((الْآدَابُ الْعَامَّةُ وَأَثَرُهَا فِي رُقِيِّ الْأُمَمِ))
إِنَّ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا الْحَمْدَ وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ﷺ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ ﷺ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
((دِينُ الْعَقَائِدِ وَالْآدَابِ وَالْأَخْلَاقِ الْكَامِلَةِ))
فَقَدْ ((قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].
وَهَذَا يَشْمَلُ الْكَمَالَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، قَالَ -تَعَالَى-: {إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]؛ أَيْ: أَكْمَلُ وَأَتَمُّ وَأَصْلَحُ؛ مِنَ الْعَقَائِدِ، وَالْأَخْلَاقِ، وَالْأَعْمَالِ، وَالْعِبَادَاتِ، وَالْمُعَامَلَاتِ، وَالْأَحْكَامِ الشَّخْصِيَّةِ، وَالْأَحْكَامِ الْعُمُومِيَّةِ.
وَقَالَ -تَعَالَى-: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 50].
وَهَذَا يَشْمَلُ جَمِيعَ مَا حَكَمَ بِهِ، وَأَنَّهُ أَحْسَنُ الْأَحْكَامِ وَأَكْمَلُهَا، وَأَصْلَحُهَا لِلْعِبَادِ، وَأَسْلَمُهَا مِنَ الْخَلَلِ وَالتَّنَاقُضِ، وَمِنَ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ.
أَمَّا عَقَائِدُ هَذَا الدِّينِ وَأَخْلَاقُهُ وَآدَابُهُ وَمُعَامَلَاتُهُ؛ فَقَدْ بَلَغَتْ مِنَ الْكَمَالِ وَالْحُسْنِ وَالنَّفْعِ وَالصَّلَاحِ -الَّذِي لَا سَبِيلَ إِلَى الصَّلَاحِ بِغَيْرِهِ- مَبْلَغًا لَا يَتَمَكَّنُ عَاقِلٌ مِنَ الرَّيْبِ فِيهِ، وَمَنْ قَالَ سِوَى ذَلِكَ فَقَدْ قَدَحَ بِعَقْلِهِ, وَبَيَّنَ سَفَهَهُ، وَمُكَابَرَتَهُ لِلضَّرُورَاتِ)).
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ مَحَاسِنِ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ وَدَلَائِلِ كَمَالِهِ: حَثَّهُ عَلَى الْآدَابِ الْعَامَّةِ، وَالْآدَابُ الَّتِي بَيَّنَهَا اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَوَضَّحَهَا رَسُولُهُ ﷺ كَثِيرَةٌ، عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى تَعَلُّمِهَا وَالتَّخَلُّقِ بِهَا، مِنْهَا مَا هُوَ وَاجِبٌ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَنْدُوبٌ.
قَالَ الْإِمَامُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَدَبُ الْمَرْءِ عُنْوَانُ سَعَادَتِهِ وَفَلَاحِهِ، وَقِلَّةُ أَدَبِهِ عُنْوَانُ شَقَاوَتِهِ وَبَوَارِهِ، فَمَا اسْتُجْلِبَ خَيْرُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِمِثْلِ الْأَدَبِ، وَلَا اسْتُجْلِبَ حِرْمَانُهَا بِمِثْلِ قِلَّةِ الْأَدَبِ!!)).
وَحَيَاةُ الْمُسْلِمِ كُلُّهَا خَاضِعَةٌ لِدِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ أَمْرًا وَنَهْيًا، وَدِينُ الْإِسْلَامِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ شَأْنٍ مِنْ شُئُونِ الْحَيَاةِ؛ فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَلْتَزِمَ بِهَذِهِ الْآدَابِ.
((مِنْ أَعْظَمِ الْآدَابِ الْعَامَّةِ: الْحَيَاءُ))
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْآدَابِ الَّتِي حَثَّ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ الْعَظِيمُ: الْحَيَاءَ؛ فَإِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ هُوَ دِينُ الطَّهَارَةِ، دِينُ طَهَارَةِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ عَلَى السَّوَاءِ، أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِطَهَارَةِ الْقُلُوبِ وَالْأَرْوَاحِ وَالْأَنْفُسِ، وَأَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِطَهَارَةِ الْأَبْدَانِ وَالثِّيَابِ وَالْأَمْكِنَةِ، وَهُوَ دِينُ الْعِفَّةِ وَدِينُ الْعَفَافِ، يَنْفِي الْفَاحِشَةَ وَيُحَارِبُهَا، وَيَسُدُّ الْمَسَالِكَ الَّتِي تُؤَدِّي إِلَيْهَا.
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33].
وَاللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ أَخْبَرَنَا عَلَى لِسَانِ نَبِيِّنَا الْأَمِينِ ﷺ عَنْ عِظَمِ فَضِيلَةِ الْحَيَاءِ، وَأَنَّ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ جَعَلَ هَذَا الْخُلُقَ خُلُقَ الْإِسْلَامِ، وَخَلَّقَ النَّبِيَّ ﷺ مِنْهُ بِالنَّصِيبِ الْأَوْفَى.
وَجَعَلَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الْحَيَاءَ حَاجِزًا عَنِ الْوُقُوعِ فِيمَا حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، وَجَعَلَ الْحَيَاءَ مِنْ خُلُقِ الْمَلَائِكَةِ الْمُطَهَّرِينَ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَانِ».
وَعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ عُقْبَةَ بْنِ عَمْرٍو الْأَنْصَارِيِّ الْبَدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ». رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.
إِذَا أَرَدْتَ فِعْلَ شَيْءٍ؛ فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا تَسْتَحْيِي مِنَ اللهِ وَلَا مِنَ النَّاسِ مِنْ فِعْلِهِ؛ فَافْعَلْهُ، وَإِلَّا فَلَا، وَعَلَى هَذَا مَدَارُ الْإِسْلَامِ.
((قَوْلُ رَسُولِ اللهِ: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى»؛ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ هَذَا مَأْثُورٌ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَأَنَّ النَّاسَ تَدَاوَلُوهُ بَيْنَهُمْ، وَتَوَارَثُوهُ عَنْهُ قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النُّبُوَّاتِ الْمُتَقَدِّمَةَ جَاءَتْ بِهَذَا الْكَلَامِ، وَأَنَّهُ اشْتَهَرَ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى وَصَلَ إِلَى أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ»: لَيْسَ بِمَعْنَى الْأَمْرِ أَنْ يَصْنَعَ مَا شَاءَ، وَلَكِنَّهُ عَلَى مَعْنَى الذَّمِّ وَالنَّهْيِ عَنْهُ، وَأَهْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ لَهُمْ طَرِيقَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ أَمْرٌ بِمَعْنَى التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، وَالْمَعْنَى: إِذَا لَمْ يَكُنْ لَكَ حَيَاءٌ فَاعْمَلْ مَا شِئْتَ؛ فَإِنَّ اللهَ يُجَازِيكَ عَلَيْهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40].
وَأَمَّا الطَّرِيقُ الثَّانِي: أَنَّهُ أَمْرٌ، وَمَعْنَاهُ الْخَبَرُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ لَمْ يَسْتَحِ؛ صَنَعَ مَا شَاءَ؛ فَإِنَّ الْمَانِعَ مِنْ فِعْلِ الْقَبَائِحِ هُوَ الْحَيَاءُ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَيَاءٌ؛ انْهَمَكَ فِي كُلِّ فَحْشَاءَ، وَأَتَى كُلَّ مُنْكَرٍ، وَمَا يَمْتَنِعُ مِنْ مِثْلِهِ مَنْ لَهُ حَيَاءٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: «الْحَيَاءُ وَالْإِيمَانُ فِي قَرَنٍ؛ فَإِذَا نُزِعَ الْحَيَاءُ تَبِعَهُ الْإِيمَانُ».
الْقَوْلُ الثَّانِي فِي مَعْنَى قَوْلِ الرَّسُولِ ﷺ: «إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ»: أَنَّهُ أَمْرٌ بِفِعْلِ مَا يَشَاءُ عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِهِ.
فَالْمَعْنَى: إِذَا كَانَ مَا تُرِيدُ فِعْلَهُ مِمَّا لَا يُسْتَحَيَا مِنْ فِعْلِهِ، لَا مِنَ اللهِ وَلَا مِنَ النَّاسِ؛ لِكَوْنِهِ مِنْ أَفْعَالِ الطَّاعَاتِ، أَوْ مِنْ جَمِيلِ الْأَخْلَاقِ وَالْآدَابِ الْمُسْتَحْسَنَةِ؛ فَاصْنَعْ مِنْهُ -حِينَئِذٍ- مَا شِئْتَ.
وَمِنْ هَذَا قَوْلُ بَعْضِ السَّلَفِ وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْمُرُوءَةِ، فَقَالَ: ((أَلَّا تَعْمَلَ فِي السِّرِّ شَيْئًا تَسْتَحِيي مِنْهُ فِي الْعَلَانِيَةِ))؛ فَهَذِهِ هِيَ الْمُرُوءَةُ.
وَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَرَّ عَلَى رَجُلٍ وَهُوَ يُعَاتِبُ أَخَاهُ فِي الْحَيَاءِ، يَقُولُ: ((إِنَّكَ لَتَسْتَحِي))، كَأَنَّهُ يَقُولُ: قَدْ أَضَرَّ بِكَ الْحَيَاءُ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «دَعْهُ؛ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ». أَخْرَجَاهُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».
((دَعْهُ))؛ أَيِ: اتْرُكْهُ؛ فَإِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الْإِيمَانِ.
«الْحَيَاءُ» فِي اللُّغَةِ: تَغَيُّرٌ وَانْكِسَارٌ يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ؛ مِنْ خَوْفِ مَا يُعَابُ بِهِ، وَقَدْ يُطْلَقُ عَلَى مُجَرَّدِ تَرْكِ الشَّيْءِ بِسَبَبٍ، وَالتَّرْكُ إِنَّمَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِ الْحَيَاءِ.
وَ«الْحَيَاءُ» فِي الشَّرْعِ: خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى اجْتِنَابِ الْقَبِيحِ، وَيَمْنَعُ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ ذِي الْحَقِّ؛ لِهَذَا جَاءَ فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» مَرْفُوعًا: «الْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ».
وَالْحَيَاءُ نَوْعَانِ:
أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ خَلْقًا وَجِبِلَّةً غَيْرَ مُكْتَسَبٍ، وَهُوَ مِنْ أَجَلِّ الْأَخْلَاقِ الَّتِي يَمْنَحُهَا اللهُ الْعَبْدَ، وَيَجْبُلُهُ عَلَيْهَا؛ وَلِهَذَا قَالَ ﷺ كَمَا فِي «الصَّحِيحَيْنِ»: «الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ»، فَإِنَّهُ يَكُفُّ عَنِ ارْتِكَابِ الْقَبَائِحِ، وَدَنَاءَةِ الْأَخْلَاقِ، وَيَحُثُّ عَلَى اسْتِعْمَالِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَمَعَالِيهَا، وهُوَ مِنْ خِصَالِ الْإِيمَانِ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ.
فَالْحَيَاءُ قَدْ يَكُونُ خِلْقَةً.. يَكُونُ جِبِلَّةً وَفِطْرَةً؛ أَنْتَ تَرَى ذَلِكَ -أَحْيَانًا- فِي الصِّغَارِ مِنْ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ؛ فَتَجِدُهُ أَوْ تَجِدُهَا مُتَحَرِّزًا أَوْ مُتَحَرِّزَةً مِنْ ظُهُورِ سَوْأَةٍ، أَوِ انْكِشَافِ عَوْرَةٍ، أَوْ فِعْلِ مَا يَقْبُحُ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ بَعْدُ مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيقِ.
وَتَجِدُ آخَرَ مُتَبَذِّلًا لَا يُبَالِي؛ فَالْحَيَاءُ قَدْ يَكُونُ جِبِلَّةً وَفِطْرَةً فَطَرَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الْعَبْدَ عَلَيْهَا، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَا يَمْنَحُهُ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَبْدًا مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ.
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي: فَهُوَ مَا كَانَ مُكْتَسَبًا؛ مِنْ مَعْرِفَةِ اللهِ، وَمَعْرِفَةِ عَظَمَتِهِ، وَقُرْبِهِ مِنْ عِبَادِهِ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِمْ، وَعِلْمِهِ بِخَائِنَةِ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ، فَهَذَا مِنْ أَعْلَى خِصَالِ الْإِيمَانِ؛ بَلْ هُوَ مِنْ أَعْلَى دَرَجَاتِ الْإِحْسَانِ.
قَدْ يَتَوَلَّدُ الْحَيَاءُ مِنَ اللهِ مِنْ مُطَالَعَةِ نِعَمِهِ، وَرُؤْيَةِ تَقْصِيرِ الْعَبْدِ فِي شُكْرِهَا؛ لِأَنَّ الْعَارِفَ يَسِيرُ إِلَى اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- بِجَنَاحَيْنِ؛ فَأَمَّا الْأَوَّلُ؛ فَهُوَ مُشَاهَدَةُ الْمِنَّةِ، وَأَمَّا الثَّانِي: فَهُوَ مُطَالَعَةُ عَيْبِ النَّفْسِ، فَإِذَا سُلِبَ الْعَبْدُ الْحَيَاءَ الْمُكْتَسَبَ وَالْغَرِيزِيَّ؛ لَمْ يَبْقَ لَهُ مَا يَمْنَعُهُ مِنَ ارْتِكَابِ الْقَبَائِحِ وَالْأَخْلَاقِ الدَّنِيئَةِ، فَصَارَ كَأَنَّهُ لَا إِيمَانَ لَهُ.
الْحَيَاءُ الْمَمْدُوحُ فِي كَلَامِ النَّبِيِّ ﷺ؛ إِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ: الْخُلُقَ الَّذِي يَحُثُّ عَلَى فِعْلِ الْجَمِيلِ، وَتَرْكِ الْقَبِيحِ.
فَأَمَّا الضَّعْفُ وَالْعَجْزُ الَّذِي يُوجِبُ التَّقْصِيرَ فِي شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ اللهِ أَوْ حُقُوقِ عِبَادِهِ؛ فَلَيْسَ هُوَ مِنَ الْحَيَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ ضَعْفٌ وَخَوَرٌ، وَعَجْزٌ وَمَهَانَةٌ)).
وَالتَّمْيِيزُ بَيْنَ هَذِهِ الْأُمُورِ مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ لِلْمُسْلِمِ، لِأَنَّهُ قَدْ يَلْتَبِسُ الْأَمْرُ عَلَى الْمَرْءِ فِي كَثِيرٍ مِنْ أَمْثَالِ هَذِهِ الْمُتَشَابِهَاتِ.
كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ صِيَانَةِ النَّفْسِ، وَالْكِبْرِ، وَلَا يُمَيِّزُ بَيْنَ التَّوَاضُعِ وَالْمَهَانَةِ!!
كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْجُودِ وَالْإِسْرَافِ!!
كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الشَّجَاعَةِ وَالْجُبْنِ!!
الْحَيَاءُ قَدْ يَكُونُ مَذْمُومًا؛ فَالَّذِي يُقْعِدُ الْمَرْءَ عَنْ تَعَلُّمِ الْعِلْمِ، أَوْ طَلَبِ الْخَيْرِ وَالْفَضْلِ، أَوِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، أَوِ النَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَيَاءً مَمْدُوحًا.
وَلَكِنَّ الْخُلُقَ الَّذِي يَحُثُّ عَلَى فِعْلِ الْجَمِيلِ، وَتَرْكِ الْقَبِيحِ، وَعَدَمِ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ ذِي الْحَقِّ؛ فَهُوَ الْحَيَاءُ الْمَمْدُوحُ.
فَهَذَا تَعْرِيفُ الْخُلُقِ الْعَظِيمِ الَّذِي يُحِبُّهُ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ؛ وَهُوَ الْحَيَاءُ.
فَأَمَّا مَا اشْتَبَهَ بِذَلِكَ وَلَيْسَ مِنْهُ؛ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَحُثُّ عَلَى فِعْلِ الْجَمِيلِ، وَلَا تَرْكِ الْقَبِيحِ، وَلَا عَلَى عَدَمِ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ ذِي الْحَقِّ؛ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ حَيَاءً مَمْدُوحًا.
كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَسْتَحْيِي أَنْ يَسْأَلَ عَنْ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ الشَّرْعِ عَرَضَ لَهُ؛ قَدْ يَبْقَى عَلَى الْمَعْصِيَةِ؛ لِأَنَّهُ جَاهِلٌ بِالْحُكْمِ وَهُوَ لَا يَدْرِي، يُقْعِدُهُ حَيَاؤُهُ عَنِ السُّؤَالِ، هَذَا لَا يَجُوزُ بِحَالٍ، كَمَا أَنَّ الْكِبْرَ -أَيْضًا- يُقْعِدُ الْمَرْءَ عَنْ طَلَبِ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْكِبْرَ يُمْسِكُ الْمَرْءَ أَنْ يَكُونَ سَائِلًا؛ لِأَنَّهُ يَجِدُ فِي ذَلِكَ غَضَاضَةً -أَيْ فِي السُّؤَالِ-.
وَقَدْ تَرَبَّعَ الْجَهْلُ بَيْنَ الْكِبْرِ وَالْحَيَاءِ؛ الْجَهْلُ تَرَبَّعَ وَأَخَذَ رَاحَتَهُ بَيْنَ الْكِبْرِ وَالْحَيَاءِ، فَمَنِ اسْتَحْيَا؛ لَمْ يَتَعَلَّمْ، وَمَنْ تَكَبَّرَ؛ لَنْ يَتَعَلَّمَ.
وَلِذَلِكَ جَاءَتِ الْمَرْأَةُ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ، فَسَأَلَتْهُ سُؤَالًا كُنَّ النِّسَاءُ يَسْتَحْيِينَ مِنْ أَنْ يَسْأَلْنَهُ؛ بَلْ حَمَلْنَ عَلَيْهَا بِاللَّوْمِ بَعْدَ أَنْ سَأَلَتْ، قَالَتْ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ؛ هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ إِذَا احْتَلَمَتْ مِنْ غُسْلٍ؟)).
فَقَالَ: «نَعَمْ؛ إِذَا وَجَدَتِ الْمَاءَ».
فَقُلْنَ لَهَا: ((فَضَحْتِ النِّسَاءَ!!)).
وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مِثْلِ هَذَا؟!! لَا بُدَّ مِنَ السُّؤَالِ عَنْهُ.
فَكُنَّ النِّسَاءُ يُرِدْنَ أَلَّا يَعْلَمَ الرِّجَالُ بِذَلِكَ؛ فَلَمَّا سَأَلَتْ؛ قُلْنَ لَهَا: ((فَضَحْتِ فِي النِّسَاءِ)).
وَلَكِنْ لَا حَيَاءَ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ، لَا بُدَّ أَنْ يَجْتَهِدَ الْمَرْءُ فِي التَّعَلُّمِ، وَأَنْ يَسْأَلَ عَمَّا يَعْرِضُ لَهُ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ لَمَّا جَاءَتِ الْمَرْأَةُ تَسْأَلُ عَنْ طَرِيقَةِ تَطَهُّرِهَا مِنْ حَيْضِهَا؛ أَخْبَرَهَا الرَّسُولُ ﷺ -وَهُوَ أَحْيَا مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا؛ أَيْ: هُوَ أَشَدُّ حَيَاءً مِنْ ذَلِكَ-، قَالَ لَهَا: «خُذِي فِرْصَةً مُمَسَّكَةً؛ فَتَتَبَّعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ».
فَقَالَتْ: كَيْفَ أَتَتَبَّعُهُ؟
فَقَالَ:«سُبْحَانَ اللهِ! تَتَبَّعِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ».
فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ -وَانْتَحَتْ بِهَا نَاحِيَةً- كَيْفَ تَتَبَّعُ أَثَرَ الدَّمِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-.
فَإِذَنْ؛ لَا تَخْلِطْ بَيْنَ الْحَيَاءِ الْمَمْدُوحِ وَالْحَيَاءِ الْمَذْمُومِ.
الَّذِي يُعْجِزُ الْمَرْءَ عَنْ أَنْ يَكُونَ سَائِلًا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَيَاءً مَمْدُوحًا، الَّذِي فِيهِ الضَّعْفُ وَالْخَوَرُ، وَالْعَجْزُ وَالْمَهَانَةُ؛ هَذَا لَيْسَ بِحَيَاءٍ أَصْلًا؛ فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مَمْدُوحًا.
«إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى»: هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ الْمُتَقَدِّمِينَ دَلُّوا أُمَمَهُمْ عَلَى فَضْلِ الْحَيَاءِ، وَهُوَ الْحَيَاءُ الْمَمْدُوحُ.
وَأَمَّا الَّذِي يَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنَ الْقِيَامِ بِالْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ، أَوْ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ فِعْلِ الْقَبَائِحِ؛ فَهُوَ حَيَاءٌ مَذْمُومٌ، وَالْحَيَاءُ خَيْرٌ كُلُّهُ، وَلَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا، وَكَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئًا عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ». مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَ«الْعَذْرَاءُ»: الْبِكْرُ، «خِدْرِهَا»: «الْخِدْرُ»: سِتْرٌ يُجْعَلُ لِلْبِنْتِ الْبِكْرِ فِي جَنْبِ الْبَيْتِ تَكُونُ فِيهِ.
«وَكَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئًا عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ»؛ أَيْ: لَا يَتَكَلَّمُ بِذَلِكَ؛ لِحَيَائِهِ، بَلْ يَتَغَيَّرُ وَجْهُهُ، فَنَفْهَمُ نَحْنُ كَرَاهَتَهُ لِذَلِكَ الَّذِي وَقَعَ وَكَانَ مِمَّا كَرِهَهُ ﷺ، فَلَا يُجَبِّهُ أَحَدًا بِمَا يَكْرَهُهُ فِي وَجْهِهِ، وَإِنَّمَا يَتَلَطَّفُ فِي ذَلِكَ؛ إِلَّا مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، فَكَانَ لَا يَقُومُ لِغَضَبِهِ شَيْءٌ.
«كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا»؛ أَيْ: أَنَّ حَيَاءَ النَّبِيِّ ﷺ أَشَدُّ مِنَ الْبِكْرِ حَالَ اخْتِلَائِهَا بِالزَّوْجِ الَّذِي لَمْ تَعْرِفْهُ قَبْلُ، وَمَا يَكُونُ مِنَ اسْتِحْيَائِهَا مِنْهُ.
«وَكَانَ إِذَا كَرِهَ شَيْئًا»؛ أَيْ: مِنْ جِهَةِ الطَّبْعِ، أَوْ جِهَةِ الشَّرْعِ «عَرَفْنَاهُ فِي وَجْهِهِ»؛ أَيْ: مِنْ أَثَرِ التَّغَيُّرِ الَّذِي يَكُونُ؛ فَأَزَلْنَاهُ.
فَالنَّبِيُّ ﷺ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالشَّيْءِ الَّذِي يُكْرَهُ؛ لِحَيَائِهِ، بَلْ يَتَغَيَّرُ وَجْهُهُ؛ فَنَفْهَمُ كَرَاهِيَتَهُ.
الْحَيَاءُ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، وَهُوَ خَيْرٌ كُلُّهُ ((لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ))، وَقَدْ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْحَيَاءَ صِفَةُ ضَعْفٍ، تَجُرُّ طَمَعَ النَّاسِ إِلَى صَاحِبِهِ، وَلَكِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: «الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ».
وَذَكَرَ أَنَّ: «لِكُلِّ دِينٍ خُلُقًا، وَإِنَّ خُلُقَ الْإِسْلَامِ الْحَيَاءُ». الْحَدِيثُ أَخْرَجَه مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ».
فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى عِظَمِ شَأْنِ الْحَيَاءِ فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ؛ بِدَلِيلِ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ -الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ- كَانَ نَصِيبُهُ مِنَ الْحَيَاءِ أَعْلَى مَرْتَبَةً، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ ضَرْبُ الْمَثَلِ: ((أَشَدُّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا)).
عِبَادَ اللهِ! إِذَا فَقَدَ الْإِنْسَانُ الْحَيَاءَ؛ فَإِنَّهُ يَفْقِدُ الْخَيْرَ كُلَّهُ، فَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي الْحَيَاءِ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ -أَوْ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ- شُعْبَةً، أَفْضَلُهَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ». وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».
«الشُّعْبَةُ»: الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ، أَوِ الْخَصْلَةُ أَوِ الْجُزْءُ مِنَ الشَّيْءِ.
«وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ»؛ فَالْحَيَاءُ: خُلُقٌ يَبْعَثُ عَلَى اجْتِنَابِ الْقَبِيحِ، وَيَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ ذِي الْحَقِّ.
هَذَا تَعْرِيفُ الْحَيَاءِ.
«أَفْضَلُهَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»: كَلِمَةُ «لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ» أَفْضَلُ شُعَبِ الْإِيمَانِ، أَكْثَرُهَا ثَوَابًا، وَأَعْلَاهَا قَدْرًا عِنْدَ اللهِ -تَعَالَى-؛ لِأَنَّ التَّوْحِيدَ لَا يُعَادِلُهُ شَيْءٌ؛ فَيَنْبَغِي الِاهْتِمَامُ بِالتَّوْحِيدِ، وَيَنْبَغِي صَرْفُ مَزِيدِ الْعِنَايَةِ؛ لِتَحْصِيلِ التَّوْحيِد ِوتَحْقِيقِهِ، وَالْعَمَلِ بِهِ، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ، وَالصَّبْرِ عَلَيْهِ.
«أَدْنَاهَا»؛ أَيْ: أَقَلُّهَا ثَوَابًا، وَأَنْزَلُهَا مَرْتَبَةً «إِمَاطَةُ الْأَذَى»: إِزَالَةُ الشَّوْكِ وَالْحَجَرِ وَنَحْوِهِ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ.
«مَنْ أَمَاطَ أَذًى عَنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ؛ كُتِبَ لَهُ حَسَنَةٌ، وَمَنْ تُقُبِّلَتْ لَهُ حَسَنَةٌ؛ دَخَلَ الْجَنَّةَ». فَإِذَا كَانَ هَذَا ثَوَابَ أَدْنَى شُعْبَةٍ مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ؛ فَمَاذَا يَكُونُ ثوَابُ أَعْلَاهَا؟!!
قَدْ يَقُولُ قَائِلٌ: وَلَكِنَّ الْحَيَاءَ مِنَ الْغَرَائِزِ؛ فَكَيْفَ يَكُونُ تَخَلُّقًا؟!!
اسْتِعْمَالَهُ عَلَى وَفْقِ الشَّرْعِ يَحْتَاجُ إِلَى اكْتِسَابِ عِلْمٍ وَنِيَّةٍ، وَهُوَ مِنَ الْإِيمَانِ بِهَذَا، وَلِكَوْنِهِ حَاجِزًا عَنْ فِعْلِ الْمَعْصِيَةِ، وَبَاعِثًا عَلَى الطَّاعَةِ.
«الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمَانِ»: جَعَلَ ﷺ الْحَيَاءَ وَهُوَ غَرِيزَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ، وَهُوَ اكْتِسَابٌ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحْيِيَ يَنْقَطِعُ بِحَيَائِهِ عَنِ الْمَعَاصِي؛ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ تَقِيَّةٌ، فَصَارَ كَالْإِيمَانِ الَّذِي يَنْقَطِعُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ الْمَعْصِيَةِ، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ بَعْضَهُ -فَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الْإِيمَانِ؛ بَعْضٌ مِنَ الْإِيمَانِ-؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَنْقَسِمُ إِلَى الِائْتِمَارِ بِمَا أَمَر اللهُ بِهِ، وَالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَى اللهُ عَنْهُ، فَإِذَا حَصَلَ الِانْتِهَاءُ بِالْحَيَاءِ؛ كَانَ بَعْضَ الْإِيمَانِ.
وَالْمُرَادُ بِهِ: الْحَيَاءُ الْإِيمَانِيُّ، وهُوَ خُلُقٌ يَمْنَعُ الشَّخْصَ عَنْ فِعْلِ الْقَبِيحِ بِسَبَبِ الْإِيمَانِ؛ كَالْحَيَاءِ عَنْ كَشْفِ الْعَوْرَةِ، وَكَالْحَيَاءِ عَنِ الْجِمَاعِ بَيْنَ النَّاسِ، وَعَلَى هَذَا مَدَارُ الْإِسْلَامِ.
وَأَخْبَرَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ أَنَّ عُثْمَانَ وَعَائِشَةَ حَدَّثَاهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ وَهُوَ مُضَّجِعٌ عَلَى فِرَاشِ عَائِشَةَ، لَابِسًا مِرْطَ عَائِشَةَ، فَأَذِنَ لِأَبِي بَكْرٍ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَقَضَى إِلَيْهِ حَاجَتَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ.
ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَقَضَى إِلَيْهِ حَاجَتَهُ، ثُمَّ انْصَرَفَ.
قَالَ عُثْمَانُ: ثُمَّ اسْتَأْذَنْتُ عَلَيْهِ، فَجَلَسَ، وَقَالَ لِعَائِشَةَ: «اجْمَعِي إِلَيْكِ ثِيَابَكِ».
قَالَ: فَقَضَيْتُ إِلَيْهِ حَاجَتِي، ثُمَّ انْصَرَفْتُ.
قَالَ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ: ((يَا رَسُولَ اللهِ! لَمْ أَرَكَ فَزِعْتَ لِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- كَمَا فَزِعْتَ لِعُثْمَانَ!!
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ عُثْمَانَ رَجُلٌ حَيِيٌّ، وَإِنِّي خَشِيتُ إِنْ أَذِنْتُ لَهُ وَأَنَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ أَلَّا يَبْلُغَ إِلَيَّ فِي حَاجَتِهِ». وَالْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ».
«إِنِّي خَشِيتُ إِذَا أَذِنْتُ لَهُ...»: خَافَ أَنْ يَرْجِعَ حَيَاءً مِنْهُ ﷺ عِنْدَمَا يَرَاهُ عَلَى تِلْكَ الْهَيْئَةِ؛ وَحِينَئِذٍ لَا يَعْرِضُ عَلَيْهِ حَاجَتَهُ؛ لِغَلَبَةِ أَدَبِهِ، وَكَثْرَةِ حَيَائِهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وفِي رِوَايَةٍ: «أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ؟!!».
فَالْحَيَاءُ مِنْ صِفَاتِ الْمَلَائِكَةِ، وَقَدْ كَانَ عُثْمَانُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فِي الْحَيَاءِ عَلَى الْغَايَةِ؛ حَتَّى إِنَّهُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- كَانَ إِذَا اغْتَسَلَ؛ اغْتَسَلَ بِصَبِّ الْمَاءِ، وَيَدْلُكُ مِنْ تَحْتِ ثَوْبِهِ، وَلَا يَخْلَعُ عَنْهُ قَمِيصَهُ؛ حَيَاءً -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «مَا كَانَ الْحَيَاءُ فِي شَيْءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلَا كَانَ الْفُحْشُ فِي شَيْءٍ إِلَّا شَانَهُ». الْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَه.
«زَانَهُ»؛ يَعْنِي: جَمَّلَهُ، وَجَعَلَهُ كَامِلًا، وَحَسَّنَهُ.
«الْفُحْشُ»: وَهُوَ كُلُّ مَا يَشْتَدُّ قُبْحُهُ مِنَ الذُّنُوبِ وَالْمَعَاصِي، وَكُلُّ خَصْلَةٍ قَبِيحَةٍ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.
«إِلَّا شَانَهُ»؛ أَيْ: عَيَّبَهُ الْفُحْشُ، وجَعَلَهُ نَاقِصًا.
«إِلَّا زَانَهُ»: إِلَّا زَيَّنَهُ؛ وذَلِكَ لِأَنَّ الْحَيَاءَ يَدَعُ صَاحِبُهُ بِهِ مَا يُلَامُ عَلَى فِعْلِهِ، فَلَا يُلَابِسُ الْمَعَايِبَ، فَإِذَا نَظَرَ الْإِنْسَانُ إِلَى حَقِيقَةِ حَيَائِهِ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ تَلَذَّذَ بِزِينَةِ هَذِهِ الصِّلَةِ.
وَإِذَا نَظَرَ إِلَى حَقِيقَةِ الْحَيَاءِ مِنْ أَهْلِهِ وَإِخْوَانِهِ؛ لَاسْتَمْتَعَ بِزِينَةِ تِلْكَ الْعَلَاقَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ هَذَا؛ فَهُنَالِكَ خَلَلٌ فِي الْحَيَاءِ، فَلْيُبَادِرِ الْمَرْءُ إِلَى إِصْلَاحِهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «اسْتَحْيُوا مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ!».
قُلْنَا: يَا نَبِيَّ اللهِ! إِنَّا لَنَسْتَحْيِي وَالْحَمْدُ للهِ.
قَالَ: «لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْيَاءَ مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ: أَنْ تَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَتَحْفَظَ الْبَطْنَ وَمَا حَوَى، وتَتَذَكَّرَ الْمَوْتَ وَالْبِلَى، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ؛ تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدِ اسْتَحْيَا»؛ يَعْنِي: مِنَ اللهِ حَقَّ الْحَيَاءِ.
وَالْحَدِيثُ فِي «صَحِيحِ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ».
إِنَّ الْحَيَاءَ زِينَةٌ لِلْأُمُورِ.
وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «الْحَيَاءُ لَا يَأْتِي إِلَّا بِخَيْرٍ».
فَقَالَ بُشَيْرُ بْنُ كَعْبٍ: ((مَكْتُوبٌ فِي الْحِكْمَةِ: إِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ وَقَارًا، إِنَّ مِنَ الْحَيَاءِ سَكِينَةً)).
فَقَالَ لَهُ عِمْرَانُ: ((أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ، وَتُحَدِّثُنِي عَنْ صَحِيفَتِكَ؟!!)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
فَهَذَا حَثٌّ عَلَى التَّخَلُّقِ بِخُلُقِ الْحَيَاءِ، وَأَنَّ فِيهِ الْخَيْرَ كُلَّ الْخَيْرِ لِلْفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ.
وَقَدْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ قُرَّةَ بْنِ إِيَاسٍ: قِيلَ لِرَسُولِ اللهِ ﷺ: الْحَيَاءُ مِنَ الدِّينِ؟!!
قَالَ: «بَلْ هُوَ الدِّينُ كُلُّهُ».
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: «إِنَّ الْحَيَاءَ وَالْإِيمَانَ قُرِنَا جَمِيعًا، فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الْآخَرُ». وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ مَوْقُوفٌا، وَقَدْ أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَصَحَّ مَرْفُوعًا، وَأَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي «الشُّعَبِ».
قَوْلُهُ: «قُرِنَا جَمِيعًا»؛ أَيْ: جُعِلَا مَقْرُونَيْنِ.
قَوْلُهُ: «فَإِذَا رُفِعَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ الْآخَرُ»؛ أَيْ: رُفِعَ مِنْهُ مُعْظَمُهُ أَوْ كَمَالُهُ.
فِي الْحَدِيثِ: بَيَانُ أَهَمِّيَّةِ الْحَيَاءِ، وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ فِي دِينِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ حَيْثُ قُرِنَ مَعَ الْإِيمَانِ فِي قَرَنٍ، فَهُمَا لَا يَفْتَرِقَانِ، فَإِذَا انْعَدَمَ أَحَدُهُمَا انْعَدَمَ الْآخَرُ.
إِذَا لَمْ تَخْشَ عَاقِبَةَ اللَّيَالِي=وَلَمْ تَسْتَحِ فَاصْنَعْ مَا تَشَاءُ
فَلَا وَاللهِ مَا فِي الْعَيْشِ خَيْرٌ=وَفِي الدُّنْيَا إِذَا ذَهَبَ الْحَيَاءُ
يَعِيشُ الْمَرْءُ مَا اسْتَحْيَا بِخَيْرٍ=وَيَبْقَى الْعُودُ مَا بَقِيَ اللِّحَاءُ
((أَدَبُ الْمُرُوءَةِ فِي الْإِسْلَامِ))
إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْآدَابِ الَّتِي لَهَا دَوْرٌ فِي تَمَاسُكِ الْمُجْتَمَعِ وَرُقِيِّهِ: الْمُرُوءَةَ، وَهِيَ الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ، وَالتَّفَضُّلُ للهِ تَعَالَى، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90].
فَقَدْ قَرَنَ اللهُ -تَعَالَى- الْعَدْلَ فِيهَا بِالْإِحْسَانِ؛ لِأَنَّ الْعَدْلَ وَحْدَهُ قَدْ يُؤَدِّي إِلَى الْجَوْرِ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ كَامِلًا؛ قَدْ يَقَعُ فِيمَا لَا يَحِلُّ كُلُّهُ؛ لَكِنَّهُ إِذَا أَخَذَ الْعَدْلَ وَمَعَهُ الْإِحْسَانَ؛ تَرَكَ بَعْضَ مَا يَسْتَحِقُّهُ؛ رَغْبَةً فِيمَا حَثَّهُ اللهُ -تَعَالَى- عَلَيْهِ مِنَ الْإِحْسَانِ، قَالَ تَعَالَى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195].
وَالْإِحْسَانُ إِلَى الْخَلْقِ: هُوَ إِيصَالُ النَّفْعِ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ إِلَيْهِمْ، وَدَفْعُ الشَّرِّ الدِّينِيِّ وَالدُّنْيَوِيِّ عَنْهُمْ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ أَمْرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيُهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَعْلِيمُ جَاهِلِهِمْ، وَوَعْظُ غَافِلِهِمْ، وَالنَّصِيحَةُ لِعَامَّتِهِمْ وَخَاصَّتِهِمْ، وَالسَّعْيُ فِي جَمْعِ كَلِمَتِهِمْ، وَإِيصَالُ الصَّدَقَاتِ وَالنَّفَقَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالْمُسْتَحَبَّةِ إِلَيْهِمْ، عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ وَتَبَايُنِ أَوْصَافِهِمْ، فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ بَذْلُ النَّدَى، وَكَفُّ الْأَذَى، وَاحْتِمَالُ الْأَذَى، كَمَا وَصَفَ اللهُ بِهِ الْمُتَّقِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، فَمَنْ قَامَ بِهَذِهِ الْأُمُورِ؛ فَقَدْ قَامَ بِحَقِّ اللهِ وَحَقِّ عِبَادِهِ.
* وَمِنَ الْمُرُوءَةِ: الْعَفْوُ وَالْحِلْمُ؛ فَقَدْ قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].
أَيْ: بِرَحْمَةِ اللهِ لَكَ وَلِأَصْحَابِكَ.. مَنَّ اللهُ عَلَيْكَ أَنْ أَلَنْتَ لَهُمْ جَانِبَكَ، وَخَفَضْتَ لَهُمْ جَنَاحَكَ، وَتَرَقَّقْتَ عَلَيْهِمْ، وَحَسَّنْتَ لَهُمْ خُلُقَكَ؛ فَاجْتَمَعُوا عَلَيْكَ وَأَحَبُّوكَ، وَامْتَثَلُوا أَمْرَكَ.
{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا} أَيْ: سَيِّئَ الْخُلُقِ {غَلِيظَ الْقَلْبِ} أَيْ: قَاسِيَهُ، {لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}؛ لِأَنَّ هَذَا يُنَفِّرُهُمْ، وَيُبَغِّضُهُمْ لِمَنْ قَامَ بِهِ هَذَا الْخُلُقُ السَّيِّئُ.
فَالْأَخْلَاقُ الْحَسَنَةُ مِنَ الْمُقَدَّمِ فِي الدِّينِ، تَجْذِبُ النَّاسَ إِلَى دِينِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتُرَغِّبُهُمْ فِيهِ، مَعَ مَا لِصَاحِبِهِ مِنَ الْمَدْحِ وَالثَّوَابِ الْخَاصِّ، وَالْأَخْلَاقُ السَّيِّئَةُ مِنَ الْمُقَدَّمِ فِي الدِّينِ.. تُنَفِّرُ النَّاسَ عَنِ الدِّينِ، وَتُبَغِّضُهُمْ إِلَيْهِ، مَعَ مَا لِصَاحِبِهَا مِنَ الذَّمِّ وَالْعِقَابِ الْخَاصِّ، فَهَذَا الرَّسُولُ الْمَعْصُومُ يَقُولُ اللهُ لَهُ مَا يَقُولُ؛ فَكَيْفَ بِغَيْرِهِ؟!!
أَلَيْسَ مِنْ أَوْجَبِ الْوَاجِبَاتِ وَأَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ الِاقْتِدَاءُ بِأَخْلَاقِهِ الْكَرِيمَةِ، وَمُعَامَلَةُ النَّاسِ بِمَا يُعَامِلُهُم بِهِ ﷺ؛ مِنَ اللِّينِ، وَحُسْنِ الْخُلُقِ وَالتَّأْلِيفِ؛ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللهِ، وَجَذْبًا لِعِبَادِ اللهِ لِدِينِ اللهِ؟!
ثُمَّ أَمَرَهُ اللهُ -تَعَالَى- بِأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ مَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنَ التَّقْصِيرِ فِي حَقِّهِ ﷺ، وَيَسْتَغْفِرَ لَهُمْ فِي التَّقْصِيرِ فِي حَقِّ اللهِ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ الْعَفْوِ وَالْإِحْسَانِ.
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}؛ أَيِ: الْأُمُورُ الَّتِي تَحْتَاجُ إِلَى اسْتِشَارَةٍ وَنَظَرٍ وَفِكْرٍ؛ فَإِنَّ فِي الِاسْتِشَارَةِ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ مَا لَا يُمْكِنُ حَصْرُهُ.
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قَالَتْ: ((مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللهِ ﷺ شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ، وَلَا امْرَأَةً وَلَا خَادِمًا؛ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شِيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ؛ إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللهِ، فَيَنْتَقِمَ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ-)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَالَ رَسولُ اللهِ ﷺ: ((مَا رُزِقَ عَبْدٌ خَيْرًا لَه وَلَا أَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ)).
وَعَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ مَكْتُوبٌ فِي الإِنْجِيلِ: لَا فَظٌّ، وَلَا غَلِيظٌ، وَلَا صَخَّابٌ بِالْأَسْوَاقِ، وَلَا يَجْزِي بِالسَّيِّئَةِ مِثْلَهَا، بَلْ يَعْفُو وَيَصْفَحُ)). أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).
وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «مَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا».
فِي الصَّفْحِ وَالْعَفْوِ وَالْحِلْمِ مِنَ الْحَلَاوَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَالسَّكِينَةِ، وَشَرَفِ النَّفْسِ وَعِزِّهَا، وَرِفْعَتِهَا عَنْ تَشَفِّيهَا بِالِانْتِقَامِ مَا لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الْمُقَابَلَةِ وَالِانْتِقَامِ.
* وَالْمُرُوءَةُ فِي قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199].
فَإِحْسَانُ التَّعَامُلِ مَعَ الْخَلْقِ هُوَ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ الرَّبِّ، وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِ النَّبِيِّ الْأَكْرَمِ ﷺ: «وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».
((خَالِقِ النَّاسَ)): مِنَ الْمُفَاعَلَةِ بَيْنَكَ وَبَيْنَ النَّاسِ؛ يَعْنِي: فَلْتَكُنْ أَخْلَاقُكَ الْمَبْذُولَةُ إِلَيْهِمْ حَسَنَةً.
((خَالِقِ النَّاسَ)): فَهُوَ فِعْلُ أَمْرٍ، «وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».
فَهُوَ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَامْتِثَالٌ لِأَمْرِ النَّبِيِّ الْأَمِينِ ﷺ.
وَيَجْعَلُهُ النَّبِيُّ ﷺ مُؤَدِّيًا إِلَى مَبْلَغٍ لَا يُرْتَقَى مُرْتَقَاهُ إِلَّا بِشِقِّ النَّفْسِ وَبَذْلِ الْمَجْهُودِ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيَبْلُغُ بِحُسْنِ الْخُلُقِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ».
* وَالصِّدْقُ جَوْهَرُ الْمُرُوءَةِ:
إنَّ الصِّدْقَ عَزِيزٌ، وَعَوِّدْ نَفْسَكَ الصِّدْقَ؛ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى تَعْوِيدٍ وَمَشَقَّةٍ، وَأَمْسِكْ لِسَانَكَ عَنِ اللَّغْوِ؛ حَتَّى لَا يَجُرَّكَ اللَّغْوُ إِلَى هَذَا الْكَذِبِ الْمُسْتَقْبَحِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَذِبَ لَا يَلِيقُ بِالرَّجُلِ ذِي الْمُرُوءَةِ، وَأَنَّهُ لَوْ نَادَى مُنَادٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَنَّ الْكَذِبَ حَلَالٌ مَا فَعَلْتُهُ؛ لِتَمَامِ مُرُوءَتِهِ، وَكَمَالِ رُجُولَتِهِ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ يُزْرِي بِهِ، وَيَحُطُّ مِنْ قَدْرِهِ، وَيُحَقِّرُ مِنْ شَأْنِهِ.
* وَبِالْجُمْلَةِ؛ فَالرَّجُلُ الْكَامِلُ التَّامُّ الْمُرُوءَةِ: هُوَ مَنْ بَرَّ وَالِدَيْهِ، وَوَصَلَ رَحِمَهُ، وَأَكْرَمَ إِخْوَانَهُ، وَحَسَّنَ خُلُقَهُ، وَأَحْرَزَ دِينَهُ، وَأَصْلَحَ مَالَهُ، وَأَنْفَقَ مِنْ فَضْلِهِ، وَحَسَّنَ لِسَانَهُ، وَلَزِمَ بَيْتَهُ.
* الرَّجُلُ التَّامُّ الْمُرُوءَةِ: مَنْ بَرَّ وَالِدَيْهِ، وَوَصَلَ رَحِمَهُ: فَحَقُّ الْأَبَوَيْنِ يَلِي حَقَّ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- وَحَقَّ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي الْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ، قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: 36].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75].
وذَوُوا الْأَرْحَامِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَهُمُ الْأَوْلَوِيَّةُ فِي الْمُوَالَاةِ بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحَقِّ الرَّحِمِ.
وَعَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ، أَنَّ أَعْرَابِيًّا عَرَضَ لِلنَّبِيِّ ﷺ فِي مَسِيرِهِ، فَقَالَ: أَخْبِرْنِي مَا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ؟
قَالَ: «تَعْبُدُ اللهَ وَلَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ». وَالْحَدِيثُ فِي «الصَّحِيحَيْنِ».
«تَصِلُ الرَّحِمَ»؛ أَيْ: تُحْسِنُ إِلَى أَقَارِبِكَ، وَتُوَاسِي ذَوِي الْقَرَابَةِ فِي الْخَيْرَاتِ.
* الرَّجُلُ التَّامُّ الْمُرُوءَةِ: مَنْ أَكْرَمَ إِخْوَانَهُ؛ فَالنَّبِيُّ ﷺ أَمَرَنَا بِالتَّوَادِّ؛ قَالَ ﷺ: ((مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ؛ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى)).
وَثَبَتَ فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ))، وَكَذَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ)): أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ: إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ)).
وَحُقُوقُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ كَثِيرَةٌ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى الْجَامِعُ لِهَذِهِ الْحُقُوقِ كُلِّهَا قَوْلُ الرَّسُولِ ﷺ: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ))؛ فَإِنَّهُ مَتَى قَامَ بِمُقْتَضَى هَذِهِ الْأُخُوَّةِ؛ اجْتَهَدَ أَنْ يَتَحَرَّى لَهُ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَأَنْ يَجْتَنِبَ كُلَّ مَا يَضُرُّهُ.
وَمِنْ تَمَامِ الْمُرُوءَةِ: حُسْنُ الْخُلُقِ؛ فَقَدْ حَصَرَ النَّبِيُّ ﷺ الْغَايَةَ مِنَ الْبَعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ فِي تَمَامِ صَالِحِ الْأَخْلَاقِ، فَقَالَ ﷺ: ((إِنَّمَا بُعِثْتُ؛ لِأُتَمِّمَ صَالِحَ الْأَخْلَاقِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ))، وَالْحَاكِمُ، وَأَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ الشَّيْخُ أَحْمَد شَاكِر، وَالشَّيْخُ الْأَلْبَانِيُّ، وَغَيْرُهُمَا.
وَعَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ، وَأَقرَبِكُم مِنِّي مَجلِسًا يَوْمَ الْقِيامَةِ: أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا)). رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ)).
* الرَّجُلُ التَّامُّ الْمُرُوءَةِ: مَنْ أَحْرَزَ دِينَهُ، فَحَافَظَ عَلَى دِينِهِ بِتَحْقِيقِ التَّقْوَى، وَالتَّقْوَى كَمَا بَيَّنَ أُبَيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لِلْفَارُوقِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، إِذْ يَسْألُهُ، فَيَقُولُ: يَا أُبَيُّ؛ مَا التَّقْوَى؟
فَيَقُولُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؛ أَمَا سِرْتَ فِي طَرِيقٍ ذِي شَوْكٍ؟
قَالَ: بَلَى.
قَالَ: مَا صَنَعْتَ؟
قَالَ: شَمَّرْتُ وَاجْتَهَدْتُ.
قَالَ: فَتِلْكَ التَّقْوَى.
وَالتَّامُّ الْمُرُوءَةِ: مَنْ أَصْلَحَ مَالَهُ، وَأَنْفَقَ مِنْ فَضْلِهِ؛ فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- سَوَّى بَيْنَ الْمُرْسَلِينَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي وُجُوبِ الْأَكْلِ مِنَ الْحَلَالِ، وَاجْتِنَابِ الْحَرَامِ؛ فَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المُؤْمِنُون: 51].
وَعَلَى الْمُسْلِمِ إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي الْحَلَالِ؛ كإِطْعَامِ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ وَالْخَادِمِ؛ فَعَنِ الْمِقْدَامِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ يَقُولُ: ((مَا أَطْعَمْتَ نَفْسَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ، وَمَا أَطْعَمْتَ وَلَدَكَ وَزَوْجَتَكَ وَخَادِمَكَ فَهُوَ صَدَقَةٌ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ))، وَأَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ فِي ((الْكُبْرَى))، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((السِّلْسِلَةِ الصَّحِيحَةِ)).
هَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ عَلَى بَيَانِ شَيْءٍ مِنْ فَضَائِلِ الْإِسْلَامِ وَمَحَاسِنِهِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى نَفْسِكَ مِنَ الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا تَنْتَفِعُ بِهِ؛ يَكُونُ لَكَ فِيهِ صَدَقَةٌ، وَهَكَذَا مَا أَنْفَقْتَهُ عَلَى مَنْ تَحْتَ يَدِكَ مِنْ زَوْجَةٍ، وَابْنٍ، وَخَادِمٍ وَمَمْلُوكٍ؛ لَكَ فِيهِ صَدَقَاتٌ، وَهَذَا يَحْتَاجُ إِلَى النِّيَّةِ.
* وَالرَّجُلُ كَامِلُ الْمُرُوءَةِ -أَيْضًا-: مَنْ حَسَّنَ لِسَانَهُ، وَلَزِمَ بَيْتَهُ؛ فَهَذِهِ نَصِيحَةُ رَسُولِ اللهِ لِعَبْدِ اللهِ بنِ عَمْرٍو -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، قَالَ: ((الْزَمْ بَيْتَكَ، وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَخُذْ مَا تَعْرِفُ، وَدَعْ مَا تُنْكِرُ، وَعَلَيْكَ بِخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ عَامَّتِهِمْ)).
كَانَ الْوَاحِدُ مِنْ سَلَفِكُمْ إِذَا أَحْرَمَ؛ كَأَنَّهُ حَيَّةٌ صَمَّاءُ, لَا يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ سِوَى ذِكْرِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا- حَتَّى يُحِلَّ.
لَا تُضَيِّعُوا أَعْمَارَكُمْ..
لَا تُضَيِّعُوا رَأْسَ مَالِكُمْ؛ فَإنَّ كُلَّ ثَانِيَةٍ تَمُرُّ لَا عِوَضَ لَهَا وَلَا بَدَلَ, وَسَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقَدْ مَرَّ مَا مَرَّ فِي اللَّغْوِ الَّذِي لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ؛ كَمَثَلِ الَّذِي يَمُرُّ فِي الطَّرِيقِ، فَيَرَى دُرَّةً وَبَعْرَةً, فَيَنْحَنِي لِيَلْتَقِطَ الْبَعْرَةَ، تَارِكًا الدُّرَّةَ، لَا لَكَ وَلَا عَلَيْكَ!!
لَيْسَ هَذَا مِن شَأْنِ الْمُسْلِمِ الْحَقِّ, وَلَا الْمُؤْمِنِ الصَّادِقِ, وَإِنَّمَا هُوَ حَرِيصٌ عَلَى ثَوَانِيهِ، لَا عَلَى دَقَائِقِهِ، لَا عَلَى أَيَّامِهِ وَلَيَالِيهِ.
عَاهِدُوا رَبَّكُمْ أَنْ تُقْلِعُوا عَنْ ذُنُوبِكُمْ وَمَعَاصِيكُمْ، كُونُوا كَمَا أَرَادَكُمُ اللهُ، لَا تَكُونُوا مُزَيَّفِينَ عَلَى الْإِنْسَانِ؛ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الْحَقَّ خُلِقَ لِيَكُونَ عَابِدًا لِرَبِّهِ.
فَمَهْمَا خَرَجَ عَنْ هَذَا الْخَطِّ؛ فَهُوَ مُزَيَّفٌ عَنِ الْإِنْسَانِ الْحَقِّ.
لَا تَكُونُوا مُزَيَّفِينَ -عِبَادَ اللهِ-، وَكُونُوا مُسْلِمِينَ حَقًّا، مُؤْمِنِينَ صِدْقًا، وَأَقْبِلُوا حَرِيصِينَ عَلَى مَا يَنْفَعُكُمْ.
وَمُرُوءَةُ الْإِنْسَانِ تَجْعَلُهُ طَيِّبَ الْمَظْهَرِ وَالْجَوْهَرِ، يُرَاقِبُ رَبَّهُ فِي سِرِّهِ وَجَهْرِهِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ يُخْبِرُ: «أَنَّ أَقْوَامًا يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْمَالٍ بَيْضَاءَ عَظِيمَةٍ كَأَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ -مِنْ صَلَاةٍ، وَزَكَاةٍ، وَصِيَامٍ، وَصَدَقَةٍ، وَحَجٍّ، وَبِرٍّ، وَوَصْلٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أُمُورِ الْخَيْرِ-، فَيَنْظُرُ اللهُ إِلَيْهَا، فَيَجْعَلُهَا هَبَاءً مَنْثُورًا».
فَقَالَ الْأَصْحَابُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَجِلِينَ: مَنْ يَكُونُ هَؤُلَاءِ؟
«أَمَا إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ، وَيَقُولُونَ بِمِثْلِ قَوْلِكُمْ، وَيَعْمَلُونَ بِمِثْلِ أَعْمَالِكُمْ؛ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللهِ انْتَهَكُوهَا».
فَرِقَابَةُ السِّرِّ، وَمُرَاعَاةُ الضَّمِيرِ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَفَّرَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ؛ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي؛ قَدْ يُسْلَبُ الْمَرْءُ إِيمَانَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَظُنُّ أَنَّهُ يُسْلَبُهُ.
وَمِنَ الْمُرُوءَةِ: تَقْدِيمُ يَدِ الْعَوْنِ لِلنَّاسِ، وَالْحِرْصُ عَلَى مَصَالِحِهِمْ، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءُ لَهُمْ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ، وَالرَّسُولُ ﷺ يُرَغِّبُ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي إِدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ، وَيُبَيِّنُ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَحْسَنَ إِلَى أَخِيهِ؛ أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْهِ، وَإِذَا مَا سَعَى فِي حَاجَةِ أَخِيهِ؛ فَإِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- يَقْضِي حَوَائِجَهُ.
عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ؛ لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ؛ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً؛ فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ كُرْبَةِ الدُّنْيَا وَكُرْبَةِ الْآخِرَةِ، فَهَذَا عَطَاءٌ مِنْ صَاحِبِ الْعَطَاءِ وَالْفَضْلِ: «فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا؛ سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ». هَذَا حَدِيثٌ مُتَّفَقٌ عَلَى صِحَّتِهِ.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ قَالَ: «لَا يَزَالُ اللهُ فِي حَاجَةِ الْعَبْدِ مَا دَامَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ».
وَعَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ: إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ، كَسَوْتَ عَوْرَتَهُ، أَوْ أَشْبَعْتَ جَوْعَتَهُ، أَوْ قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً».
النَّبِيُّ ﷺ يَجْعَلُ فِي قِمَّةِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَفِي قِمَّةِ الْأَعْمَالِ الْمَقْبُولَةِ عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: إِدْخَالَ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ: «كَسَوْتَ عَوْرَتَهُ، أَوْ أَشْبَعْتَ جَوْعَتَهُ، أَوْ قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً».
وَذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ الْحَاجَةَ مُنَكَّرَةً؛ لِيَدُلَّ عَلَى أَيِّ حَاجَةٍ قَضَيْتَ، قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً بِمُطْلَقِ الْحَاجَةِ.
وَيُبَيِّنُ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ -فِي حَدِيثٍ حَسَنٍ-، فَيَقُولُ: «وَمَنْ مَشَى مَعَ مَظْلُومٍ حَتَّى يُثْبِتَ لَهُ حَقَّهُ؛ ثَبَّتَ اللهُ قَدَمَيْهِ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزُولُ الْأَقْدَامُ».
وَذَكَرَ الرَّسُولُ ﷺ أَمْرًا عَظِيمًا جِدًّا، لَوْ تَأَمَّلَ الْإِنْسَانُ فِيهِ تَأمُّلًا صَحِيحًا؛ لَعَلِمَ أَنَّ الْأَعْمَالَ تَتَفَاوَتُ مَرَاتِبُهَا عِنْدَ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-، وَأَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- لَمْ يَجْعَلِ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ مَقْصُورَةً عَلَى أُمُورٍ بِعَيْنِهَا، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْخَيْرَ شَائِعًا فِي أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالصَّلَاحِ.
جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟
فَقَالَ ﷺ: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللهِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا».
وَعَنْ سُلَيْمِ بْنِ جَابِرٍ الْهُجَيْمِيِّ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ وَهُوَ مُحْتَبٍ فِي بُرْدَةٍ، وَإِنَّ هُدَّابَهَا لَعَلَى قَدَمَيْهِ.
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَوْصِنِي.
قَالَ: «عَلَيْكَ بِاتِّقَاءِ اللهِ، وَلَا تَحْقِرَنَّ مِنَ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا؛ وَلَوْ أَنْ تُفْرِغَ لِلْمُسْتَسْقِي مِنْ دَلْوِكَ فِي إِنَائِهِ، أَوْ تُكَلِّمَ أَخَاكَ وَوَجْهُكَ مُنْبَسِطٌ)).
* كُنْ رَجُلًا مُسْلِمًا ذَا مُرُوءَةٍ:
أَيْنَ أَنْتَ مِنْ أَخْلَاقِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟!!
أَيْنَ أَنْتَ مِنَ الْخُضُوعِ لِدِينِ رَبِّكَ؛ بِأَحْكَامِهِ وَشَرِيعَتِهِ؟!!
وَأَيْنَ أَنْتَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ الَّتِي تَوَاضَعَتْ عَلَيْهَا الْأُمَمُ؛ حَتَّى وَلَوْ مِنْ غَيْرِ إِرْشَادٍ بِدِينٍ؟!!
إِنَّ النَّاسَ -كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ- يَسْتَقْبِحُونَ أُمُورًا تُخِلُّ بِالْمُرُوءَةِ، وَتَضَعُ مِنَ الْقَدْرِ، وَأَصْحَابُ الْمُرُوءَةِ مِنْهُمْ يَقُولُ قَائِلُهُمْ؛ وَالْإِمَامُ فِيهِمْ -الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ--: ((لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ شُرْبَ الْمَاءِ الْبَارِدِ يَثْلُمُ مُرُوءَتِي؛ مَا شَرِبْتُهُ!!)).
لَا يَضَعُ الْإِنْسَانُ نَفْسَهُ فِي مَوَاضِعِ الذِّلَّةِ وَالْهَوَانِ، وَإِيَّاكَ وَمَا يُعْتَذَرُ مِنْهُ، كُنْ رَجُلًا مُسْلِمًا، رَجُلًا -تِلْكَ صِفَاتُ الرُّجُولَةِ- مُسْلِمًا، سُبِغَتْ رُجُولَتُكَ بِإِسْلَامِكَ، فَازْدَادَتْ كَمَالًا إِلَى كَمَالِهَا، وَحُسْنًا إِلَى حُسْنِهَا.
لَا تُعْلَمُ أَخْلَاقُ الرِّجَالِ إِلَّا مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
دَعْكَ مِنَ السَّفَاسِفِ، وَارْتَفِعْ فَوْقَهَا، وَتَأَمَّلْ فِي الْمَعَالِي -مَعَالِي الْأُمُورِ-، وَإِيَّاكَ وَالدُّونَ، وَلَا تَكُنْ آخِذًا بِمَا يَثْلُمُ مُرُوءَتَكَ، وَإِيَّاكَ وَمَوَاطِنَ الْهَوَانِ وَمَوَاضِعَ الذِّلَّةِ.
كُنْ رَجُلًا مُسْلِمًا؛ فَإِنَّ الْأُمَّةَ فِي حَاجَةٍ إِلَيْكَ عَلَى هَذَا الْوَصْفِ وَحْدَهُ: أَنْ تَكُونَ مُسْلِمًا حُقِّقَتْ فِيكَ رُجُولَةُ الْمُسْلِمِ الْحَقِّ، الْأُمَّةُ تَحْتَاجُ هَؤُلَاءِ.
((آدَابُ النَّظَافَةِ))
إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ هُوَ دِينُ الطَّهَارَةِ، دِينُ طَهَارَةِ الْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ عَلَى السَّوَاءِ.
وَالطَّهَارَةُ: هِيَ النَّزَاهَةُ وَالنَّظَافَةُ مِنَ الْأَقْذَارِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ.
الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: طَهَارَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ: وَهِيَ طَهَارَةُ الْقَلْبِ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، وَكُلِّ مَا رَانَ عَلَيْهِ، وَهِيَ أَهَمُّ مِنْ طَهَارَةِ الْبَدَنِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَحَقَّقَ طَهَارَةُ الْبَدَنِ مَعَ وُجُودِ نَجَسِ الشِّرْكِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28].
هَذِهِ النَّجَاسَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} هِيَ النَّجَاسَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ، هِيَ نَجَاسَةُ الْقَلْبِ بِالشِّرْكِ؛ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ مَعْنَوِيَّةٌ، وَهِيَ طَهَارَةُ الْقَلْبِ مِنَ الشِّرْكِ، وَالْمَعَاصِي، وَالْبِدَعِ، وَكُلِّ مَا رَانَ عَلَى الْقَلْبِ، وَهِيَ أَهَمُّ مِنْ طَهَارَةِ الْبَدَنِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تَتَحَقَّقَ طَهَارَةُ الْبَدَنِ مَعَ وُجُودِ نَجَاسَةِ الشِّرْكِ.
الْقِسْمُ الثَّانِي: الطَّهَارَةُ الْحِسِّيَّةُ.
فَالطَّهَارَةُ طَهَارَتَانِ:
طَهَارَةٌ مَعْنَوِيَّةٌ: وَهِيَ طَهَارَةُ الْقَلْبِ وَالْبَاطِنِ مِنْ نَجَسِ وَنَجَاسَةِ الشِّرْكِ، وَالْكُفْرِ، وَالْبِدْعَةِ، وَالْمَعَاصِي، وَهَذِهِ الطَّهَارَةُ الْمَعْنَوِيَّةُ -وَهِيَ طَهَارَةُ الْقَلْبِ وَالْبَاطِنِ- أَهَمُّ مِنَ الطَّهَارَةِ الْحِسِّيَّةِ؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْبَدَنِ فَرْعٌ عَنْ طَهَارَةِ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ وَالضَّمِيرِ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ إِذَا اسْتَقَامَ؛ اسْتَقَامَ الْبَدَنُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِذَا صَلَحَ الْقَلْبُ؛ صَلَحَ الْبَدَنُ، وَإِذَا فَسَدَ الْقَلْبُ؛ فَسَدَ الْبَدَنُ».
الْقِسْمُ الثَّانِي: الطَّهَارَةُ الْحِسِّيَّةُ، وَهِيَ عَلَى نَوْعَيْنِ:
1- طَهَارَةُ حَدَثٍ: وَتَخْتَصُّ بِالْبَدَنِ.
طَهَارَةُ الْحَدَثِ تَتَعَلَّقُ بِالْبَدَنِ.
2- وَطَهَارَةُ خَبَثٍ: وَتَكُونُ فِي الْبَدَنِ، وَالثَّوْبِ، وَالْمَكَانِ.
الطَّهَارَةُ مِنْ أَهَمِّ الْمُهِمَّاتِ فِي دِينِ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-؛ خَاصَّةً إِذَا تَعَلَّقَتْ بِالْبَاطِنِ وَالْقَلْبِ، فَأَهَمِّيَّتُهَا دَلَّتْ عَلَيْهَا نُصُوصُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ مَرَاتِبُهَا:
قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {مَا يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ وَلَٰكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6].
وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ» مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ -أَيْ نِصْفُهُ-، وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ للهِ تَمْلآنِ أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَائِعٌ نَفْسَه فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا».
وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -كَمَا فِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ الَّذِي أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارِمِيُّ-، قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ الطُّهُورُ، وَتَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ، وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ».
خِصَالُ الْإِيمَانِ عَلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: يُطَهِّرُ الظَّاهِرَ.
وَأَمَّا الْآخَرُ: فَيُطَهِّرُ الْبَاطِنَ.
فَالْأَعْمَالُ وَالْأَقْوَالُ كُلُّهَا تُطَهِّرُ الْقَلْبَ وَتُزَكِّيهِ.
وَأَمَّا الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ؛ فَهِيَ تَخْتَصُّ بِتَطْهِيرِ الْجَسَدِ وَتَنْظِيفِهِ؛ فَصَارَتِ الطَّهَارَةُ بِالْمَاءِ شَطْرَ الْإِيمَانِ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ.
الْمُسْلِمُ الَّذِي يَحْرِصُ عَلَى دِينِهِ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الِاهْتِمَامَ بِطَهَارَةِ الظَّاهِرِ دُونَ الْبَاطِنِ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَهْتَمَّ بِطَهَارَةِ قَلْبِهِ مِنْ أَدْرَانِ وَأَوْسَاخِ الشِّرْكِ وَالْإِلْحَادِ، وَالْبِدْعَةِ، وَرَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ، وَسَفَاسِفِ الْأُمُورِ، كَمَا يَهْتَمُّ بِطَهَارَةٍ ظَاهِرَةٍ مِنَ الْأَنْجَاسِ وَالْأَحْدَاثِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ أَخْبَرَنَا «أَنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِنَا، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِنَا وَأَعْمَالِنَا»، فَالْقَلْبُ مَحَلُّ نَظَرِ الْحَقِّ إِلَى الْخَلْقِ، وَأَمَّا الْوَجْهُ وَالْبَدَنُ؛ فَمَحَلُّ نَظَرِ الْخَلْقِ إِلَى الْعَبْدِ.
وَالنَّاسُ يَعْكِسُونَ الْقَضِيَّةَ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ وَقَّرَ رَبَّهُ تَوْقِيرًا؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَحْرِصَ عَلَى أَنْ يُطَهِّرَ مَحَلَّ نَظَرِ رَبِّهِ إِلَيْهِ، وَهُوَ الْقَلْبُ، فَيُطَهِّرُ الْقَلْبَ مِنَ الْبِدْعَةِ، وَيُطَهِّرُ الْقَلْبَ مِنَ الشِّرْكِ، وَمِنْ رَذَائِلِ الْأَخْلَاقِ وَمَذْمُومِ الصِّفَاتِ؛ وَلَكِنَّ النَّاسَ يَعْكِسُونَ الْقَضِيَّةَ، يَهْتَمُّونَ بِتَجْمِيلِ مَحَلِّ نَظَرِ الْخَلْقِ إِلَيْهِمْ، وَلَا يَلْتَفِتُونَ إِلَى تَطْهِيرِ مَحَلِّ نَظَرِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- إِلَيْهِمْ، وَهِيَ قُلُوبُهُمْ!!
فَالْكَيِّسُ الَّذِي يُرَاعِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ؛ حَتَّى لَا تَنْعَكِسَ عَلَيْهِ.
قَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ} [التوبة: 108].
فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا طَهَارَةَ الْبَاطِنِ مِنَ الْكُفْرِ، وَالنِّفَاقِ، وَالْمَعَاصِي، وَطَهَارَةَ الظَّاهِرِ مِنَ الْأَحْدَاثِ وَالْأَنْجَاسِ بِالْمَاءِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6].
وَقَالَ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ:((إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ؛ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً، ثُمَّ لِيَسْتَنْثِرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، وَإذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ؛ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ قَبْلَ أنْ يُدْخِلَهُمَا فَي الإنَاءِ ثَلَاثًا؛ فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ)).
وَالنَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ فِي كَلِمَةٍ جَامِعَةٍ: ((الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ)).
النَّظَافَةُ شَطْرُ الدِّينِ.
وَقَالَ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ)).
النَّبِيُّ ﷺ دَلَّنَا عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نَظِيفَ الْجِسْمِ وَالثِّيَابِ، يَغْتَسِلُ الْمُسْلِمُ الَّذِي يُرِيدُ الْإِسْلَامَ شَامَةً بَيْنَ النَّاسِ؛ لِكَيْ يَكُونَ نَظِيفَ الْجَسَدِ، نَظِيفَ الثَّوْبِ، كَمَا أَنَّهُ نَظِيفُ الْقَلْبِ وَالرُّوحِ وَالضَّمِيرِ.
وَالنَّبِيُّ ﷺ أَمَرَنَا بِهَذَا الْأَمْرِ: ((اغْتَسِلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَاغْسِلُوا رُؤُوسَكُمْ وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا جُنُبًا، وَأَصِيبُوا مِنَ الطِّيبِ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).
وَبَلَغَ مِنْ شِدَّةِ حَضِّهِ عَلَى النَّظَافَةِ بِالِاسْتِحْمَامِ وَالِاغْتِسَالِ أَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الِاغْتِسَالَ وَاجِبٌ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ الْحَقُّ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا؛ يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ».
أَيُّ دِينٍ هَذَا لَوْ كَانَ لَهُ رِجَالٌ!!.
((الْمُسْلِمُ الْحَقُّ نَظِيفٌ فِي ثَوْبِهِ وَجَوْرَبِهِ، يَتَفَقَّدُ ثِيَابَهُ وَجَوْرَبَهُ بَيْنَ الْحِينِ وَالْحِينِ؛ لَا يَرْضَى أَنْ تَفُوحَ مِنْ أَرْدَانِهِ أَوْ قَدَمَيْهِ رَائِحَةٌ مُنَفِّرَةٌ، وَيَسْتَعِينُ عَلَى ذَلِكَ بِالطِّيبِ أَيْضًا.
وَيَتَعَهَّدُ الْمُسْلِمُ الْوَاعِي فَمَهُ، فَلَا يَشُمُّ أَحَدٌ مِنْهُ رَائِحَةً مُؤْذِيَةً كَرِيهَةً، وَذَلِكَ بِتَنْظِيفِ أَسْنَانِهِ كُلَّ يَوْمٍ بِالسِّوَاكِ مَرَّاتٍ، وَبِغَيْرِهِ مِنَ الْمُطَهِّرَاتِ وَالْمُنَظِّفَاتِ.
يَتَفَقَّدُ فَمَهُ، وَيَعْرِضُهُ عَلَى الْمُخْتَصِّ بِعِلَاجِهِ إِنِ احْتَاجَ إِلَى ذَلِكَ، وَإِلَى مَنْ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِأَسْنَانِهِ مِمَّنْ لَهُ اخْتِصَاصٌ بِالْفَمِ وَالْحَنْجَرَةِ وَالْأَمْرَاضِ الْبَطْنِيَّةِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ تَغَيُّرَ رَائِحَةِ الْفَمِ قَدْ تَكُونُ نَاشِئَةً مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ أَوْ مِنْ بَعْضِهَا؛ فَإِنِ احْتَاجَ الْأَمْرُ إِلَى ذَلِكَ؛ عَرَضَ نَفْسَهُ عَلَى مَنْ يَخْتَصُّ بِذَلِكَ؛ حَتَّى يَبْقَى فَمُهُ نَقِيًّا مُعَطَّرَ الْأَنْفَاسِ.
تَرْوِي عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ: ((أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ كَانَ لَا يَرْقُدُ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا فَيَسْتَيْقِظُ إِلَّا تَسَوَّكَ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ.
وَتَبْلُغُ عِنَايَةُ الرَّسُولِ الْكَرِيمِ بِنَظَافَةِ الْفَمِ حَدًّا يَجْعَلُهُ يَقُولُ: ((لَوْ لَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي؛ لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَسُئِلَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- عَنْ أَيِّ شَيْءٍ يَبْدَأُ بِهِ الرَّسُولُ الْكَرِيمُ ﷺ إِذَا دَخَلَ بَيْتَهُ؟ فَقَالَتْ: ((السِّوَاكُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَقَدْ رَوَى الْإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّهُ قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللهِ ﷺ زَائِرًا، فَرَأَى رَجُلًا عَلَيْهِ ثِيَابٌ وَسِخَةٌ، فَقَالَ: ((مَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يَغْسِلُ بِهِ ثَوْبَهُ؟!)).
فَأَنْكَرَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَظْهَرَ الْإِنْسَانُ عَلَى الْمَلَأِ بِثِيَابٍ وَسِخَةٍ مَا دَامَ قَادِرًا عَلَى غَسْلِهَا وَتَنْظِيفِهَا؛ إِشْعَارًا مِنْهُ -صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ- لِلْمُسْلِمِ بِأَنْ يَكُونَ دَوْمًا نَظِيفَ الثِّيَابِ، حَسَنَ الْمَظْهَرِ، مُحَبَّبَهُ.
الْإِسْلَامُ يَحُضُّ أَبْنَاءَهُ جَمِيعًا فِي كَثِيرٍ مِنَ النُّصُوصِ عَلَى النَّظَافَةِ؛ يُرِيدُ مِنْهُمْ أَنْ يَكُونُوا نَظِيفِينَ دَوْمًا، تَضَوَّعُ مِنْهُمْ رَائِحَةُ الطِّيبِ، وَتَفُوحُ مِنْ أَجْسَامِهِمُ الرَّوَائِحُ الْعَطِرَةُ، وَهَذَا مَا كَانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ﷺ.
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فيِ ((صَحِيحَيْهِمَا)) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((مَا شَمَمْتُ عَنْبَرًا قَطُّ وَلَا مِسْكًا وَلَا شَيْئًا أَطْيَبَ مِنْ رِيحِ رَسُولِ اللهِ ﷺ)).
أَخْرَجَ ذَلِكَ أَبُو دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ كَانَ لَهُ شَعْرٌ فَلْيُكْرِمْهُ)).
وَإِكْرَامُ الشَّعْرِ فِي الْإِسْلَامِ يَكُونُ بِتَنْظِيفِهِ.. بِتَمْشِيطِهِ.. بِتَطْيِيبِهِ.. بِتَحْسِينِ شَكْلِهِ وَهَيْئَتِهِ بِغَيْرِ إِغْرَاقٍ؛ فَإِنَّ مِنَ السُّنَّةِ: أَنْ تَتَرَجَّلَ غِبًّا؛ أَيْ: يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَقَدْ أَمَرَ النَّبِيُّ ﷺ بِالتَّرَجُّلِ غِبًّا؛ أَيْ: يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَالنَّبِيُّ ﷺ جَاءَ بِالْوَسَطِ الْخِيَارِ ﷺ.
كَرِهَ النَّبِيُّ ﷺ أَنْ يَدَعَ الْإِنْسَانُ شَعْرَهُ مُرْسَلًا مُهْمَلًا شَعِثًا مَنْفُوشًا؛ بِحَيْثُ يَبْدُو لِلْأَعْيُنِ كَأَنَّهُ الْغُولُ الْهَائِجُ، وَشَبَّهَهُ الرَّسُولُ ﷺ لِقُبْحِ مَنْظَرِهِ بِالشَّيْطَانِ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ فِي ((الْمُوَطَّأِ)) مُرْسَلًا عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فِي الْمَسْجِدِ، فَدَخَلَ رَجُلٌ ثَائِرُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ الرَّسُولُ ﷺ بِيَدِهِ، كَأَنَّهُ يَأْمُرُهُ بِإِصْلَاحِ شَعْرِهِ وَلِحْيَتِهِ، فَفَعَلَ، ثُمَّ رَجَعَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ ثَائِرُ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ شَيْطَانٌ؟!)).
وَوَاضِحٌ أَنَّ فِي تَشْبِيهِ النَّبِيِّ ﷺ الْمُنْتَفِشَ الشَّعْرِ بِالشَّيْطَانِ.. أَنَّ فِي ذَلِكَ تَعْبِيرًا عَنْ شِدَّةِ عِنَايَةِ الْإِسْلَامِ بِحُسْنِ الْمَنْظَرِ وَجَمَالِ الْهَيْئَةِ، وَفِيهِ إِنْكَارُهُ التَّبَذُّلَ وَقُبْحَ الْمَنْظَرِ.
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ دَائِمَ التَّنْبِيهِ إِلَى هَذِهِ الْمَلَاحِظِ الْجَمَالِيَّةِ فِي هَيْئَةِ الْإِنْسَانِ؛ مَا رَأَى رَجُلًا رَدِيءَ الْهَيْئَةِ مُهْمِلًا شَعْرَهُ إِلَّا أَنْكَرَ عَلَيْهِ إِهْمَالَهُ، وَتَقْصِيرَهُ، وَزِرَايَتَهُ بِنَفْسِهِ.
رَوَى الْإِمَامُ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ جَابِرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: أَتَانَا رَسُولُ اللهِ ﷺ زَائِرًا، فَرَأَى رَجُلًا شَعِثًا قَدْ تَفَرَّقَ شَعْرُهُ، فَقَالَ: ((مَا كَانَ يَجِدُ هَذَا مَا يُسَكِّنُ بِهِ رَأْسَهُ؟!)) ﷺ.
حُسْنُ الْهَيْئَةِ مِمَّا يُعْنَى بِهِ دِينُ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
الْمُسْلِمُ الْحَقُّ يُعْنَى بِلِبَاسِهِ وَهِنْدَامِهِ فِي غَيْرِ مَا غُلُوٍّ وَلَا إِسْرَافٍ؛ فَتَرَاهُ حَسَنَ الْهَيْئَةِ، نَظِيفًا فِي قَصْدٍ، مِنْ غَيْرِ مَا مُغَالَاةٍ وَلَا إِسْرَافٍ.
فِي ((صَحِيحِ مُسْلِمٍ)) عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)).
فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا، وَنَعْلُهُ حَسَنًا؟
كَأَنَّهُ يُرِيدُ: أَيُعَدُّ هَذَا مِنَ الْكِبْرِ؟
قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ؛ الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ))».
فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَكُونُوا شَامَاتٍ بَيْنَ النَّاسِ بِقَصْدٍ لَا إِفْرَاطَ فِيهِ وَلَا تَفْرِيطَ، وَأَنْ يُقْبِلُوا عَلَى اللهِ؛ لِأَنَّ جَمَالَ الْأَنْفُسِ وَاسْتِقَامَةَ الْفِطْرَةِ تَنْضَحُ عَلَى الْوُجُوهِ.
لَقَدْ حَضَّ الْإِسْلَامُ عَلَى نَظَافَةِ الْأَمَاكِنِ الْخَاصَّةِ وَالْعَامَّةِ؛ فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ؛ نَظِّفُوا أَفْنِيَتَكُمْ».
وَالْأَمْرُ بِالنَّظَافَةِ لَمْ يَقِفْ عِنْدَ حَدِّ الْأَمْرِ بِالنَّظَافَةِ الشَّخْصِيَّةِ، أَوْ نَظَافَةِ الْمَسَاجِدِ وَالْبُيُوتِ، بَلْ وَصَلَ الْأَمْرُ إِلَى التَّوْجِيهِ بِتَنْظِيفِ الْبِيئَةِ الَّتِي يَعِيشُ فِيهَا الْإِنْسَانُ وَيَتَفَاعَلُ مَعَهَا.
قَدْ تَكُونُ هَذِهِ الْبِيئَةُ طَرِيقَهُ الَّذِي يَسِيرُ فِيهِ، أَوْ مَدْرَسَتَهُ أَوْ جَامِعَتَهُ الَّتِي يَتَعَلَّمُ فِيهَا، أَوْ مَكَانًا عَامًّا يَقْضِي مِنْ خِلَالِهِ مَصَالِحَهُ، أَوْ يَتَنَزَّهُ فِيهِ.
وَقَدْ عُنِيَ الْإِسْلَامُ عِنَايَةً خَاصَّةً بِتَنْظِيفِ الطُّرُقِ وَالْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ، وَإِزَالَةِ الْأَذَى عَنْهَا، وَجَعَلَهَا بَابًا وَاسِعًا مِنْ أَبْوَابِ الْخَيْرِ؛ فَإِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الْأَمَاكِنِ الْعَامَّةِ صَدَقَةٌ.
عِبَادَ اللهِ! إِنَّ مِمَّا يَحْرُمُ فِعْلُهُ عَلَى مَنْ أَرَادَ قَضَاءَ الْحَاجَةِ: الْبَوْلَ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ؛ لِحَدِيثِ جَابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «أَنَّهُ نَهَى عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ».
وَ((الرَّاكِدُ)): السَّاكِنُ الَّذِي لَا يَجْرِي.
هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كَسَائِرِ مَسَائِلِ هَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ.. مِنْ مَحَاسِنِهِ، فَالنَّبِيُّ ﷺ نَهَى عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، وَكَذَلِكَ يَكُونُ الشَّأْنُ مَعَ الْمَاءِ الْجَارِي؛ الْإِنْسَانُ لَا يُلَوِّثُ الْمَوَارِدَ، وَكَمَا سَيَأْتِي فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَلَاعِنِ الَّتِي يَتَّقِيهَا الْإِنْسَانُ؛ مِنْ ظِلِّ النَّاسِ، وَطَرِيقِهِمْ، وَمَوَارِدِهِمْ -مَوَاضِعِ شُرْبِهِمْ-.
هَذَا شَيْءٌ مُهِمٌّ، بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ -أَيْضًا- بِالنَّظَافَةِ الْعَامَّةِ، وَمُتَعَلِّقٌ -أَيْضًا- بِالثِّقَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي الْبُيُوتِ، فَالْمَرْأَةُ -مَثَلًا- مَسْؤُولَةٌ عَنْ إِعْدَادِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَهِيَ لَا تُتَابَعُ فِي ذَلِكَ، وَإِنَّمَا تَكُونُ وَحْدَهَا فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ عَلَى دَرَجَةٍ بِوَعْيٍ يَقِظٍ فِي اتِّبَاعِ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ؛ لَمْ تُؤْمَنْ أَنْ تُبَاشِرَ النَّجَاسَةَ، ثُمَّ تَضَعَ يَدَهَا الَّتِي بَاشَرَتِ النَّجَاسَةَ فِي طَعَامِ أَوْلَادِهَا وَزَوْجِهَا؛ وَهَلْ يَرَاهَا مِنْ أَحَدٍ سِوَى اللهِ؟!
وَأَمَّا الْتِزَامُ السُّنَّةِ؛ فَشَيْءٌ آخَرُ.. هَذَا مُهِمٌّ!
يَحْرُمُ عَلَى مَنْ أَرَادَ قَضَاءَ الْحَاجَةِ الْبَوْلُ أَوِ الْغَائِطُ فِي الطَّرِيقِ، أَوْ فِي الظِّلِّ، أَوْ فِي الْحَدَائِقِ الْعَامَّةِ، أَوْ تَحْتَ شَجَرَةٍ مُثْمِرَةٍ، أَوْ مَوَارِدِ الْمِيَاهِ؛ لِمَا رَوَى مُعَاذٌ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ، وَالظِّلِّ)).
مَا الَّذِي أَتَى بِهِ أَهْلُ الْعَصْرِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ مِمَّا لَا يَعْلَمُونَهُ؟!!
نَحْنُ الَّذِينَ عَلَّمْنَا الدُّنْيَا النَّظَافَةَ..
وَنَحْنُ الَّذِينَ عَلَّمْنَا الدُّنْيَا النِّظَامَ..
وَمَا عِنْدَ الْآخَرِينَ مِنْ شَيْءٍ مِنْ خَيْرٍ؛ فَإِنَّمَا هُوَ مِنْ آثَارِ نُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ مِمَّا أَخَذُوهُ مِنَّا..
نَحْنُ عَلَّمْنَا الدُّنْيَا كُلَّهَا النَّظَافَةَ وَالنِّظَامَ..
وَعَلَّمْنَا الدُّنْيَا كُلَّهَا هَذِهِ الْأُصُولَ الْعَامَّةَ الَّتِي يَسْلَمُ الْإِنْسَانُ بِهَا فِي الْحَيَاةِ..
((اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ -وَهِيَ طُرُقُ الْمَاءِ-، وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ -قَارِعَةُ الطَّرِيقِ: وَسَطُهَا-، وَالظِّلِّ)).
وَلِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: ((اتَّقُوا اللَّاعِنَيْنِ)).
قَالُوا: وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟
اللَّاعِنَانِ: الْأَمْرَانِ الْمُوجِبَانِ لِلَّعْنِ، وَذَلِكَ أَنَّ مَنْ فَعَلَهُمَا؛ لُعِنَ وَشُتِمَ، فَصَارَ هَذَا سَبَبًا، ثُمَّ أُضِيفَ إِلَيْهِمَا الْفِعْلُ، فَكَانَا كَأَنَّهُمَا اللَّاعِنَانِ، وَإِنَّمَا هُمَا مُسْتَجْلِبَانِ لِلَّعْنِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ؛ لُعِنَ وَشُتِمَ.
((قَالُوا: وَمَا اللَّاعِنَانِ يَا رَسُولَ اللهِ؟!))؛ وَمَا الْأَمْرَانِ الْمُسْتَجْلِبَانِ لِلَعْنِ مَنْ فَعَلَهُمَا يَا رَسُولَ اللهِ؟!!
قَالَ ﷺ: ((الَّذِي يَتَخَلَّى -أَيْ: يَقْضِي حَاجَتَهُ- فِي طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ فِي ظِلِّهِمْ))، فَإِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا ذَلِكَ؛ لَعَنُوا فَاعِلَهُ، وَشَتَمُوهُ وَسَبُّوهُ.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! لَقَدْ رَبَطَ الْإِسْلَامُ بَيْنَ النَّظَافَةِ الْحِسِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، فَجَعَلَ الطَّهَارَةَ الْحِسِّيَّةَ مِنْ أَسْبَابِ الطَّهَارَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ؛ فَالْوُضُوءُ شَطْرُ الْإِيمَانِ؛ لِذَلِكَ بَيَّنَ لَنَا نَبِيُّنَا ﷺ عَظِيمَ فَضْلِهِ وَكَبِيرَ أَثَرِهِ.
فَعَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ، قَالَ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- بِوَضُوءٍ -وَالْوَضُوءُ -بِفَتْحِ الْوَاوِ-: مَا يُتَوَضَّأُ بِهِ؛ كَالسَّحُورِ -بِفَتْحِ السِّينِ-: مَا يُتَسَحَّرُ بِهِ، وَأَمَّا الْوُضُوءُ؛ فَالْفِعْلُ وَالْمَصْدَرُ، وَأَمَّا السُّحُورُ؛ فَالْفِعْلُ وَالْمَصْدَرُ-، قَالَ: أَتَيْتُ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ بِوَضُوءٍ، فَتَوَضَّأَ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ نَاسًا يَتَحَدَّثُونَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ أَحَادِيثَ لَا أَدْرِي مَا هِيَ؛ إِلَّا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ تَوَضَّأَ مِثْلَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ هَكَذَا؛ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَكَانَتْ صَلَاتُهُ وَمَشْيُهُ إِلَى الْمَسْجِدِ نَافِلَةً». الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَوِ الْمُؤْمِنُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ؛ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إِلَيْهَا بِعَيْنَيْهِ مَعَ الْمَاءِ، أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ؛ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ كَانَ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ، أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ؛ خَرَجَتْ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ، أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ؛ حَتَّى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ». الْحَدِيثُ أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي «صَحِيحِهِ».
هَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَدُلُّكَ عَلَى فَضْلِ الطَّهَارَةِ، وَعَظِيمِ خَطَرِهَا؛ حَتَّى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَدَنِ؛ حَتَّى فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَعْضَاءِ الْوُضُوءِ.
((مِنْ أَعْظَمِ الْآدَابِ الْإِسْلَامِيَّةِ:
احْتِرَامُ النِّظَامِ))
إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَكْرَمَنَا بِدِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ، وَهَذَا الدِّينُ الْعَظِيمُ دِينُ الْتِزَامٍ وَنِظَامٍ، لَا مَدْخَلَ لِلْفَوْضَى فِيهِ بِحَالٍ، بَلْ إِنَّ اللهَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- أَنْزَلَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ الْآيَاتِ الْبَيِّنَاتِ؛ لِتَضْبِطَ حَرَكَةَ حَيَاةِ الْمُسْلِمِ مُنْذُ أَنْ يَسْتَيْقِظَ إِلَى أَنْ يَنَامَ، بِانْضِبَاطٍ كَامِلٍ لَا مُيُوعَةَ فِيهِ، وَلَا فَوْضَى تَحْتَوِيهِ وَلَا تَعْتَرِيهِ.
النَّبِيُّ ﷺ رَاعَى حُقُوقَ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ -تَعَالَى-، وَعَلَّمَنَا النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ هَذَا الْمُجْتَمَعَ لَا يَصْلُحُ وَالنَّاسُ فِيهِ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ: أَنَّ تَقَابُلَ الْحُقُوقِ وَالْوَاجِبَاتِ أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ، فَمَا مِنْ حَقٍّ إِلَّا وَفِي مُقَابَلَتِهِ وَاجِبٌ، وَكَذَلِكَ الْوَاجِبُ يُقَابِلُهُ الْحَقُّ.
إِنَّ تَطْبِيقَ النِّظَامِ الَّذِي أَقَرَّهُ الشَّرْعُ الْأَغَرُّ مَسْؤُولِيَّةُ الْجَمِيعِ، قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)).
وَقَالَ نَبِيُّكُمْ ﷺ: ((إِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ، وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ، فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ مُهْلِكَتِي، ثُمَّ تَنْكَشِفُ، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ، فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: هَذِهِ هَذِهِ، فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ؛ فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَلْيَأْتِ إِلَى النَّاسِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْهِ، وَمَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ؛ فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ؛ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
إِنَّ مِمَّا يَتَوَجَّبُ عَلَى الْمَرْءِ الْآنَ أَنْ يُرَاعِيَ الْمَصْلَحَةَ الْعُلْيَا لِهَذَا الْوَطَنِ، فَهَذَا وَطَنٌ مُسْلِمٌ، وَهَذِهِ أَرْضٌ يَحْيَا عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ مُنْذُ قُرُونٍ، وَيَنْبَغِي عَلَيْهِمْ أَنْ يُحَافِظُوا عَلَيْهَا، وَأَلَّا يُضَيِّعُوهَا.
((مِنَ الْآدَابِ الْعَظِيمَةِ:
مُرَاعَاةُ الذَّوْقِ الْعَامِّ))
إِنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ دِينُ مَشَاعِرَ.. دِينُ ذَوْقٍ.. دِينُ أَحَاسِيسَ، وَمَهْمَا رَأَيْتَ مِنْ حِسٍّ حَسَنٍ، وَمَهْمَا رَأَيْتَ مِنْ ذَوْقٍ عَالٍ؛ فَسَتَجِدُ أَصْلَهُ فِي دِينِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ؛ آيَةً تُتْلَى، وَسُنَّةً تُرْوَى وَتُحْكَى.
هَذَا الدِّينُ هُوَ دِينُ الْإِحْسَاسِ..
الرَّسُولُ ﷺ يَأْتِي مُنَفِّذًا لِتَعَالِيمِ الدِّينِ الْأَغَرِّ، الرَّسُولُ ﷺ لَا يُجَبِّهُ أَحَدًا بِسُوءٍ أَبَدًا، يَجِدُ مَا يَسُوءُ فِي بَعْضِ إِخْوَانِهِ وَلَا يُجَبِّهُهُ بِالسُّوءِ، وَأَنَّى يَتَأَتَّى مِنْهُ سُوءٌ!! وَإِنَّمَا يَصْعَدُ الْمِنْبَرَ، فَيَقُولُ: ((مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَفْعَلُونَ كَذَا وَكَذَا!!)).
لِسَانٌ إِنَّمَا يُغْمَسُ فِي دَوَاةِ قَلْبٍ طَاهِرٍ طَيِّبٍ حُلْوٍ، فَلَا يَتَأَتَّى مِنْهُ إِلَّا كُلُّ طَيِّبٍ طَاهِرٍ حُلْوٍ.
وَأَمَّا اللِّسَانُ الْمُنْفَلِتُ، وَأَمَّا الذَّوْقُ النَّشَازُ، وَأَمَّا هَذِهِ الِاعْتِبَارَاتُ السُّلُوكِيَّةُ غَيْرُ الْمُنْضَبِطَةِ، وَأَمَّا التَّهْرِيجُ وَالتَّهْوِيشُ، وَأَمَّا الزِّيَاطُ وَالْهِيَاطُ وَالْمِيَاطُ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي الْإِتْبَاعِ وَالْمُزَاوَجَةِ إِلَى مَا شِيتَ؛ كُلُّ ذَلِكَ وَمَا دَارَ فِي فَلَكِهِ فَهُوَ بِمَبْعَدَةٍ مِنْ دِينِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمِ.
لَقَدْ حَرَّمَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ عَلَى الْإِنْسَانِ الْخَبَائِثَ الَّتِي تُؤْذِيهِ، وَأَبَاحَ لَهُ كُلَّ مَا يَنْفَعُهُ وَيَحْمِيهِ، قَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3].
وَأَمَرَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا- هَذَا الْإِنْسَانَ أَنْ يَأْكُلَ، وَأَنْ يَشْرَبَ، وَأَنْ يَنْتَفِعَ، وَأَنْ يَزْدَانَ بِمَا خَلَقَ الْلَّهُ لَهُ مِنْ مَظَاهِرِ الْمُتَعِ وَأَنْوَاعِ الْمَعَارِفِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ.
قَالَ رَبُّنَا -جَلَّتْ قُدْرَتُهُ-: {وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31].
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32].
فَأَبَاحَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- الطَّيِّبَاتِ، وَحَرَّمَ الْخَبَائِثَ، وَأَمَرَ بِحِفْظِ النَّفْسِ أَنْ يُعْتَدَى عَلَيْهَا، أَوْ أَنْ يُعْتَدَى عَلَى الْجَسَدِ الْإِنْسَانِيِّ فِي عُضْوٍ مِنْهُ.
أَمَرَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ بِحِفْظِ النَّفْسِ، وَبِحِفْظِ الْعَقْلِ، وَبِحِفْظِ الْمَالِ، وَبِحِفْظِ الْعِرْضِ، وَأَمَرَ بِحِفْظِ الدِّينِ، وَبِهِ يُحْفَظُ هَذَا كُلُّهُ.
وَمُرَاعَاةُ الذَّوْقِ الْعَامِّ تَقْتَضِي: اقْتِصَادَ الْمُسْلِمِ فِي مَلْبَسِهِ، وَمَأْكَلِهِ، وَمَشْرَبِهِ، وَالْبُعْدَ عَنِ الْإِسْرَافِ الْمَمْقُوتِ، وَالْمَظْهَرِ غَيْرِ الْمَقْبُولِ شَرْعًا، قَالَ اللهُ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141].
وَلَا تُجَاوِزُوا الْحَدَّ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ، وَأَكْلِ الطَّعَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ إِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ الْمُتَجَاوِزِينَ الْحَدَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْإِسْرَافَ يُوصِلُ إِلَى الْوُقُوعِ فِي الْمَضَارِّ وَالْمَهَالِكِ، أَوِ الظُّلْمِ وَالتَّحْرِيفِ فِي الدِّينِ.
فَمِنْ فَوَائِدِ هَذِهِ الْآيَةِ: التَّمَتُّعُ بِالطَّيِّبَاتِ مَعَ عَدَمِ الْإِسْرَافِ وَمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ فِي الْأَكْلِ وَالْإِنْفَاقِ.
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((كُلْ وَاشْرَبْ، وَالْبَسْ، وَتَصَدَّقْ، مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا مَخِيلَةٍ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَابْنُ مَاجَه، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ))، وَغَيْرِهِ.
الْمُسْلِمُ يَأْكُلُ مِنْ رِزْقِ رَبِّهِ الْحَلَالِ الطَّيِّبِ, وَلَا يُكْثِرُ مِنَ الْأَكْلِ؛ فَعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((الْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ، وَالْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((طَعَامُ الْوَاحِدِ يَكْفِي الِاثْنَيْنِ، وَطَعَامُ الِاثْنَيْنِ يَكْفِي الْأَرْبَعَةَ، وَطَعَامُ الْأَرْبَعَةِ يَكْفِي الثَّمَانِيَةَ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَجَنَّبَ الشِّبَعَ الْمُفْرَطَ؛ لِقَوْلِ الرَّسُولِ: ((مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ؛ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ, وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ)).
الْمُسْلِمُ يَنْظُرُ إِلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ بِاعْتِبَارِهِمَا وَسِيلَةً إِلَى غَيْرِهِمَا, لَا غَايَةً مَقْصُودَةً لِذَاتِهَا, فَهُوَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مِنْ أَجْلِ الْمُحَافَظَةِ عَلَى سَلَامَةِ بَدَنِهِ الَّذِي بِهِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْبُدَ رَبَّهُ الْعِبَادَةَ الَّتِي تُؤَهِّلُهُ لِكَرَامَةِ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَسَعَادَتِهَا.
فَلَيْسَ الْمُسْلِمُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ لِذَاتِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَشَهْوَتِهِمَا؛ فَلِذَا هُوَ لَوْ لَمْ يَجُعْ؛ لَمْ يَأْكُلْ, وَلَوْ لَمْ يَعْطَشْ؛ لَمْ يَشْرَبْ.
وَهَذِهِ جُمْلَةٌ مِنَ النَّصَائِحِ الْقُرْآنِيَّةِ النَّافِعَةِ؛ لِلْحِفَاظِ عَلَى الذَّوْقِ الْعَامِّ، قَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18].
وَلَا تَتَكَبَّرْ؛ فَتَحْقِرَ النَّاسَ، وَتُعْرِضَ بِوَجْهِكَ عَنْهُمْ إِذَا كَلَّمُوكَ كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْكِبْرِ.
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مُخْتَالًا مُتَبَخْتِرًا فِي مِشْيَتِكَ؛ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فِي مَشْيِهِ، مُسْتَكْبِرٍ عَلَى النَّاسِ بِإِعْرَاضِهِ عَنْهُمْ، مُبَالِغٍ فِي الْفَخْرِ عَلَى النَّاسِ بِنَفْسِهِ، أَوْ بِمَا آتَاهُ اللهُ مِنْ قُوَّةٍ، أَوْ مَالٍ، أَوْ نَسَبٍ، أَوْ جَاهٍ، أَوْ ذَكَاءٍ، أَوْ جَمَالِ وَجْهٍ وَحُسْنِ طَلْعَةٍ.
وَمَنْ لَا يُحِبُّهُ اللهُ؛ فَإِنَّهُ يُعَرِّضُ نَفْسَهُ لِعِقَابِهِ.
{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 19].
وَلْتَكُنْ فِي مِشْيَتِكَ مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْإِسْرَاعِ وَالتَّأَنِّي فِي سَكِينَةٍ وَوَقَارٍ.
وَاخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ بِقَدْرِ حَاجَةِ الْمُسْتَمِعِينَ؛ إِنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ دُونَ حَاجَةٍ إِلَى رَفْعِهِ مِنْ صِفَاتِ الْحَمِيرِ؛ فَلَا تَكُنْ يَا بُنَيَّ مُتَّصِفًا بِصِفَةٍ هِيَ مِنْ صِفَاتِ الْحَمِيرِ الَّتِي تَنْهَقُ، فَتَرْفَعُ أَصْوَاتَهَا الْمُنْكَرَةَ؛ إِنَّ أَقْبَحَ الْأَصْوَاتِ وَأَكْثَرَهَا تَنْفِيرًا لِلْأَسْمَاعِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ.
يَا بُنَيَّ! إِنَّ السَّيِّئَةَ أَوِ الْحَسَنَةَ مَهْمَا كَانَتْ صَغِيرَةً مِثْلَ وَزْنِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، وَكَانَتْ فِي بَطْنِ صَخْرَةٍ.. لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا أَحَدٌ، أَوْ كَانَتْ فِي أَيِّ مَكَانٍ مِنَ السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ؛ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجَازِي الْعَبْدَ عَلَيْهَا، إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ، خَبِيرٌ بِهِمْ، لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِهِمْ شَيْءٌ.
يَا بُنَيَّ! أَقِمِ الصَّلَاةَ بِأَدَائِهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَاصْبِرْ عَلَى مَا نَالَكَ مِنْ مَكْرُوهٍ فِي ذَلِكَ؛ إِنَّ مَا أَمَرْتَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا عَزَمَ اللهُ بِهِ عَلَيْكَ أَنْ تَفْعَلَهُ؛ فَلَا خِيرَةَ لَكَ فِيهِ.
وَلَا تُعْرِضْ بِوَجْهِكَ عَنِ النَّاسِ تَكَبُّرًا، وَلَا تَمْشِ فَوْقَ الْأَرْضِ مُخْتَالًا مُتَكَبِّرًا؛ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فِي مِشْيَتِهِ، فَخُورٍ بِمَا أُوتِيَ مِنْ نِعَمٍ لَا يَشْكُرُ اللهَ عَلَيْهَا، بَلْ يُبْغِضُهُ.
وَتَوَسَّطْ فِي مَشْيِكَ بَيْنَ الْإِسْرَاعِ وَالدَّبِيبِ، مَشْيًا يُظْهِرُ الْوَقَارَ.
وَاخْفِضْ مِنْ صَوْتِكَ، لَا تَرْفَعْهُ رَفْعًا يُؤْذِي؛ إِنَّ أَقْبَحَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ فِي ارْتِفَاعِ أَصْوَاتِهَا.
وَمِنْ سُبُلِ الْحِفَاظِ عَلَى الذَّوْقِ الْعَامِّ: الْحِفَاظُ عَلَى خِصَالِ الْفِطْرَةِ، النَّبِيُّ ﷺ يَقُولُ: ((الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ)).
طَهَارَةُ بَاطِنٍ وَظَاهِرٍ، قَلْبٌ سَوِيٌّ، لَا غِشَّ وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ وَلَا حِقْدَ وَلَا خِدَاعَ، نَفْسٌ صَافِيَةٌ مُحِبَّةٌ لِلْخَيْرِ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً كَمَا يُحِبُّ لِذَاتِهِ؛ سَوَاءً بِسَوَاءٍ، حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ، إِيثَارٌ لَا أَثَرَةَ فِيهِ، وَعَطَاءٌ لَا مَنْعَ مَعَهُ.
طَهَارَةُ بَاطِنٍ، بَاطِنٌ نَظِيفٌ تَنْعَكِسُ أَنْوَارُ نَظَافَتِهِ عَلَى ظَاهِرٍ نَظِيفٍ، نَعَمْ.. ظَاهِرٍ نَظِيفٍ.
النَّبِيُّ ﷺ يَجْعَلُهَا فِطْرَةً.. فِطْرَةً يُبَيِّنُهَا ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فِي كَلَامٍ حَسَنٍ نَظِيفٍ؛ إِذْ يَتَنَاوَلُ قَوْلَ اللهِ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124]، قَالَ: ((ابْتَلَاهُ بِخِصَالٍ فِي رَأْسِهِ وَفِي جَسَدِهِ؛ فَأَمَّا فِي رَأْسِهِ؛ فَفَرْقُ شَعْرِهِ..)).
أَوَفِي هَذَا مِنْ شَيْءٍ؟!!
هِيَ مِنْ خِصَالِ الْفِطْرَةِ، كَمَا بَيَّنَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-.
تَقُولُ عَائِشَةُ -كَمَا فِي ((الصَّحِيحَيْنِ))-: ((كَأَنِّي أَرَى وَبِيصَ الطِّيبِ -تَعْنِي: لَمَعَانَ الطِّيبِ- فِي مَفَارِقِ شَعْرِ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَهُوَ مُحْرِمٌ)).
يَقُولُ -يَعْنِي: ابْنَ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا--: ((ابْتَلَاهُ بِأُمُورٍ فِي شَعْرِهِ، بِالْفَرْقِ فِي شَعْرِهِ، بِالْمَضْمَضَةِ، بِالِاسْتِنْشَاقِ، بِالسِّوَاكِ، ابْتَلَاهُ بِإِعْفَاءِ اللِّحْيَةِ، بِقَصِّ الشَّارِبِ، ابْتَلَاهُ فِي بَدَنِهِ بِالِاسْتِحْدَادِ -يَعْنِي: بِأَخْذِ شَعْرِ الْعَانَةِ بِالْحَدِيدَةِ.. بِالْمُوسَى -إِنْ أَطَاقَهُ-؛ وَإِلَّا فَبِأَيِّ وَسِيلَةٍ يُطِيقُهَا، بِنَتْفِ الْإِبِطِ -إِنِ اسْتَطَاعَ؛ وَإِلَّا فَلْيَأْخُذِ الشَّعْرَ مِنْ تِلْكَ الْمَوَاضِعِ بِأَيِّ صُورَةٍ أَطَاقَهَا-، انْتِقَاصُ الْمَاءِ -يَعْنِي: اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ لِلِاسْتِنْجَاءِ بَعْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ بَوْلًا وَغَائِطًا- مِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ)).
مُسْلِمٌ نَظِيفٌ ظَاهِرًا.
النَّبِيُّ ﷺ جَعَلَ أُمُورًا مِنْ خِصَالِ الْفِطْرَةِ.
تَدْرِي مَا هُوَ الَّذِي يُعْجِبُكَ وَيُعَجِّبُكَ مِنْ ذَلِكَ الْمَذْكُورِ فِي تِلْكَ الْخِصَالِ؟!!
يَقُولُ: ((وَغَسْلُ الْبَرَاجِمِ)).
وَالْبَرَاجِمُ: جَمْعُ بُرْجُمَةٍ؛ وَهِيَ تِلْكَ الْمَفَاصِلُ بِأَصَابِعِ الْيَدَيْنِ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ إِذَا مَا أَكَلَتْ؛ لَا تَغْسِلُ أَيْدِيَهَا، فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَبْقَى مِنْ أَثَرِ الطَّعَامِ بِزُهُومَتِهِ، يَبْقَى فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ عِنْدَ تِلْكَ الْمَفَاصِلِ، فَيَأْتِي فِيهِ مِنَ الْوَسَخِ بَعْدَ ذَلِكَ مَا يَأْتِي.
فَمِنْ سُنَنِ الْفِطْرَةِ -الْفِطْرَةِ الَّتِي فَطَرَ اللهُ النَّاسَ عَلَيْهَا، هَذَا الدِّينُ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ.. دِينُ الْفِطْرَةِ، دِينُ النَّظَافَةِ- ((انْتِقَاصُ الْمَاءِ)): اسْتِخْدَامُ الْمَاءِ عِنْدَ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، كَمَا بَيَّنَ الرَّسُولُ ﷺ، ثُمَّ مَا يَأْخُذُهُ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ الشَّعْرِ الزَّائِدِ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ الْمَذْكُورَةِ.
((تَقْلِيمُ الْأَظَافِرِ)): نَعَمْ.. تَقْلِيمُ الْأَظَافِرِ مِنَ الْفِطْرَةِ؛ {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30].
النَّبِيُّ ﷺ يُقِيمُ وَجْهَهُ بِأَمْرِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِلدِّينِ حَنِيفًا؛ يَعْنِي: مَائِلًا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، مَائِلًا إِلَى رَبِّهِ بِكُلِّيَّتِهِ: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا}، {حَنِيفًا}؛ يَعْنِي: مَائِلًا عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، مَائِلًا إِلَى اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِكُلِّيَّتِكَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}.
دِينٌ هُوَ دِينُ الْفِطْرَةِ؛ بَلْ هُوَ الْفِطْرَةُ، وَمِنَ الْفِطْرَةِ: هَذِهِ الْأُمُورُ الَّتِي يُرَكِّزُ عَلَيْهَا الشَّرْعُ الْأَغَرُّ، جَاءَ بِهَا مُحَمَّدٌ ﷺ، وَدَلَّ عَلَيْهَا.
وَانْظُرْ إِلَى هَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ، دِينِ الذَّوْقِ، دِينِ الْمَشَاعِرِ، دِينِ الْأَحَاسِيسِ فِي أَمْرَيْنِ مُتَنَاقِضَيْنِ ظَاهِرًا، وَانْظُرْ إِلَى رِعَايَةِ الْحِسِّ.. مُرَاعَاةِ الْإِحْسَاسِ، وَرَهَافَةِ الذَّوْقِ فِي هَذَا الدِّينِ الْعَظِيمِ.
أَمْرَانِ مُتَنَاقِضَانِ؛ بَلْ مُتَبَايِنَانِ ظَاهِرًا!!
رَجُلٌ فِي مَحْضَرِ النَّبِيِّ ﷺ وَالْأَصْحَابِ يُحْدِثُ -يَضْرَطُ ضَرْطَةً، فَيُحْدِثُ بِصَوْتٍ-، قَدْ فَعَلَهَا فِي مَحْضَرٍ مِنْ رَسُولِ اللهِ ﷺ وَالْأَصْحَابِ، فَضَحِكُوا، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ ﷺ مُغْضَبًا، وَقَالَ: ((عَلَامَ يَضْحَكُ أَحَدُكُمْ مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهُ؟!!)).
وَكَانَ هُوَ إِذَا أَرَادَ ﷺ أَنْ يَقْضِيَ حَاجَتَهُ؛ أَبْعَدَ؛ حَتَّى لَا يُسْمَعَ مِنْهُ صَوْتٌ، وَلَا يُشَمُّ مِنْهُ رِيحٌ ﷺ.
وَمِنْ أَعْظَمِ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ الذَّوْقِ وَالْأَحَاسِيسِ: آدَابُ الْعُطَاسِ وَالتَّثَاؤُبِ؛ فَمِنْ آدَابِ الْعُطَاسِ: أَنْ يُشَمَّتَ الْعَاطِسُ إِذَا حَمِدَ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ، وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ، فَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللهَ؛ فَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يُشَمِّتَهُ، وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ؛ فَإِنَّمَا هُوَ مِنَ الشَّيْطَانِ؛ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِذَا قَالَ: هَا؛ ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيْطَانُ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ)).
قِيلَ: مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللهِ؟
قَالَ: ((إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ- لِوَلِيمَةٍ، أَوْ مَا أَشْبَهَ-، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ؛ فَسَمِّتْهُ -بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَهِيَ كَالشِّينِ: ((فَشَمِّتْهُ)) مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى؛ أَيْ: قُلْ: يَرْحَمُكَ اللهُ-، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي ((صَحِيحِهِ)).
كَيْفَ يُشَمَّتُ الْعَاطِسُ؟
بَيَّنَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: ((إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ؛ فَلْيَقُلْ: الْحَمْدُ للهِ، وَلْيَقُلْ لَهُ أَخُوهُ أَوْ صَاحِبُهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ، فَإِذَا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ اللهُ؛ فَلْيَقُلْ: يَهْدِيكُمُ اللهُ، وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ)). أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي ((الصَّحِيحِ)).
فَإِذَا كَانَ الْعَاطِسُ كَافِرًا؟
عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَتِ الْيَهُودُ تَعَاطَسُ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ -وَتَعَاطَسُ: بِحَذْفِ إِحْدَى التَّائَيْنِ، وَالْأَصْلُ تَتَعَاطَسُ؛ أَيْ: تَتَكَلَّفُ الْعُطَاسَ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ-؛ رَجَاءَ أَنْ يَقُولَ لَهَا: يَرْحَمُكُمُ اللهُ، فَكَانَ يَقُولُ: يَهْدِيكُمُ اللهُ، وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
مَاذَا يَفْعَلُ مَنْ عَطَسَ؟ مَاذَا يَفْعَلُ عِنْدَ الْعُطَاسِ؟
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((كَانَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا عَطَسَ؛ وَضَعَ يَدَهُ أَوْ ثَوْبَهُ عَلَى فِيهِ، وَخَفَضَ أَوْ غَضَّ بِهَا صَوْتَهُ)). أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ.
فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَّبِعَ النَّبِيَّ ﷺ فِي هَذَا الْهَدْيِ الْكَرِيمِ، فَإِذَا عَطَسَ؛ وَضَعَ يَدَهُ أَوْ ثَوْبَهُ عَلَى فِيهِ، وَخَفَضَ أَوْ غَضَّ بِهَا صَوْتَهُ.
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: ((عَطَسَ رَجُلَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ، فَشَمَّتَ -أَيِ: النَّبِيُّ ﷺ- أَحَدَهُمَا، وَلَمْ يُشَمِّتِ الْآخَرَ)).
فَقِيلَ لَهُ -يَعْنِي: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ! شَمَّتَّ هَذَا، وَلَمْ تُشَمِّتْ هَذَا.
فَقَالَ: ((هَذَا حَمِدَ اللهَ، وَهَذَا لَمْ يَحْمَدِ اللهَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
كَمْ مَرَّةً يُشَمَّتُ الْعَاطِسُ؟
بَيَّنَ لَنَا النَّبِيُّ ﷺ ذَلِكَ كَمَا فِي حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ ﷺ وَعَطَسَ رَجُلٌ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: ((يَرْحَمُكَ اللهُ))، ثُمَّ عَطَسَ أُخْرَى، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((الرَّجُلُ مَزْكُومٌ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ نَوْعُ إِجْمَالٍ بَيَّنَهُ وَفَصَّلَهُ الْحَدِيثُ الَّذِي أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَه بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ مِنْ رِوَايَةِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- -أَيْضًا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((يُشَمَّتُ الْعَاطِسُ ثَلَاثًا، فَمَا زَادَ فَهُوَ مَزْكُومٌ)).
لِأَنَّ الْحَدِيثَ الَّذِي أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ سَلَمَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- ظَاهِرُهُ أَنَّهُ قَالَ لَهُ فِي الثَّانِيَةِ، وَأَمَّا حَدِيثُ ابْنِ مَاجَه؛ فَإِنَّ فِيهِ أَنَّهُ يَقُولُ لَهُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ، ((فَمَا زَادَ فَهُوَ مَزْكُومٌ)).
مَاذَا يَفْعَلُ الْمُسْلِمُ عِنْدَ التَّثَاؤُبِ؟
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: ((التَّثَاؤُبُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ؛ فَلْيَكْظِمْ مَا اسْتَطَاعَ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ؛ فَلْيُمْسِكْ بِيَدِهِ عَلَى فِيهِ -أَيْ: عَلَى فَمِهِ-؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ)). أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ.
وَمِمَّا يَتَنَافَى مَعَ الذَّوْقِ الْعَامِّ: تَنَاوُلُ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي تَبْعَثُ الرَّوَائِحَ الْكَرِيهَةَ مِنَ الْأَفْوَاهِ وَالْمَلَابِسِ، وَنَبِيُّكُمْ ﷺ قَدْ مَنَعَ مَنْ كَانَ ذَا رِيحٍ خَبِيثَةٍ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ اللهِ، يَقُولُ نَبِيُّكُمْ ﷺ: ((مَنْ أَكَلَ الثُّومَ أَوِ الْبَصَلَ أَوِ الْكُرَّاتَ؛ فَلَا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا، فَلْيَعْتَزِلْنَا وَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا؛ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ)).
هُوَ بَيْتُ اللهِ!! يَنْبَغِي أَنْ يُحْتَرَمَ، وَأَنْ يُعَظَّمَ.
إِذَا أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا أَوْ كُرَّاتًا، أَوْ كَانَ آتِيًا بِمَا عَلَى قَانُونِ هَذِهِ الْخَبَائِثِ مِنَ الرَّوَائِحِ، لَا مِنْ أَصْلِ الْمَطْعُومِ -فَأَصْلُهَا حَلَالٌ-؛ فَلَا يَقْرَبَنَّ الْمَسْجِدَ، وَلْيَعْتَزِلْ بُيُوتَ اللهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَكَ أَنْ تُؤْذِيَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَسَاجِدِ اللهِ، وَلَا أَنْ تُؤْذِيَ الْمُصَلِّينَ فِي بُيُوتِ اللهِ، وَلَا أَنْ تُؤْذِيَ مَلَائِكَةَ اللهِ الْمُكَرَّمِينَ، ((فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ)).
وَالتَّدْخِينُ أَشَدُّ خُبْثًا مِنَ الْبَصَلِ وَالثُّومِ، وَأَشَدُّ إِيذَاءً لِلْمَلَائِكَةِ وَصَالِحِي بَنِي آدَمَ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ مُتَعَاطِيهِ مِنْ دُخُولِ الْمَسَاجِدِ؛ بَلْ يَجِبُ أَنْ يُمْنَعَ النَّاسُ مَنْ شُرْبِهِ بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّهُ حَرَامٌ قَطْعًا، آنِفًا مِنَ انْعِدَامِ النَّفْعِ بِهِ، وَثُبُوتِ الضَّرَرِ الْبَالِغِ، وَثُبُوتِ الْخُبْثِ -أَيْضًا-.
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ مُرَاعَاةُ الذَّوْقِ الْعَامِّ فِي كُلِّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ، قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء: 36].
وَلَا تَتَّبِعْ -أَيُّهَا الْإِنْسَانُ- فِي أَيِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ حَيَاتِكَ شَيْئًا لَا تَعْلَمُ أَنَّهُ حَقٌّ وَصَوَابٌ؛ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ؛ فَإِنَّ لَدَيْكَ مِنْ أَدَوَاتِ الْمَعْرِفَةِ مَا تَسْتَطِيعُ بِهِ التَّبَصُّرَ فِي الْأُمُورِ.
فَإِذَا أَنْتَ اتَّبَعْتَ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ؛ فَقَدْ عَطَّلْتَ أَدَوَاتِ الْمَعْرِفَةِ الَّتِي لَدَيْكَ، إِنَّ الْإِنْسَانَ مَسْئُولٌ عَمَّا اسْتَعْمَلَ فِيهِ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَعُمْقَ قَلْبِهِ الَّذِي هُوَ أَدَاةُ الْإِدْرَاكِ فِي الْإِنْسَانِ، وَمَرْكَزُ اسْتِقْرَارِ الْعُلُومِ وَالْمَعَارِفِ، وَالَّذِي تَنْطَلِقُ مِنْهُ الْإِرَادَاتُ.
عِبَادَ اللهِ! النَّبِيُّ ﷺ يُعَلِّمُنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْبَغِي عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ ذَا حِسٍّ، أَنْ يَكُونَ مُرْهَفَ الْحِسِّ؛ بَلْ إِنَّ النَّبِيَّ ﷺ يُرَاعِيَ تِلْكَ الْمَشَاعِرَ.
كُنْ رَائِعَ الذَّوْقِ، لَطِيفَ الْحِسِّ، مُرْهَفَ الشُّعُورِ؛ وَأَنْتَ -حِينَئِذٍ- مُتَّبِعٌ لِلرَّسُولِ ﷺ، وَأَنْتَ -حِينَئِذٍ- فَاهِمٌ لِحَقِيقَةِ الدِّينِ عَلَى الْوَجْهِ.
((مِنْ أَعْظَمِ الْخِصَالِ وَالْآدَابِ:
تَطْهِيرُ اللِّسَانِ))
إِنَّ مِنْ أَجْمَلِ الْآدَابِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْعَامَّةِ وَأَهَمِّهَا: مُخَاطَبَةَ النَّاسِ بِالْقَوْلِ الْحَسَنِ، وَتَخَيُّرَ الْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، وَتَطْهِيرَ اللِّسَانِ مِنْ آفَاتِهِ، قَالَ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: «قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}؛ أَيْ: كَلِّمُوهُمْ طَيِّبًا، وَلِينُوا لَهُمْ جَانِبًا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ: الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ بِالْمَعْرُوفِ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا}.
فَالْحَسَنُ مِنَ الْقَوْلِ: يَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيَحْلُمُ وَيَعْفُو وَيَصْفَحُ، وَيَقُولُ لِلنَّاسِ حُسْنًا كَمَا قَالَ اللهُ، وَهُوَ كُلُّ خُلُقٍ حَسَنٍ رَضِيَهُ اللهُ».
وَبَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ أَنَّ الْقَوْلَ الطَّيِّبَ الْحَسَنَ لَا يَذْهَبُ سُدًى، وَلَا يَضِيعُ بَدَدًا، بَلْ صَاحِبُهُ مَأْجُورٌ عَلَيْهِ، مُثَابٌ عَلَى قَوْلِهِ؛ فَفِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ».
وَقَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 53].
«وَهَذَا مِنْ لُطْفِهِ -تَعَالَى- بِعِبَادِهِ؛ حَيْثُ أَمَرَهُمْ بِأَحْسَنِ الْأَخْلَاقِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ الْمُوجِبَةِ لِلسَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
فَقَالَ -جَلَّ مِنْ قَائِلٍ-: {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}؛ وَهَذَا أَمْرٌ بِكُلِّ كَلَامٍ يُقَرِّبُ إِلَى اللهِ؛ مِنْ قِرَاءَةٍ، وَذِكْرٍ، وَعِلْمٍ، وَأَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، وَنَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، وَكَلَامٍ حَسَنٍ لَطِيفٍ مَعَ الْخَلْقِ عَلَى اخْتِلَافِ مَرَاتِبِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ، وَأَنَّهُ إِذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ أَمْرَيْنِ حَسَنَيْنِ؛ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِإِيثَارِ أَحْسَنِهِمَا إِنْ لَمْ يُمْكِنِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا.
وَالْقَوْلُ الْحَسَنُ دَاعٍ لِكُلِّ خُلُقٍ جَمِيلٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ؛ فَإِنَّ مَنْ مَلَكَ لِسَانَهُ؛ مَلَكَ جَمِيعَ أَمْرِهِ ».
وَيَنْبَغِي الِابْتِعَادُ عَنْ كُلِّ لَغْوٍ وَزُورٍ، قَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُون} [المؤمنون: 1-3].
وَقَالَ رَبُّنَا -جَلَّ وَعَلَا-: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص: 55].
وَيَجِبُ الِابْتِعَادُ عَنْ كُلِّ أَلْوَانِ الْفُحْشِ فِي الْقَوْلِ، قَالَ ﷺ: ((إِنَّ اللهَ -تَعَالَى- يُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ)).
فَالْفَاحِشُ الْبَذِيءُ مَبْغُوضٌ مِنَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَعَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((إنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ فَاحِشٍ مُتَفَحِّشٍ)). رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَحَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ الْجَامِعِ)).
وَالْفَاحِشُ: ذُو الْفُحْشِ فِي كَلَامِهِ وَفَعَالِهِ.
وَالْمُتَفَحِّشُ: الَّذِي يَتَكَلَّفُ ذَلِكَ، وَيَتَعَمَّدُهُ.
اعْلَمْ -عَبْدَ اللهِ- أَنَّ كُلَّ يَوْمٍ يَعِيشُهُ الْمُؤْمِنُ؛ فَهُوَ غَنِيمَةٌ.
فَاحْذَرْ مَجَالِسَ الْفَارِغِينَ، وَاحْفَظْ لِسَانَكَ مِنَ الْغِيبَةِ، وَالنَّمِيمَةِ، وَفَاحِشِ الْقَوْلِ، وَاحْبِسْ لِسَانَكَ عَنْ كُلِّ مَا يُغْضِبُ اللهَ.
وَأَلْزِمْ نَفْسَكَ الْكَلَامَ الطَّيِّبَ الْجَمِيلَ، وَلْيَكُنْ لِسَانُكَ رَطْبًا بِذِكْرِ اللهِ.
((مِنَ الْآدَابِ الْمَهْجُورَةِ:
احْتِرَامُ الْخُصُوصِيَّاتِ وَعَدَمُ تَدَخُّلِ الْمَرْءِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ))
إِنَّ مِنَ الْآدَابِ الْمَهْجُورَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ: احْتِرَامَ خُصُوصِيَّاتِ الْآخَرِينَ، وَعَدَمَ تَدَخُّلِ الْمَرْءِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ: وَمِنْ أَعْظَمِ آفَاتِ اللِّسَانِ: الْكَلَامَ فِيمَا لَا يَعْنِي؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِﷺ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ)). أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَحَسَّنَهُ لِغَيْرِهِ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ)).
وَهَذَا الْحَدِيثُ الْعَظِيمُ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ)) أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي تَأْدِيبِ النَّفْسِ وَتَهْذِيبِهَا، وَتَرْكِ مَا لَا جَدْوَى فِيهِ وَلَا نَفْعَ.
قَالَ ابْنُ رَجَبٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((هَذَا الْحَدِيثُ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الْأَدَبِ، وَقَدْ حَكَى الْإِمَامُ أَبُو عَمْرِو بْنُ الصَّلَاحِ عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ بْنِ أَبِي زَيْدٍ إِمَامِ الْمَالِكِيَّةِ فِي زَمَانِهِ أَنَّهُ قَالَ: جِمَاعُ آدَابِ الْخَيْرِ وَأَزِمَّتُهُ تَتَفَرَّعُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ:
قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أَوْ لِيَصْمُتْ)).
وَقَوْلُهُ ﷺ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ)).
وَقَوْلُهُ ﷺ لِلَّذِي اخْتَصَرَ لَهُ الْوَصِيَّةَ: ((لَا تَغْضَبْ)).
وَقَوْلُهُ ﷺ: ((الْمُؤْمِنُ يُحِبُّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ))».
وَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ وَرَدَ مَعْنَاهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ.
قَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} ]الإسراء: 36[.
وَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ فَلْيَقُلْ خَيْرًا، أَوْ لِيَصْمُتْ)). مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
وَفِي كِتَابِ ((الرِّقَاقِ)) مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ((بَابُ: مَا يُكْرَهُ مِنْ قِيلَ وَقَالَ))، ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِـ((بَابِ: حِفْظِ اللِّسَانِ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)).
وَكَذَا قَوْلُهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} ]ق: 18[.
((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ)): مِنْ مَظَاهِرِ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ، وَمِنْ أَدِلَّةِ كَمَالِهِ، وَصِدْقِ إِيمَانِ صَاحِبِهِ، وَالْتِزَامِهِ بِدِينِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَلَا- قَوْلًا وَعَمَلًا، فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ ﷺ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ)).
وَ((الْمَرْءُ)): هُوَ الْإِنْسَانُ، أَوِ الشَّخْصُ، وَهُوَ شَامِلٌ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، ((تَرْكُهُ))؛ أَيِ: ابْتِعَادُهُ قَبْلَ وُقُوعِهِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَذَلِكَ بِالتَّوَقِّي مِنْهُ، وَأَيْضًا بَعْدَ وُقُوعِهِ فِيهِ، وَذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ مِنْهُ، ((مَا لَا يَعْنِيهِ))؛ أَيْ: مَا لَا يُهِمُّهُ أَوْ يَنْفَعُهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ.
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فَهَذَا يَعُمُّ التَّرْكَ لِمَا لَا يَعْنِي؛ مِنَ الْكَلَامِ، وَالنَّظَرِ، وَالِاسْتِمَاعِ، وَالْبَطْشِ، وَالْمَشْيِ، وَالْفِكْرِ، وَسَائِرِ الْحَرَكَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، فَهَذِهِ كَلِمَةٌ كَافِيَةٌ فِي الْوَرَعِ)): ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ)).
((وَمَعْنَي قَوْلِ النَّبِيِّ ﷺ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ)): أَنَّ مَنْ حَسُنَ إِسْلَامُهُ؛ تَرَكَ مَا لَا يَعْنِيهِ مِنْ قَوْلٍ وَفِعْلٍ، وَاقْتَصَرَ عَلَى مَا يَعْنِيهِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ؛ وَمَعْنَى ((يَعْنِيهِ)): أَنْ تَتَعَلَّقَ عِنَايَتُهُ بِهِ، وَيَكُونَ مِنْ مَقْصِدِهِ وَمَطْلُوبِهِ)).
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ! لَوْ أَنَّنَا كَفَفْنَا عَنِ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِي؛ فَلَنْ نَتَكَلَّمَ؛ لِأَنَّنَا لَا نَتَكَلَّمُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا فِيمَا لَا يَعْنِينَا!!
ارْجِعْ إِلَى نَفْسِكَ صَادِقًا، وَفَتِّشْ فِي نَفْسِكَ وَاعِيًا؛ وَسَتَرَى صِدْقَ مَا أَقُولُ -إِنْ شَاءَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-.
مَا نِسْبَةُ مَا يَعْنِيكَ إِلَى مَا لَا يَعْنِيكَ فِيمَا تَتَكَلَّمُ بِهِ إِلَّا كَتَفْلَةٍ فِي بَحْرٍ!! إِلَّا كَرَمْلَةٍ فِي صَحَرَاءَ جَرْدَاءَ لَا أَمَدَ لَهَا!!
أَمْسِكْ لِسَانَكَ؛ حَتَّى تَتَوَفَّرَ عَلَيْكَ طَاقَةُ عَقْلِكَ وَطَاقَةُ قَلْبِكَ؛ مِنْ فَهْمِكَ، مِنْ حِفْظِكَ، مِنْ عِلْمِكَ، مِنْ ذِكْرِكَ، مِنْ تُقَاكَ وَتَقْوَاكَ، فَهَذَا كُلُّهُ بِسَبَبِ هَذِهِ الْآفَةِ، فَلَوْ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ.. لَوْ أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ.. فَهَذَا نَافِعٌ لِكُلِّ إِنْسَانٍ، هَذَا مَبْدَأٌ إِنْسَانِيٌّ عَامٌّ؛ كَقَوْلِهِ ﷺ: ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ))، هَذَا يَنْفَعُ الْكَافِرَ، وَيَنْفَعُ الْمُسْلِمَ نَفْعًا مُضَاعَفًا؛ لِأَنَّ مَا يَنْفَعُهُ بِالضَّرُورَةِ وَبِالْأَوَّلِيَّةِ يَتَعَلَّقُ بِآخِرَتِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ؛ فَإِنَّهُ يَحْرِصُ عَلَى مَا يَنْفَعُهُ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُ، فَيَسْتَفِيدُ أَيْضًا.
فَكَذَلِكَ لَا تَتَكَلَّمْ فِيمَا لَا يَعْنِيكَ، وَفِّرْ طَاقَةَ عَقْلِكَ وَطَاقَةَ قَلْبِكَ، وَاحْفَظْ عَلَى نَفْسِكَ وَقْتَكَ، وَاسْتَثْمِرْهُ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ: أَنَّ الْمَالَ فَرْعُ الْوَقْتِ، وَمَنْ تَصَدَّقَ بِالْوَقْتِ؛ فَقَدْ تَصَدَّقَ بِالْأَصْلِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ إِنَّمَا هُوَ حَصِيلَةُ عَمَلٍ وَبَذْلِ مَجْهُودٍ فِي وَقْتٍ، فَالْوَقْتُ هُوَ الْأَصْلُ، وَعَلَيْهِ؛ فَعَلَيْكَ أَنْ تَتَصَدَّقَ بِهَذَا الْوَقْتِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ؛ فِي الْإِصْلَاحِ بَيْنَ الْمُتَخَاصِمِينَ، فِي تَقْرِيبِ مَا بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ، فِي بَثِّ الْعِلْمِ النَّافِعِ، فِي الدَّعْوَةِ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ.
فَاخْزِنْ لِسَانَكَ إِلَّا مِنْ خَيْرٍ؛ فَإِنَّكَ بِذَلِكَ تَغْلِبُ الشَّيْطَانَ.
((دِينُ الْآدَابِ الرَّاقِيَةِ وَثَمَرَةُ الْتِزَامِهَا))
عِبَادَ اللهِ! هَذِهِ جُمْلَةٌ صَالِحَةٌ -إِنْ شَاءَ اللهُ- مِنَ الْآدَابِ، وَالسَّعِيدُ الْمُوَفَّقُ هُوَ مَنْ حَرِصَ عَلَيْهَا، وَأَتَى بِهَا وَالْتَزَمَهَا، وَعَلَّمَهَا أَهْلَهُ وَأَوْلَادَهُ وَمَنْ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ، وَإِخْوَانَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَبَثَّهَا بَيْنَهُمْ.
هَذَا الدِّينُ فِي شَرِيعَتِهِ الَّتِي وَضَّحَهَا الْكِتَابُ وَبَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ.. لَوْ أَنَّ بَاحِثًا جَادًّا تَتَبَّعَ مَا فِي النُّصُوصِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَمْثَالِ هَذِهِ الْأُمُورِ الشَّفِيفَةِ الَّتِي رَاعَى فِيهَا الرَّسُولُ ﷺ الْوِجْدَانِيَّاتِ، وَالْمَشَاعِرَ، وَالْعَوَاطِفَ، وَالْأَحَاسِيسَ.. لَوْ أَنَّ بَاحِثًا جَادًّا تَوَفَّرَ عَلَى ذَلِكَ؛ لَاسْتَخْرَجَ كَمًّا هَائِلًا، وَلَوَجَّهَهُ تَوْجِيهًا صَحِيحًا، وَلَكَانَ بَحْثًا نَافِعًا -بِمَشِيئَةِ اللهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى--؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ ﷺ مَهْمَا أَرَدْتَ أَنْ تَجِدَ فِيمَا أَتَى بِهِ مِنَ الْكِتَابِ أَوْ مِنَ السُّنَّةِ مِنْ عَطْفٍ، وَرَحْمَةٍ، وَرِعَايَةٍ لِمَشَاعِرِ الْخَلْقِ وَأَحَاسِيسِهِمْ.. مَهْمَا أَرَدْتَ أَنْ تَجِدَ؛ وَجَدْتَ ﷺ.
كَانَ لَا يُحِدُّ النَّظَرَ إِلَى أَحَدٍ، وَكَانَ إِذَا وَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِ أَحَدٍ، أَوْ وَضَعَ يَدَ أَحَدٍ فِي يَدِهِ -يَعْنِي: مُصَافِحًا-؛ لَمْ يَنْزعْ يَدَهُ حَتَّى يَكُونَ الْآخَرُ هُوَ الَّذِي يَنْزَعُ يَدَهُ.
كَانَ لَا يُجَبِّهُ أَحَدًا بِسُوءٍ ﷺ.
كَانَ دَائِمَ الْبِشْرِ، كَانَ ﷺ يَلْقَى أَصْحَابَهُ دَائِمًا بِالْبِشْرِ وَالْمَوَدَّةِ، يُوَجِّهُهُمْ، وَيَرْحَمُهُمْ، وَيُكْرِمُهُمْ ﷺ، وَيُعَامِلُهُمْ بِالْعَطْفِ وَالشَّفَقَةِ، وَالْمَوَدَّةِ وَالْحِلْمِ وَالرَّحْمَةِ، وَيَكْفِي فِي خُلُقِهِ لِتَعْلَمَ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ مَا قَالُوهُ فِي وَصْفِ أَخْلَاقِهِ: ((لَا يَزِيدُهُ جَهْلُ الْجَاهِلِ إِلَّا حِلْمًا)).
يَا لَهْ مِنْ وَصْفٍ! وَصْفٌ مُنْطَبِقٌ، وَلَكِنَّ الَّذِي صَاغَ هَذِهِ الصِّيَاغَةَ كَانَ مُوَفَّقًا لِصَوْغِهَا وَصِيَاغَتِهَا جِدًّا، فَهِيَ كَالسَّبِيكَةِ الذَّهَبِ الَّتِي تُصَاغُ، وَهُوَ يَصُوغُهَا أُسْلُوبًا عَذْبًا شَفِيفًا رَفِيفًا، يَقُولُ: ((لَا يَزِيدُهُ جَهْلُ الْجَاهِلِ إِلَّا حِلْمًا))؛ وَالْجَهْلُ هَا هُنَا لَيْسَ الَّذِي ضِدُّ الْعِلْمِ، وَإِنَّمَا الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْحِلْمِ، فَلَا يَزِيدُهُ جَهْلُ الْجَاهِلِ وَلَا سَفَاهَةُ السَّفِيهِ عَلَيْهِ إِلَّا حِلْمًا، فَهَذَا بَحْرٌ لَا يَنْضُبُ؛ مِنَ الْحِلْمِ، وَالرَّأْفَةِ، وَالرِّقَّةِ، وَالْمَحَبَّةِ، وَالشَّفَقَةِ ﷺ.
فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَعَلَّمَ هَذِهِ الْآدَابَ، وَأَنْ يَجْتَهِدَ حَرِيصًا عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَا، وَالْتِزَامِهَا، وَالدَّعْوَةِ إِلَيْهَا.
عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَعَلَّمَ هَذِهِ الْآدَابَ، وَأَنْ يَلْتَزِمَهَا، وَأَنْ يُعَلِّمَهَا أَهْلَهُ وَمَنْ تَحْتَ يَدِهِ؛ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَعُمَّ الْتِزَامُ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِي بُيُوتِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِي طُرُقَاتِهِمْ، وَفِي مَسَاجِدِهِمْ، وَفِي جَمِيعِ مَحِلَّاتِهِمْ؛ عَسَى اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنْ يَرْحَمَنَا وَسَائِرَ الْمُسْلِمِينَ؛ إِنَّهُ -تَعَالَى- عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
وَصَلَّى اللَّـهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.
المصدر:الْآدَابُ الْعَامَّةُ وَأَثَرُهَا فِي رُقِيِّ الْأُمَمِ