((سلسلة الرد على الملحدين))
((الحلقة الثالثة: أسباب انتشار الإلحاد في العصر الحديث))
إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُه، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَلَّا إِلهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّم.
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آَلِهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
أَمَّا بَعْدُ:
كثيرٌ جدًا من المسلمين يحاولون، كُلٌّ بطريقته، وكُلٌّ فِي تخصصه، يحاولون صد الهجمة الْإِلْحَادية، ويكتبون الكتب، وينشرون النشْرات، ويُبَيِّنُون للمسلمين فِي المحاضرات وفي الخطب وغير ذَلِكَ خطورةَ الْإِلْحَاد، ولا يَلْتَفِتُ إِلَى خطورة الْإِلْحَاد فِي الجملة إلا جمعٌ قليل بالنسبة إِلَى المتكلمين فِي الدين.
فأكثر الَّذِينَ يتكلمون فِي الدين فِي هذا الوقت قومٌ فارغة عقولهم، غَلَبَت عليهم حماقاتهم، يَشْغَلُون المسلمين بأمور غريبة، ويُشَتِّتُونهم، ويفرقون صَفَّهَم، ويَدْعون إِلَى إحداثِ الفوضى والفساد فِي مجتمعاتِهم، وهي أفضل بيئة للإِلْحَاد؛ لأن الْإِلْحَاد مِنْ غَرَضِه: أنْ يُحدِثَ الفوضى، فإذا وقعت الفوضى؛ فهذه هي البيئة المناسبة للإِلْحَاد؛ لِذَلِكَ لم يُسْمَعْ فِي هذا الوقت ولا فِي وقت سبق عَنْ الدعوة إِلَى الْإِلْحَاد فِي مصر؛ إلَّا لَمَّا وقعت الاضطراباتُ التي وقعت فِيها، ووقع من الفوضى فِي مصر ما وقع، فظهر الْإِلْحَادُ برأسه، وَأَطَلَّ على هذا المجتمع المسلم بوجهِهِ الكَالِحِ القَبِيحِ، وارتفع صوتُ الْإِلْحَادِ يدعو إِلَى تقرير حقوقه، لا بالأمر الواقع، وإنما بقوة القانون!!
يريدون أن يَفْرِضُوا لأنفسِهم فُرُوضًا فِي هذا المجتمع بقوةِ القانون!!
ما الَّذِي دعاهم إِلَى هذا؟!!
ما الَّذِي أَفْسَحَ لهم المَجَالَ؟!!
ومَنْ أَفْسَحَ لهم المَجَالَ؟!!
ما وقع فِي مصر من هذه الاضطرابات وهذه الفوضى التي إنما كَانَت فِي مُعْظَمِها باسم دين الله رب العالمين؛ فانظر إِلَى أيِّ شيء صارت؟!!
مِن النقيض إِلَى النقيض!!
من الدعوةِ إِلَى تطبيق الشريعة، والالتزامِ بها، وإقامةِ دينِ الله فِي الْأَرْض، وإقامةِ وإعادةِ الخلافةِ الإسلاميةِ، إِلَى غير ذَلِكَ من هذه الدَّعَاوَى الفارغةِ؛ إِلَى ظهورِ الْإِلْحَادِ فِي المجتمع المسلم!!
وأما ما دُونَ الْإِلْحَادِ فَحَدِّثْ عَنِ انتشارِهِ وفُشُوِّهِ بِلا حَرَجٍ؛ مِنَ انْحِلَالِ الأخلاقِ، وَمِنَ انهيار المنظومة الأخلاقية فِي المجتمع المسلم، وفي مصر على وجه التحديد؛ فإنك ما عدت تجد صغيرًا يحترم كبيرًا، ولا كبيرًا يحنو على صغير!!
وما وجدتَ أحدًا ينظر إِلَى فضيلةٍ إلا مَنْ رَحِمَ الله!!
وصار البنات والنساء يتهافتن على أمورٍ فِيها من الانحلالِ ما فِيه باسمِ الحرية!!
ألم تَقُمْ ثورتُهُم مِنْ أجل الحرية؟!!
فهذه هي الحرية فِي جانبٍ من جوانبها!!
والله وحده يعلم إِلَى أي شيءٍ تؤول الأمور، والله المستعان.
في كتاب ((الفيزياء ووجود الخَالِق)) بحثٌ عَنِ الْإِلْحَادِ فِي العصر الْحَدِيث:
كان الناس فِي العصور الماضية يَعْتَقِدُونَ اعتقادًا جازمًا بوجود خالقٍ مُدبِّرٍ للكون، وكَانُوا يعدون هذا من البدائه العقلية، وكان الْإِلْحَاد بمعناه الْحَدِيثِ الَّذِي هو إنكار وُجُود هذا الخَالِق؛ كَانَ أمرًا شاذًّا لا يَقُول به إلا فرد بعد فرد من الناس، وكان الناس يجتنبونه كما يُجْتَنَبُ المرض الشديد، وَيُجْتَنَبُ المريضُ الَّذِي يُخْشَى مِنْ مرضه.
فكان الواحد بعد الواحد يُلْحِدُ هذا الْإِلْحَادَ، وظل الأمر على ذَلِكَ حتى القرنِ الثامنَ عَشَرَ الميلاديِّ على وجه التقريب، ثم بدأ الْإِلْحَادُ يَحُلُّ محل الإيمان عَنْد كثير من قادة الفكر الأوروبي، وصار بعد مَقْدَمِ الشيوعيةِ الدينَ الرسميَّ لِدُوَلِهَا.
ولما صارت للإِلْحَاد هذه المكانةُ فِي الغرب، ولما كَانَت الحضارة الغربية هي الحضارةَ السائدةَ فِي هذا العصر؛ فقد انتشر هذا الْإِلْحَاد، وانتشرت أكثرُ منه لَوَازِمُهُ فِي أرجاءِ الْمَعْمُورَةِ انتشارًا لم يُعْهَدْ له مَثِيلٌ فِيما مَضَى من الزمان على طُولِ تاريخِ الإنسانِ فِي الْأَرْض.
وكان من نتائج ذَلِكَ: أنْ صار الْإِلْحَاد من الناحية الْعِلْمية والعقلية الموقفَ الطبيعيَّ الَّذِي لا يحتاج إِلَى دليل ولا برهان، وصار المؤمن هو المطالَبَ بمثل هذا الدليل، أي انعكست الصورة، وانعكس الوضع والقاعدة!!
قديمًا كَانَ مَنْ أَلْحَدَ يُطَالَبُ بالدليلِ على إِلْحَاده، فلا يملك دليلًا، فلما فَشَا الْإِلْحَادُ، وصار الدينَ الرسميَّ لكثير من الدول الأوروبية؛ صار الملحدُ هو الَّذِي يطالِبُ المؤمنَ بأنْ يأتي بالدليل على وُجُود الخَالِق الْعَظِيم!!
وهذا انعكاسٌ للوضع، انعكاسٌ للحقيقة!!
صار الملحد الَّذِي يتحدى المؤمن، ويتهمه بعدم الْعِلْميَّةِ وعدم العقلانية، ويتهمه بالتقليد والانسياق وراء العواطف، وصار إظهار الاهتمام بالدين - لاسيما فِي وسائل الإعلام العامة - أمرًا مُسْتَغْرَبًا؛ بل منكَرًَا.
قال صاحب كتاب ((ثقافة الْكُفْر)):
إنه ما أَنِ انْتَشَرَتْ بعضُ الأخبارِ ونشرَت فِي مجلة ((نِيُوزْوِيكْ))، فَنُشِرَ فِيها مقالٌ عَنِ الدين، مَا أنْ نُشِرَ حتى جاء المجلةَ خطابٌ نَشَرَتْهُ من قارئٍ يَلُومُهَا على إفساح المجال لِمثْلِ هذا الهراء.
ثم يُعَلِّق على ذَلِكَ قائلًا من حيث الإحصاء:
فإنَّ كاتب الخطاب ينتمي إِلَى الأقلية -أي هذا الملحدُ ينتمي إِلَى الأقلية-، وأما سياسيًا وثقافيًا؛ فإنه ينتمي إِلَى التيار الأمريكي الغالب؛ لأن أُولَئِكَ الَّذِينَ يصلون بانتظام؛ بل أُولَئِكَ الَّذِينَ يؤمنون بالله يحرصون على إبقاء ذَلِكَ فِي السر؛ بل على عَدِّهِ سِرًا يُخْجَلُ مِنْ إفشاءه.
وذَلِكَ أَنَّهُ فِيما عدا الالتجاءِ إِلَى اللهِ الشعائريِّ الظاهريِّ المتوقَّعِ مِنْ سياسيينَ -هذا ما نشرَتْهُ المجلة!!-؛ فإنَّ الأمريكي الَّذِي يأخذ دينه مأخذ الجِدِّ، ويعده شيئًا مأمورًا به، لا مجردَ خيارٍ، يُخَاطِرُ بأنْ يُعَدَّ من المارِقِين.
صار الدينُ هو الظاهرةَ الاجتماعيةَ التي تحتاج إِلَى تفسير؛ فيقال: هَؤُلَاءِ الْمُتَدَيِّنُونَ؛ لماذا هم متدينون؟!!
هذه المجتمعات المتخلفة الرجعية، لا بد من اتخاذ الوسائل من أجل إخراجها من رجعيتها وتخلُفِها !!
كيف؟!!
بإخراجها من دينها؟!!
فصار الدينُ الظاهرةَ الاجتماعيةَ التي تحتاج إِلَى تفسير!!
وأما عدم التدين؛ فهو الأمر الطبيعي الَّذِي لا يحتاج دراسة ولا بحثًا ولا تنقيبًا!!
صار الْإِلْحَادُ القاعدةَ المعلنةَ أو المُضمرةَ التي تقوم عليها فلسفة العلوم؛ طبيعيةً كَانَت أم اجتماعيةً أم إنسانيةً؛ فصار الْإِلْحَاد لِذَلِكَ جزءًا من مفهوم الْعِلْم، ومن هنا جاءت المقابلة بين ما يسمى بالتفسير الْعِلْمي والتفسير الديني.
فالتفسير الْعِلْمي: هو التفسير الَّذِي يفترض أنَّ الكونَ مُكْتَفٍ بنفسه، لم يَخْلُقْهُ ولا يُصَرِّفُ أمرَه خالقٌ.
وأما التفسير الديني: فهو الَّذِي يجعل للإرادة الإلهية تَدَخُّلًا فِي حوادث الكون.
فصار عَنْدنا تفسيران:
تفسير علمي: وهو التفسير الْإِلْحَادي الَّذِي ينكر وُجُود الخَالِق الْعَظِيم.
وتفسير ديني: وهو الَّذِي يجعل للإرادة الإلهية تَدَخُّلًا فِي حوادث الكون.
وإذا كَانَ الْعِلْمُ قد وُضِعَ بِسَبَب فلسفته الْإِلْحَادية فِي مقابل الدين؛ فقد وُضِعَ الدينُ -مهما كَانَ نوعه- فِي زُمْرَةِ الكَهَانَةِ وَالسِّحْرِ وسائرِ أنواعِ الشعوذةِ والأساطير، أو عُدَّ حين يُحْتَرَمُ -أي الدينُ- مِنْ قَبِيلِ الأدبِ والفن الَّذِي يعبِّرُ عَنْ المشاعر، ولا يقرر الْحَقائق.
صاحَبَ هذا الْإِلْحَادَ فِي أُورُوبَّا تطورٌ هائلٌ لم يُعْهَد له مثيلٌ فِي مجالات العلوم الطبيعية، وما يقوم عليها من تِقْنِيَةٍ دَخَلَتْ نَوَاحِيَ الحياةِ المختلفةِ وسَهَّلَتْهَا، فَرَبَطَ الناسُ فِي الغرب بين هذا وذاك، فاعتقدوا أن هذا التطورَ ما كَانَ لِيَحْدُثَ لولا اطِّرَاحُ الدينِ وإحلالُ الفلسفةِ الماديةِ الْإِلْحَاديةِ العقلانيةِ التجريبيةِ مَحَلَّهُ.
وتَبِعَ الغربيين فِي هذا الاعتقادِ خَلْقٌ كثير من الأمم الأخرى، فظنوا أَنَّهُم لا يمكنهم أنْ يَبْلُغُوا شَأْوَ الغربيين فِي التقدم الْعِلْمي والتقني؛ إلا إِذَا هُمْ حَذَوْا حَذْوَهم فِي اطِّرَاحِ الدين واعتماد الفلسفة الْإِلْحَادية، وهو ما جاءنا به مَن بُعِثَ إِلَى الغرب من أجل أن يَنْقُلَ إلينا ما وَصَلَ إِلَيْهِ الغربُ من التقدم الْعِلْمي المادي، فرجعوا إلينا بأمثال هذه العقائد، وجَهِدُوا فِي أنْ يَنْشُرُوها بين المسلمين، وَوَجَدَتْ بين المسلمينَ صَدَى؛ لِأَنَّهُ تم احتضانهم من جهاتٍ بعينها، وفُرِضَتْ أفكارُهم فرضًا، وغُيِّبَ الإسلامُ بِدَرْسِهِ عَنِ الْمَدَارِسِ والجامعاتِ.
وصار عَنْدنا اتجاهانِ فِي الْعِلْم، وكان الاتجاهُ قبل ذَلِكَ واحدًا، وهو الْعِلْمُ الديني، وكان يشمل تحت عباءته الْعِلْمَ المادي، فلما وقع الفِصَامُ بين هذا وذاك؛ صار الْعِلْمُ الدينيُّ مقصورًا على أقوام بأعيانهم.
هَؤُلَاءِ لا يرتقون فِي الحياة أيَّ مرتقى، ولا يعود عليهم دينهم وتَدَيُّنُهُمْ بما يُرَقِّي حياتهم المادية بحيث يَحْيَوْنَ فِي كفاية؛ فضلًا عما وراء ذَلِكَ من التَّرَفُّهِ.
وأما الَّذِينَ سلكوا مسلك الْعِلْم المادي، أو سلكوا مسلك التعليم المدني؛ فهَؤُلَاءِ فُتِحَتْ لهم الأبوابُ، وَأُعِدَّتْ لهم الوظائفُ، وأُغْدِقَ عليهم مِنَ الأموالِ ما أُغْدِقَ مِنْ رَوَاتِبِهِمْ وَمُكَافَآَتِهِمْ، حتى صار الناس يحتقرون مَنْ يسلك مسلكَ طلبِ الْعِلْمِ الديني، ويحترمون مَنْ يسلك مسلك طلب ((الْعِلْم المدني اللاديني!!))
ثم جاءت أمور شُوِّهَ فِيها مَن يتمسكُ بالدين فِي مظهره أو فِي كلامه، وصارت الرِّطَانَةُ الأعجميةُ هي السائدةَ والغالبةَ.
فالدينُ إِذَا ما احْتُرِمَ؛ فإنه يُعَدُّ مِن قبيل الأدب والفن الَّذِي يعبِّر عَنِ المشاعر، ولا يقرر الْحَقائق!!
أساطير!!
ولَكِن؛ كذَلِكَ فِي الأدبِ أساطيرُ؛ فلماذا نقبل أساطير الأدب ولا نقبل أساطير الدين؟!!
فلْنجعلْ هذا مع هذا فِي قَرَن، ولْنَنْظُرْ إِلَيْهِ على أَنَّهُ من نَتَاجِ الأدبِ والفَنِّ، فهو مُعَبِّرٌ عَن المشاعر، وليس بمقرر للحقائق، حتى إنَّ ((جُومْ مِلْتُنْ)) فِي ((الفردوسِ المفقود)) أخذ يبين طبقات الجحيم، ويجعل الناس فِي طبقات الجحيم كما يحب، فَتَصَوَّرَ أَنَّهُ قد نزل إِلَى الجحيم، وتَجَوَّلَ فِي طبقاته، وَمَرَّ على الناس الَّذِينَ يَعْرِفُهُم، إِلَى غير ذَلِكَ من تخاريفه!! وكان فِي ذَلِكَ تابعًا لِ((دَانْتِي)) فِي ((الكُومِيدْيَا الإلهيةِ)) حذوَ النعل بالنعل؛ ولَكِنْ هي نسخةٌ معاصرة.
صاحَبَ هذا الْإِلْحَادَ فِي أُورُوبَّا تطورٌ هائلٌ -كما مَرَّ-، فرَبَطَ الناسُ بين هذا وهذا، وقالوا: هذا الَّذِي بَلَغْنَاه من التطور الماديِّ إنما بلغناه بِسَبَب المعتقدِ الَّذِي صِرْنَا إِلَيْهِ، وهو الْإِلْحَاد.
ولم يقتصر أثرُ هذا الفكر الْإِلْحَادي على مجال العلوم؛ بل دَخَلَ حياةَ الناسِ الاجتماعيةَ والسياسيةَ، فكما أن الدين أُقْصِيَ عَن المجال الْعِلْميِّ المشترَكِ بين الْعلماءِ، وصار فِي أحسن حالاته مسألةً خاصةً بالعالِمِ، ولا يَجْرُؤُ على ذِكْرِهَا !!
فلْيَتَدَيَّنْ ما شاء؛ ولَكِن ما عَلَاقةُ تَدَيُّنِهِ بالْعِلْمِ الَّذِي يُزَاوِلُهُ؟!!
دَعْكَ مِن الدفاعِ عَنْ معتقدِه أو الدعوة إِلَيْهِ!!
هذا فِي مجال العلوم !!
وأيضًا أُقْصِيَ الدينُ عَنْ المجال السياسي، حتى فِي البلاد الإسلامية إلا ما رحم ربك، وكاد أن يصير كما صار فِي الغرب مسألةً ذاتيةً تخص الفرد، ولا تتعلق بدساتيرِ البلادِ أو قوانينِها، أو سياساتِها الداخليةِ أو الخارجيةِ، أو التعليميةِ أو الإعلاميةِ.
هذا شيءٌ من مكونات الثقافة فِي المجتمعات!!
فالدين من مكونات الثقافة، لا أَنَّهُ الأصل الَّذِي تَصْدُرُ عَنْه جميع المقومات!!
ولَكِنْ يَقُولون: لا يمكن أن نستغني عَن الدين؛ ولَكِن على أَنَّهُ من مقومات الثقافة فِي المجتمع، مع ما يَدْخُلُ معه من هذه المقومات!!
فهكذا بدأ الْإِلْحَاد فِي هذا العصر، وعلى هذا النحو انتشر فِي العالم.
وأما أَسْبَاب انتشاره فِي هذا العصر الَّذِي جعل الأمور تنقلب هكذا رأسًا على عقب، بعد أن كَانَ الملحد يتوارى ناحية، وإذا طولب بالدليل عل إنكاره وجحده للخالق الْعَظِيم لم يأت بدليل؛ صار هو الَّذِي يتعجب من وُجُود مَنْ يؤمن بوجود الخَالِق الْعَظِيم!!
الذي أدى إِلَى انقلاب الأمور هكذا رأسًا على عقب، وتَحَوُّلِ كثيرٍ من الناس فِي الغرب هذا التحولَ العجيبَ مِنَ الاعترافِ بربوبيةِ الخَالِقِ إِلَى إنكارِ وُجُودِه؛ بل إِلَى محاربةِ المؤمنينَ بوجودِه حَرْبًا ضَارِيَةً بالأقلامِ، وأحيانًا بِحَدِّ السِّنَانِ، كما حَدَثَ فِي البلاد الشيوعية.
حاول كثيرٌ من الغربيين أنفسِهم أن يفسروا هذه الظاهرة، وأن يجيبوا عَنْ مثل هذه الأسئلة، وكتبوا فِي ذَلِكَ كتبًا كثيرة.
وما ذكروه من الأَسْبَاب يُجْمَلُ فِي:
*ما كَانَ من التناقض الشديد بين كثيرٍ من دعاوى الدين الَّذِي ورثوه، والْعِلْم التجريبي الَّذِي اكتشفوه -كما مر تقرير ذَلِكَ-؛ فقد وجدوا وما زالوا يجدون كثيرًا من دعاوى دينهم مخالفةً لِمَا أَثْبَتَتْهُ عُلُومُهُمُ التجريبيةُ، والأمثلةُ على ذَلِكَ كثيرةٌ جدًا.
ويكفي أن تنظر فِي كتاب ((مُورِيسْ بُوكَايْ)): ((الْعِلْم والكتاب المقدس والقرآن)) أو ((القرآن والتوراة والإنجيل فِي ضوء الْعِلْم الْحَدِيث))، كما هو فِي الطبعة المترجمة إِلَى العربية.
*كذَلِكَ كَانَ من الأَسْبَاب: التناقض بين منهج الْعِلْم التجريبي القائم على الدليل الحسي أو العقلي، ومنهجِ دينهم التسليمي؛ لأن قادتهم الدِّينِيِّينَ لم يكونوا يقبلون نقاشًا، ولا يلتزمون بالإتيان بدليل، وإنما هكذا يقررون!!
فما قرروه فهو الْحَقيقة التي لا يُشَكُّ فِيها!!
فوقع التناقض بين منهج الْعِلْم التجريبي الَّذِي يقوم على الدليل الحسي أو العقلي، وهذا المنهجِ التسليمي، بين منهجِ الْعِلْم الَّذِي يشترط الاتساق المنطقي، ومنهجِ دينِهِم الَّذِي يقبل المتناقضاتِ العقليةَ على أساس أن حقائق الدين يقبلها القلب؛ وإن رآها مخالفة لصريح العقل!!
فكذَلِكَ كَانَوا يُوهِمُونَ أتباعَ الَكِنيسةِ الغربيةِ؛ أَنَّهُ ينبغي عليك أن تقبل هذا، وأن تعتقده، وألا تناقش فِيه، فإنْ نَاقَشَ كَانَ مُهَرْطِقًا، وربما حُكِمَ بقتله.
*من الأَسْبَاب أَيْضًا: خوض كثير من علماء الدين وغيرهم من المثقفين الْمُتَدَيِّنِينَ فِي المسائل الغيبية، والحديثُ عَنْها بمجرد الرأي الَّذِي لا سند له من كتابهم، ولا دليل عليه من غيره.
مِنْ ذَلِكَ مثلًا: ما كتبه نِيُوتِنْ من كلامٍ مُفَصَّلٍ عَنْ طُوبُوغْرَافِيَّةِ جهنم. تكفل نِيُوتِنْ بأن يبينها لنا!!
مِن أين جاء بهذا؟!!
أَمِنْ كتابه؟! أَمْ مِن غيره؟!
أليس عالمًا؟!
فما دام عالمًا فِي فرعٍ من فروع الْعِلْم المادي؛ فلْيتكلمْ فِيما شاء!!
كذَلِكَ تَعُصُّبُ بعضِ الْعلماءِ الطَّبِيعِيِّينَ الْمُتَدَيِّنِينَ تعصبًا جعلهم يحاولون لَيَّ أعناقِ الْحَقائق الْعِلْمية؛ لِتُوَافِقَ الدعاوى الدينية.
من ذَلِكَ: أنَّ ((المُطْرَان جِيمْزْ أَشِرْ)) -وهو دارسٌ مشهور للكتاب المقدس- اِسْتَنْتَجَ مِن تحليلٍ مُتَأَنٍّ لنصوصِ الكتاب المقدس أن الْأَرْض خُلِقَتْ فِي عامِ أربعٍ وأربعةِ آلافٍ ((4004)) قبل الميلاد!!
هكذا!!
ونُشِرَتْ هذه النتيجةُ التي تَوَصَّلَ إِلَيْهِا رئيسُ الْأَسَاقِفَةِ فِي سنةِ خمسينَ وستمائةٍ وألف ((1650)) من التاريخ الصليبي، ولم تلبث أن أُلْحِقَتْ بهامشِ سِفْرِ التكوينِ، إِلَى النسخة المعتَمَدَةِ للكتاب المقدس!!
كأنها نُزِّلَتْ وحيًا معصومًا!!
وظَلَّتْ به حتى زمانِ دِكْتُورْيَا، ولا يزالُ مِن المُمْكِنِ وُجُودُها أحيانًا حتى اليومِ.
لم يكن غريبًا أنْ يَأْتِيَ هذا الزَّعْمُ مِنْ رجلِ دينٍ يَعْتَمِدُ على كتابِهِ؛ لَكِنَّ الغريبَ أنَّ مُعَاصِرًا لهذا الأُسْقُفّ -وهو مُدِيرُ جامعةِ ((كَامْبِرِيدج)) آنذاك أَيَّدَ هذا الزعم؛ بل ذهب إِلَى أبعدَ من هذا؛ إذ زعم أنَّ الثالوثَ خَلَقَ الإنسان فِي الثالث والعشرين مِنْ أُكْتُوبر سنةَ أربعٍ وأربعةِ آَلَافٍ ((4004)) قَبْلَ المِيلَادِ، عَنْدَ الساعةِ التاسعةِ صباحًا!!
كما أَوْضَحَ ((رُونَالْدْ مِلَرْ))؛ قَالَ: إنَّ مُدِيرَ جامعةِ ((كَامْبِرِيدج)) هو وحدَه الَّذِي تَبْلُغُ به الْجُرْأَةُ أنْ يَجْعَلَ تاريخَ خَلْقِ الإنسانِ وَوَقْتَه مُوَافِقًا لِبِدَايَةِ العَامِ الدراسِيِّ!!
إذا رَأَىَ الناسُ هذا كَفَرُوا بالدين.
يقولون: هذا من الدين، ونَطَقَ به الكتابُ!!
فالناس حينئذٍ لا بد أن يَشُكُّوا فِي هذا الدين، أو أن يَكْفُرُوا به.
فكان هذا من الأَسْبَاب التي أدت إِلَى ظهور هذا الْإِلْحَاد الأوروبِّيِّ وانتشارِهِ.
*وكذَلِكَ من الأَسْبَاب: الخلافُ بين الْعِلْم والدينِ الَّذِي لم يَقْتَصِرْ على مسائلِ الدينِ الفرعيةِ؛ بل شَمِلَ مسائلَه الأُصوليةَ.
فمِنَ المعروفِ الآنَ حتى عَنْد علماءِ اللَّاهُوت: أَنَّهُ ليس هُنَاكَ مِنْ دليلٍ عِلْمِيٍّ على أن الكتاب الَّذِي يَقُومُ عليه الدينُ كلُّه هو مِنْ قَوْلِ المسيحِ.
بل المعروفُ أَنَّهُ كتبه أناسٌ آَخَرُون، منهم مَنْ هو معروفٌ، ومنهم مَنْ ليس بمعروفٍ -هذا مقرَّرٌ حتى عَنْد علماءِ اللاهوت!-، وأنهم كتبوه بعدَ رَفْعِهِ بِآَمَادٍ طويلة -هم يَقُولون: بَعْدَ مَوْتِهِ، أو بَعْدَ صَلْبِهِ!!-، وأن هُنَالِكَ تناقضًا فِي أقوالِ هَؤُلَاءِ الكُتَّاب، حتى صارت دراسةُ مِثْلِ هذا التناقضِ تُسَمَّى عَنْدهم ب((النقضِ الأعلى)).
هذا مشهورٌ عَنْدَهم، ليس بِمُنْكَرٍ.
فالدين لم يَدْخُلْ فِي الصِّدَامِ مع الْعِلْمِ بالمسائلِ الدينيةِ الْجُزْئِيَّةِ؛ بل بأصلِ الأصولِ فِيهِ، هذا كُلُّه هو دينُ الْكَنيسَةِ الغَرْبِيَّةِ!!
*كذَلِكَ من الأَسْبَاب: أَنَّهُ قد شَمِلَ التناقضُ فكرةَ الألوهيةِ نفسَها، فبينما يوصَفُ الإلهُ بأنه هو الخَالِقُ؛ يُنْسَبُ إِلَيْهِ الولد!!
وبينما يقال: إن عيسى ابن الله؛ يقال: أَنَّهُ صُلِبَ!!
وبينما يقال: إن الإله واحد؛ يقال: أَنَّهُ مُكَوَّنٌ مِن ثلاثةِ أَقَانِيمَ، هي: الأبُ، والابنُ، ورُوحُ القُدُسِ !! وهكذا.
فوقع التناقض؛ حتى فِي فكرة الألوهية ذاتِها.
رَأَى بعضُ المؤمنين من النصارى أنَّ وصفًا كهذا لله إِذَا أُخِذَ على ظاهره التي تَدُلّ عليه اللغة؛ جَعَلَ الخَالِق تعالى مشابِهًا للمخلوقات، ففروا من هذا التشبيه إِلَى ما سماه علماؤنا من أهل السُّنة بالتعطيل، فلم يكتفوا بتأويل هذه الصفات التي تَدُلّ على المشابهة؛ بل أَوَّلُوا كل الصفات الأخرى، فجعلوا الخَالِق شيئًا مجردًا، فهو لا يوصف بالعُلو، ولا بالمباينة للمخلوقات، ولا بأنَّ له ذاتًا؛ ولا أن له صورةً؛ وإنما هو شيءٌ مُجَرَّدٌ لا يوصَفُ بصفةٍ مِنَ الصفاتِ الثُّبُوتِيَّةِ؛ كالحياةِ والسمعِ والبصرِ والكلامِ وما أشبه!!
كَتَبَ أحدُ القَسَاوِسَةِ قريبًا كتابًا أسماه: ((الإلهُ الباطنيُّ))، زعم فِيه أَنَّهُ ليس لله تعالى وُجُودٌ خارجي، وأن الإيمان بالله إنْ هو إلا إيمانٌ بمجموعةٍ مِن المُثُلِ والمبادئِ الخُلُقيةِ.
هذا التصورُ التعطيليُّ للخالقِ أَصْبَحَ الآنَ التصورَ الشائعَ بين جماهيرِ المثقفينَ مِنْ أَهْلِ الدِّيَانَتَيْنِ: النصرانيةِ واليهوديةِ.
فهذا الإيمانُ بالله عَنْدَهم، صار هذا التصورَ التعطيليَّ للخالق الْعَظِيم؛ بل ربما كَانَ الأمرُ قريبًا من ذَلِكَ؛ حتى بَيْنَ كثيرٍ مِن المثقفين من المسلمين أنفسِهم.
إنَّ المسافةَ ليست بعيدةً بين هذا التصورِ التجريبيِّ للخالقِ وبين الْإِلْحَاد.
الإِلْحَاد: إنكارٌ لوجود الخَالِق، وهذا –أي التصورُ التجريبيُّ- إنكارٌ لكلِّ صفاته، وهل يكون وُجُودُ أيِّ ذاتٍ إلا بصفاتٍ ثبوتيةٍ؟!
فمَن أنكر كلَّ الصفاتِ الثبوتيةِ؛ فقد أنكر الوجودَ، شَعَرَ بذَلِكَ أم لم يشعر؛ ولذا كَانَ مِثْلُ هذا التصورِ لِوُجُودِ الخَالِقِ مقدِّمةً مُمَهِّدَةً للإِلْحَاد، وقد فَطِنَ أئمةُ علماءِ السنةِ قديمًا إِلَى مثل هذا، فكَانُوا يَقُولون: إنَّ المُشَبِّهَ يَعْبُدُ صَنَمًا، والمُعَطِّلَ يَعْبُدُ عَدَمًا.
المشبِّهُ هو الَّذِي يَجْعَلُ صفاتِ الخَالِقِ كصفاتِ المخلوقين، وهكذا مع فارقٍ واحدٍ، هو: عِظَمُ هذه الصفاتِ حينَ يُوصَفُ بها الخَالِقُ؛ لَكِنْ يَجْعَلُونَ المُشَابَهَةَ -بل المُمَاثَلَةً- واقعةً بَيْنَ صفاتِ الخَالِق وصفاتِ المخلوقين.
وأما المُعَطِّلُ؛ فهو الَّذِي يَفِرُّ من تشبيهِ اللهِ بالمخلوقات؛ لِيَقَعَ فِي تشبيهٍ شَرٍّ منه؛ وهو: تشبيه الخَالِقِ الْعَظِيمِ بالمعدوماتِ والمستحيلاتِ؛ لأن المعدوم هو الَّذِي يوصَفُ بكل صفةٍ سَلْبِيَّةٍ؛ كَأَنْ تَقُولَ: هُوَ لَيْسَ داخِلَ العالَمِ ولا خَارِجَهُ، ولا أَمَامَ وَلَا خَلْفَ، وَلَا فَوْقَ وَلَا تَحْتَ، ولا عَنْ يمينٍ ولا عَنْ شمالٍ.
وهكذا لا يوصَفُ بصفةٍ ثُبُوتيةٍ، ولا تُثْبَتُ له صفةٌ مِن الصفاتِ الثبوتيةِ؛ كَالْعَظَمَةِ، كَالْكِبْرِيَاءِ، كَالْبَصَرِ، كَالسَّمْعِ، كَالْحَيَاةِ، كَالْعُلُوِّ.
وقد أَدْرَكَ علماءُ أهلِ السنةِ خَطَرَ هذا التَّصَوُّرِ للخالقِ، فَأَلَّفُوا الكُتُبَ الكثيرةَ فِي الرَّدِّ على أصحابِهِ مِنَ الجهميةِ والمعتزلةِ قديمًا، ولولا ذَلِكَ لوُجِدَ الْإِلْحَادُ فِي العالَمِ الإسلاميِّ قديمًا، كما وُجِدَ فِي العالَمِ الغَرْبِيِّ تَبَعًا لِمَا قَرَّرَهُ المُعَطِّلَةُ الَّذِينَ ما زَادُوا فِي وَصْفِ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِسَلْبِ الصفاتِ عَنْه على أنْ جَعَلُوهُ مَعْدُومًا.
فَلَوْ أنَّ إنسانًا أراد أن يُبَيِّنَ حقيقةَ المَعْدُومِ، أو صِفَةَ المَعْدُومِ، أوْ حَدَّ وتَعْرِيفَ المَعْدُومِ؛ ما وَجَدَ أَبْلَغَ مما أَتَى به أهلُ السُّلُوبِ الَّذِينَ سَلَبُوا عَن الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى كلَّ الصفاتِ؛ ولَكِنَّ أنواعًا مِن هذا التصورِ التعطيليِّ تَعُودُ الآنَ، فَتَنْتَشِرُ بين المُثَقَّفِينَ فِي العالَمِ الإسلاميِّ بِسَبَبِ ذَلِكَ التاريخِ القديمِ، ثم بِسَبَب الْإِلْحَاد المُعَاصِرِ.
فنسأل الله أنْ يَحْفَظَ علينا وعلى المسلمين دِينَنَا، وأنْ يُثَبِّتَنَا على الْحَقِّ الَّذِي هَدَانَا إِلَيْهِ.
وصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آَلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَجْمَعِينَ.