانْشِرَاحَ صَدْرِهِ، وَرَاحَةَ بَدَنِهِ؟
كُلُّ ذَلِكَ فِي طَاعَةِ اللهِ، «وَتَحْتَ هَذَا سِرٌّ عَظِيمٌ مِنْ أَسْرَارِ التَّوْحِيدِ، وَهُوَ أَنَّ الْقَلْبَ لَا يَسْتَقِرُّ وَلَا يَطْمَئِنُّ وَلَا يَسْكُنُ إِلَّا بِالْوُصُولِ إِلَيْهِ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ مِمَّا يُحَبُّ وَيُرَادُ فَمُرَادٌ لِغَيْرِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمَحْبُوبُ لِذَاتِهِ إِلَّا وَاحِدًا إِلَيْهِ الْمُنْتَهَى.
وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْمُنْتَهَى إِلَى اثْنَيْنِ، كَمَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ اثْنَيْنِ.
فَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمَحْبُوبُ لِذَاتِهِ إِلَّا وَاحِدًا إِلَيْهِ الْمُنْتَهَى.
وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الْمُنْتَهَى إِلَى اثْنَيْنِ؛ كَمَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الْمَخْلُوقَاتِ مِنَ اثْنَيْنِ.
فَمَنْ كَانَ انْتِهَاءُ مَحَبَّتِهِ وَرَغْبَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَطَاعَتِهِ إِلَى غَيْرِهِ، بَطَلَ عَلَيْهِ ذَلِكَ، وَزَالَ عَنْهُ، وَفَارَقَهُ أَحْوَجَ مَا كَانَ إِلَيْهِ
وَمَنْ كَانَ انْتِهَاءُ مَحَبَّتِهِ وَرَغْبَتِهِ وَرَهْبَتِهِ وَطَلَبِهِ هُوَ سُبْحَانَهُ؛ ظَفِرَ بِنَعِيمِهِ وَلَذَّتِهِ وَبَهْجَتِهِ وَسَعَادَتِهِ أَبَدَ الْآبَادِ.
وَالْعَبْدُ دَائِمًا مُتَقَلِّبٌ بَيْنَ أَحْكَامِ الْأَوَامِرِ وَأَحْكَامِ النَّوَازِلِ.
[وَالْمُؤْمِنُ الْحَقُّ يَقُولُ عِنْدَ الْأَمْرِ: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا، وَعِنْدَ الْخَبَرِ: سَمِعْنَا وَصَدَّقْنَا] فَهُوَ مُحْتَاجٌ -بَلْ مُضْطَرٌّ- إِلَى الْعَوْنِ عِنْدَ الْأَوَامِرِ، وَإِلَى اللُّطْفِ عِنْدَ النَّوَازِلِ، وَعَلَى قَدْرِ قِيَامِهِ بِالْأَوَامِرِ يَحْصُلُ لَهُ مِنَ اللُّطْفِ عِنْدَ النَّوَازِلِ.
فَإِنْ كَمَّلَ الْقِيَامَ بِالْأَوَامِرِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا؛ نَالَهُ اللُّطْفُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا.
وَإِنْ قَامَ بِصُوَرِهَا دُونَ حَقَائِقِهَا؛ نَالَ اللُّطْفَ فِي الظَّاهِرِ، وَقَلَّ نَصِيبُهُ مِنَ اللُّطْفِ فِي الْبَاطِنِ.
فَإِنْ قُلْتَ: وَمَا اللُّطْفُ الْبَاطِنُ؟
فَالْجَوَابُ:
هُوَ مَا يَحْصُلُ لِلْقَلْبِ عِنْدَ النَّوَازِلِ مِنَ السَّكِينَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، وَزَوَالِ الْقَلَقِ وَالِاضْطِرَابِ وَالْجَزَعِ.
فَيَسْتَخْذِي بَيْنَ يَدَيْ سَيِّدِهِ ذَلِيلًا لَهُ مُسْتَكِينًا، نَاظِرًا إِلَيْهِ بِقَلْبِهِ، سَاكِنًا إِلَيْهِ بِرُوحِهِ وَسِرِّهِ، قَدْ شَغَلَهُ مُشَاهَدَةُ لُطْفِهِ بِهِ عَنْ شِدَّةِ مَا هُوَ فِيهِ مِنَ الْأَلَمِ، وَقَدْ غَيَّبَهُ عَنْ شُهُودِ ذَلِكَ مَعْرِفَتُهُ بِحُسْنِ اخْتِيَارِهِ لَهُ، وَأَنَّهُ عَبْدٌ مَحْضٌ يُجْرِي عَلَيْهِ سَيِّدُهُ أَحْكَامَهُ رَضِيَ أَوْ سَخِطَ.
فَإِنْ رَضِيَ نَالَ الرِّضَا، وَإِنْ سَخِطَ فَحَظُّهُ السُّخْطُ.
فَهَذَا اللُّطْفُ الْبَاطِنُ ثَمَرَةُ تِلْكَ الْمُعَامَلَةِ الْبَاطِنَةِ؛ يَزِيدُ بِزِيَادَتِهَا، وَيَنْقُصُ بِنُقْصَانِهَا».
فَالْإِيمَانُ بِالْمَعِيَّةِ عَلَى هَذَا النَّحْوِ الصَّحِيحِ مِمَّا بَيَّنَتْهُ النُّصُوصُ خَاصَّةً وَعَامَّةً مِمَّا يُثْمِرُ فِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ.
نَسْأَلُ اللهَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ، وَتَقَدَّسَتْ أَسْمَاؤُهُ- أَلَّا يَشْغَلَنَا بِالْمَخْلُوقَاتِ عَنِ الْخَالِقِ، وَلَا بِالْمُحْدَثَاتِ عَنِ الْمُحْدِثِ، وَلَا بِالْمُدَبَّرَاتِ عَنِ الْمُدَبِّرِ، وَأَنْ يَجْعَلَ إِلَى رِضْوَانِهِ لِقُلُوبِنَا سَبِيلًا، وَإِلَى رَحْمَتِهِ قَبْضًا وَتَحْصِيلًا.
وَنَسْأَلُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِذَا أَرَادَ بِالنَّاسِ فِتْنَةً أَنْ يَقْبِضَنَا إِلَيْهِ غَيْرَ فَاتِنِينَ وَلَا مَفْتُونِينَ، وَلَا خَزَايَا وَلَا مَحْزُونِينَ، وَلَا مُغَيِّرِينَ وَلَا مُبَدِّلِينَ؛ إِنَّهُ هُوَ -تَعَالَى- أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَأَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ.
وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر:مَعِيَّةُ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَأَثَرُهَا فِي تَحْقِيقِ السَّلَامِ النَّفْسِيِّ