بَيَانُ فَضْلِ الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ
*بَيَانُ فَضْلِ الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ:
قَالَ تَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران: 18].
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى فَضْلِ الْعِلْمِ وَشَرَفِ الْعُلَمَاءِ وَفَضْلِهِمْ; فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ أَحَدٌ أَشْرْفَ مِنَ الْعُلَمَاءِ لَقَرَنَهُمُ اللهُ بِاسْمِهِ وَاسْمِ مَلَائِكَتِهِ كَمَا قَرَنَ اسْمَ الْعُلَمَاءِ.
وَقَالَ فِي شَرَفِ الْعِلْمِ لِنَبِيِّهِ ﷺ: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ أَشْرَفَ مِنَ الْعِلْمِ لَأَمَرَ اللهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ ﷺ أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَزِيدَ مِنْهُ كَمَا أَمَرَ أَنْ يَسْتَزِيدَهُ مِنَ الْعِلْمِ)).
وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9].
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّهُ سُبْحَانَهُ نَفَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَ أَهْلِهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِمْ، كَمَا نَفَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَأَصْحَابِ النَّارِ، فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُون} [الزمر: 9] كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20] وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى غَايَةِ فَضْلِهِمْ وَشَرَفِهِمْ)).
وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6].
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ أُولِي الْعِلْمِ بِأَنَّهُمْ يَرَوْنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ حَقًّا، وَجَعَلَ هَذَا ثَنَاءً عَلَيْهِمْ وَاسْتِشْهَادًا بِهِمْ)).
وقال -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43].
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: أَهْلُ الذِّكْرِ: أَهْلُ الْقُرْآنِ وَقِيلَ: أَهْلُ الْعِلْمِ، وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ)).
وَقَالَ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى-: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ هُمْ أَهْلُ خَشْيَتِهِ، بَلْ خَصَّهُمْ مِنْ بَيْنِ النَّاسِ بِذَلِكَ، فَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}. وَهَذَا حَصْرٌ لِخَشْيَتِهِ فِي أُولِي الْعِلْمِ)).
قَالَ تَعَالَى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114].
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((إِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْأَلَهُ مَزِيدَ الْعِلْمِ، وَكَفَى بِهَذَا شَرَفًا لِلْعِلْمِ أَنْ أَمَرَ نَبِيَّهُ أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَزِيدَ مِنْهُ)).
عِبَادَ اللهِ! عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْتِصَمَ بِاللهِ -جَلَّ وَعَلَا-، وأَنْ يَسْلُكَ سَبِيلَ الطَّلَبِ عَلَى نَهْجِ الصَّحَابَةِ ومَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَفِي هَذَا النَّجَاةُ، وَلَا نَجَاةَ إِلَّا فِيهِ، فَإِنَّ اللهَ -جَلَّ وَعَلَا- جَعَلَ النَّجَاةَ في الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَهُمَا مَعْدِنُ الْعِلْمِ وأَصْلُهُ، فَمَهْمَا تَرَكَ الْإِنْسَانُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وتَنَكَّبْهُمَا وَاسْتَدْبَرْهُمَا وَجَعَلَهُمَا دَبْرَ أُذُنيْهِ وَخَلْفَ ظَهْرِهِ؛ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا.
وَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ جَاهِلٌ ثُمَّ يَصْبِرُ عَلَى جَهْلِهِ، وَالْجَهْلُ أَشَدُّ فَتْكًا مِنَ السَّرَطَانِ بِالْبَدَنِ، وَهُوَ لَوْ عَلِمَ بِجَسَدِهِ عِلَّة مَا صَبِرَ وَلَا لَحْظَةً، وَإِنَّمَا يَبْحَثُ عَنِ الشِّفَاءِ، وَأَمَّا الْجَهْلُ -وَالْجَهْلُ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ دَاءٌ كَمَا أَخْبَرَ الرَّسُولُ ﷺ: ((أَلَا إِنَّ شِفَاءَ الْعِيِّ السُّؤُالُ)). وَالْعِيُّ هَاهُنَا: الْجَهْلُ، فَجَعَلَهُ دَاءً، وَجَعَلَ سُؤُالَ أَهْلِ الْعِلْمِ دَوَاءً.
فَالْعَجَبُ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ جَاهِلٌ وَيَصْبِرُ عَلَى جَهْلِهِ، وَلَا يَطْلُبُ الْعِلْمَ الَّذِي يُصَحِّحُ بِهِ عَقِيدَتَهُ، وَيُصَحِّحُ بِهِ عِبَادَتَهُ، وَيُصَحِّحُ بِهِ مُعَامَلَتَهُ.
*بَيَانُ فَضْلِ الْعِلْمِ وَالْعُلَمَاءِ مِنْ نُصُوصِ السُّنَّةِ الْمُطَهَّرَةِ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)).
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((فِي ((الصَّحِيحَيْنِ)) مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)).
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يُفَقِّهْهُ فِي دِينِهِ لَمْ يُرْدِ بِهِ خَيْرًا، كَمَا أَنَّ مَنْ أَرَادَ بِهِ خَيْرًا فَقَّهَهُ فِي دِينِهِ، وَمَنْ فَقَّهَهُ فِي دِينِهِ فَقَدْ أَرَادَ بِهِ خَيْرًا، إِذَا أُرِيدَ بِالْفِقْهِ الْعِلْمُ الْمُسْتَلْزِمُ لِلْعَمَلِ.
وَأَمَّا إِنْ أُرِيدَ بِهِ مُجَرَّدُ الْعِلْمِ فَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ فَقُهَ فِي الدِّينِ فَقَدْ أُرِيدَ بِهِ خَيْرًا، فَإِنَّ الْفِقْهَ حِينَئِذٍ يَكُونُ شَرْطًا لِإِرَادَةِ الْخَيْرِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مُوجَبًا، وَاللهُ أَعْلَمُ)).
وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: ((مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا، سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ طَالِبَ الْعِلْمِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانِ فِي الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، إِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا، إِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ)).
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الطَّرِيقُ الَّتِي يَسْلُكُهَا إِلَى الْجَنَّةِ: جَزَاءٌ عَلَى سُلُوكِهِ فِي الدُّنْيَا طَرِيقَ الْعِلْمِ الْمُوصِلَةَ إِلَى رِضَا رَبِّهِ.
وَوَضْعُ الْمَلَائِكَةِ أَجْنَحَتَهَا لَهُ تَوَاضُعًا، وَتَوْقِيرًا، وَإِكْرَامًا لِمَا يَحْمِلُهُ مِنْ مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ وَيَطْلُبُهُ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالْتَّعْظِيمِ، فَمِنْ مَحَبَّةِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ وَتَعْظِيمِهِ تَضَعُ أَجْنَحَتَهَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ طَالِبٌ لِمَا بِهِ حَيَاةُ الْعَالَمِ وَنَجَاتُهُ، فَفِيهِ شَبَهٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ تَنَاسُبٌ، فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ أَنْصَحُ خَلْقِ اللهِ وَأَنْفَعُهُمْ لِبَنِي آدَمَ.
وَعَلَى أَيْدِيهِمْ حَصَلَ لَهُمْ كُلُّ سَعَادَةٍ وَعِلْمٍ وَهُدًى، وَمِنْ نَفْعِهِمْ لِبَنِي آدَمَ وَنُصْحِهِمْ، أَنَّهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ لِمُسِيئِهِمْ، وَيُثْنُونَ عَلَى مُؤْمِنِيهِمْ، وَيُعِينُونَهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَيَحْرِصُونَ عَلَى مَصَالِحِ الْعَبْدِ أَضْعَافَ حِرْصِهِ عَلَى مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ، بَلْ يُرِيدُونَ لَهُ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَا لَا يُرِيدُهُ الْعَبْدُ وَلَا يَخْطُرُ لَهُ بِبَالٍ؛ كَمَا قَالَ بَعْضُ التَّابِعِينَ: وَجَدْنَا الْمَلَائِكَةَ أَنْصَحَ خَلْقِ اللهِ لِعِبَادِهِ وَوَجَدْنَا الشَّيَاطِينَ أَغَشَّ الْخَلْقِ لِلْعِبَادِ.
وَقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر: 7-9].
فَأَيُّ نُصْحٍ لِلْعِبَادِ مِثْلَ هَذَا إِلَّا نُصْح الْأَنْبِيَاءِ؟! فَإِذَا طَلَبَ الْعَبْدُ الْعِلْمَ فَقَدْ سَعَى فِي أَعْظَمِ مَا يَنْصَحُ بِهِ عِبَادَ اللهِ، فَلِذَلِكَ تُحِبُّهُ الْمَلَائِكَةُ وَتُعَظِّمُهُ حَتَّى تَضَعَ أَجْنَحَتَهَا لَهُ رِضًا وَمَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا)).
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((وَقَوْلُهُ ﷺ: ((إِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ)): هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْمَنَاقِبِ لِأَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ خَيْرُ خَلْقِ اللهِ، فَوَرَثَتُهُمْ خَيْرُ الْخَلْقِ بَعْدَهُمْ، وَلَمَّا كَانَ كُلُّ مَوْرُوثٍ يَنْتَقِلُ مِيرَاثُهُ إِلَى وَرَثَتِهِ، إِذْ هُمُ الَّذِينَ يَقُومُونَ مَقَامَهُ مِنْ بَعْدِهِ، لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الرُّسُلِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُمْ فِي تَبْلِيغِ مَا أُرْسِلُوا بِهِ إِلَّا الْعُلَمَاءُ، كَانُوا أَحَقَّ النَّاسِ بِمِيرَاثِهِمْ.
وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّهُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْمِيرَاثَ إِنَّمَا يَكُونُ لِأَقْرَبِ النَّاسِ إِلَى الْمَوْرُوثِ، وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ ثَابِتٌ فِي مِيرَاثِ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ، فَكَذَلِكَ هُوَ فِي مِيرَاثِ النُّبُوَّةِ، وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ.
وَفِيهِ أَيْضًا إِرْشَادٌ وَأَمْرٌ لِلْأُمَّةِ بِطَاعَتِهِمْ، وَاحْتِرَامِهِمْ، وَتَعْزِيرِهِمْ، وَتَوْقِيرِهِمْ، وَإِجْلَالِهِمْ، فَإِنَّهُمْ وَرَثَةُ مَنْ هَذِهِ بَعْضُ حُقُوقِهِمْ عَلَى الْأُمَّةِ، وَخُلَفَاؤُهُمْ فِيهِمْ.
وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ مَحَبَّتَهُمْ مِنَ الدِّينِ، وَبُغْضَهُمْ مُنَافٍ لِلدِّينِ، كَمَا هُوَ ثَابِتٌ لِمَوْرُوثِهِمْ.
وَكَذَلِكَ مُعَادَاتُهُمْ وَمُحَارَبَتُهُمْ، مُعَادَاةٌ وَمُحَارَبَةٌ للهِ كَمَا هُوَ فِي مَوْرُوثِهِمْ.
قَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: ((مَحَبَّةُ الْعُلَمَاءِ دِينٌ يُدَانُ بِهِ)).
وَقَالَ ﷺ فِيمَا يُرْوَى عَنْ رَبِّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: ((مَنْ عَادَى لِي وَلِّيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ)).
وَوَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ سَادَاتُ أَوْلِيَاءِ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).
وَعَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: ((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسُلِّطَ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا)). وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ.
قَالَ النَّوَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((قَوْلُهُ ﷺ: ((لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ)) قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْحَسَدُ قِسْمَانِ: حَقِيقِيٌّ وَمَجَازِيٌّ، فَالْحَقِيقِيُّ: تَمَنِّي زَوَالِ النِّعْمَةِ عَنْ صَاحِبِهَا، وَهَذَا حَرَامٌ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مَعَ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ.
وَأَمَّا الْمَجَازِيُّ: فَهُوَ الْغِبْطَةُ وَهُوَ أَنْ يَتَمَنَّى مِثْلَ النِّعْمَةِ الَّتِي عَلَى غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ زَوَالِهَا عَنْ صَاحِبِهَا، فَإِنْ كَانَتْ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا كَانَتْ مُبَاحَةً، وَإِنْ كَانَتْ طَاعَةً فَهِيَ مُسْتَحَبَّةٌ.
وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ: لَا غِبْطَةَ مَحْبُوبَةٌ إِلَّا فِي هَاتَيْنِ الْخَصْلَتَيْنِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا.
قَوْلُهُ ﷺ: ((فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْحَقِّ)): أَيْ إِنْفَاقِهِ فِي الطَّاعَاتِ.
قَوْلُهُ ﷺ: ((وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا)) مَعْنَاهُ: يَعْمَلُ بِهَا وَيُعَلِّمُهَا احْتِسَابًا، وَالْحِكْمَةُ كُلُّ مَا مَنَعَ مِنَ الْجَهْلِ وَزَجَرَ عَنِ الْقَبِيحِ.
قَوْلُهُ ﷺ: ((آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)): أَيْ سَاعَاتُهُ وَوَاحِدُهُ الْآنَ وَإِنًا وَإِنْيٌ وَإِنْوٌ؛ أَرْبَعُ لُغَاتٍ.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ﷺ: «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا؛ إِلَّا ذِكْرَ اللهِ، وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: ((حَدِيثٌ حَسَنٌ))، وَكَذَا حَسَّنَهُ الْأَلْبَانِيُّ فِي ((صَحِيحِ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ))، وَقَالَ -رَحِمَهُ اللهُ-: ((الْمُرَادُ بِالدُّنْيَا: كُلُّ مَا يَشْغَلُ عَنِ اللهِ تَعَالَى وَيُبْعِدُ عَنْهُ، وَلَعَنَهُ: بَعَّدَهُ عَنْ نَظْرِهِ. وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: ((إِلَّا ذِكْرَ اللهِ)) مُنْقَطِعٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا: الْعَالَمُ السُّفْلِيُّ كُلُّهُ، وَكُلُّ مَا لَهُ نَصِيبٌ فِي الْقَبُولِ عِنْدَهُ تَعَالَى قَدِ اسْتُثْنِيَ بِقَوْلِهِ: ((إِلَّا ذِكْرَ اللهِ، وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا»، فَالِاسْتِثْنَاءُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُتَّصِلًا.
وَالْمُوَالَاةُ: الْمَحَبَّةُ. أَيْ: إِلَّا ذِكْرَ اللهِ، وَمَا أَحَبَّهُ اللهُ مِمَّا يَجْرِي فِي الدُّنْيَا، أَوْ بِمَعْنَى الْمُتَابَعَةِ، فَالْمَعْنَى مَا يَجْرِي عَلَى مُوَافَقَةِ أَمْرِهِ تَعَالَى أَوْ نَهْيِهِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ: وَمَا يُوَافِقُ ذِكْرَ اللهِ، أَيْ: يُجَانِسُهُ وَيُقَارِبُهُ، فَطَاعَتُهُ تَعَالَى، وَاتِّبَاعُ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابُ نَهْيِهِ؛ كُلُّهَا دَاخِلَةٌ فِيمَا يُوَافِقُ ذِكْرَ اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- )).
وَقَالَ الْإِمَامُ ابْنُ الْقَيِّمِ: ((لِمَّا كَانَتِ الدُّنْيَا حَقِيرَةً عِنْدَ اللهِ، لَا تُسَاوِي لَدَيْهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ؛ كَانَتْ وَمَا فِيهَا فِي غَايَةِ الْبُعْدِ مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ حَقِيقَةُ اللَّعْنَةِ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا خَلَقَهَا مَزْرَعَةً لِلْآخِرَةِ وَمَعْبَرًا إِلَيْهَا، يَتَزَوَّدُ مِنْهَا عِبَادُهُ إِلَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ يُقَرِّبُ مِنْهَا إِلَّا مَا كَانَ مُتَضَمِّنًا لِإِقَامَةِ ذِكْرِهِ، وَمُفْضِيًا إِلَى مَحَابِّهِ، وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي يُعْرَفُ اللهُ بِهِ، وَيُعْبَدُ، وَيُذْكَرُ، وَيُثْنَى عَلَيْهِ، وَيُمَجَّدُ -جَلَّ وَعَلَا-؛ وَلِهَذَا خَلَقَهَا وَخَلَقَ أَهْلَهَا، كَمَا قَالَ -جَلَّ وَعَلَا-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، وَقَالَ اللهُ -جَلَّ وَعَلَا-: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق:12]
فَتَضَمَّنَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لِيُعْرَفَ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلِيُعْبَدَ، فَهَذَا الْمَطْلُوبُ، وَمَا كَانَ طَرِيقًا إِلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالتَّعَلُّمِ؛ فَهُوَ الْمُسْتَثْنَى مِنَ اللَّعْنَةِ، وَاللَّعْنَةُ وَاقِعَةٌ عَلَى مَا عَدَاهُ؛ إِذْ هُوَ بَعِيدٌ عَنِ اللهِ وَعَنْ مَحَابِّهِ وَعَنْ دِينِهِ، «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إِلَّا ذِكْرَ اللهِ، وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا»، وَهَذَا هُوَ مُتَعَلَّقُ الْعِقَابِ فِي الْآخِرَةِ، فَإِنَّهُ كَمَا كَانَ مُتَعَلَّقُ اللَّعْنَةِ الَّتِي تَتَضَمَّنُ الذَّمَّ وَالْبُغْضَ؛ فَهُوَ مُتَعَلَّقُ الْعِقَابِ، وَاللهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا يُحِبُّ مِنْ عِبَادِهِ ذِكْرَهُ، وَعِبَادَتَهُ، وَمَعْرِفَتَهُ، وَمَحَبَّتَهُ، وَلَوَازِمَ ذَلِكَ، وَمَا أَفْضَى إِلَيْهِ، وَمَا عَدَاهُ فَهُوَ مَبْغُوضٌ لَهُ، مَذْمُومٌ عِنْدَهُ)). انْتَهَى كَلَامُهُ -رحمه الله-.
فَعَيْبٌ كَبِيرٌ عَلَى مَنْ آتَاهُ اللهُ تَعَالَى عَقْلًا أَنْ يَرْضَى بِالْجَهْلِ صِفَةً، وَبِالْجَاهِلِينَ أَوْلِيَاءَ وَرُفَقَاءَ، بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَنْسَلِخَ مِنْ تِلْكَ الْحَالِ، وَأَنْ يَتَّقِيَ اللهَ رَبَّهُ، وَأَنْ يُقْبِلَ عَلَى مَجَالِسِ الْعِلْمِ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْعِلْمَ:
قَالَ اللهُ.. قَالَ رَسُولُهُ.. قَالَ الصَّحَابَةُ.. لَيْسَ بِالتَّمْوِيهِ
مَا الْعِلْمُ نَصْبَكَ لِلْخِلَافِ سَفَاهَةً بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَ قَوْلِ فَقِيهِ
فَيُقْبِلُ عَلَى تَعَلُّمِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيَفْهَمُهُمَا بِفَهْمِ الصَّحَابَةِ وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ، فَفِي ذَلِكَ النَّجَاةُ، وَفِي ذَلِكَ السَّعَادَةُ، وَفِي ذَلِكَ الْخُرُوجُ مِنَ اللَّعْنَةِ، وَإِلَّا فَإِنَّ اللَّعْنَةَ نَازِلَةٌ بِسَاحَتِهِ، شَامِلَةٌ لَهُ، كَمَا قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إِلَّا ذِكْرَ اللهِ، وَمَا وَالَاهُ، وَعَالِمًا وَمُتَعَلِّمًا».
المصدر: التَّعْلِيمُ ضَرُورَةٌ شَرْعِيَّةٌ وَنَصَائِحُ غَالِيَةٌ لِلطُّلُّابِ