اهْتِمَامُ الْإِسْلَامِ بِالطِّفْلِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ


((اهْتِمَامُ الْإِسْلَامِ بِالطِّفْلِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ))

لَقَدِ اهْتَمَّ الْإِسْلَامُ بِالنَّسْلِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْظَمِ ثَمَرَاتِ الزَّوَاجِ اهْتِمَامًا بَالِغًا فِي جَمِيعِ مَرَاحِلِ حَيَاتِهِ؛ فَأَطْفَالُ الْيَوْمِ هُمْ شَبَابُ الْغَدِ، وَهُمْ قَادَةُ الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَقَدْ بَلَغَ مِنَ اهْتِمَامِ الْإِسْلَامِ بِالنَّسْلِ أَنْ جَعَلَ لِلطِّفْلِ حُقُوقًا قَبْلَ مَوْلِدِهِ، بَلْ وَقَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ جَنِينًا فِي بَطْنِ أُمِّهِ؛ لِتَتَحَقَّقَ لَهُ حَيَاةٌ طَيِّبَةٌ كَرِيمَةٌ وَفْقَ الضَّوَابِطِ الشَّرْعِيَّةِ.

 

وَمِنْ دَلَائِلِ اهْتِمَامِ الْإِسْلَامِ بِالطِّفْلِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ؛ حَدِيثُ النَّبِيِّ ﷺ: ((يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ؛ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ)) .

فَمَوْضُوعُ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الْحَثِّ عَلَى النِّكَاحِ، أَوْ فِي وُجُوبِ النِّكَاحِ لِمَنْ وَجَدَ مَؤُونَتَهُ.

((يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ)): الْمُرَادُ بِهَا النِّكَاحُ، أَوْ تَكَالِيفُ النِّكَاحِ، أَوِ اسْتِطَاعَتُهُ اسْتِطَاعَةً ذَاتِيَّةً، وَلَا شَكَّ أَنَّ الشَّارِعَ ﷺ أَمَرَ الشَّبَابَ بِالتَّزَوُّجِ إِذَا كَانُوا قَادِرِينَ عَلَى مَؤُونَةِ الزَّوَاجِ قُدْرَةً ذَاتِيَّةً وَقُدْرَةً مَالِيَّةً.

وَالشَّبَابُ: جَمْعُ شَابٍّ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْحَرَكَةِ وَالنَّشَاطِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي أَوَّلِ عُمُرِهِ يَكُونُ أَكْثَرَ حَرَكَةً وَنَشَاطًا مِنْهُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ، وَالشَّبَابُ مَنْ لَمْ يَبْلُغِ الْأَرْبَعِينَ، وَلَيْسَ بَعْدَ مَرِّ الْأَرْبَعِينَ شَبَابٌ.

قَوْلُهُ ﷺ ((فَلْيَتَزَوَّجْ)): هَذَا أَمْرٌ، وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ، وَعَلَى هَذَا فَقَدْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ هُنَا أَمْرُ إِرْشَادٍ لَا أَمْرُ إِيجَابٍ، وَجَعَلُوا النِّكَاحَ سُنَّةً فِي حَقِّ الرَّجُلِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ، فَإِنْ خَشِيَ بِتَرْكِ الزَّوَاجِ الزِّنَى؛ فَحِينَئِذٍ يَأْتِي بِالزَّوَاجِ وُجُوبًا، فَيَصِيرُ وَاجِبًا عَلَيْهِ إِذَا خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الْعَنَتَ.

((وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ)): يَعُمُّ النَّفْيُ هُنَا الِاسْتِطَاعَةَ الْمَالِيَّةَ وَالِاسْتِطَاعَةَ الْبَدَنِيَّةَ.

((وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ)): أَنْ يُكْثِرَ مِنْهُ تَبَعًا لِهَذَا الْأَمْرِ.. أَنْ يُكْثِرَ مِنَ الصَّوْمِ؛ ((فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ)): الْفَاءُ تَعْلِيلِيَّةٌ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ يُخَفِّفُ مِنْ وَطْأَةِ الرَّغْبَةِ الْجَامِحَةِ فِيهِ الَّتِي رُبَّمَا أَدَّتْ بِالْعَبْدِ إِلَى الْوُقُوعِ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ.

فَالصِّيَامُ وِجَاءٌ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَالْوِجَاءُ (كَمَا هُوَ فِي الْأَصْلِ): هُوَ رَضُّ عُرُوقِ الْخُصْيَتَيْنِ كَمَا يُصْنَعُ بِالْفَحْلِ، فَيُجْعَلُ ذَلِكَ بَيْنَ حَجَرَيْنِ، ثُمَّ يَقَعُ الرَّضُّ مِنْ أَجْلِ أَنْ تَخِفَّ الشَّهْوَةُ أَوْ تَنْقَطِعَ.

فَحَثَّ النَّبِيُّ ﷺ الَّذِينَ عِنْدَهُمُ الْقُدْرَةُ الذَّاتِيَّةُ وَالْقُدْرَةُ الْمَالِيَّةُ عَلَى فِعْلِ الزَّوَاجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ذَلِكَ فَلْيُكْثِرْ مِنَ الصَّوْمِ، وَلْيَلْزَمْ الِاسْتِعْفَافَ، وَلْيَسْأَلْ رَبَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَعْصِمَهُ مِنَ الْوُقُوعِ فِي طَائِلَةِ الزِّنَى؛ لِأَنَّ التَّحَصُّنَ وَالتَّعَفُّفَ وَاجِبٌ، وَضِدُّهُمَا حَرَامٌ، وَهُوَ آتٍ مِنْ قِبَلِ شِدَّةِ الشَّهْوَةِ مَعَ ضَعْفِ الْإِيمَانِ.

وَالشَّبَابُ أَشَدُّ شَهْوَةً، فَخَاطَبَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ مُرْشِدًا لَهُمْ إِلَى طَرِيقِ الْعَفَافِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ وَجَدَ مِنْهُمْ مَؤُونَةَ النِّكَاحِ مِنَ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَالسَّكَنِ، فَلْيَتْزَوَّجْ؛ لِأَنَّ الزَّوَاجَ يَغُضُّ الْبَصَرَ عَنِ النَّظَرِ الْمُحَرَّمِ، وَيُحَصِّنُ الْفَرْجَ عَنِ الْفَوَاحِشِ.

وَأَغْرَى النَّبِيُّ ﷺ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْهُمْ مَؤُونَةَ النِّكَاحِ وَهُوَ تَائِقٌ إِلَيْهِ.. أَغْرَاهُ بِالصَّوْمِ؛ فَفِيهِ الْأَجْرُ، وَفِيهِ قَمْعُ شَهْوَةِ الْجِمَاعِ وَإِضْعَافُهَا بِتَرْكِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَتَضْعُفُ النَّفْسُ، وَتَنْسَدُّ مَجَارِي الدَّمِ الَّتِي يَنْفُذُ مَعَهَا الشَّيْطَانُ، فَالصَّوْمُ يَكْسِرُ الشَّهْوَةَ كَالْوِجَاءِ لِلْخُصْيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تُصْلِحَانِ الْمَنِيَّ فَتَهِيجُ الشَّهْوَةُ.

فَأَرْشَدَ النَّبِيُّ ﷺ مَنِ اسْتَطَاعَ الزَّوَاجَ إِلَى الزَّوَاجِ، لِكَيْ يُحَصِّلَ أَسْبَابَ الْخَيْرِ؛ مِنَ اسْتِقْرَارِ النَّفْسِ، وَهَنَاءَةِ الْخَاطِرِ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا تَزَوَّجَ حَصَلَ عِنْدَهُ الِاسْتِقْرَارُ النَّفْسِيُّ، وَيَتِمُّ التَّعَاوُنُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْمَصَالِحِ الَّتِي يَسْتَعِينُونَ بِهَا عَلَى أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ.

الرَّجُلُ يَكُونُ مَكْفِيًّا فِي بَيْتِهِ بِالزَّوْجَةِ الَّتِي تَعْمَلُ لَهُ مَا يُصْلِحُهُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَتَهْيِئَةِ الْمَنَافِعِ فِي الْبَيْتِ.

وَالْمَرْأَةُ تَكُونُ مَكْفِيَّةً بِزَوْجِهَا عَنْ تَحْصِيلِ الرِّزْقِ، وَفِي ذَلِكَ مِنَ الْخَيْرِ مَا اللهُ بِهِ عَلِيمٌ.

* وَمِنْ دَلَائِلِ اهْتِمَامِ الْإِسْلَامِ بِالْأَوْلَادِ قَبْلَ وِلَادَتِهِمْ: اسْتِحْبَابُ الْبِشَارَةِ بِالْمَوْلُودِ؛ فَهَذَا الدِّينُ فِيهِ مِنَ التَّعَامُلِ مَعَ الْمَشَاعِرِ مَا فِيهِ!!

وَلَا تَجِدُ ذَلِكَ فِي تَعَالِيمَ.. سَوَاءٌ كَانَتْ فِي دِينٍ قَدْ جَاءَ بِهِ مَنْ جَاءَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ قَبْلَ نَبِيِّنَا ﷺ، أَمْ كَانَتْ -وَهُوَ مَعْلُومٌ- فِيمَا أَتَى بِهِ الْبَشَرُ مِنْ قُمَامَاتِ الْأَفْكَارِ وَزِبَالَاتِ الْعُقُولِ؛ فَجَعَلُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ دِينًا وَمَنْهَجًا.

هَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ فِيهِ مِنَ الْمَشَاعِرِ مَا فِيهِ.

فِي هَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ اسْتِحْبَابُ الْبِشَارَةِ بِالْمَوْلُودِ وَكُلِّ مَا هُوَ خَيْرٌ؛ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ} [مريم: 7].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101].

وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53].

وَقَالَ -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} [آل عمران: 39].

فَهَذِهِ الْبِشَارَةُ الَّتِي هِيَ إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى قَلْبِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ مُسْتَحَبَّةٌ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.

وَيُشْرَعُ لِلْمُبَشَّرِ أَنْ يُهْدِيَ لِلْمُبَشِّرِ شَيْئًا كَمَا أَهْدَى كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ لِلرَّجُلِ الَّذِي بَشَّرَهُ بِالتَّوْبَةِ رِدَاءَهُ وَقَمِيصَهُ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ؛ لِلْحَدِيثِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ فِي ((صَحِيحَيْهِمَا)) -.

فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُحِبَّ الْخَيْرَ لِإِخْوَانِنَا، وَأَنْ نَسْعَى بِالْبِشَارَةِ لِمَنْ رَزَقَهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِخَيْرٍ، وَمَنْ آتَاهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ رِزْقًا حَسَنًا.

 

المصدر:حُقُوقُ الطِّفْلِ قَبْلَ وِلَادَتِهِ

التعليقات


فوائد مفرغة قد تعجبك


  الرَّعِيلُ الْأَوَّلُ سَادَةُ الدُّنْيَا بِالْإِسْلَامِ
  فَضَائِلُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ
  نِعْمَةُ الْأَمْنِ وَالْأَمَانِ في الْأَوْطَانِ الْمُسْلِمَةِ
  اعْلَمْ أَنَّ شَرَفَ المُؤْمِنِ قِيَامُهُ بِاللَّيْلِ
  حُكْمُ مَانِعِ الزَّكَاةِ
  الْوَفَاءُ بِمِيثَاقِ الرَّاعِي وَالرَّعِيَّةِ
  تَفَاعُلُ الْمَخْلُوقَاتِ مَعَ الْقُرْآنِ الكريم
  رَمَضَانُ شَهْرُ الْهِدَايَةِ
  حَالُ النَّبِيِّ ﷺ وَأَصْحَابِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَتِلَاوَتِهِ
  مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْهِجْرَةِ إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ
  اسْتِحْبَابُ إِكْرَامِ الْيَتِيمِ وَالدُّعَاءِ لَهُ
  مَسْئُولِيَّةُ الْمُسْلِمِ وَوَاجِبَاتُهُ تِجَاهَ إِخْوَانِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ
  مِثَالٌ مَضْرُوبٌ فِي الْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ
  مِنْ سُبُلِ بِنَاءِ الْأُمَمِ: التَّوْبَةُ مِنَ الْمَعَاصِي وَالذُّنُوبِ
  مِنْ مَعَالِمِ الرَّحْمَةِ فِي خُطْبَةِ الْوَدَاعِ: إِبْطَالُ الرِّبَا الْمُدَمِّرِ لِلْمُجْتَمَعِ
  • شارك

نبذة عن الموقع

موقع تفريغات العلامة رسلان ، موقع يحتوي على العشرات من الخطب والمحاضرات والمقاطع المفرغة لفضيلة الشيخ العلامة أبي عبدالله محمد بن سعيد رسلان-حفظه الله- . كما يعلن القائمون على صفحة وموقع تفريغات العلامة رسلان -حفظه الله- أن التفريغات للخطب ليست هي الشكل النهائي عند الطباعة، ولكن نحن نفرغ خطب الشيخ حفظه الله ونجتهد في نشرها ليستفيد منها طلاب العلم والدعاة على منهاج النبوة في كل أنحاء الدنيا، ونؤكد على أنَّ الخطب غير مُخرَّجة بشكل كامل كما يحدث في خطب الشيخ العلامة رسلان المطبوعة وليست الكتب المنشورة على الصفحة والموقع هي النسخة النهائية لكتب الشيخ التي تُطبع...وهذه الكتب ما هي إلا تفريغ لخطب الشيخ، غير أنَّ كتب الشيخ التي تُطبع تُراجع من الشيخ -حفظه الله- وتُخرج. والتفريغ عملٌ بشريٌ، ونحن نجتهد في مراجعة التفريغات مراجعة جيدة، فإذا وقع خطأ أو شكل الخطب كما نخرجها -إنما نُحاسب نحن عليها والخطأ يُنسب لنا وليس للشيخ -حفظه الله-.

الحقوق محفوظة لكل مسلم موقع تفريغات العلامة رسلان